خال الخليفة العباسي عبد الله بن محمد المعروف بـ ( أبي العباس السفاح ).
إستعمله السفاح سنة 134 هـ والياً على مكة ، والمدينة ، والطائف ، واليمامة. الكامل 5 | 448 وقيل : إنه عزله قبل موته.
ولما ولي أبو جعفر المنصور ، رده إلى عمله. ثم في سنة 141 هـ عزله المنصور وولى غيره. الطبري 7 | 511 ولعل السبب في ذلك هو إتهامه بالميل لأهل البيت عليهم السلام ، وكان هم المنصور حين استخلف إلقاء القبض على محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن ، وكان أحد كتاب زياد بن عبيد الله يتشيع ، وكان يبعث إليهما سراً ليتواريا عن الأنظار.
وزياد نفسه كان يمني المنصور ويعده بالقبض عليهما ، إرضاءً له. فلما حج المنصور سنة 136 سأل عنهما. فقال له زياد : ما يهمك من أمرهما ! أنا آتيك بهما.
لكن الظاهر أنه كان كارهاً لذلك ، كما كان يدفع عن أبيهما عبد الله نقمة المنصور قدر المستطاع.
فحين حج المنصور سنة 140 ، قسم أموالاً عظيمةً في آل أبي طالب ،
وأراد أبو جعفر أن يزيد في المسجد الحرام ـ بعد أن شكا الناس ضيقه ـ فكتب إلى زياد بن عبيد الله الحارثي أن يشتري المنازل التي تلي المسجد حتى يزيد فيه ضعفه ، فامتنع الناس من البيع ، فذكر ذلك لجعفر بن محمد الصادق (ع) ، فقال : سلهم ! أهم نزلوا على البيت ؟ أم البيت نزل عليهم ؟ فكتب بذلك إلى زياد ، فقال لهم زياد بن عبيد الله ذلك ، فقالوا : نزلنا على البيت. فقال جعفر بن محمد : فإن للبيت فناءه. فكتب أبو جعفر إلى زياد بهدم المنازل التي تليه. فهدمت المنازل وأدخلت عامة دار الندوة حتى زاد فيه ضعفه. راجع اليعقوبي 2 | 369.
ويقال ، أن زياداً هذا ، كان فيه بخلٌ وجفاء.
ومن طريف ما يروى في ذلك : أن بعض كتابه أهدى له سلالاً فيها طعام ، وكانت مغطاة ، فوافقته وقد تغدى ، فغضب وقال : يبعث أحدهم الشيء في غير وقته ، ثم قال لصاحب شرطته ـ خيثم بن مالك ـ أدع لي أهل الصُفّة ـ أضياف مسجد الرسول من المساكين ـ يأكلون هذا.
فقال الرسول الذي جاء بالسلال : أصلح الله الأمير ، لو أمرت بهذه السلال تفتح ، وينظر ما فيها ؟
قال : إكشفوها ، فكشفوها وإذا طعام حسن من دجاج ، وجداء ، وسمك ، وأخبصة ـ تمر وسمن ـ وحلواء.
فقال : ارفعوا هذه السلال.
وجاء أهل الصُّفة ، فأخبر بهم ، فأمر باحضارهم وقال : يا خيثم بن مالك ، إضربهم عشرة أسواط ، فإنه بلغني أنهم يجتمعون في المسجد فيفسون فيه ، ويؤذون الناس. وإلتفت إليهم وقال : لا أعلم أنه اجتمع فيه منكم اثنان ، بعد اليوم ، قصص العرب 4 | 449 والعقد الفريد 6 | 180 بتصرف.
| ياسر في مكة |
كان لياسر أخٍ ترك بلاد اليمن إلى مكة ، إما لأداء المناسك ، وأما طلباً للقمة العيش ـ على الأغلب ـ ليقيم بها أوده ، نظراً للمحنة الإقتصادية التي لفّت بلاد اليمن آنذاك ، ويبدو أنه لم يوضح لإخوته سبب رحيله ، فكان بحكم المفقود والضائع ، سيما بعد أن طال غيابه ، وانقطعت أخباره ، فرأى ياسر أن يذهب في طلبه ليرجعه إلى منزله في مضارب قومه بني عنس ، فخرج من اليمن هو وأخوان له ، أحدهما يقال له : الحرث ، والثاني : مالك ، قاصدين مكة علّهم يجدونه فيها ويحملونه معهم.
لكن مكة أم الدنيا ، يغمر حنانها كل قادم إليها ، فيجد نفسه مشدوداً نحوها ، غارقاً في حبها. يفارقها مكرهاً غير مختار إن فارق ، ويقيم بها مفعماً بألوان السعادة ، إن قدر له أن يقيم ، فكان ياسر واحداً ممن استهوتهم تلك البقعة المباركة وتملك حبها في قلبه ، فآثر البقاء فيها على الرجوع إلى اليمن ، وفي هذا الحال كان عليه أن يحكم أمره ليتمكن من العيش فيها بكرامة ، فحالف أحد ساداتها المبرزين ، وهو أبو حذيفة بن المغيرة المخزومي ، وكان هذا شيخاً كبيراً أكسبته الحياة كثيراً من الخبرة والحنكة والمرونة ، فاستطاع أن يتغلب على مرارتها وقسوتها بلين الشيوخ ، وعقلية المجربين ، لذلك كان سمحاً ، سهلاً ، لا يأبه كثيراً بمغريات الحياة وعلائقها.
