| ترجمة الوليد بن عُقبَة |
هو أخو عثمان لأمه ، ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن ـ كما يقول في الإستيعاب ـ فيما علمت ، أن قوله عزَّ وجل : ( إن جاءكم فاسق بنبأٍ... ) الآية نزلت في الوليد بن عقبة.
وجاء : أن امرأة الوليد جاءت إلى النبي (ص) تشتكيه بأنه يضربها ، فقاله لها : إرجعي وقولي إن رسول الله قد أجارني. فانطلقت ، فمكثت ساعةً ، ثم جاءت فقالت : ما أقلع عني. فقطع (ص) هدبةً من ثوبه ثم قال لها : اذهبي بهذا وقولي إن رسول الله قد أجارني. فمكثت ساعةً ثم رجعت فقالت : يا رسول الله ما زادني إلا ضرباً.
فرفع يديه وقال : اللهم عليكَ بالوليد. مرتين أو ثلاثاً.
وأقام بالكوفة أميراً من طرف عثمان ، وكان يدني الشعراء ويشرب الخمر ، ويجالس أبا زَبيد الطائي النصراني. وصلى الصبح بالناس في المسجد الجامع أربعاً وهو سكران ، وقرأ في صلاته :
فلما سلّم ، التفت إلى الناس وقال : أأزيدكم ؟ فإني أجد اليوم نشاطاً.
| شهـدَ الحطيئـةُ يـوم يلـقى ربـَّه | * | أن الـولـيـد أحـق بـالـعـذر ـ |
| نـادى وقـد تـمـت صـلاتُـهـم | * | أأزيـدكم ؟ سكـراً ومـا يـدري |
| فـأبـوا أبـا وهـب ولـو أذنـوا | * | لقـرنـت بين الشَفـعِ والـوِتـرِ |
| كفـوا عنـانـك إذ جـريت ولـوُ | * | تركوا عنـانـك لم تـزل تجـري ـ (1) |
وخطب ذات يومٍ ، فحصبه الناس بحصباء المسجد ، فدخل قصره يترنح ويتمثل بأبيات لتأبط شراً :
| ولسـتُ بعيـداً عـن مـدام وقينـةٍ | * | ولا بصفـا صلـدٍ عن الخير معـزل |
| ولـكنني أروي من الخمر هـامتـي | * | وأمشـي الملا بالسـاحبِ المتـسلـلِ |
وأشاعوا بالكوفة فعله ، وظهر فسقُه ومداومته شربَ الخمر ، فهجم عليه جماعة من المسجد فوجدوه سكراناً مضطجعاً على سريره لا يعقل ، فايقظوه من رقدته فلم يستيقظ ، ثم تقيأ عليهم ما شرب من الخمر ، فانتزعوا خاتمه من يده ، وخرجوا من فورهم إلى المدينة ، فأتوا عثمان بن عفان فشهدوا عنده على الوليد أنه شرب الخمر. فقال عثمان : وما يدريكما أنه شرب الخمر ؟ فقالا : هي الخمر التي كنا نشربها في الجاهلية ، وأخرجا خاتمه فدفعاه إليه ، فزجرهما ودفع في صدرهما.
فخرجا من عنده وأتيا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأخبراه بالقصة ، فأتى عثمان وهو يقول : « دفعتَ الشهودَ وأبطلتَ الحدودَ ! فقال له عثمان فما ترى ؟ قال : أرى أن تبعث إلى صاحبك فتحضرهُ ، فإن أقاما الشهادة عليه في وجهه ولم يدرأ عن نفسه بحجةٍ أقمت عليه الحَدَّ.
