منكم عشرة ، ولا يفلت منهم عشرة ، وكان كما قال فما نجى من الخوارج إلا ثمانية أو تسعة ، ولم يقتل من اصحابه إلا تسعة .
ووضعت الحرب أوزارها ، وإذا بأمير المؤمنين يضطرب التماساً لرأس من رؤوس الخوارج يسمى ذا الثدية ، مخدّج اليد ، على عضده ثدية ذات شامه ، تشبه ثدي المرأة ، ويطلب إلى صحابته أن يلتمسوه في القتلى فلا يجدونه ، ويلح الإمام مصّراً على البحث عنه فيجدونه مجدّلاً صريعاً ، فإذا وقف على ذلك ، يخر لله ساجداً ، ويقول للناس : « والله ما كذبت ولا كذبت ، ولقد قتلتم شر الناس » .
ولهذا المخدّج ذي الثدية نبأ يتحدث عنه المؤرخون ، بأنه قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين عند قسمة الغنائم : « اعدل يا محمد فإنك لم تعدل منذ اليوم » .
ويعرض عنه النبي مرة وأخرى ، ويكرر القول ثالثة ، فيقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مغضب :
« ومن يعدل إذا لم أعدل » ويهّم قوم بقتله ، فيكفهم النبي قائلاً : « يخرج من ضئضيء هذا الرجل قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، يتلون القرآن لا يتجاوز تراقيهم » .
وقد روى مسروق عن عائشة كما في مسند أحمد بن حنبل :
« قالت لي عائشة إنك من أحبّ ولدي إليّ ، فهل عندك علم بالمخدّج ؟ فقلت : نعم قتله علي بن أبي طالب على نهر يقال له النهروان ، فقالت : ابغني على ذلك بيّنة ، فأتيتها برجال عندهم علم بذلك ، ثم قلت لها : أسألك بصاحب هذا القبر ما الذي سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه قالت سمعته يقول : إنه شر الخلق والخليقة يقتله
302
خير الخلق ، وأقربهم عند الله وسيلة » .
وما هي إلا ساعات من نهار حتى فرغ عليٌ عليه السلام من قتال الخوارج بالنهروان ، ولكنه لم يفرغ من فلولهم ، ولم يقطع مادتهم ، فهم يتسللون من الكوفة لواذاً ، وهم يتجمعون أشتاتاً ، فيقلقون الدولة ، وتزداد قوتهم يوماً بعد يوم ، وكان عليّ عليه السلام رفيقاً بهم حيناً ، وعنيفاً حيناً آخر ، فهو لا يعرض لهم ، ولا يقطع جراياتهم ولا يبدؤهم بحرب ، حتى إذا بدرت منهم بادرة ، أو نجمت ناجمة قابلها بتسيير جند إليها يقمعها ، أو واعظ يزجرها ويفرقها ، ولكن الأمور تدهورت ، والأحداث قد تطورت نسبياً ، فما إن تخمد للخوارج حركة حتى تشب حركة أخرى ، وما إن تنتهي معركة حتى تبدأ معركة مثلها ، فهم بين مدّ وجزر ، والإمام بين قتال وكفاح ، هم يطمعون بعدله ، أو يطمعهم فيه عدله ، وهو يطمح لإصلاحهم ، و صلاحهم حتى إذا أشتدت شوكتهم على يد الخرّيت بن راشد ، وكان وقحاً شديداً ، جمع إليه أخلاط الناس ، وتدرع بالعلوج والأعاجم ، وتهيأ للخروج على الإمام ، ولقد جبه الإمام علياً بين الناس ، وقال له مجاهراً غير هيّاب ولا متوجل : « والله لا أطعتُ أمرك ، ولا صليت خلفك » .
فقال له أمير المؤمنين : « إذن تعصي ربك ، وتنكث عهدك ، ولا تغرّ إلا نفسك ، ولم تفعل ذلك » . فقال : « حكمت الرجال ، وضعفت عن الحق ، وركنت إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم ، فأنا عليك زارٍ ، وعليهم ناقم » .