وكان لأبي حذيفة أمَةٌ يقال لها سمية ، أدبها الغنى وأذلها الرق ، فكانت على جانب من العقل والوقار ، إلى شيء من الجمال الهادئ الوديع ، وهي لا زالت في مقتبل العمر ، فأحبها ياسر ، وعلق قلبه بها ، ولم يكن ذلك ليخفى على الشيخ ، فقد كان يقرأ في وجه حليفه الرغبة في التزويج منها ، فزوجه إياها.
ظل ياسر مع زوجه سمية يمنحها الحب والحنان ، ويزرع في عينيها أزاهير الرجاء من جديد بعد أن أمحلت الدنيا فيهما ، فهي لم تكن سوى أمةٍ مملوكة تسير في متاهات العبودية ، ترى الحياة أمام عينيها قيوداً وحواجز وسدوداً ، فهي لا تملك حتى أبسط حقوق الإنسان ، بل لا تملك حتى إرادتها في تقرير المصير ، وها هي الآن تشم رائحة الحرية وتتنسم عبيرها مع زوجها ياسر ، وكأنها ترى فيه ملاكاً أرسلته السماء إليها لخلاصها وإنقاذها.
وحملت سمية بعمار ، فأقبلت إلى ياسر تسر إليه بالبشرى ، وكم كان جذلاً فرحاً بذلك إلا أن الحمل ربما كان أنثى !! لم تطل الفرحة ، فالإنثى في منظور الجاهليين عار يضاف إلى تعاسة الفقراء ، وذلٌّ يضاف إلى عز الإغنياء ، رغم أنهم لولاها ما وجدوا ولا كانوا ولا عرفوا طعم الحياة.
وأطرق ياسر إلى الأرض في دوامةٍ من التفكيرتركته يتأرجح بين اليأس والرجاء ما لبث بعدها أن رفع رأسه ، والتفت إلى سمية : من يدري ، ربما كان ذكراً... سأسميه عماراً !
ولا يُسر ياسر في نفسه أمله ورغبته في أن يكون الحمل ذكراً... لا يُسّرُّ ذلك طويلاً. فكان كلما حملته قدماه إلى البيت ، بيت الله ، ومقام
ومضت أشهر تسع أعقبها وفود عمار إلى الدنيا ، وكاد ياسر أن يطير فرحاً بالبشرى لولا أن خيوطاً سوداء كانت تحجب أمله الزاهي ، وتكدر عليه فرحه ، فينقلب الحلم الأخضر إلى حقيقةٍ مرة.. الرق.. الرق المشؤوم.. فلقد كانت العادة تقضي بأن ابن الأمة رق مملوك لسيدها الأول ، يضاف إلى قائمة أملاكه حتى ولو كان أبوه حرّاً سيداً.
كان هذا الواقع يحول دون إكتمال الفرحة في نفس ياسر وزوجه سمية ، فها هي العبودية تنهد بحقدها وقسوتها نحو هذا الطفل لتحرمه وتحرم أبويه أعز شيء في الحياة.. وهل أحلى وأجمل واعز من الحرية !
ويغرق ياسر في سحابة من التفكير ثم ما يلبث أن ينظر في عيني الطفل البريئتين ، فيعود إليه أمله ، ولكن ضئيلاً هزيلاً سرعان ما ينطفئ.. ثم يتطلع إلى عيني سميّة ، فيقرأ فيهما الحنان المتعب ، والصورة المرهقة لمستقبل هذا الوليد ، فيطرق نحو الأرض تاركاً لعينيه الحرية في صوغ الدمع تعبيراً عن الأسى والحزن.
لكن أبا حذيفة ، ذلك الشيخ الوقور كان ـ كما قدمنا ـ يتمتع بانسانية نبيلة وإحساس مرهف تركاه يتنازل عن حقه الذي تفرضه العادات والتقاليد الجاهلية ، فكان أن وهب لعمار حريته وأرجع لأبويه البسمة والفرح والسعادة. وتحركت شفتا ياسر وزوجه سميّة بالدعاء له والثناء عليه بأحلى آيات الثناء ، وكم تضرعا إلى الآلهة بأن ترحم شيخوخته ، وتوطد له مجده وعزه !.
|
نشأته.. وصفاته وصحبته للنبي (ص) |
للحلف أو العهد آثارٌ طيبة ، تعود على المتحالفين بالنفع ، إذ يضيف إلى قوتهم قوة وإلى منعتهم منعة ، كما يحول دون النيل من كرامة أحد الطرفين المتحالفين ، سيما إذا كان ضعيفاً أو لاجئاً اضطرته الظروف إلى حماية نفسه بالحلف ، إلا أن المردود السلبي للتحالف يعود بالضرر على الطرف الضعيف فقط ، لأنه لا يمكنه بحالٍ الإستقلال عن حليفه القوي في تقرير مصيره ، أو إتخاذ موقف معين تمليه عليه إرادته أزاء قضية ما ، وقد ظهر ذلك جلياً في محنة الضعفاء والمحالفين المسلمين في مكة.
لقد حالف ياسر أبا حذيفة المخزومي ليحمي نفسه في مكة ، وسرى هذا الحلف إلى ولديه عبد الله وعمّار ، أما سمية ، فهي مولاة مملوكة لأبي حذيفة تقضي التقاليد بملكية نسلها له أيضاً لولا أن وهبهم الحرية وأعتقهم ، وبذلك غلب على عمار لقب « حليف بني مخزوم » تارةً ، ومولى بني مخزوم ، تارةً ثانية.
