غرور أبي جهل
ونظرت قريش إلى قلة المسلمين ، فقال أبو جهل : ماهم إلا أكلة رأس لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم باليد .
فقال عتبة بن ربيعة : أترى لهم كمين أو مدد ؟ فبعثوا عمير بن وهب الجمحي وكان فارساً شجاعاً ، فجال بفرسه حول عسكر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم رجع إليهم فقال : القوم ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا او ينقصون قليلاً . ولكن أمهلوني حتى أنظر إذا كان لهم كمين أو مدد .
فضرب في الوادي حتى أبعد ، فلم يرَ شيئاً ، فرجع اليهم وقال :
ما رأيت شيئاً ، ولكن وجدت ـ يا معشر قريش ـ البلايا ( البراذع ) تحمل المنايا ، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم ، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم ، فإن أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك الا ترون انهم خرس لا يتكلمون يتلمظون تلمظ الأفاعي ما أرى انهم يولون حتى يقتلوا بعددهم !
فقال له أبو جهل : كذبت وجبنت .
وأرسل إليهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن أرجعوا من حيث أتيتم ، فلئن يلي هذا الأمر مني غيركم أحب إليّ من أن تلوه أنتم .
فقال عتبة : ما رد هذا قوم قط ، وأفلحوا . ثم ركب جمله الأحمر ، فنظر إليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يجول بين العسكرين وينهى عن القتال ، فقال : إن يكن بأحد منهم خير فعند صاحب ذلك الجمل وان يطيعوه يرشدوا .
ووقف عتبة يخطب في أصحابه ، فقال : يا معشر قريش أطيعوني اليوم واعصوني الدهر ! إن محمداً له إلُّ وذمه ، وهو ابن عمكم فخلوه والعرب ، فإن يكن صادقاً فأنتم أعلى عيناً ، وان يكن كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره .
قال حكيم بن حزام : فانطلقت إلى أبي جهل ، فوجدته قد نثل درعاً وهو يهيؤها فاعلمته ما قال عتبة . فقال : انتفخ والله سحره حين رأى محمداً وأصحابه ، والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، وما بعتبة ما قال ، ولكن رأى ابنه أبا حذيفة فيهم وقد خافكم عليه .
وبلغ ذلك عتبة ، فقال : سيعلم المصفّر أسته من انتفخ سحره ، أنا ، أم هو ؟ ثم إلتمس بيضةً يدخلها رأسه . فما وجد في الجيش بيضةً تسعه من عظم هامته ، فاعتجر ببرد له (1).
بدء القتال
وكان عتبة قد قال أنه يتحمل دم حليفه عمرو بن الحضرمي الذي قتله المسلمون في مكان يقال له نخلة ، وذلك في غزوة العشيرة ، فبلغ ذلك أبا جهل ، فخاف أن ينجح عتبة في خطته ويرجع الناس بدون قتال ، فجاء إلى عامر بن الحضرمي أخي عمرو وقال له : هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس ، وقد رأيت ثارك بعينك ، فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك .
فقام عامر فاكتشف ، ثم صرخ ، واعمراه . . واعمراه . . فحميت الحرب ، وحقب أمر الناس واستوسقوا على ما هم عليه من الشر .
وخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي ـ وكان سيئ الخلق ـ فقال : أعاهد الله لأشربن من حوضهم ولأهدمنه أو لأموتن دونه .
فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب ، فضربه فأطن قدمه بنصف ساقه فوقع على الأرض ثم حبا إلى الحوض ، فاقتحم فيه ليبر يمينه ، وتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض .
مقتل عتبة وشيبة والوليد
ثم خرج عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، والوليد بن عتبة ودعوا إلى المبارزة .
فخرج إليهم عوف ومعوذ ابنا عفراء ، وعبد الله بن رواحة وهم من الأنصار .
فقالوا : من أنتم ؟ قالوا : من الأنصار . فقالوا : أكفاءٌ كرام وما لنا بكم من حاجة ، ليخرج إلينا أكفاؤنا من قومنا .
فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قم يا حمزة ، قم يا عبيدة بن الحارث ، قم يا علي فقاموا ، ودنا بعضهم من بعض ، وانتسبوا لهم .
