بين الرسول الأعظم والمقداد

في خلال السنة الأولى للهجرة كان المقداد لا يزال ـ هو وبعض المستضعفين ـ في مكة ، وليس من السهل أن يغادرها إلى المدينة سيما وانه حليف للأسود بن عبد يغوث ـ كما قدمنا ـ فإنه لو فعل لكان مصيره إلى القتل بلا أدنى شك ، لذلك كان يترقب فرصةً سانحةً يمكنه معها الفرار إلى يثرب واللقاء بالرسول والإلتحاق بركبه ، حتى كانت سرية حمزة بن عبد المطلب وكان معها الخلاص ، فقد خرج مع المشركين يوهمهم أنه يريد القتال معهم ، وهكذا إنحاز إلى سرية حمزة ورجع معه الى المدينة .
وكان نزوله في المدينة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في ضيافته ، ولم يكن وحده بل كانوا جماعة ، ومن الواضح أن وضع المسلمين الإقتصادي ـ في تلك الفترة ـ كان متردّياً إلى درجةٍ بعيدة ، بل يظهر أنهم كانوا يعانون الفقر المدقع ـ لولا مساعدة الأنصار لهم ـ فقد تركوا كل ما لديهم من مال في مكة وخرجوا منها صفر اليدين ، لا يملكون إلا أبدانهم وثيابهم ، ورواحلهم ، وليس من الوارد أن يكونوا في خلال ستة أشهر ، أو تسعة ، في وضع إقتصادي مريح على الأقل ، سيما وأن النفقة ـ الصادر ـ اكثر من الوارد ، فبناء المسجد ، وبناء الدور ـ وان كانت من جريد النخل مغروساً بالطين ـ تتطلب بذل مالٍ كثير نسبةً لذلك الوقت وتلك الظروف .
وقوافل المسلمين الجدد الذين كانوا يأتون المدينة لم تقف عند حد الهجرة ، هجرة النبي ، بل توالت ، فكان على الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمسلمين أن يستقبلوا


(52)

ضيوفهم ، وأن يهيئوا لهم ما يحتاجون من متطلبات الحياة الضرورية على الأقل .
فكان إذا هاجر بعض المسلمين ، وزّعهم رسول الله ، اثنان اثنان ، أو ثلاثة ثلاثة . . أو . . حسب العدد على إخوانهم المهاجرين الذين استقرت بهم الدار في المدينة وأصبحوا قادرين على النهوض بأنفسهم وعوائلهم .
والذي يظهر ، أن المقداد كان من جملة أولئك الوافدين المهاجرين الجدد ، وكان في عدد لا يستهان به ، كما يلحظ ذلك في مطاوي كلامه ، فقد ذكر أحمد بن حنبل بسنده عن المقداد ، قال :
لما نزلنا المدينة ، عشرنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عشرةً عشرةً في كل بيت ! قال : فكنت في العشرة الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (1) .
إلا أن هذه الإقامة في بيت الرسول لا تكون طويلةً بحسب العادة ، إذ يتخللها بعوثٌ وسرايا وغزوات ، قد يطول أمدها ، وعند العودة يتبدّل المكان ، سيّما إذا اخذنا بعين الإعتبار ما لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من هيبةٍ في نفوس المسلمين تزرع في نفوسهم الخجل من أن يكلموه في النزول عليه وفي ضيافته .
يستفاد ذلك من حديث آخر مروي عن المقداد ، حيث قال : أقبلتُ أنا وصاحبان لي وقد ذهبت أسماعُنا وأبصارُنا من الجهد (*) فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فليس أحد منهم يقبلنا . » لا لبخل فيهم ، بل لأنهم كانوا مقلّين ليس عندهم شيء ! « فأتينا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فانطلق بنا إلى أهله فإذا ثلاثة أعنز ! »
فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إحتلبوا هذا اللبن بيننا .
____________
1 ـ الإستيعاب ( على هامش الإصابة ) 3 / 476 .
* ـ الجهد : الجوع والتعب والمشقة .