ومهما يكن ، فقد نشأ عمار وعاش هو وأبواه وأخوه في ظل حليفهم أبي حذيفة المخزومي ، وبذلك أدرجوا جميعاً في قائمة الضعفاء والدهماء والصعاليك ، الذين لا وزن لهم ولا خطر في نظر المجتمع المكي ، محكومين غير حاكمين ، ومأمورين غير آمرين ، وحياة كهذه تبعث على التمرد في غالب الأحيان لما فيها من السأم والتبرم والشعور بالحيف. سيما إذا كانت
كانت ولادة عمار في عام الفيل ـ على نحو التقريب ـ كما يستفاد ذلك من قوله : « كنت ترباً لرسول الله » ولم يكن أحد أقرب سناً إلى النبي (ص) منه (1).
وكان أسمر اللون كأنما عجنت طينته بمسك ، مديد القامة ، ولد من عائلة الرماح بعيدٌ ما بين منكبيهُ ، صيغ تجسيداً للمهابة ، أشهل ، أصلع ، في مقدم رأسه شعرات ، وفي قفاه شعرات.
طويل الصمت كأنما تحدثه الملائكة ، سديد الرأي ، لا يخدع عن الصواب ، راجح العقل ما خيّر بين أمرين إلا إختار أيسرهما ، زكي النفس ، سخي اليد ، هياب للحق ، جريئ به لا يلوى فيه ولا يصرف عنه (2).
نهد نحو الرجولة وهو بعد لم يزل في سن الشباب ، فتحلى بأرفع خصالها فكان فيه عقلٌ ونبلٌ ، ومروءة ، وبُعدُ نظر ، إلى جانب القوة والشجاعة.
هذه السجايا الكريمة ساعدته في تخطي ظروفه الإجتماعية الصعبة ليصادق سيد شباب مكة محمد بن عبد الله قبل نبوته ، صداقةً لا تخرجه عن حدود الأدب بين يديه ، وكأنه أدرك فيه سرَّ النبوة التي غيّرت مسار التأريخ.. صاحَبَ محمداً رغم الفوارق الإِجتماعية الكبرى بينهما ، فمحمد بن عبد الله جده عبد المطلب سيد البطحاء بلا منازع ، وعمه أبو طالب شيخ الأبطح وزعيمها ، والهاشميون بالتالي هم سادة قريش والعرب لا يختلف في ذلك إثنان.
أما عمار ، فلاجئ محالف لبني مخزوم ، لا يملك دون رأيهم رأياً ، وليس له أن يفعل دون إرادتهم شيئاً ! الفارق بينهما إذن كبيرٌ جداً ، ومع ذلك
إستطاع عمّار أن يصاحب محمداً في شبابه ، وأن يكون أميناً على شؤونه الخاصة ، لا يفش له سراً ، كما لا يأل جهداً في إرضائه ، فكان يتوخى ما يسره ويؤنسه ، شأن الصديق المخلص لصديقه ، حتى أنه كان الوسيط في زواجه من أم المؤمنين خديجة.
وكانت خديجة من أكثر أهل مكة ثراءً ، وكانت قوافلها تعمل في التجارة بين الشام والحجاز ، وكانت من أهل الشرف والمكانة ، كما كانت على جانبٍ من الجمال ، رغب فيها أشراف مكة وكبراؤها ، فرغبت عنهم وردّتهم ، وألقى الله في قلبها حُبَّ محمدٍ (ص) فبادرت إلى عرض نفسها للزواج منه.
حدثنا عمار وهو يسرد كيفية زواج النبي (ص) من خديجة ، فقال : كنت صديقاً له ، فإنا لنمشي يوماً بين الصفا والمروة إذا بخديجة بنت خويلد وأختها هالة ، فلما رأت رسول الله (ص) جاءتني هالة أختها فقالت : يا عمار ؛ أما لصاحبك حاجة في خديجة ؟
قلت : والله ما أدري ، فرجعت فذكرت ذلك له ، فقال : إرجع فواضعها (1) وعدها يوماً نأتيها فيه. ففعلت. فلما كان ذلك اليوم أرسلت إلى عمها عمرو بن أسد وسقته ذلك اليوم ، ودهنت لحيته بدهن أصفر ، وطرحت عليه حبراً ، ثم جاء رسول الله (ص) في نفرٍ من أعمامه تقدمهم أبو طالب.
فخطب أبو طالب ، فقال الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم ، وذرية إسماعيل ، وجعل لنا بيتاً محجوجاً ، وحرماً آمناً ، وجعلنا الحكام على الناس ، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه. ثم إن ابن أخي محمد بن عبد الله لا يوزن برجل من قريش إلا رجح ، ولا يقاس بأحدٍ إلا عظم عنه ،
قال عمار : فلما أصبح عمها عمرو بن أسد ، أنكر ما رأى ، فقيل له : هذا ختنك محمد بن عبد الله أهدى لك هذا. قال : ومتى زوجته ؟ قيل له بالأمس ؛ قال : ما فعلتُ. قيل له : بلى نشهد أنك قد فعلت.
فلما رأى عمرو رسول الله (ص) قال : إشهدوا أني إن لم أكن زوجته بالأمس ، فقد زوجته اليوم (2).
إلى جانب هذا ، كان عمار في تجواله مع النبي (ص) في بطاح مكة وشعابها ، وبين الصفا والمروة ، وحول البيت ، يصغي مسامع قلبه إلى أحاديث النبي وكلماته ، فقد كان محمد قبل البعثة يمثل صحوة العقل الإنساني ونقاء الضمير فيه ، كثير التأمل في ظواهر الكون والخلق ، شديد التنديد بآلهة قريش وعابديها والمروجين لها ، أولئك الذين استحكم الجهل والعمى في نفوسهم فانحرفوا عن المسار الفطري السليم ، وجنحوا بالإنسانية النقية الطاهرة إلى مهاوي الغي والضلال ، فابتعدوا عن حنيفية إبراهيم وشرائع الأنبياء ، وباعوا ضمائرهم للشيطان يملي عليهم ما يشاء من نواضح كيده ، وبهارج زينته ، فيتركهم يتخبطون في ظلام الجاهلية ، لا يرون أبعد من آنافهم ، وهل أذل وأضعف وأحقر من إنسان يستعين على أموره بحجرٍ زاعماً أنه الآلهة التي تملك كل شيء وتفعل كل شيء ، أو أنها تقربه إلى الله الخالق ! ؟ جنون يا له من جنون !!