فلما حضر الوليد ، دعاهما عثمان ، فأقاما الشهادة عليه ولم يدل بحُجَة ، فألقى عثمان السوط إلى علي فقال علي لابنه الحسن : قم يا بني
وحدّث عمر بن شبة ، قال : لما قدِم الوليد الكوفة ، وقد عليه أبو زبيد الطائي النصراني ، فأنزله الوليد دار عقيل بن أبي طالب على باب المسجد ، فأستوهبها منه ، فوهبها له ، وكان أول الطعن عليه لأن أبا زبيد كان يخرج من منزله يخترق المسجد إلى الوليد وهو سكران ، فيتخذه طريقاً ويسمر عنده ويشرب معه.
وعن ابن الأعرابي قال : أعطى الوليد أبا زُبيد الطائي ما بين القصور الحمر من الشام إلى القصور الحمر من الحيرة وجعله له حمىً ، فلما عُزل الوليد وولي سعيد انتزعها منه وأخرجها عنه.
قال : ولما قدم سعيد بن العاص الكوفة موضع الوليد قال : إغسلوا هذا المنبر ، فإن الوليد كان رجساً نجساً. فلم يصعده حتى غسل.
ومات الوليد فوق الرقة. وبها مات أبو زبيد ، ودفنا في موضع واحد ، فقال في ذلك أشجع السلمي وقد مر بقبرهما :
| مـررتُ علـى عظـام أبـي زبيـدٍ | * | وقـد لا حـت ببـلقـعة صـلودِ |
| وكـان له الـوليـد نـديـم صـدقٍ | * | فنـادم قـبـرُه قـبـرَ الـولـيـد(2) |
| ترجمة مالك الأشتر |
هو مالك ابن الحارث الأشتر النخعي ، أدرك النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد أثنى عليه كل من ذكره ، ولم أجد أحداً يغمز فيه (1).
وكان فارساً شجاعاً رئيساً من أكابر الشيعة وعظمائها ، شديد التحقق بولاء أمير المؤمنين (ع) ونصره ، وقال فيه بعد موته : رحم الله مالكاً ، فلقد كان لي كما كنت لرسول الله (ص).
وقد روى المحدثون حديثاً يدل على فضيلةٍ عظيمة للأشتر رحمه الله ، وهي شهادة قاطعة من النبي (ص) بأنه مؤمن ـ وذكر قصة وفاة أبي ذر وقول رسول الله (ص) « ليموتنّ أحدكم بفلاةٍ من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين ». إلى أن قال : وكان النفر الذين حضروا موت أبي ذر بالربذة مصادفة جماعة ، منهم حِجر بن الأدبر ، ومالك بن الحارث الأشتر (2).
وقد شهد أمير المؤمنين علي (ع) في حقه شهادات عالية تدل على عظمة هذا الرجل. من ذلك كتابه إلى أهل مصر :
« أما بعد ، فقد بعثت إليكم عبداً من عباد الله ، لا ينام أيام الخوف ،
وكتب (ع) إلى أميرين من أمراء جيشه :
« وقد أمرت عليكما وعلى من في حيّزكما مالك بن الحارث الأشتر ، فاسمعا له وأطيعا ، وأجعلاه درعاً ومجنّـاً ، فإنه ممن لا يُخاف وَهنُه ولا سَقطَتُه ، ولا بطؤه عما الإسراع إليه ولا إسراعه إلى ما البطئ عنه أمثل.. » (1).
قال ابن أبي الحديد : فأما ثناء أمير المؤمنين (ع) عليه في هذا الفصل ، فقد بلغ مع اختصاره ما لا يبلغ بالكلام الطويل ، ولعمري لقد كان الأشتر أهلاً لذلك ، كان شديد البأس ، جواداً رئيساً حليماً فصيحاً شاعراً ، وكان يجمع بين اللين والعنف ، فيسطو في موضع السطوة ، ويرفق في موضع الرفق.
وقد ذكرنا بعض مواقفه في حرب الجمل وصفين فيما سيأتي من هذا الكتاب.
ومات الأشتر في سنة تسع وثلاثين متوجهاً إلى مصر والياً عليها لعلي (ع) ، قيل : سُقي سُماً. وقيل : إنه لم يصح ذلك ، وإنما مات حتف أنفه (2).