(53)

قال : فكنا نحتلب ، فيشرب كل انسان منا نصيبه ، ونرفع للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نصيبه . فيجيء ( صلى عليه وآله وسلم ) ليلاً فيسلم تسليماً لا يوقظ نائماً ، ويسمع اليقظان ، ثم يأتي المسجد فيصلي ، ثم يأتي شرابه فيشرب . (1) .
وفي هذه الأثناء تحصل مواقف نادرة بينه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من جهة وبين اصحابه من جهةٍ أخرى ، وهي بالإضافة إلى ما تنطوي عليه من اقتباس الحكمة منه صلوات الله عليه والتوجيه الرفيع ، فإنها لا تخلو من ظرف وخفة روح من جانب بعض أصحابه أحياناً ونجده في هذه الحالات يعاملهم معاملة الأب لأبنائه دون قسوةٍ أاو غلظة وربما أنبههم إلى الخطأ أو الغلط بأسلوب هادئ مقنع لا يملك معه مستمعوه إلا الإذعان والإنقياد ولوكم النفس على التفريط إن كان هناك تفريط أو تسامح ، كما حصل للمقداد حين كان في ضيافته صلى الله عليه وآله وسلم على ما جاء في تتمة الرواية .
قال : فأتاني الشيطان ذات ليلةٍ ، وقد شربتُ نصيبي ـ من اللبن ـ فقال : محمدٌ يأتي الأنصار فيتحفونه ، ويصيب عندهم ، ما به حاجة إلى هذه الجرعة .
فأتيتها فشربتها ، فلما أن وغلت (2) في بطني ، وعلمتُ أنه ليس إليها سبيل ، ندَّمني الشيطان ، فقال : ويحك ؟ ما صنعتَ ؟ أشربتَ شرابَ محمد فيجيء فلا يجده ، فيدعو عليك فتهلك ، فتذهب دنياك وآخرتك . !
وعليّ شملة ، إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي ، وأذا وضعتها على رأسي خرج قدماي . وجعل لا يجيئني النوم ، وأما صاحباي فناما ولم يصنعا ما صنعت .
قال : فجاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فسلّم كما كان يُسلّم ، ثم أتى المسجد ، فصلى
____________
1 ـ للرواية تتمة تأتي .
2 ـ وغلت : أي استقرت وتمكنت في بطنه .

(54)

ثم أتى شرابه فكشف عنه فلم يجد فيه شيءً ، فرفع رأسه الى السماء .
فقلت : الآن يدعو عليّ فأهلك ، فقال : « اللهم أطعم من أطعمني ، واسقِ من سقاني . » قال : فعمدت الى الشملة فشددتها عليّ ، وأخذت الشفرة ، فانطلقت الى الأعنز أيها أسمن فأذبحها لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فإذا هي حافلة (1) واذا هن حفل كلهن ، فعمدت الى إناءٍ لآل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه . قال : فحلبت فيه حتى علته رغوة ، فجئت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال :
أشربتم شرابكم الليلة ؟
قال : قلت : يا رسول الله ؟ اشرب .
فشرب ، ثم ناولني ، فقلت : يا رسول الله ، إشرب . فشرب ، ثم ناولني .
فلما عرفت أن النبي قد روي ، وأصبتُ دعوته ، ضحكتُ حتى القيت إلى الأرض .
قال : فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إحد سوآتك (2) يا مقداد .
فقلت : يا رسول الله ، كان من أمري كذا وكذا ، وفعلت كذا .
فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ما هذه إلا رحمةٌ من الله (3) آفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها .
قال : فقلت : والذي بعثك بالحق ؛ ما أبالي إذا أصبتَها وأصبتُها معك
____________
1 ـ حافلة : أي أن ضرعها ملآن باللبن .
2 ـ احدى سوآتك : أي انك فعلت سوآة من الفعلات ، فما هي ؟
3 ـ اي أن أحداث هذا اللبن في غير وقته وخلاف عادته ، رحمة من الله .

(55)