كانت أحاديث النبي وكلماته وتنديداته توقض الجانب الإيماني في نفس عمار ، كما تلهب فيه الشعور بالتقصير ، تقصير الإنسان في حق نفسه وربه.
يصغي عمار إلى كلمات محمد (ص) وكأنه يتلقى دورة تدريبيةً تؤهله للقيام بواجباته في المستقبل القريب الذي ينتظره.
|
بِسـْمِ اللهِ الـرَّحمَنِ الرّحِيـمِ أقرَأ بِاسمِ رَبِّـكَ آلَّـذِى خَـلَقَ «1» خَـلَقَ آلإِنسَـنَ مِنْ عَـلَقٍ «2» آقْرَأ وَرَبُّكَ آلأَكرَمُ «3» آلَّذِى عَلَّمَ بِآلقَلَمِ «4» عَلَّمَ آلإِنسَنَ مَالَم يَعلَم «5» |
بهذا المفتتح الرائع كانت بداية الرسالة الإسلامية لأهل هذا العالم كافة ، ففي غار حراء كان النبي محمد (ص) يخلو بنفسه هناك غارقاً في سبحات التأمل والتفكر ، متخشعاً لربه ، بعيداً عن حماقات الوثنية التي كانت تملأ مكة وتكتنف شبه الجزيرة العربية ، كان (ص) هو والحق على موعد ، ففي تلك اللحظات التأريخية فجأه الوحي بأول كلمات الرسالة :
كلمات على إختصارها تشتمل على معانٍ غاية في الدقة ، فيها حثٌّ للإنسان على فهم العوالم التي حوله ، ومن ثمَّ على فهم ذاته بواسطة العلم الذي هو موهبة من الله سبحانه الذي علم الإنسان ما لم يعلم.
إن هذا المفتتح الكريم هو أول وثيقةٍ دينية تسجل إنتصار العلم في هذا العالم مما يؤكد أن الإسلام والعلم يرشحان من منهلٍ واحد ، وكل منهما يدعم صاحبه.
كان ذلك يوم الإثنين ـ على الأشهر ـ (1) وله (ص) من العمر أربعون
أما خديجة ، فتلك المرأة الصالحة التي رغب بالقرب منها أشراف العرب ، فلفظتهم ورغبت عنهم وعن دنياهم واختارت محمداً.
وأما علي ، فذلك الصبي الذي كان لا يكاد يفارق محمداً في حلٍّ ولا ترحال ، حتى قال هو عن نفسه واصفاً علاقته بالنبي : « كنت أتبعه إتباع الفصيل لأمه... ».
قال محمد بن إسحاق : لم يسبق علياً إلى الإيمان بالله ورسوله ورسالة محمد (ص) أحد من الناس ، اللهم إلا أن تكون خديجة زوجة الرسول ، وقد كان يخرج ومعه عليٌّ مستخفياً من الناس فيصليان الصلوات في بعض شعاب مكة ، فإذا أمسيا رجعا ، فمكثا بذلك ما شاء الله أن يمكثا ، لا ثالث لهما (1).
وقد اطلع النبي (ص) بعض الخواص من أصحابه الذين يركن لأمانتهم وإخلاصهم فكانوا إذا أرادوا الصلاة خرجوا إلى شعاب مكة خوفاً من قومهم ، وكانت دار الأرقم بمكة ملتقىً لهم حيث اتخذها النبي (ص) مقراً له لنشر دعوته بادئ الأمر ، ومنتدىً لمن أحب أن يسمع منه ما جاء به من عند الله تعالى ، ومن الطبيعي أن الأمر كان محاطاً بشيء من السرية والكتمان بالنسبة للراغبين في اعتناق الدين الجديد.
أما عمار بن ياسر ، الصديق الحميم لمحمدٍ (ص) فلم تكن لتفوته الفرصة في المبادرة ، فخف إلى دار الأرقم ليرى محمداً ومن معه ، وليسمع منه ، إلا أنه فوجيء على الباب بصهيب بن سنان الرومي ، ويظهر أن كلاً منهما خاف ان يكون الآخر عيناً عليه !
يقول عمار : فقلت له : ما تريد ؟ قال لي : ما تريد أنت ؟ فقلت : أردت أن أدخل على محمدٍ فاسمع كلامه. قال : وأنا أريد ذلك ، فدخلنا عليه فعرض علينا الإسلام ، فأسلمنا. ثم مكثنا يومنا على ذلك حتى أمسينا ، ثم خرجنا ونحن مستخفون (1).
بعد ذلك أمر الله تعالى نبيه بإظهار الأمر ، وأن يبدأ بالخاصة من أقاربه وعشيرته إذ خاطبه تعالى بقوله : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) * فاستدعى علياً للقيام بمهمة جمع العشيرة ، وكان هذا أول ما استعان به الرسول (ص) بابن عمه علي ، فجمع بني هاشم في دار الحارث بن عبد المطلب ، وهم يومئذٍ أربعون رجلاً أو يزيدون ، الرجل منهم يأكل المسنّة ويشرب العس (2). فأمر علياً برجل شاة فآدمها ، ثم قال : ادنو باسم الله. فدنا القوم عشرةً عشرة ، فأكلوا حتى صدروا ثم دعا بقعب لبن ، فجرع منه جرعة ، ثم قال : اشربوا باسم الله ، فشربوا حتى رووا. وكانت هذه الحادثة غريبة من نوعها بل معجزة خارقة للقوانين العادية مما حدا بأبي لهب عم النبي أن يقول للحاضرين : هذا ما سحركم به الرجل !!