وفي الكامل لابن الأثير : دسَّ معاوية بن أبي سفيان للأشتر مولى عمر ، فسقاه شربة سويقٍ فيها سُمٌّ فمات. فلما بلغ معاوية موته ، قام خطيباً في
وحين بلغ أمير المؤمنين استشهاده ، كتب إلى محمد بن أبي بكر : « إن الرجل الذي كنتُ وليته مصر كان لنا نصيحاً ، وعلى عدونا شديداً ، وقد استكمل أيامه ، ولاقى حِمامه ، ونحن عنه راضون فرضي الله عنه ، وضاعف له الثواب وأحسن له المآب ».
وقد جزع على فقده أمير المؤمنين جزعاً شديداً ، فقد قال حين بلغه موته : « إنا لله وإنا إليه راجعون ، والحمد لله رب العالمين ، اللهم إني احتسبه عُندك ، فإن موته من مصائب الدهر ، ثم قال : رحم الله مالكاً فقد كان وفي بعهده ، وقضى نحبه ، ولقيَ ربّه ، مع أنّا قد وطنّا أنفسنا أن نصبر على كل مصيبة بعد مصابنا برسول الله (ص) فإنها من أعظم المصائب ».
قال المغيرة الضُبّي : لم يزل أمر علي شديداً حتى مات الأشتر.
وعن جماعة من أشياخ النخع قالوا : دخلنا على علي أمير المؤمنين حين بلغه موت الأشتر ، فوجدناه يتلهف ويتأسف عليه ، ثم قال : للهِ درُّ مالك ، وما مالك ؟ لو كان من جبلٍ لكان فِنداً. ولو كان من حجر لكان صلداً ، أما والله ليهدّن موتُك عالماً ، وليُفرحّن عالماً ، على مثل مالك فليبك البواكي ، وهل موجودٌ كمالك ؟ !
وقال علقمة بن قيس النخعي : فما زال عليٌّ يتلهف ويتأسف حتى ظننا أنه المصاب دوننا وعُرف ذلك في وجهه أياماً (1). رحمة الله وسلامه عليه.
| خلافة الإمام علي (ع) |
لقد آمن علي بحقه في الخلافة ، ولكن أراده حقاً يطلبه الناس ، ولا يسبقهم إلى طلبه. فخبر حقيقة أمرهم بأن رفض البيعة لنفسه معلناً لهم أنه لا حاجة له في هذا الأمر ، وأنه سيكون في جانب من يختاره المسلمون ، وبذلك أعطاهم الحرية الكاملة والكافية في الإِختيار وتقرير المصير.
لكن المسلمين كانوا يتوافدون نحوه ، فيجتمعون على باب داره مثل الجبال ، كتلاً بشريةً هائلةً يدفعها التفاؤل ويقودها الوثوق ، كل الوثوق بالرجل الذي سيتولى قيادة الأمة في أخطر وأدق مرحلةٍ من مراحل الدولة الأسلامية.
يجتمعون على باب داره يريدون مبايعته ، وهو مع ذلك معتصم لا يجيبهم إلى شيء لأنه يريدها بيعةً حرةً صادقة تتجسد فيها آمال المسلمين ، غير أنهم ألحّوا عليه بإصرارٍ معلنين رفضهم لكل من يتقدم إلى هذا المنصب سواه ، وقد وضعوه بين اثنتين لا مناص لمسؤول عنهما ولا مهرب له منهما.
الأولى : أن المسلمين أمسوا لا إمام لهم !
الثانية : أنهم لا يرون أحداً أحق بالخلافة منه ، وكلا الأمرين يفرضان على الإمام أن يتحمل مسؤولياته.
ويسرد لنا أبن الأثير القصة مختصرةً ، فيقول : « اجتمع أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار ، وفيهم طلحة والزبير وأتوا علياً فقالوا له : إنه لا بد للناس من إمام !