من أصابها من الناس (1).
هذا موقف لأبي معبد ينطوي على شيء من الظرف وخفة الروح ، بالإضافة إلى إستشعاره الخطيئة حين عمد إلى شراب محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فشربه ، ولاحظنا أن موقف النبي منه كان موقف الشفيق العطوف الرحيم الذي ينظر إلى أصحابه بميزان خاص يتلائم مع عقولهم ونفوسهم ، وربما تلاحظ معي أن الرسول الكريم ـ كما يظهر من الحديث ـ تمنى لو أن المقداد أيقض صاحبيه ليصيبا معهما الشراب ، شراب ذلك اللبن المبارك .
وموقف آخر لأبي معبد مع الرسول ، تتجلى فيه عظمة الإسلام ، ونبي الإسلام ، كان من جملة المواقف التي خلدت على الزمان بما تحمل من نبل كلمة وسمو خلق ، ورفيع مستوى في التوجيه والتهذيب ، بل وغرس الروح الإنضباطية لدى المسلم .
فقد سأله ذات مرة : يا رسول الله ، أرأيتَ إن لقيتُ رجلاً من الكفار ، فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف ، فقطعها ثم لاذ مني بشجرة ، فقال : أسلمت لله ؛ أفأقتله ـ يا رسول الله ـ بعد أن قالها ؟ !
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لا تقتله .
قال : فقلت : يا رسول الله ، انه قطع يدي ! ثم قال ذلك بعد أن قطعها ، أفأقتله ؟
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لا تقتله . فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله ! وانك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال . ! (2)
ويلاحظ هنا مدى ارتقاء الإسلام بالنفس البشرية إلى آعالي قمم الكرامة
____________
1 ـ صحيح مسلم ج 3 ك 36 ص 1625 ـ 1626 ح 174 .
2 ـ صحيح مسلم ج 1 ك 1 ص 96 ح 155 ـ 156 ـ 157 .

(56)

والإنسانية ، كلمة واحدة فقط من لسانٍ صادق كفيلة بإنقاذ حياة صاحبها من موتٍ محتم .
أي عمق هذا في تعزيز الروح الإنسانية ، وأي صيانةٍ لها ؟ ؟ هكذا الإسلام دائماً يهتم بصيانة النوع وحمايته ، فكلمة صادقة ، كفيلة في أن تقلب الموازين وكلمة صادقة ، هي مرآة للنفس تعكس آلامها وآمالها ، وليس للحقد في دنيا الإسلام مكان .
انه موقفٌ شواهد الحكمة فيه ، ومعه .


(57)

من مواقفه البطولية

* في سرية « نخلة » . ينقذ أسيراً فيسلم .
* في غزوة بدر الكبرى
* غزوة احد
* غزوة الغابة
* عزوة خيبر




(58)



(59)

في سرية « نخلة » *
ينقذ أسيراً ، فيسلم !

بعد سبعة عشر شهراً من الهجرة ، أراد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يتتبع أخبار قريش ، ويتحسس تنقلاتها ، ويرصد تحركاتها في المنطقة ، فدعا عبد الله بن جحش ، وأمره أن يوافيه مع الصباح بكامل سلاحه .
قال : فوافيت الصبح وعلي سيفي ، وقوسي ، وجعبتي ، ومعي درقتي ، فصلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الصبح بالناس ، ثم انصرف فوجدني قد سبقته واقفاً عند باب داره ومعي نفر من قريش .
فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أبي بن كعب ، فدخل عليه ، فأمره أن يكتب كتاباً .
ثم دعاني ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأعطاني صحيفةً من أديم خولاني فقال : قد استعملتك على هؤلاء النفر ، فامضي حتى إذا سرت ليلتين ، فانشر كتابي ، ثم امضي لما فيه .
قلت : يا رسول الله ، أي ناحية أسير ؟ فقال : اسلك النجدّية ، تؤم رُكيّة ( بئر ) .
فانطلق عبد الله ، حتى إذا صار ببئر ضمرة نشر الكتاب فإذا فيه : « سر حتى تأتي بطن نخلة على إسم الله وبركاته ، ولا تكرهنَّ أحداً من
____________
* ـ سميت باسم المكان ، وهو بطن نخلة : « قرية قريبة من المدينة » . هكذا قال ياقوت .
(60)