سكت النبي (ص) ولم يتكلم ، ثم التفت إليهم وقال : إن الله تعالى أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، وأنتم عشيرتي ورهطي ، وان الله لم يبعث نبياً إلا جعل له من أهله أخاً ووزيراً ووصياً وخليفةً في أهله ، فايكم يقوم فيبايعني على أنه أخي ووارثي ووزيري ووصي ويكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي ؟ !
فسكت القوم. فقال النبي (ص) : ليقومنَّ قائمكم ، أو ليكوننَّ في غيركم ، ثم لتندمنَّ ؟ ! ثم أعاد الكلام ثلاث مرات.
فقام علي (ع) ، فبايعه وأجابه ، فقال (ص) : ادن مني ، فدنا منه ففتح فاه ومجّ في فيه من ريقه ، وتفل بين كتفيه وثدييه. فقال أبو لهب : فبئس ما حبوت به ابن عمك أن أجابك ، فملأت فاه ووجهه بزاقاً !!
فقال النبي (ص) : ملأته حكمةً وعلماً (1).
ثم يلتفت أبو لهب إلى الحاضرين من بني هاشم ويقول : خذوا على يدي صاحبكم ـ أي إمنعوه ـ قبل أن يأخذ على يده غيركم ، فإن منعتموه قتلتم ، وان تركتموه ذللتم. فقال أبو طالب : يا عورة ، والله لننصرنه ، ثم لنعيننَّه.. ثم التفت إلى النبي وقال : يا بن أخي ، إذا أردت أن تدعو إلى ربك فاعلمنا حتى نخرج معك بالسلاح (2) ثم نزلت الآية الكريمة ( واصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ) * (3). فوقف (ص) على الصفا ونادى : واصباحاه. فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا : مالك ؟ قال : أرأيتم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم ، أما كنتم تصدقونني ؟ ؟ قالوا : بلى. قال : فاني نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديد. فقال أبو لهب : تباً لك ! ألهذا دعوتنا وجمعتنا ؟ فأنزل الله عزَّ وجلّ : ( تبت يدا أبي لهب وتب.. ) السورة..
وأقام رسول الله (ص) ذات يوم بالأبطح (4) فقال : إني رسول الله أدعوكم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر ولا تخلق ولا ترزق ولا تحيي ولا تميت. فاستهزأوا به وآذوه.
وذات يوم قام بسوق عكاظ ، وعليه جبة حمراء ، فقال : يا أيها الناس ، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتنجحوا ! وإذا رجل يتبعه ، له غديرتان
وكان أبو طالب ـ عم النبي ـ الداعم الأول لمحمدٍ والمساند له ، والمدافع عنه ، مما حدا برهط من قريش أن يجتمعوا ويتفقوا فيما بينهم على أن يواجهوه في أمر ابن أخيه علّه أن يحد من نشاطه ، ويخفف من عناده في أمر دعوته ، فدخلوا عليه وفيهم أبو جهل فقال : إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ، ويسفه أحلامنا.. يقول.. ويقول.. ويفعل.. ويفعل.. فلو بعثت إليه فنهيته.
فبعث أبو طالب إلى النبي ، فجاء (ص) فدخل البيت ـ وكان بين أبي طالب وبين القوم قدر مجلس رجل ـ فخشي أبو جهل إن جلس محمد إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق له عليه ، فوثب فجلس في ذلك المجلس ، ولم يجد رسول الله مجلساً قرب عمه ، فجلس عند الباب.
فقال أبو طالب : أي ابن أخي ، ما بال قومك يشكونك ، يزعمون أنك تشتم آلهتهم ، وتقول.. وتقول.. فابق عليّ وعلى نفسك ، ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق ! ؟ فظن رسول الله (ص) أنه قد بدا لعمه فيه بداء ، وأنه خاذله ومسلمه وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه ، فقال (ص) : يا عمّاه ، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته. !! ثم استعبر رسول الله فبكى. ثم قام.
فلما ولىّ ، ناداه أبو طالب فقال : أقبل يا بن أخي ، فأقبل عليه ، فقال : إذهب يا بن أخي ، فقل ما أحببت ، فوالله لا أسلمك لشيءٍ أبداً (1) وفي ذلك يقول أبو طالب :
| والله لـن يصـلوا إليـك بجمـعهـم | * | حتـى أوسّـد فـي التـراب دفـيـنـا |
| فانفـذ لأمرك مـا عليـك مخـافـة | * | وابشـر وقـرَّ بـذاك منـه عـيـونـا |
| وعـرضت دينـاً قـد علمـتُ بأنـه | * | مـن خيـر أديـان الـبـريـة ديـنـا |
فعرفت قريش أن أبا طالب أبى خذلان ابن أخيه ، فلجأوا إلى حيلة ثانية ظنوا أنهم يستدرجون بها أبا طالب ، فاختاروا أجمل فتىً في قريش يقال له عمارة على أن يقايضوه بمحمد !! فمشوا إلى أبي طالب وقالوا له : يا أبا طالب ؛ هذا عمارة بن الوليد أنهد فتىً في قريش وأشعره وأجمله ، فخذه ، فلك عقله ونصرته ، واتخذه ولداً ، فهو لك ، وسلم لنا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك ، وفرّق جماعة قومك ، وسفَهَ أحلامهم ، فنقتله ، فإنما رجل كرجل !!