وأسمح عليّ عليه السلام له من نفسه ، ودعاه إلى المناظرة ، فأبى عليه ، وقال : أعود إليك غداً ، فتركه الإمام وشأنه ، ولم يعد الرجل إليه ، وإنما انطلق إلى قومه بني ناجية ، وكان ذا رأي لديهم ومطاعاً
303
فيهم ، فخرج بهم مناجزاً للإمام ، ولقي الخريت ومعه بنو ناجية رجلين في الطريق ، وسألوهما عن دينهما ، فكان أحدهما يهودياً ، والآخر مسلماً ، فأطلقوا اليهودي لأنه من أهل الذمة ، واستوقفوا المسلم ، فسألوه عن عليّ فأجاب خيراً ، فقتلوه ، وأخبر اليهودي عامل الإمام على السواد بما رأى ، فكتب العامل لعليّ عليه السلام بذلك ، فأرسل الإمام كوكبة من جيشه لردهم إلى الطاعة ، وقتالهم إن أبوا ذلك ، وطلب إليهم قائد الجيش أن يسلموا قتلة المسلم ، فأبوا إلا الحرب ، وقامت الحرب على قدم وساق ، ولم يبلغ أحد من صاحبه شيئاً ، وأظلهم الليل ، فهرب الخريت وأصحابه إلى البصرة ، فأمر الإمام واليه على البصرة عبد الله بن عباس أن يتعقبهم ، ففعل ذلك ابن عباس جادّاً ، وهيأ جيشاً لقتالهم ، والتقى الجيشان بقتال شديد ، وبان الخذلان على الخريت وأصحابه ، فاتخذ الليل جملاً وهرب فيه ، وساحل الرجل بأصحابه ، وأنضم إليه المرتدون والمتمردون ، فتعقبهم جيش الإمام ، وحاصرهم محاصرة محكمة ، وقتل الخريت وأصحابه ، وأسر من بقي منهم ، فمن كان مسلماً منّ عليه وأطلقه ، واستتاب المرتدين ، فمن أسلم سرحه ، ومن لم يسلم أسره ، فكان الأسرى خمسمائة ، فمروا على عامل علي عليه السلام : مصقلة بن هبيرة الشيباني ، وهو على كور من فارس ، فضجوا إليه ، فخلصهم من الأسر بالفداء وأعتقهم ، وتحمل عنهم فداءهم على أن يسدده أقساطاً لبيت المال ، وصوب عليٌّ رأيه ، ولكن مصقلة ماطل في الدين ، فطالبه ابن عباس بذلك فقال : « لو قد طلبت أكثر من هذا المال إلى عثمان ما منعني إياه » . وما لبث أن هرب إلى معاوية ، فاستقبله معاوية بالأحضان وآواه وأكرمه ، وبلغ علياً ذلك فقال : « ما له قاتله الله ، فَعل فِعلَ الأحرار ، وفرّ فرار العبيد » . وأمر بداره فهدمت لا أكثر ولا أقل .
304
ولم يكن هذا شأن مصقلة وحده ، بل له مدد آخر من الموالين لمعاوية ، فهو يطمعهم وهم يتعاونون معه في نشر الفساد ، وإحلال الفوضى ، والإخلال بالأمن ، فيستعين بهم في الإغارة على أطراف العراق ، ويستجلبهم عيوناً لديه ، ينبئونه بالأخبار ، ويسيّرون إليه المعلومات كما سترى .
305
ما استقر علي عليه السلام في الكوفة حتى أزعجته عن استقراره أحداث متفرقة ، وهي وإن تكن صغيرة إلا أنها مقلقة ، عكرّت صفو إقامته إن يكن له صفو ، وعرضت كيان دولته للإختلال ، ووسمت سلطانه العادل بالضعف لدى أعدائه .
وهذه الأحداث المتناوبة تتلخص في ثلاثة مظاهر مهمة :
المظهر الأول ، ويتجلى بسياسة معاوية بهذه الغارات المستمرة على أطراف العراق والحجاز وقلب اليمن .
والمظهر الثاني ، ويكمن في حركات الخوارج المتتالية من هنا وهناك ، تعيث فساداً في الأرض ، وتعلن العصيان المسلّح .
والمظهر الثالث ، يتلخص في شأن ولاته وعماله على الامصار فلم يكن كلهم كما أراد ، ولم يفِ له إلاّ بعضهم .