أصحابك على المسير معك ، وامضِ لأمري فيمن تبعك حتى تأتي « بطن نخلة » فترصَّد بها عِيرَ قريش » .
فقرأ عبد الله الكتاب على أصحابه ، ثم قال : لست مستكرهاً منكم أحداً ، فمن كان يريد الشهادة ، فليمضِ لأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومن أراد الرجعة ، فمن الآن . !
فقالوا جميعاً : نحن سامعون ومطيعون لله ولرسوله ولك ، فسر على بركة الله حيث شئت .
فسار حتى جاء نخلة ، فوجد عيراً لقريش فيها عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان ، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ، ونوفل بن عبد الله وهم من بني مخزوم .
وكان ذلك اليوم مشتبها في أنه آخر يوم من رجب ، أو اول يوم من شعبان . ورجب من الأشهر الحرم ، فقال قائل : لا ندري أمن الشهر الحرام هذا اليوم ، أم لا ؟
وقائل يقول : إن اخرتم عنهم هذا اليوم ، دخلو في الحرم ـ حرم مكة ـ وإن أصبتموهم ، ففي الشهر الحرام .
هذا ، مع أن النبي صلوات الله عليه لم يأمرهم بالقتال ، وانما أمرهم بمراقبة تحركاتهم .
وكان رأي واقد بن عبد الله ، وعكاشة بن محصن مقاتلتهم ، وأخيراً غلب رأيهم على رأي من سواهم ، فشجُعَ القوم ، فقاتلوهم .
فخرج واقد بن عبد الله يقدم القوم ، قد أنبض قوسه وفوّق بسهمه ـ وكان لا يخطئ رميته ـ فرمى عمرو بن الحضرمي بسهم ، فقتله .
وأسِرَ عثمان بن عبد الله ، وحكم بن كيسان ، وأفلت نوفل بن عبد الله .


(61)

واستاق المسلمون العِير ـ وكانت تحمل خمراً وزبيباً وجلوداً ـ إلى رسول الله فوقّفها ولم يأخذ منها شيئاً . وقال لهم : ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام
أما الأسيران ، فحبسهما عنده ، لأن اثنين من المسلمين كانا قد ضلا وتأخرا عن أصحابهم ، فظن الناس أن قريشاً قد حبستهما أو قتلتهما .
وأرسلت قريش إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في فداء أصحابهم ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لن نفديهما حتى يقدما صاحبانا .
وكان المقداد رضي الله عنه هو الذي قد أسر الحكم بن كيسان ، وأنقذه من القتل ، وذلك كما يحدثنا هو فيقول :
أراد أمير الجيش أن يضرب عنقه ، فقلت : دعه نقدم به على رسول الله .
فقدمنا به على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فجعل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يدعوه إلى الإسلام ، فأطال رسول الله كلامه .
فقال عمر بن الخطاب : تكلم هذا يا رسول الله ؟ والله لا يسلم هذا آخر الأبد ! دعني اضرب عنقه ، ويقدم الى أمه الهاوية . ! فجعل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يقبل على عمر .
قال الحكم : وما الإسلام ؟
فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : تعبد الله وحده لا شريك له ، وتشهد أن محمداً عبد ورسوله .
قال : قد أسلمت .
فالتفت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى أصحابه ، فقال : لو أطعتكم فيه آنفاً فقتلته . دخل النار .
قال عمر : فما هو إلا أن رأيته قد أسلم ، وأخذني ما تقدم وتأخر وقلت :


(62)

كيف أرد على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أمراً هو أعلم به مني ، ثم أقول : إنما أردت بذلك النصيحة لله ولرسوله .
قال عمر : فأسلم والله ، فحُسن إسلامه ، وجاهد في الله حتى قتل شهيداً يوم بئر معونة ، ورسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) راضٍ عنه . (1)
____________
1 ـ المغازي : 15 .
(63)

في غزوة بدر الكبرى *
لم ينس المسلمون المواقف الآثمة التي وقفتها منهم قريش وباقي المشركين في « البلد الامين » مكة . حيث عذبت قسماً منهم أشد التعذيب ، وحاصرت محمداً ومن معه في « الشعب » قرابة ثلاث سنين ، بالإضافة الى مصادرة أموالهم ، مما ترك أسوأ الأثر في نفوسهم ، وجعلهم يتحينون الفرصة للثأر من جلاديهم .
وفي السنة الثانية للهجرة ، خرج أبو سفيان بن حرب بقافلة عظيمة للإتجار بها في بلاد الشام ، كانت قد إحتوت على ألف بعير ، وسبعة آلاف مثقال من الذهب حيث لم يبق قرشي ولا قرشية في مكة ممن يمتلك مالاً إلا وبعث به في تلك القافلة .
حين علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك ، ندب أصحابه لإعتراضها موقظاً في أعينهم الثأر الذي نام طويلاً لكنه لم يعزم على أحد منهم بالخروج ، بل ترك لهم الخيار في ذلك ، فقال لهم :
« هذه عِيرُ قريش فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها لعلَّ الله أن ينفَّلكموها . . »
____________
* وهي أول حرب خاضها المسلمون ضد عدوهم ، وكانت في 17 أو 19 رمضان من السنة الثانية للهجرة ، وبها تمهدت قواعد الدين ، وأعز الله الإسلام ، وأذل جبابرة قريش بقتل زعمائهم . وبدر : اسم لبئر كانت لرجل اسمه بدر .
(64)