فقال : والله لبئسما تسومونني ، أتعطونني إبنكم أغذوه لكم ! وأعطيكم أبني تقتلونه ؟ ! هذا والله ما لا يكون أبداً.
فقال المطعم بن عدي بن نوفل : والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك ، وجهدوا على التخلص مما تكرهه ، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً. فقال أبو طالب : والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ، ومظاهرة القوم علي ، فاصنع ما بدا لك !
فحقب الأمر عند ذلك ، وحميت المواجهة بين قريش وأصحاب الرسول ومؤيديه ، وعمدت قريش إلى إستعمال القوة والعنف منزلةً أبشع ألوان التعذيب النفسي والجسدي بأتباع محمد (ص) سيما الضعفاء منهم والدهماء الذين لا حول لهم ولا عشيرة.
« فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويتنونهم عن دينهم ، وكان نصيب عمار وأبويه ياسر وسمية من ذلك التعذيب وتلك الفتنة ما يفوق حد الوصف ، ومنع الله رسوله منهم بعمه أبي طالب.
حين رأى أبو طالب قريشاً وهي تصنع ما تصنع ببني هاشم وبني
| يقـولـون لـو أنـا قتـلنـا محمـداً | * | أقـرت نواصي هاشـمٍ بـالتـذلـلِ |
| كـذبتـم ورب البيت تـدمى نحـوره | * | بمكـة والبيـت الـعتيـق الـمقبـلِ |
| تنـالـونه أو تصطلـوا دون نـيلـه | * | صوارمَ تفـري كل عضوٍ ومفصـلِ |
| فهلاّ ولمـا تنتـج الحرب بكـرهـا | * | بخيـل ثمـام أو بـآخـر مـعجـلِ |
| وتـلقـوا ربيع الأبطحيـن محمـداً | * | على ربـوةٍ في رأس عنقـاء عيطـلِ |
| وتـأوي إليـه هـاشم إن هـاشمـاً | * | عـرانيـنُ كـعب آخـرِ بـعـد أولِ |
| فـإن كنتـمَ ترجـون قتـل محمـدٍ | * | فـرومـوا بما أجمعتـم نَقـل يذبـلِ |
| فـإنـا سنـحميـه بكـل طِـمـرةٍ | * | وذي ميعـةٍ نهد المـراكـل عسكـل |
| وكـل رديـنـي ظمـاءِ كعـوبـه | * | وعضبٍ كـإيمـاضِ الغمامة معصـل |
وقوله :
| وأبيض يُسـتسـقى الغمـام بـكفـه | * | ثمـالُ اليتـامى عِصمـة لـلآرامـل |
| يـُطيفُ بـه الُهـلاّك من آل هـاشم | * | فهـم عنـده فـي نعمـةٍ وفـواضـلِ |
ونحن نقرأ أبا طالب في شعره ناصراً للنبي (ص) ، ومؤيداً له في دعوته ، فهو يدلي برأيه جهاراً أمام الناس أن ما جاء به محمد (ص) هو دين منزل من السماء ، على نبي إختارته السماء ، فها هو ذلك يقول :
| أميـنٌ حبيـبٌ فـي العبـاد مسـوّمٌ | * | بخـاتـم رب قـاهـر فـي الخـواتـم |
| يرى الناس برهـانـاً عليـه وهيبـةً | * | ومـا جاهـلٌ في قومـه مثـل عـالـمِ |
| نبـيٌّ أتـاه الـوحي من عنـد ربـه | * | ومن قال : لا ، يَقـرع بهـا سـنَّ نـادم |
ويقول أيضاً حين عذبت قريش عثمان بن مضعون :
| ونمنـع الضيـم مـن يبغـي مضيمنـا | * | بكـل مـطرّدٍ في الكف مسـنـون |
| ومـرهفـاتٍ كـأن الملح خـالـطهـاٍ | * | يشفي بها الـداء من هام المجانيـن |
| حتى تقـرَّ رجـالٌ لا حـلـوم لـهـا | * | بعد الصعوبة بالإسمـاح والـليـن |
| أو تـؤمنـوا بكتـابٍ منـزل عجـبِ | * | على نبي كموسى أو كذي الـنـون |
وأكثر ما نسب من الشعر لأبي طالب يمكن إعتباره من وحي المناسبة ، وتخال وأنت تقرأ ما ورد من الشعر المنسوب إليه أنه كان يصب في مصبٍّ واحد ، وهو الدفاع عن محمد وعن دعوته ورسالته ، والتشهير بمناوئيه وتحديهم وتوعدهم ، سيما حين يرى استفزاز قريش لمحمد واستهزائهم به ، فمن ذلك قوله مشيراً إلى إصرار الهاشميين على افتدائه ببذل النفس والنفيس :
| يـرجـون أن نسـخى بـقـتـل محمـد | * | ولم تختضب سمر العـوالـي مـن الِـدم |
| كـذبتـم وبيـت الله حـتـى تفـلـقـوا | * | جمـاجـم تـلقـى بـالحطـيم وزمـزم |
| وتقـطـع أرحـام وتـنسـى حـليـلـةُ | * | حـليـلاً ويغشـى محـرمٌ بعـد محـرم |
| على ما مضى من مقـتكـم وعقـوقكـم | * | وغشيـانـكـم في أمـركـم كل مـأثَـم |
| وظلـم نبـي جـاء يـدعـو إلى الهـدى | * | وأمـرٌ أتى من عنـد ذي العـرش قـيّـم |
ومن مواقف أبي طالب التي تنم عن مدى شجاعته وهيبته وسطوته ، ومدى حبه واخلاصه لمحمد ، ما حدث له مع طواغيت مكة ، وهم : العاص بن وائل ، والحارث بن قيس ، والأسود بن المطلب ، والوليد بن المغيرة ، والأسود بن عبد يغوث الزهري (1) وكان هؤلاء من أشد الناس على
محمدٍ ، وأكثرهم سخريةً واستهزاءً به ، وكانوا يوكلون به صبيانهم وعبيدهم فيلقونه بما لا يحب.