فقال عتبة : أكفاءٌ كرام .
فبارز عبيدة بن الحارث بن المطلب عتبةً .
وبارز حمزة شيبة .
وبارز علي ( عليه السلام ) الوليد . (1)
أما حمزة فلم يمهل شيبه حتى قضى عليه في الضربة الأولى .
وكذلك فعل علي بن أبي طالب ، فإنه لم يمهل الوليد حتى قتله .
وأما عبيدة وعتبة ، فكل منهما قد ضرب صاحبه وأصابه بجروح لا يرجى منها الشفاء . فكرَّ الحمزة حينئذٍ على عتبة يبارزه ، فصاح المسلمون : يا علي ، أما ترى الكلب قد بهر عمك ؟ ـ وكان الحمزة وعتبة قد اعتنقا بعد أن تكسر سيفهما ، والحمزة أطول من عتبة ـ فقال له علي عليه السلام : يا عم طأطأ رأسك ، فادخل الحمزة رأسه في صدر عتبة ، فضرب علي عليه السلام عتبة ،
ثم حملا عبيدة بن الحارث ، وكانت قد قطعت ساقه ، فألقياه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستعبر عبيدة وقال ألستُ يا رسول الله شهيداً ؟
قال صلى الله عليه وآله وسلم : بلى .
قال : لو كان أبو طالب حياً لعلم أني أحق بما قال :
| كـذبتـم وبيـت الله نخـلـي محمـداً | * | ولمـا نطـاعن دونه وننـاضـلِ |
| ونـنصـره حتـى نُصـرّع حـولـه | * | ونـذهـَل عن أبنـائنا والحلائـِل |
ثم مات رضي الله عنه ، وتزاحف القوم ودنا بعضهم من بعض ، وكان شعار النبي في هذه الغزوة : يا منصور أمت (2).
وكان من دعاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في ذلك اليوم قوله : « اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض ، اللهم انجز لي ما وعدتني . . »
وبرز بعد ذلك حنظلة بن أبي سفيان إلى علي ( عليه السلام ) فلما دنا منه ، ضربه علي بالسيف فسالت عيناه ولزم الأرض (3).
وبرز بعد ذلك العاص بن سعيد بن العاص (4) فبرز إليه علي عليه السلام فقتله .
وكان بلال بن رباح الحبشي يعجن عجيناً ، فبصر بأمية بن خلف (2) فترك العجين وصاح بأعلى صوته : يا أنصار الله هذا أمية بن خلف رأس الكفر ، لا نجوت إن نجا . فاحاطوا به حتى جعلوه في مثل المسكة (3) وقتلوه مع ولده علي بن أمية .
وكان المقداد قد أسر النضر بن الحارث ، فلما خرج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من بدر وكان بالأثيل (4) عرض عليه الأسرى ، فنظر إلى النضر بن الحارث فأبدَّه البصر ، فقال لرجل إلى جنبه : محمد والله قاتلي ! لقد نظر إلي بعينين فيهما الموت ! فقال الذي إلى جنبه : والله ما هذا منك إلا رعب !
فقال النضر لمصعب بن عمير : يا مصعب ، أنت اقرب من ههنا بي
قال مصعب : إنك كنت تقول في كتاب الله كذا وكذا ، وتقول في نبيّه كذا وكذا .
قال : يا مصعب ؛ فليجعلني كأحد أصحابي إن قتلوا قتلت ، وان منَّ عليهم منَّ علي .
قال مصعب : إنك كنت تعذب أصحابه .
قال : أما والله لو اسرتك قريش ما قتلت أبداً وأنا حي .
قال مصعب : والله اني لأراك صادقاً ، ولكن لست مثلك ، قطع الإسلام العهود .
وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً أن يضرب عنقه . (1)
كان المقداد يستمع ـ في هذا الحال ـ إلى الحوار الذي جرى بين النضر بن الحارث ومصعب بن عمير وكأنه ينتظر فرصةً تسمح للصفح والعفو عنه عسى أن يجعل الله في ذلك خيراً ، فلما أمر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) علياً بضرب عنقه ، صاح المقداد بأعلى صوته :
يا رسول الله ، أسيري ؟ ! (2)
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم اغن المقداد من فضلك . ثم ضرب علي عنقه . (3)
وبدأ تقسيم الغنائم ، فكان لكل مسلم سهم ما عدا المقداد ، فكان له
« ضرب لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يومئذٍ بسهم ، ولفرسي بسهم ! وقائل يقول : ضرب رسول الله يومئذٍ للفرس بسهمين ، ولصاحبه بسهم » (1) .
وأتى النضر وعقبة بعض أهل الكتاب فقالوا : اعطونا شيئاً نسأل عنه محمداً . فقالوا : سلوه عن فتيةٍ هلكوا قديماً ، وعن رجل طاف حتى بلغ المشرق والمغرب ، فسألوه عن أهل الكهف وذي القرنين ، فانزل الله عز وجل في أمرهم ما أنزل .
وقال النضر وأمية بن خلف وأبو جهل للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ان كان قرآنك من عند الله فأحيي لنا آبائنا ، وأوسع لنا بلدنا بأن تسير هذا الجبال عنا فقد ضيَّقت مكة علينا ، أو أجعل لنا الصفا ذهباً نستغني عن الرحلة ( رحلة الشتاء والصيف ) فإن فعلت ذلك ، آمنا بك : وكان النضر خطيب القوم ، فانزل الله سبحانه :( ولو أن قرآناً سُيّرت به الجبال أو قُطعت به الأرضُ أو كُلّم به الموتى الى قول تعالى : فكيف كان عقاب ) ( الرعد 13 ـ 31 ) .
وأخذ النضر عظماً نخراً فسحقه ونفخه ، وقال : من يحي هذا يا محمد ؟
فنزلت فيه الآية : ( وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم . . ) أنساب الأشراف 1 / 142 ـ 143 .
اسر في بدر أسره المقداد بن عمرو ، وقتل صبراً بالأثيل فقالت أخته :
| يـا راكـبـاً إن الأُثـيـل مـَظـنـةٌ | * | من صبـح خـامسـةٍ وانت مـوفق |
| بـلـغ بـه مـيـتـاً فـإن تحـيـةً | * | مـا إن تـزال بهـا الـركائب تخفق |
| مـني إلـيه وعـبـرةً مـسفـوحـةً | * | جـادت لمـا تحهـا واخـرى تخنق |
| فليسـمعـن النـضـر إن نـاديـتـه | * | إن كـان يسمـع ميت أو يـنـطـق |
| ظـلت سيوف بـني أبيه تـنـوشـه | * | لله أرحــام هــنــاك تـمـزق |
| صـبـراً يقـاد الى المديـنـة راغماً | * | رسف المقـيـد وهو عـانٍ موثـَقُ |
| أمـحمـد ولأنـت نجـل نجـيـبـةٍ | * | في قـومهـا والفحـل فحلّ معـرق |
| مـا كـان ضـرك لو مننت وربمـا | * | مـنَّ الـفتى وهو المغيظُ الـمحنَـقُ |
| والـنضر اقـرب من قتـلتَ وسيلـةً | * | واحـقهـم إن كـان عتـق يـعتـق |
قال الواقدي : وروي أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما وصل إليه شعرها رقَّ له ، وقال : لو كنت سمعتُ شعرها قبل أن أقتله لما قتلته . شرح النهج 14 ـ 171 ـ 172 .
وقعت في السنة الثالثة للهجرة ، لسبع ليالٍ خلون من شوال فقد حشدت قريش ومعها المشركون ، جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل أو يزيد ، بينهم سبعمائة دارع ، وقادوا معهم مائتي فرس ، وثلاثة آلاف بعير (1) وقصدوا المدينة طلباً بالثأر لقتلاهم في بدر . (2)
وفي خلال الفترة التي كانوا يستعدون بها للخروج ، كان العباس بن عبد المطلب يطلع على كل صغيرة وكبيرة من أمرهم ، فكتب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كتاباً يعلمه فيه بتحركاتهم واستعداداتهم ، وعددهم وعدتهم ، وأرسله سرّأً مع رجل من غفار وأوصاه بالكتمان ، وأن يجدّ السير .