قال : لا حاجةَ لي في أمركم ، فمن اخترتم رضيتُ به. فقالوا : ما نختارُ غيرك ! وترددوا إليه مراراً وقالوا له في آخر ذلك : إنا لا نعلمُ أحداً أحقّ بها منك ، ولا أقدم سابقةً ، ولا أقرب قرابةً من رسول الله (ص).
قال : أكون وزيراً خيراً من أن أكون أميراً. قالوا : واللهِ ما نحن بفاعلين حتى نبايعك » (1).
وكانت مبايعته نمطاً جديداً في الخلافة لم يسبق لأحد ممن كان قبله ، فإن بعضهم يصفِ البيعة فيقول : « خرجتُ في أثره والناسُ حوله يبايعونه ، فدخل حائطاً ـ بستاناً ـ من حيطان بني مازن فألجأوه إلى نخلة ، وحالوا بيني وبينه ، فنظرت إليهم وقد أخذت أيدي الناس ذراعه تختلف أيديهم على يده ! (2).
والإِمام يصف ذلك المشهد بنفسه فيقول : فما راعني إلا والناس كعرفِ الضبع إليَّ ، ينثالون عليّ من كل جانب ، حتى لقد وُطىءَ الحسنان ، وشُقَّ عِطفاي مجتمعين حولي كربيضةِ الغَنَمَ.. » (3).
وكان أول من بايعه وصفق على يده طلحةُ بن عبيد الله.
فقام الأشتر وقال : أبايعك يا أمير المؤمنين على أن عليَّ بيعة أهل الكوفة.
ثم قام طلحة والزبير فقالا : نبايعك يا أمير المؤمنين على أن علينا بيعة المهاجرين.
ثم قام أبو الهيثم بن التيهان ، وعقبة بن عمرو ، وأبو أيوب فقالوا : نبايعك على أن علينا بيعة الأنصار.
وقام قومٌ من الأنصار فتكلموا ، وكان أول من تكلم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري ، وكان خطيب الأنصار ، فقال : والله يا أمير المؤمنين ، لئن كانوا تقدموك في الولاية ، فما تقدموك في الدِّين ! ولئن كانوا سبقوك أمسِ فقد لحقتهم اليوم ، ولقد كانوا وكنتَ ، ولا يخفى موضعُكَ ، ولا يُجهل مكانك ، يحتاجون إليك فيما لا يعلمون ، وما احتجتَ إلى أحدٍ مع علمك.
ثم قام خزيمة بن ثابت الأنصاري ، وهو ذو الشهادتين ، فقال : يا أمير المؤمنين ؛ ما أصبنا لأمرنا هذا غيركَ ، ولا كان المنقلبَ إلا إليك ، ولئن صدقنا أنفسنا منك فلأنتَ أقدم الناس إيماناً ، وأعلم الناس بالله ، وأولى المؤمنين برسول الله ، لكَ مالهم ، وليس لهم مالكَ.
وقام صعصَعَة بن صوحان فقال : والله يا أمير المؤمنين ، لقد زيّنت الخلافة وما زانتكَ ، ورفعتها وما رفعتكَ ، ولهي إليك أحوجُ منك إليها.
ثم قام مالك الأشتر فقال : أيها الناس ، هذا وصيُّ الأوصياء ، ووارثُ علم الأنبياء ، العظيمُ البلاء ، الحسنُ الغناء ، الذي شهد له كتاب الله بالإِيمان ، ورسوله بجنة الرضوان ، من كملت فيه الفضائل ، ولم يشكَّ في سابقته وعلمه وفضله الأواخرُ ولا الأوائل.
ثم قام عقبة بن عمرو فقال : من له يومٌ كيوم العقَبةَ ، وبيعةٌ كبيعة الرضوان ، والإِمام الأهدى الذي لا يخاف جوره ، والعالم الذي لا يخاف جهله (1) .