ففي ذات يوم نحروا جزوراً بالحزورة (1) ورسول الله (ص) قائم يصلي ، فأمروا غلاماً لهم فحمل السلى والفرث حتى وضعه بين كتفيه وهو ساجد !
فانصرف (ص) وأتى عمه أبا طالب ، فقال : كيف موضعي فيكم ؟ قال : وما ذاك يا بن أخي ؟ فأخبره ما صُنع به.
فأقبل أبو طالب آنذاك مشتملاً على السيف ، يتبعه غلام له ، فاخترط سيفه وقال مخاطباً إياهم : والله لا تكلم رجل منكم إلا ضربته ، ثم أمر غلامه ، فأمرَّ ذلك السلى والفرث على وجوههم واحداً واحداً.. فقالوا : حسبك هذا فينا يابن أخينا.. ؟!
وفي الليلة التي أسري به (ص) إلى السماء ، افتقده أبو طالب ، فخاف أن تكون قريش قد إغتالته أو قتلته ، فجمع سبعين رجلاً من بني عبد المطلب معهم الشفار ، وأمرهم أن يجلس كل منهم إلى جانب رجل من قريش ، وقال لهم : إن رأيتموني ومحمداً معي فأمسكوا حتى آتيكم. وإلا فليقتل كل رجلٍ منكم جليسه ولا تنتظروني ، ثم مضى ، فما لبث أن وجدوه واقفاً على باب أم هانئ ، فأتى به بين يديه حتى وقف على قريش فعرفهم ما كان منه ، فأعظموا ذلك ، وجلَّ في صدروهم ، وعاهدوه وعاقدوه أن لا
إن هذه المواقف من شيخ مكة وعميدها كانت تمهد للرسول المصطفى (ص) طريق دعوته وتشد من عزائم
المؤمنين ، وتزيد من صبرهم على المكاره ، كما كانت في المقابل تؤجج نار الحقد في قلوب مشركي مكة من القرشيين وغيرهم ، فهم لا يستطيعون النيل من محمدٍ بشخصه في تلك الفترة تحامياً لسطوات بني هاشم ، وهيبةً لهم ولعميدهم أبي طالب ، لذلك عمدوا إلى الانتقام من أتباع محمد ممن كانوا تحت قبضتهم وسلطتهم ، فوثب كل واحدٍ منهم إلى أحلافه وعبيده من المسلمين منزلين بهم أشد العقوبات ، وأقسى ألوان التعذيب ، طمعاً في ردهم عن دينهم الجديد ، وانتقاماً من محمد (ص) في آنٍ واحد.
وعلى سبيل المثال لا الحصر ، وثب لبلال بن رباح أمية بن خلف الجمحي (2) فكان يخرجه إذا حميت الظهيرة ، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة توضع على صدره ، ويقول أمية : لا يزال بلالٌ على ذلك حتى يموت ، أو يكفر بمحمد !
فيقول بلال : أحدٌ أحد (3)..
وخباب بن الأرت ، كان يُعرى ويُلصقُ ظهره بالرمضاء ، ثم الرضف ـ الحجارة المحماة بالنار ـ ويلوون رأسه ، وهو لا يجيبهم إلى شيء مما أرادوه منه ، وقد قال يوماً لعمر بن الخطاب انظر إلى ظهري ! فنظر ، فقال : ما رأيت كاليوم ! قال خباب : لقد أوقدت لي نارٌ وسحبت عليها ، فما أطفأها إلا ودك ظهري (4).
وأبو فكيهة ، كان عبداً لصفوان بن أمية الجمحي ، أسلم مع بلال ، فأخذه أمية بن خلف وربط في رجله حبلاً ، وأمر به فجُرَّ ، ثم ألقاه في الرمضاء ، ومرَّ به جُعَل ـ خنفساء ـ فقال له أمية : أليس هذا ربك ؟ ! فقال : الله ربي وربك ورب هذا. فخنقه خنقاً شديداً ، ومعه أخوه أبي بن خلف يقول : زده عذاباً حتى يأتي محمدٌ فيخلصه بسحره !
وكانوا يضعون الصخرة على صدره حتى يدلع لسانه ، ولم يرجع عن دينه ، ولم يزل على تلك الحال حتى طنوا أنه قد مات (1).
ولم يقتصر الأمر على الرجال فقط ، بل شمل النساء حتى العواجز منهن ، فكانت سميّة ـ أم عمار ـ وزنَّيرة ، ولبيبة ، وغيرهن ممن عذبن في الله.
أما زنيرة : فكانت امرأةً وقوراً أدبها الفقر ، وأعزها الإسلام ، وكانت أمةً لبني عدي ، وكان يشترك في تعذيبها كل من أبي جهل وعمر حتى عميت ، فقال لها : إن اللات والعزى فعلا بك ذلك ! قالت : وما يدري اللات والعزى من يعبدهما ؟ ! ولكن هذا أمر من السماء ، وربي قادرعلى رد بصري. فأصبحت من الغد وقد ردَّ الله بصرها. فقالت قريش : هذا من سحر محمد (2) !!