مضى الغفاري بالكتاب لا همَّ له إلا إيصاله إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . (2)
ومضت قريش في طريقها إلى أحد ، فمروا بالأبواء حيث يوجد قبر أمنة أم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأشارت هندُ على المشركين بنبش القبر ، وقالت : « لو نجشتم قبر أم محمد فإن أسِرَ منكم أحد فديتم كل إنسان بإربٍ من إربها !! فقال بعض قريش لا يفتح هذا الباب . » (3)
ومضى الغفاري حتى وصل إلى المدينة في ثلاثة أيام ، فوجد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )
وعاد النبي إلى المدينة ، وقصد دار سعد بن الربيع ، وقص له ما بعث به العباس ، وأمره بالكتمان ، فقال سعد : والله إني لأرجو أن يكون في ذلك خير .
نزول قريش قرب المدينة
أما قريش ، فقد تابعت سيرها حتى بلغت العقيق ، ونزلت في سفح جبل على خمسة أميال من المدينة ، ثم ساروا حتى نزلوا في مقابل المدينة بمكان يدعى : « ذو الحليفة » فتركوا خيلهم وإبلهم ترعى في زروع المدينة المحيطة بها .
وبعث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنس ومؤنس ابني فضال يستطلعان له الخبر ، فألفياهم قد قاربوا المدينة واطلقوا الخيل والإبل في الزروع المحيطة بها .
وبعث رسول الله بعدهما الحباب بن المنذر سراً ، وقال له : إذا رجعت فلا تخبرني بخبرهم بين الناس ، إلا ان ترى فيهم قلة ! فذهب حتى دخل بينهم ، ووقف على عددهم وعدتهم ، فرجع وأخبره بحالهم . (1)
فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لا تذكر من أمرهم شيئاً ، حسبنا الله ونعم الوكيل ، اللهم بك أصول وبك أجول .
النبي يستشير أصحابه
واستشار النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أصحابه بشأن الخروج لملاقاة العدو ، فأشار عليه
لكن فتيان المهاجرين والأنصار والبعض الآخر من شيوخ الصحابة أحبوا الخروج إلى عدوهم وملاقاته حيث نزل بأرضهم .
فقال : أياس بن أبي أوس : إني يا رسول الله لا أحب أن ترجع قريش إلى قومها لتقول : حصرنا محمداً في صياصي يثرب وآطامها ، فتكون هذه جرأة لقريش ، وهاهم قد وطئوا سعفنا ، فإذا لم نذب عن عرضنا وزرعنا ، فلم نزرع ؟ وقد كنا ـ يا رسول الله ـ في جاهليتنا والعرب يأتوننا فلا يطمعون بهذا منا حتى نخرج إليهم بأسيافنا فنذبهم عنا ، فنحن اليوم أحق إذ أمدّنا الله بك ، وعرفنا مصيرنا ، فلا نحصر أنفسنا في بيوتنا .
وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة ، فقال في جملة ما قال : . . وعسى الله أن يظفرنا بهم ، فتلك عادة الله عندنا ، أو تكون الأخرى ، فهي الشهادة ، لقد أخطأتني وقعة بدر وكنت عليها حريصاً ، ولقد بلغ من حرصي أني ساهمت ابني في الخروج فرزق الشهادة . . وقد رأيت إبني البارحة في النوم في أحسن صورة ، يسرح في ثمار الجنة وأنهارها ، وهو يقول : إلحق بنا ، ترافقنا في الجنة ، فقد وجدت ما وعدني ربي حقا . ، وقد ـ والله ـ أصبحت يا رسول الله مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة ، وقد كبرت سني ، ودق عظمي ، وأحببت لقاء ربي فادع الله ـ يا رسول الله ـ أن يرزقني مرافقة سعدٍ في الجنة !
فدعا له رسول الله بذلك ، فقتل مع من قتل في تلك المعركة .
وقال الحمزة بن عبد المطلب : والذي أنزل عليك الكتاب ، لا أطعَم اليوم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارجاً من المدينة .
وتتابع الناس ، كلٌّ يدلي برأيه وبما عنده ، ورسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يبدو كارهاً للخروج ، فلم يزالوا به حتى أظهر موافقته لهم .