قال اليعقوبي : وبايع الناس إلا ثلاثة نفر من قريش ، هم : مروان بن الحكم وسعيدُ بن العاص ، والوليد به عقبة ، وكان لسان القوم ، فقال : يا
فغضب عليٌّ وقال : أما ما ذكرت من وتري أياكم ، فالحقُّ وَتَركم. وأما وضعي عنكم ما أصبتُم فليس لي أن أضعَ حقَّ الله تعالى. وأما إعفائي عما في أيديكم ، فما كان للهِ وللمسلمين فالعدلُ يَسعكم ، وأما قتلي قتلة عثمان ، فلو لزمني قتلهم اليوم لزمني قتالهم غداً. ولكن لكم أن أحملكم على كتاب الله وسنة نبيه ، فمن ضاق عليه الحقُّ ، فالباطل عليه أضيق ، وان شئتم فالحقوا بملاحقكم.
فقال مروان : بل نبايعك ، ونقيمُ معكَ فترى ونرى.
لقد كان عمارٌ من أبرز الوجوه التي ناصرت علياً في جميع الأدوار ، فهو تلميذُ علي والأبنُ الروحي البار ، والجنديُّ المخلص ، فهو ينظر إلى عليّ والخلافة نظرته إلى الرجل المناسب في المكان المناسب لا يخامره في ذلك أدنى شك ، ولم يؤثر عنه آنذاك أنه أبدى مشاعر الفرحِ والسرور لاستخلاف علي شأن من يريد التزلّفَ للخليفة طمعاً في ولايةٍ أو إمرة ، لأنه تعامل منذ اليوم الأول مع الخلفاء بنظرة الجد والمسؤولية للهم الكبير الذي يشترك في تحمله المسلمون جميعاً ، وهو نشر الرسالة المباركة وإكمال الدعوة إليها ، نعم كان لا يكتم استغرابه من المتخلفين عن بيعة علي (ع) ولا يألوا جهداً في حثهم على مبايعته والإلتزام بخطه.
فقد نمي إليه أنَّ المغيرة بن شعبة لم يبايع علياً وأنه إعتزل الأمر ، فأقبل نحوه وقال : معاذ الله يا مغيرة تقعدُ أعمى بعد أن كنتَ بصيرا ، يغلبك من
وكانت عائشة بمكة خرجت قبل أن يُقتل عثمان ، فلما قضت حِجّها انصرفت راجعةً ، فلما صارت في بعض الطريق لقِيهَا ابنُ أم كلاب ، فقالت له : ما فعل عثمان ؟ قال : قُتل. قالت : بُعداً وسحقا ! قالت : فمن بايع الناس ؟ قال : طلحة. قالت : إيهاً ذو الإصبع.
وحين بلغها مبايعة الناس لعلي قالت : ما كنتُ ابالي أن تقع السماء على الأرض ، قُتِل ـ يعني عثمان ـ والله مظلوماً وأنا طالبة بدمه (2).
فقال لها عبيد : إن أول من طعن عليه واطمع الناس فيه لأنت ، ولقد قلت : اقتلوا نعثلاً فقد فجر ! فقالت عائشة : قد والله قلتُ وقال الناس ، وآخر قولي خير منه.
فقال عبيد : عذرٌ والله ضعيفٌ يا أم المؤمنين ، ثم قال :
| مِنـكِ الـبـداءُ ومنـكِ الـغِيَـر | * | ومنـكِ الـريـاح ومنـكِ المَطـر |
| وأنـتِ أمـرتِ بـقتـل الإمـام | * | وقـلـتِ لـنـا إنـه قـد فـجـر |
| فـهبنـا أطعنـاك فـي قتـلـه | * | وقـاتـلُـهُ عـنـدنـا مـن أَمـر |
وخرجت باكية تقول : قتل عثمان رحمه الله. فقال لها عمار : بالأمس
وأقام علي أياماً ، ثم أتاه طلحة والزبير فقالا : إنا نريد العمرَة ! فروي أنه قال لبعض أصحابه : والله ما أرادا العمرة ، ولكنهما أرادا الغدرة (2).