ومثلها لبيبة ، جارية بني مؤمل ، أسلمت قبل إسلام عمر ، وكان عمر يعذبها حتى تفتن ، ثم يدعها ويقول : إني لم أدعك إلا سآمة. فتقول : كذلك يفعل الله بك إن لم تسلم (3) !! وكذلك أم عبيس جارية بني زهرة ، والنهدية مولاة بني نهد واضرابهن ممن واجهن المحنة في سبيل الإسلام.
غير أن سمية ـ أول شهيدة في الإسلام ـ كان لتعذيبها حتى شهادتها وجه
كانت سمية سابعة سبعةٍ في الإسلام ، عجوزاً ضعيفةً وقعت في براثن وحش كاسر ، إلا أن نفسها كانت أصلب من الحديد ، وأقوى من السياط ، تواجه الحقد الأعمى لهباً يتمدد على جدسها الطاهر بإيمان قوي وعقيدة راسخة مما جعل طاغوت مكة أبا جهل يفقد صوابه.. لقد أراد أن يسمع منها ما يكرهه قلبها.. أن تنال من محمدٍ ودينه.. ولكنها أسمعته ما يكره ، فعمد إلى حربةٍ كانت بين يديه ، فوجأها في قلبها ، فكانت أول شهيدة في الإسلام.
وواجه زوجها ياسر ـ الشيخ الهرم ـ عين المصير فأمسى نجماً متألقاً في سماء الشهادة.
وبين الوالد والأم كانت محنة عمار ـ الأبن ـ تتفاقم وتزداد حتى كأنه يتلقى صورة تعذيبهما نصب عينيه ونبأ استشهادهما عذاباً متجدداً عليه يضاعف آلامه ومحنه.
بالإضافة إلى هذا فانهم لم يتركوا وسيلةً من وسائل القهر والتعذيب إلا استعملوها معه ، فتارةً يسحبونه على الرمضاء المحرقة مجرداً من ثيابه ، ثم يضعون صخرةً كبيرةً على صدره ، فان يئسوا منه لجأوا إلى تغريقه بالماء بغمس وجهه ورأسه حتى يختنق أو يشرف على الموت ، فكان لا يدري بما يقول !
قال بعضهم وقد رأى عماراً متجرداً في سراويل : نظرت إلى ظهره فيه حبط كثير ، فقلت : ما هذا ؟ ! قال : هذا مما كانت تعذبني به قريش في ومضاء مكة (1).
ويمر رسول الله (ص) بتلك الكوكبة من طلائع المسلمين وهم يواجهون المحنة ويصوغون بها الفجر الجديد في تأريخ الإنسانية ، فيمسح جراحهم ويلملم أحزانهم معزياً ومسلياً وينظر الكل إليه بعيونٍ أتعبها ظلام العابثين والحاقدين ، فيرون في عينيه بريق أملٍ ووميض رجاء ، وينظر إليهم (ص) ثم يصافحهم مقوياً من عزائمهم شاداً على أيديهم.. وفي تلك اللحظات يقول له خباب بن الأرت : يا رسول الله ، أدعُ لنا ، فيدعو لهم. ثم يلتفت إليهم ويقول : إنكم لتعجلون ! لقد كان الرجل ممن كان قبلكم يمشط بأمشاط الحديد ويشق بالمنشار فلا يرده ذلك عن دينه ! والله ليتممن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله ، والذئب على عنزه (1).
إلا أنه صلوات الله عليه حينما يمر على عائلة ياسر ينظر إليهم برحمةٍ وشفقة.. ثم ما يلبث أن يقول : صبراً يا آل ياسر ، فان موعدكم الجنة (2) ثم يقبل على عمار فيعزيه ويسليه ، ويجهش عمار باكياً وهو يبث إلى رسول الله همومه وأحزانه فيقول : يا رسول الله ، بلغ منا العذاب كل مبلغ فيقول (ص) : صبراً يا أب اليقظان ، اللهم لا تعذب أحداً من آل ياسر بالنار (3).
وكاد عمار أن يلتحق بأبويه لفرط ما واجه من ضغوط نفسية وجسدية تترك أقوى النفوس مضعضعةً مهزوزة ، وأقوى الأجساد مكلومةً ومعاقة لولا إن المشيئة الإلهية إختارت البقاء لهذا الإنسان كي يؤدي دوره التأريخي كاملاً أزاء الرسول محمد (ص) ورسالته الخالدة ، وأن يتوج حياته المباركة بأعظم المواقف التي يسجلها تأريخ أمةٍ لعظيم من عظمائها وقائدٍ من قادتها. بطلٌ من أبطال ( بدر ) وأمير على الكوفة ، وقائد من قواد علي..
لقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه فقط ، وربما كان ذلك من فرط التعذيب الذي وصفه المؤرخون بقولهم : « كان يعذب حتى لا يدري ما يقول.. » (1).
ربما قال ما قال وهو في حالة غيبوبة أو شبه غيبوبة ، فحينما سأله النبي (ص) ما وراءك ؟ قال : شرٌّ يا رسول الله ، والله ما تركت حتى نلت منك يا رسول الله ، وذكرت آلهتهم بخير. قال : فكيف تجد قلبك ؟ قال : مطمئنٌ بالإِيمان. قال : فان عادوا عُد. وفي ذلك نزلت الآية الكريمة : ( إلا من أكره وقلبه مطمئنٌ بالإِيمان ) (2).
أجل ، أعطاهم بلسانه ما أرادوا ، وأما قلبه فظل كما هو مطمئناً بالإيمان مفعماً بحب محمدٍ وآل محمد ، مشرقاً بنور الهداية وآلاء الله سبحانه.