ولكل حدث من هذه الأحداث حديث خاص به ، نحاول إجماله وإلقاء الضوء عليه دون الدخول في متاهة التفصيلات التأريخية المدونّة في السِيّرِ والمغازي والتواريخ .
أولاً : إستغل معاوية تفكك جيش الإمام في حربه مع الخوارج ، واستطار فرحاً بانقسام أصحابه عليه ، ورأى في هذين عاملين مساعدين
306
على التخريب المتعمد ، فأراد أن يدخل الرعب في قلوب العراقيين ، وأن يضعف المعنويات لدى المقاتلين وقد بلغه أن علياً عليه السلام يعدّ العدّة للعودة إلى صفين ؛ فاتخذ لنفسه منهجاً جديداً بتسيير قطع من جيش أهل الشام نحو أطراف العراق ، وأمر هذه القطع بالإغارة والنهب والقتل ، وإشاعة الخوف والرهبة في قلوب العراقيين ، وكان المتآمرون على الإمام من الداخل يوغلون بالتمادي مستغلين ورع الإمام وسماحه ، فوقفوا موقف الإنتهازي المستفيد ، وتجلببوا بجلباب الحاقد المنتقم ، ورأى معاوية ذلك فأمدّهم بالأموال الطائلة ، وأجزل لهم العطايا والهبات ، ومنّى كثيراً منهم بالإمارة والولاية ، ولوّح لبعضهم بالإصهار إليه أو منه ، فكان هؤلاء خطّاً معادياً ، له كيده وفكره ضد الإمام ، فتألّبوا عليه سراً ، وتقاعسوا عنه جهاراً ، فكانوا إلباً على إمامهم ، وعوناً لعدوهم ، فمهّدوا لمخططات معاوية تمهيداً ، وحسنوا له مساوءَهُ وانتهاكاته ، وزينوا له سوء عمله ، وآنسوا لهذا الترويع المستمر لسواد العراق ، وشجّع ذلك معاوية في إرسال السرايا الصغيرة ، وقطع الجيش المترصدة ، يقوم عليها أتباعه من ذوي الضمائر الميتة والأكباد الغليظة ، ويأمرهم فيها بالغارة المنظمة والمرتبة قتلاً ونهباً وترويعاً ، فكان له ما أراد : خوف شامل ، واستقرار مزعزع ، وغنائم باردة ، يعز معاوية بها سلطانه ، ويضعف بها الإمام وحكمه في الداخل . وقد تولى كبر هذه الغارات : الضحاك بن قيس ، والنعمان بن بشير ، وابن سعدة الفزاري .
وكان أشدها وقعاً على أمير المؤمنين غارة سفيان بن عوف الغامدي الذي تسلل إلى الأنبار فأكثر فيها الفساد ، وعاد بالغنائم وقتل الوالي ، وفتك بالجند بين عشية وضحاها . وانتهت الأنباء إلى الإمام عليه السلام ، فكانت اللوعة والأسى ، وكان القلق والحزن ، وكان التأنيب لأصحابه ، وكان الحث على الجهاد ، ولكن الإمام كان يضرب
307
على حديد بارد في جماعة إستولى عليها التواكل والخذلان ، وعمل بها الوهن والضعف ، إستلذوا العافية ، ورضوا بالذلّة ، فما كان من الإمام إلا أن أبان لهم حقيقة الحال ، وشجب تقاعسهم شتاءً عن الجهاد ، وخمولهم صيفاً عن القتال ، حتى أفسدوا على الإمام رأيه ، فخطب على منبر مسجد الكوفة مستصرخاً لهم ؛ وزارياً بهم ، وغاضباً عليهم :
« أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة ، فمن تركه رغبة ألبسه الله ثوب الذلّ ، وسِيم الخسف ، ودِيث بالصَغار ، وقد دعوتكم إلى حرب هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً ، وسراً وإعلاناً ، وقلت لكم : اغزوهم من قبل أن يغزوكم ، فوالذي نفسي بيده ، ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلّوا . فتخاذلتم وتواكلتم ، وثقل عليكم قولي ، واتخذتموه وراءكم ظهرياً ، حتى شنت عليكم الغارات .
هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار ، وقتلوا حسان بن حسان ورجالاً منهم كثيراً ونساءً . والذي نفسي بيده ، لقد بلغني أنه كان يدخل على المرأة المسلمة والمعاهدة فينتزع أحجالهما ورعثهما ؛ ثم انصرفوا موفورين لم يُكلم أحد منهم كَلما ، فلو أن امرأً مسلماً مات من دون هذا أسفاً ما كان عندي فيه ملوماً ، بل كان به عندي جديراً . يا عجباً كل العجب . عجب يميت القلب ويشغل الفهم ، ويكثر الأحزان ، من تظافر هؤلاء القوم على باطلهم وفشلكم عن حقكم ، حتى أصبحتم غرضاً تُرمون ولا ترمون ، ويُغار عليكم ولا تغيرون ، ويعضى الله فيكم وترضون ، إن قلت لكم اغزوهم في الشتاء ، قلتم : هذا أوان قرّ وصرّ ، وإن قلت لكم إغزوهم في الصيف ، قلتم : هذه حمّارة القيظ ، أَنظرنا ينصرم الحرّ عنا ، فإذا كنتم من الحرّ والبرد تفروّن ، فأنتم والله من السيف أفرّ ؛ يا أشباه الرجال ولا رجال ، ويا طغام الأحلام ويا عقول
308
ربّات الحجال ، والله لقد أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان ، ولقد ملأتم جوفي غيظاً حتى قالت قريش : ابن أبي طالب ، رجل شجاع ولكن لا رأي له في الحرب لله درّهم ، ومن ذا يكون أعلم بها مني ، أو أشد لها مراساً ، فوالله لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين ، ولقد نيفّت اليوم على الستين . ولكن لا رأي لمن لا يطاع ، لا رأي لمن لا يطاع ، لا رأي لمن لا يطاع » .
ومرت هذه الخطبة بسلام ، كأن الإمام ما فاه بشيء ، وقد تؤثر في أقليّة لا تغني عن الإمام شيئاً ، ولكنها تستجيب لأوامره ، فتتبع المغيرين ، تردّهم حيناً ، وتطاولهم حيناً آخر ، وهذا ما أطمع معاوية بتجاوز حدود العراق إلى أطراف الحجاز وأعماق اليمن ، فقد أرسل بسر بن أرطأة في قطعة من الجيش ، وبسر هذا قائد همجي متهتك ، لا يرعى حرمة ولا ذمة ، ولا يركن إلى عقل أو دين ، دفعه تهوره فأغار على أهل البوادي في طريقه إلى اليمن ، وتمكن من شيعة الإمام فروعهم ترويعاً مريراً ، وأتى مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فأكثر فيها الفساد ، ويمم شطر البيت الحرام فزلزل أهل مكة عن مأمنهم ، وأوغل في أعماق اليمن ، فيفرّ الوالي عليها من قبل الإمام ، ويكثر فيها فيها الفساد والقتل ، ويسرف في ذلك إسرافاً شنيعاً ، ويستذل العباد إذلالاً فاحشاً ، ويذبح ابني الوالي عبيد الله بن العباس ، ويكون لمصرعهما مشهد من لوعة واسى عند القريب والبعيد ، وترثيهما أمهما بمرّ الرثاء ، ويمعن بسر في الإبادة وسفك الدماء ، ويمعن جنده في النهب واستصفاء الأموال ، ويأخذ البيعة لمعاوية كرهاً ، ويرسل الإمام جارية بن قدامة السعدي رحمه الله في ألفي مقاتل ، ويفر بسر من اليمن حائزاً الغنائم ، مرضيّاً عند معاوية بما أصاب ، ويُرجع جارية اليمن إلى طاعة أمير المؤمنين ، وتستقيم بها الأمور له ، ولكن بسراً بلغ ما أراد ، وكان الله له بالمرصاد ، فقد دعا عليه
309
الإمام ففقد عقله ، وتصورت له بشاعة أعماله وجرائمه فجّن جنوناً مستحكماً ، فجعل يهذي بالسيف والقتال ، ويتصور له ابناء عبيد الله بن العباس ، فيتخذ له سيفاً من خشب يضرب به الوسائد والنضائد حتى هلك على هذه الحال .
ورأى معاوية في هذا الضرب من الإغارة إشغالاً لعلي عليه السلام ، فأكثر منها ، وأثاب عليها ، ودعا إليها ، حتى شمل الخوف أهل العراق .