فخرج الزبير وطلحة إلى مكة ، وخرج معهما عبد الله بن عامر ـ ابن خال عثمان ـ فجعل يقول لهما : أبشرا فقد نلتما حاجتكما ، والله لأمدّنّكما بمائة ألف سيف.
وقدموا مكة وبها يومئذٍ عائشة ، وحرّضوها على الطلب بدم عثمان ، وكان معها جماعةٌ من بني أمية ، فلما علمت بقدوم طلحة والزبير فرحت بذلك واستبشرت وعزمت على ما أرادت من أمرها (3) وأمرت فعُمِلَ لها هودج من حديد وجُعل فيه موضع عينيها ، ثم خرجت ومعها الزبير وطلحة وعبد الله بن الزبير ، ومحمد بن طلحة (4).
وقدم يعلى بن منبه من اليمن ـ وقد كان عاملاً عليها من قِبلِ عثمان ـ وأعطى عائشة وطلحة والزبير أربعمائة ألف درهم وكراعاً وسلاحاً ، وبعث إلى عائشة بالجمل المسمى عسكراً (5).
وأرادوا الشام ، فصدّهم ابنُ عامر وقال : إن به معاوية ولا يَنقَاد إليكم ولا يُطيعكم ، ولكن هذه البصرة لي بها صنائعُ وعُدد ، فجهّزهم بألف ألف درهم ومائة من الإبل وغير ذلك (6).
وأقبلت عائشة حتى دخلت على أم سَلَمة زوج النبي (ص) وهي يومئذٍ بمكة وطلبت منها الذهاب معها إلى البصرة.
فقالت أم سلمة : يا بنت أبي بكر ، بدم عثمان تطلبين ؟ ! والله لقد كنتِ من أشد الناس عليه ، وما كنتِ تسميه إلا نعثلاً ، فما لَكِ ودم عثمان ؛ وعثمان رجل من عبد مناف وأنت امرأة من بني تميم بن مرة ! ؟ ويحك يا عائشة ، أعلى عليّ ، وابن عم رسول الله (ص) تخرجين وقد بايعه المهاجرون والأنصار ؟ ؟ !
ثم جعلت تذكرها فضائل علي. وعبد الله بن الزبير على الباب يسمع ذلك كله فصاح بأم سلمة وقال : با بنت أبي أمية ، إنا قد عرفنا عداوتك لآلِ الزبير. فقالت أم سلمة : والله لتوردنّها ثم لا تصدرنّها أنتَ ولا أبوك ، أتطمع أن يرضى المهاجرون والأنصار بأبيك الزبير وصاحبه طلحة ، وعليُّ بن أبي طالب حيٌّ ، وهو وليّ كل مؤمنٍ ومؤمنة ! ؟
فقال عبد الله : ما سمعنا هذا من رسول الله (ص) ساعةً قط.
فقالت أم سلمة رحمة الله عليها : إن لم تكن أنت سمعتهُ ، فقد سمعتهُ خالتُك عائشة. وها هي فاسألها. فقد سمعته (ص) يقول : عليٌّ خليفتي عليكم في حياتي ومماتي فمن عصاه فقد عصاني ، أتشهدين يا عائشة بهذا أم لا ؟ فقالت عائشة : اللهم نعم. فقالت أم سلمة : فاتق الله يا عائشة في نفسك واحذري ما حذرك الله ورسوله (ص) ولا تكوني صاحبة كلاب الحوأب ، ولا يغرّنـّك الزبير وطلحة ، فانهما لا يُغنيانِ عنكِ من الله شيئاً. فخرجت من عندها وهي حنقةٌ عليها.
وأذّن مؤذن طلحة والزبير بالمسير إلى البصرة ، فسار الناس وسارت معهم عائشة وهي تقول : اللهم إني لا أريد إلا الإِصلاح بين المسلمين فأصلح بيننا إنك على كل شيء قدير.