وكان المسلمون قلّةً ضئيلة في قبال خصمهم ، ولم يكونوا ليخوضوا تجربة الحرب بعد ، ومع ذلك فقد خفَّ البعض منهم سِراعاً ، بينما تثاقل البعض الآخر ظناً منهم بأن النبي لا يلقى حرباً . فكان عدد المقاتلين من المهاجرين والأنصار ثلاثمائة ، أو يزيدون قليلاً .
أما أبو سفيان ، فحين بلغه تأهب المسلمين للقائه دبَّ الذعر في قلبه ، وساوره قلق شديد على مصير القافلة ، حتى إذا وصل إلى مكان يقال له : « الروحاء » وجد فيه رجلاً إسمه : مجدي بن عمر ، فسأله عن أخبار محمد ؟ فقال : « ما رأيتُ أحداً انكره ، غير اني رأيت راكبين أناخا في هذا التل ، ثم استقيا في شنٍ (1) لهما وانطلقا . . »
أقبل أبو سفيان نحو التل وتناول بعراتٍ من فضلات الراحلتين ففتَّهما ، فإذا فيها النوى ، فقال : « هذه والله علائف يثرب ! وأدرك أن الرجلين من اصحاب محمد وانه قريب من الماء . » .
فرجع بالعير يضرب وجهها عن الطريق متجهاً بها نحو السحل ، تاركاً بدراً الى يساره إلى أن نجا بالقافلة بعد أن كاد أن يسقط في أيدي المسلمين .
ضمضم يدخل مكة مستصرخاً
وكان أبو سفيان قد انفذ ضمضم بن عمرو الغفاري الى مكة ، يستصرخ قريشاً كي يهبُّوا لنجدة القافلة من مصير محتم ، فدخل مكة وقد جدع أنف بعيره ، وأدار رحله وشق قميصه وصاح بأعلى صوته :
« يا معشر قريش ، اللطيمة . . اللطيمة . . * أموالكم مع أبي سفيان ، قد تعرَّض لها محمدٌ وأصحابه ، ولا أرى أن تدركوها » .
____________
1 ـ الشن : القربة الصغيرة .
* ـ اللطيمة : التجارة . وقيل : العطر خاصة .

(65)

وكانت عاتكة بنت عبد المطلب قد رأت ـ قبل قدوم ضمضم بثلاث ليال ـ رؤياً أفزعتها فقصتها على أخيها العباس واستكتمه خبرها .
قالت : رأيت راكباً على بعير له وقف بالأبطح * ثم صرخ بأعلى صوته : أن أنفروا يا آل غُدر إلى مصارعكم في ثلاث ، قالت : فأرى الناس قد اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد فمَثُلَ بعيره على الكعبة ، ثم صرخ مثلها ، ثم مثل بعيره على رأس أبي قبيس ، فصرخ مثلها ، ثم أخذ صخرة عظيمة وأرسلها ، فلما كانت بأسفل الوادي إرفَضّت فما بقي بيت من مكة إلا دخله فِلقةٌ منها !
لكن العباس قصّ هذه الرؤيا على صديقه الوليد بن عتبة ، وقصها الوليد على أبيه عتبة ، فشاعت في أحياء قريش .
وبينما العباس يطوف إذ لقيه أبو جهل ، فقال له : يا ابا الفضل أقبل إلينا .
قال : فلما فرغت من طوافي أقبلت إليه ، فقال لي : متى حدثت فيكم هذه النبيّةُ ؟ ! وذكر رؤيا عاتكة . ثم قال : أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم ، حتى تتنبأ نساؤكم ؟! فسنتربص بكم هذه الثلاث ، فإن يكن حقاً ؛ وإلا كتبنا عليكم أنكم أكذب أهل بيت في العرب . . »
قال العباس : فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا مغضب أحب أن أدركَهُ فرأيته في المسجد فمشيت نحوه أتعرض له ليعود فأوقع به ، فخرج نحو باب المسجد يشتد . فقلت : ما باله ، قاتله الله ، أكلُّ هذا فرقاً من أن اشتمه ؟ !
وإذا هو قد سمع مالم أسمع ، صوت ضمضم بن عمرو وهو يصرخ ببطن
____________
* ـ كل مسيل فيه دقاق الحصى والمراد به هنا : المحصب وهو مكان قريب من منى تارةً يضاف إلى مكة واخرى إلى منى لقربه منهما .
(66)