ثانياً : وكان الخوارج مصدر قلق مستمر لدولة الإمام ، فهم قرّاء أهل المصر ، وهم عبّاد أهل الكوفة ، وهم أصحاب الجباه السود من كثرة السجود ، والسواد غير قدير على التمييز ، وهم يدعون إلى حكم القرآن ، وهم ناقمون من عليّ ومعاوية ، وهم يقاطعون الإمام في خطبته و صلاته وعلى عليه السلام صابر محتسب لا يتير حرباً و لا بألوا جهداً في الإصلاح ، ولكن الخوارج يلحّون في التواثب ، ويستفحلون على العدوان ، ويتمرسون صنوف العصيان ، يرون كل ذلك جهاداً في سبيل الله ، وتلك محنة ما وراءها محنة ، فهم يطلبون الحق فيخطئونه ، وهم يشجبون الباطل ويخوضون فيه ، وقد وصفهم الإمام فأحسن الصفة والتحليل « فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه » .
وكانت النهروان قد أكلت جموعهم ، وأفنت رجالهم ، وبقي منهم من عاش موتوراً ، فهو يحقد على الإمام صولته فيهم ، وهو ينقم من الإمام موقفه منهم ، فما برح الرجل والرجلان يثأران فيتبعهما المئة أو المئتان ، وإذا بهم يعلنون القتال ، ويخيفون السواد ، وينشرون الهلع ، ويقطعون السبل ، وعلي عليه السلام يسرّح لهم الجند ، ويسير لهم الطلائع ، فيلقون على أشدّ قتال تندر فيه الرؤوس وتسيل المهج ، حتى إذا قمعوا نجم قرن آخر ، وتعود الكرّة عليهم إثر الكرّة ، وهم بين إحجام وإقدام ،
310
وهم بين فرّ وكرّ ، والإمام بين تهيأة واستعداد لا يريح ولا يستريح ، وما إن تمحق منهم طائفة إلا برزت طائفة ، وما أن يقتل قائد حتى ينبعث قائد آخر ، يجتمع حوله السواد ، ويسير بين يديه السعاة ، والإمام في حرب مستمرة لا يفرغ من بعضها حتى يقع في مثلها .
وكان الخارجون على الإمام وحكمه يتناوبون المهمة واحداً بعد واحد ، ويتهيأون للقتال قائداً إثر قائد ، فقد خرج هلال بن علفة التيمي ، فلمّا قتل هو وفلوله ، خرج الأشهب بن بشر البجلي ، فلما قتل وجنوده ، خرج سعد بن قفل التيمي ، فلمّا قتل وأصحابه ، خرج أبو مريم السعدي ... وهكذا كانت الأمور تجري في حرب داخلية لا أول لها ولا آخر ، يفقد فيها الإمام أنصاره بالأمس وأعداءه اليوم ، ويفيد منها معاوية تثبيتاً للسلطان ، فالخوارج أضروا بدولة الإمام ، والخوارج مهّدوا لدولة أهل الشام شاؤوا أم أبوا .
ثالثاً : ولم يكن الإمام في مأمن من ولاته وعمّاله ، فهم بين من خان الأمانة ، وبين من يرتد على عقبيه جبناً وتردداً ، وبين من تحاك حوله الدسائس فيطلب السواد عزله من الإمام ، وبين متحفظ رضي برفاهية العيش عن مرارة النضال العقائدي ، وهناك القلة الملتزمة التي نصحت وبرّت ، وعموماً لم تكن الإتجاهات المتباينة لترضي الإمام ، فكان في عناء منها أي عناء ، فهو يريد أن يعود بمناخ ولاته إلى عصر النبوة ، وهو يريد أن يكون عماله كعمال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقوى وورعاً وعدالة ، وهو يريد أن ينهض بهم إلى مستوى المسؤولية ، ويرتفع بأقدارهم عن مزالق الإنحراف والخيانة ، وهو يتابع كل ذلك بنفسه ، ويشرف على تخطيطه عن كثب ، والناس عبيد الدنيا ، وقد ذاقوا طعم التوسع والبذخ والإسراف أيام عثمان ، وابتعدوا شيئاً فشيئاً عن حياة