لعبد الله علي أمير المؤمنين من أم سلمة بنت أبي أمية ، سلام عليك ورحمة الله وبركاته أما بعد : فان طلحة والزبير وعائشة وبنيها بني السوء وشيعة الضلال ، خرجوا مع ابن الجزار عبد الله بن عامر إلى البصرة يزعمون أن عثمان بن عفان قُتل مظلوماً ، وأنهم يطلبون بدمه ، والله كافيكم ، وجعل دائرة السوء عليهم إن شاء الله تعالى ، وتالله لولا ما نهى الله عزَّ وجل عنه من خروج النساء من بيوتهن وما أوصى به رسول الله (ص) عند وفاته لشخصت معك ، لكن قد بعثتُ إليك بأحب الناس إلى النبي (ص) ابني عمرُ بن أبي سلمة ، والسلام.
فجاء عمر بن أبي سلمة إلى علي رضي الله عنه ، فصار معه وكان له فضل وعبادة وعقل. فانشأ رجل من أصحاب علي رضي الله عنه يمدح أم سلمة وهو يقول أبياتاً جاء فيها :
| ثم قـالـت إذ رأت مـن أختـهـا | * | مـا رأت والـخيـرُ قـدمـاً بـقـدر |
| لابــنـهـا إإت عـلـيـاً إنـه | * | أفضـل الـنـاس جميعـاً يـا عمـر |
وقالت امرأة من نساء بني عبد المطلب تمدحها بأبيات جاء فيها :
| أطـعـتِ عـليـاً ولـم تـنقـضـي | * | كـمـا نقـضـت أمـنـا عـائـشـة |
| أتـاهـا الـزبـيـر بـأمـنـيــةٍ | * | وطلحـة بـالـفـتـنـة الـنـاهـشـة (1) |
حين علم عليٌّ (ع) بذلك دعا محمد ابن أبي بكر ( رضي الله عنه ) وقال له : ألا ترى إلى أختك عائشة كيف خرجت من بيتها الذي أمرها الله عزَّ وجل أن تقر فيه وأخرجت معها طلحة والزبير يريدان البصرة لشقاق وفراق ؟.
فقال له محمد : يا أمير المؤمنين ، لا عليك فان الله معك ولن نخذلك
وتقدمت عائشة فيمن معها من الناس ، حتى إذا بلغت إلى ماء الحوأب ـ وذلك وقت السحر ـ نبحت الكلاب ، فسمعت رجلاً من أهل عسكرها يسأل ويقول : أي ماءٍ هذا ؟ فقيل له هذا ماءُ الحوأب. فقالت عائشة : رودّني فقيل لها ولم ذلك ؟ فقالت لأني سمعت رسول الله (ص) وهو يقول : كأني بامرأةٍ من نسائي تنبح عليها كلاب الحوأب ، فاتق الله أن تكوني أنت يا حُميراء. لكن عبد الله بن الزبير أتى بخمسين رجلاً يشهدون عندها أن هذا الماء ليس بماء الحوأب ، وانهم قد جاوزوا ماء الحوأب بليل. فكانت هذه الشهادة أول شهادة زورٍ في الإسلام (1).
وحين وصلوا إلى البصرة ، خرج إليهم عثمان بن حنيف فمانعهم وجرى بينهم قتال ، ثم إنهم اصطلحوا بعد ذلك على كفِّ الحرب إلى حين قدوم علي ، فلما كان في بعض الليالي بيتوا عثمان بن حُنيف فأسروه وضربوه ونتفوا لحيته وكان أخوه سهل بن حنيف والياً على المدينة من قِبلِ علي فخافوا منه على أقربائهم إن هم قتلوه فخلوا عنه وتركوه.