الوادي . .
قال فشغلني عنه ، وشغله عني (1) .
قريش تتجهز للخروج
ألهب ضمضم مشاعر القرشيين بندائه ، فتجهز الناس سراعاً ، وأقامت قريش ثلاثاً تتجهز ، وأخرجت اسلحتها ، وأعان قويُّهم ضعيفهم « ولم يتخلف عن الخروج من أشرافهم أحد إلا أبا لهب ، وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة » .
وعزم أمية بن خلف الجمحي على القعود ـ لأنه كان شيخاً ثقيلاً ، فأتاه عقبة بن أبي معيط بمجمرةٍ فيها نارٌ وبخور وقال : يا ابا علي ، استجمر ، فإنما أنت من النساء !
فقال : قبحك الله وقبح ما جئت به ، وتجهز وخرج معهم (2) .
ولما أتمت قريش تجهيزها ، خرجت بالقيان والدفوف ، وكانوا تسعماية وخمسون مقاتلاً ، وقادوا معهم مائة فرس بَطَراً وتجبُّراً ، وسبعمائة من الإبل ، وأبو جهل يقول : « أيظن محمدٌ أن يصيب منّا ؟ سيعلم أنمنع عِيرنَا أم لا »
ومضت قريش في طريقها ينحرون ويطعمون الطعام لكل من وفد عليهم .
لكن يبدو أن أكثرهم كان متشائماً من تلك الرحلة بالرغم من كثرتهم عدةً وعدداً ، إلا أن الكبرياء والجبروت طالما دفعا بأهلهما نحو المصير الأسود .
____________
1 ـ الكامل 2 / 117 والسيرة النبوية 2 / 182 ـ 183 والطبري 2 / 270 ـ 271 بعبارات مختلفة .
2 ـ الكامل 2 / 118 ـ 119 .

(67)

جاء في حديث حكيم بن حزام قوله : ما توجهت وجهاً قط كان اكَرهَ إليَّ من مسيري إلى بدر ، ولا بان لي في وجهٍ قط ما بان لي قبل أن اخرج ، وخرجت على ذلك حتى نزلنا « مرَّ الظهران » فنحر ابن الحنظلية جزوراً منها بها حياة ، فما بقي خِباء من أخبية العسكر أصابه من دمها ، وتشاءمت من ذلك وهممت أن أرجع .
ثم قال : ولقد رأيت حين بلغنا الثنية البيضاء (*1) وإذا عدّاس ( *2) جالس عليها والناس يمرون ، إذ مر علينا ابنا ربيعة ـ عتبة وشيبة ـ فوثب إليهما وأخذ بأرجلهما وهو يقول : بأبي أنتما وأمي ، والله إنه لرسول الله ، وما تساقان إلا مصارعكما ـ وان عينيه لتسيل دمعاً على خديه .
أبو سفيان ينجو بالقافلة ويأمر قريشاً بالرجوع وقريش ترفض
واتجه ابو سفيان بالعير نحو الساحل تاركاً بدراً إلى يساره حتى نجا بها ، عند ذلك أرسل قيس بن أمرؤ القيس إلى القرشيين يأمرهم بالرجوع ، ويقول لهم : « قد نجت عيركم وأموالكم فلا تحرزوا انفسكم أهل يثرب فلا حاجة لكم فيما وراء ذلك ، إنما خرجتم لتمنعوا عيركم واموالكم وقد نجاها الله !! » .
وقال له : فإن أبوأ عليك ، فلا يأبون خصلةً واحدةً . يردون القيان .
وذهب قيس إلى قريش ، وابلغهم قول ابي سفيان ، فأبوا الرجوع ، قالوا : وأما القيان ، فسنردهن .
____________
*1 ـ عقبة قرب مكة تهبطك الى فخ وانت مقبل من المدينة تريد مكة ؛ اسفل مكة من قبل ذي طوى .
*2 ـ عداس : رجل نصراني كان يعمل عند عتبة وشيبة في بستان لهما في الطائف ، وله مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حوارٌ حين ذهب ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؛ الى الطائف .

(68)

ولحق قيس أبا سفيان بالهدة ، قبل دخوله لمكة بنحو من تسعة وثلاثين ميلاً فأخبره بمضي قريش .
فقال أبو سفيان : واقوماه ، هذا عمل عمرو بن هشام يكره أن يرجع لأنه قد ترأس على الناس وبغى ، والبغي منقصة وشؤم ، والله لئن أصاب أصحاب محمد النفير ذللنا إلى أن يدخل مكة علينا .
وكان أبو جهل قد أصر على المضي في طريقه ، وقال : « والله لا نرجع حتى نرد بدراً ـ وكانت يومذاك موسماً من مواسم العرب في الجاهلية يجتمعون فيها وفيها سوق ـ تسمع العرب بنا وبمسيرنا فنقيم على بدر ثلاثاً ، فننحر الجزر ، ونطعم الطعام ونشرب الخمر ، وتعزف علينا القيان فلن تزال العرب تهابنا أبداً .
« رجوع بني زهرة الى مكة »
وكان الأخنس بن شراق حليفاً لبني زهرة ، فقال لهم : « يا بني زهرة ، قد نجى الله عيركم ، وخلّص أموالكم ، ونجى صاحبكم مخرمة بن نوفل ، وإنما خرجتم لتمنعوه وماله ، وانما محمد رجل منكم وابن اختكم ، فإن يك نبياً فأنتم أسعد به ، وان يك كاذباً يلي قتله غيركم خير من أن تلو أنتم قتل ابن أختكم ، فارجعوا وأجعلوا خبثها لي ، فلا حاجة لكم أن تخرجوا في غير ما يهمكم ، ودعوا ما يقوله أبو جهل ، فإنه مهلك قومه ، سريع في فسادهم .
فاطاعته بنو زهرة . . ولم يشهد هذه الحرب زهري البتة . (1)
فقدان التوازن بين الفريقين
وكان أبرز مظاهر هذه الحرب فقدان التوازن العسكري والمادي بين
____________
1 ـ شرح النهج 14 ـ 106 ـ الى 109
(69)

الفريقين ، فقد كان عدد المسلمين ثلاثمائة او يزيدون قيلاً ، بينما كان عدد المشركين يتراوح بين التسعمائة والألف .
وقاد المشركون معهم مائة فرس وسبعمائة من الابل .
بينما قاد المسلمون معهم فرساً واحدة يقال لها : سبحة ، كانت للمقداد بن عمرو ، وسبعون رأساً من الإبل يتعاقب على كل واحد منها الأثنان والثلاثة والأربعة ، حتى أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان هو وعلي بن أبي طالب وزيد بن حارثة يتعاقبون بعيراً واحداً .
وكانت قريش تنحر الجزر وتطعم الطعام لكل من وفد عليها ، بينما كان المسلمون في غاية الفقر والحاجة ، إلى ما هنالك من عوامل أبرزت هذا التمايز الواضح بين الفريقين ، لكن ارادة الله سبحانه كانت فوق الظنون والإِحتمالات واستباق النتائج .
النبي في طريقه الى بدر
قال الواقدي :
وسار رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى بلغ الروحاء ليلة الأربعاء للنصف من شهر رمضان فقال لأصحابه :
هذا سجاسج ـ يعني وادي الروحاء ـ هذا أفضل أودية العرب ، وصلى هناك فلما فرغ من صلاته لعن الكفرة ، ودعا عليهم وقال :
اللهم لا تفلتني أبا جهل بن هشام فرعون هذه الأمة ، اللهم لا تفلتني زمعة ابن الأسود ، اللهم أسخن عين أبي زمعة ، اللهم أعم بصر أبي دبيلة ، اللهم لا تفلتني سهيل بن عمرو . (1) .
____________
1 ـ المصدر السابق ـ 110 .
(70)