بعد ذلك أرادوا بيت المال في البصرة ليأخذوا ما فيه فمانعهم الخُزّان والموكلون به ـ وهم السبابيجة (2) ـ فقتل منهم سبعون رجلاً ، خمسون منهم
وتنازع طلحة والزبير في الصلاة بالناس ، ثم اتفقوا أن يصلي بالناس عبد الله بن الزبير يوماً ومحمد بن طلحة يوماً.
أما علي (ع) فقد سار من المدينة في سبعمائة راكب، أربعمائة من المهاجرين والأنصار فيهم سبعون بدرياً ، والباقي من عامة الصحابة. وقد كان استخلف على المدينة سهل بن حنيف أخا عثمان ، وكان همة علي وأصحابه اللحاق بطلحة والزبير ففاتوه إلى العراق ، فتابع مسيره في طلبهم ، ولحق به من أهل المدينة جماعة من الأنصار فيهم خزيمة بن ثابت ( ذو الشهادتين ) وأتاه من قبيلة طي ستمائة راكب.
وكاتب علي من الربذة أبا موسى الأشعري ليستنفر الناس ـ وكان على الكوفة ـ فثبطهم أبو موسى وقال : إنما هي فتنةٌ. ونمي ذلك إلى علي (ع) فولى على الكوفة قرضة بن كعب الأنصاري وكتب إلى أبي موسى : إعتزل عملنا با بن الحائك مذموماً مدحورا ، فما هذا أول يومنا منك ، وان لك فينا لهنات وهينات !
وسار علي (ع) بمن معه حتى نزل بذي قار ، وبعث بابنه الحسن وعمار بن ياسر إلى الكوفة يستنفران الناس.
وكان أبو موسى الأشعري والياً على الكوفة من قبل علي (ع) ، ولكنه على ما يبدو كان ميّالاً مع عائشة وطلحة والزبير في خروجهم على عليّ. فحينما دخل الحسنُ وعمارٌ الكوفة وجعلا يستنفران الناس لنصرة الإِمام قام أبو موسى ليعارضهم في ذلك ، فغضب عمار بن ياسر منه وأسكته. فقام رجل
فوثب زيد بن صوحان وأصحابه من شيعة علي بالسيوف وقالوا : من لم يطع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فما له عندنا إلا السيف.
فقال أبو موسى : أيها الناس ! اسكتوا واسمعوا كلامي ، هذا كتاب عائشة إلي تأمرني فيه أن أقرَّ الناس في منازلهم إلى أن يأتيهم ما يُحبون من صلاح أمر المسلمين.
فقال له عمار بن ياسر : يا أبا موسى ! إن عائشة أُمِرَت بأمرٍ وأُمرنا بغيره ، أُمرت أن تقرَّ في بيتها ، وأمرنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة ، فأمرتنا هي بما أُمرت ، وركبت ما أُمِرنا به ، وكثُرَ الكلام يومئذٍ. وتكلم زيد بن صوحان العبدي فقال : أيها الناس ، سيروا إلى أمير المؤمنين وانفروا إليه أجمعين تصيبوا الحق راشدين.
ثم وثب عمار بن ياسر فقال : أيها الناس ، إنه لا بد لهذا الأمر ولهؤلاء الناس من والٍ يدفع المظالم ويعين المظلوم ، وهذا ابن عم رسول الله (ص) يستنفركم إلى زوجة رسول الله (ص) وإلى طلحة والزبير ، فأخرجوا وانظروا في الحق فمن كان الحق معه فاتبعوه.
وخرج الحسن (ع) وعمار من الكوفة ومعهما سبعة آلاف.
واجتمع الناس بذي قار مع علي بن أبي طالب. ستة آلاف من أهل المدينة ومصر والحجاز ، وتسعة آلاف من أهل الكوفة ، وجعل الناس يجتمعون حتى صاروا تسعة عشر ألف رجل ما بين فارس وراجل ، وسار علي رضي الله عنه عن ذي قار يريد البصرة في جميع أصحابه والناس يتلاحقون به من كل أوب.