ثم دعا لقوم من قريش كانوا قد أسروا الإسلام وكانوا من المستضعفين فخرجوا مع القوم مكرهين ، كسلمة بن هشام ، وعياش بن ربيعة .
ولما وصل قريباً من بدر ، أخبر بمسير قريش ، فأخبر أصاحبه بذلك واستشارهم في الأمر ليكونوا على بصيرة من ذلك ، وخشي أن لا يكون للأنصار رغبة في القتال لأنهم عاهدوه على أن يدافعوا عنه في بلدهم فيمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم .
فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله انها قريش وغدرها ، والله ما ذلت منذ عزَّت ، ولا آمنت منذ كفرت ، والله لا تسلم عزها أبداً ، ولتقاتلنك ، فاتهب لذلك أهبته ، واعد لذلك عدته (1).
موقف المقداد
ومن الواضح أن الوضع كان غايةً في الدقة والحرج نظراً لفقدان التوازن كما أسلفنا ، لذا فإنه كان يتطلب مزيداً من الثبات والإصرار وبث الروح الجهادية بين الصفوف والتسليم المطلق بما يقوله النبي .
قام المقداد فقال : يا رسول الله ، امض لأمر الله فنحن معك ، والله لا نقول كما قالت بنو اسرائيل لموسى : إذهب انت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكن اذهب انت وربك فقاتلا انا معكم مقاتلون .
والذي بعثك بالحق ، لو سرت بنا إلى برك الغماد * لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه . . »
فقال له رسول الله خيراً ودعا له
____________
1 ـ سيرة المصطفى 339 .
* ـ بِركُ الغِماد : موضع وراء مكة بخمس ليال مما يلي البحر ، وقيل : بلد باليمن . .

(71)

ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أشيروا علي أيها الناس .
فقام سعد بن معاذ ، فقال : كأنك تريدنا يا رسول الله ؟
فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : نعم .
قال سعد : قد آمنا بك ـ يا رسول الله ـ وصدقناك واعطيناك عهودنا فامضى ـ يا رسول الله ـ لما أمرت ، فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخوضنه معك ، وما نكره أن تلقى العدو بنا غداً ، وانا لصبرٌ عند الحرب ، صدقٌ عند اللقاء ، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله . (1)
كانت هذه الكلمات من المقداد ـ المهاجري ـ وسعد ـ سيد الأوس ـ تبعث في نفوس المسلمين الأمل بالنصر على عدوهم ، وتزرع في قلوبهم الصبر على مكاره الحرب ،
لكن يبدوا أن كلمات المقداد كان لها وقع خاص في نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه حين سمعها انفرجت اسارير وجهه ابتهاجاً كما يظهر من حديث ابن مسعود حيث قال :
« لقد شهدت مع المقداد مشهداً لئن أكون صاحبه أحب الي مما طلعت عليه الشمس ! ـ ثم ذكر كلمة المقداد ـ ثم قال : فرأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يشرق وجهه بذلك وسرّه وأعجبه . (2)
النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في وادي بدر
بعد ذلك ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : سيروا بنا على بركة الله ، فإن الله قد وعدني احدى الطائفتين ، والله لكأني انظر إلى مصارع القوم .
____________
1 ـ الكامل 2 / 120 .
2 ـ الإستيعاب 3 ـ 474 .

(72)

ثم مضى في مسيره حتى نزل وادي بدر عشاء ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة مضت من رمضان .
فجاءه سعد بن معاذ ، فقال : يا رسول الله ، نبني لك عريشاً من جريد فتكون فيه ونترك عندك ركائبك ثم نلقى عدونا ، فإن اعزنا الله وأظهرنا عليهم ، كان ذلك مما أحببناه ، وان كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بما وراءنا من قومنا ، فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد حباً لك منهم ، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك ، يمنعك الله بهم ، يناصحونك ويحاربون معك .
فأثنى عليه رسول الله خيراً ودعا له . (1)
قريش تنزل الوادي
وأقبلت قريش بخيلائها وفخرها ، فلما رآها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك وتكذّب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني ، اللهم أحنهم الغداة . (2)
استعداد المسلمين للحرب
ودفع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) رايته إلى علي بن أبي طالب ، وكانت تسمى « العُقاب » وأعطى لواء المهاجرين إلى مصعب بن عمير ، ولواء الخزرج إلى الحباب بن المنذر ولواء الأوس الى سعد بن معاذ .
____________
1 ـ الكامل : 2 ـ 122 .
2 ـ الكامل : 123 .