فلما جاء وقت الصلاة من يوم الجمعة ، صلى بالناس وصعد المنبر ،
النبي يتجهز للحرب
ولما حان وقت العصر ، صلى بهم ، وكانوا قد احتشدوا حول النبي ليعرفوا رأيه النهائي ، وحضر أهل العوالي ، ولما فرغ من صلاته ، دخل منزله ، ووقف الناس ينتظرون خروجه ، فقال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير : لقد إستكرهتم رسول الله على الخروج فاتركوا الأمر اليه .
وخرج عليهم صلى الله عليه وآله لابساً لامته ، وقد تعمم ولبس الدرع وتقلد سيفه ، وتنكب القوس ، ووضع الترس في ظهره ، فلما رأوه بتلك الحال أقبل عليه جمع ممن كانوا قد تحمسوا للخروج ، وقد ندموا على موقفهم مخافة أن تنزل فيهم آية من عند الله ، فقالوا : يا رسول الله ، ما كان لنا أن نخالفك ؟ فاصنع ما بدا لك ، والأمر إلى الله وإليك ! فإن خرجت ، خرجنا ، وأن أقمت أقمنا .
فرد عليهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بقوله : لقد دعوتكم لذلك فأبيتم ، وما ينبغي لِنَبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه ؛ أنظروا ما آمركم به فاتبعوه ، والنصر لكم ما صبرتم . (1)
ثم استخلف على المدينة ابن ام مكتوم ليصلي بالناس ، وعقد ثلاثة ألوية ، فأعطى لواء المهاجرين لعلي بن أبي طالب ، ولواء الأوس إلى أسيد بن حضير ، ولواء الخزرج الى الحباب بن المنذر ، وقيل أعطاه إلى سعد بن عبادة ، وجعل على الخيل الزبير ، ومعه المقداد بن الأسود ، وخرج الحمزة بالجيش بين
فلما كان بين المدينة وأحد ، عاد عبد الله بن أبي بثلث الناس ، فقال : أطاعهم محمد وعصاني ، وكان أتباعه من أهل النفاق والريب .
ومضى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع الصبح حتى بلغ أحداً ، فاجتازوا مسالكها ، وجعلوها بين أظهرهم وجعل الرماة وراءه وهم خمسون رجلاً ، وكان من جملتهم المقداد بن الأسود ، وأقر عليهم عبد الله بن جبير ، وقال له : إنضح عنا الخيل بالنبل لا يأتونا من خلفنا ، واكد عليهم أن يلزموا مكانهم حتى ولو قتل المسلمون عن آخرهم .
وجعل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يمشي على رجليه يسوي تلك الصفوف ، ويبوئ أصحابه للقتال ، يقول : تقدم يا فلان ، وتأخر يا فلان ، حتى انه ليرى منكب الرجل خارجاً فيؤخره . . حتى إذا استوت الصفوف ، سأل : من يحمل لواء المشركين ؟ قيل : بنو عبد الدار . قال : نحن أحق بالوفاء منهم . أين مصعب بن عمير ؟ قال : ها أنذا ! قال . خذ اللواء ، فأخذه مصعب بن عمير فتقدم به بين يدي رسول الله .
ثم نهى المسلمين أن يقاتلوا القوم حتى يأمرهم بالقتال .
خطبة النبي في أصحابه
ثم قام رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فخطب الناس ، فقال : يا أيها الناس ، أوصيكم بما أوصاني الله في كتابه ، من العمل بطاعته والتناهي عن محارمه ، ثم أنكم اليوم بمنزل أجر وذخر لمن ذكر الذي عليه ثم وطن نفسه له على الصبر واليقين والجد والنشاط فإن جهاد العدو شديد ، شديد كْربُه ، قليل من يصبر
ما أعلم من عمل يُقربكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به ، ولا أعلم من عمل يقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه . وإني قد نَفثَ في روعي الروح الأمين أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أقصى رِزقها ، لا يُنقصُ منه شيء وإن أبطأ عنها . فاتقوا الله رَبَّكم وأجملوا في طلب الرزق ، ولا يحملنكم إستبطاؤه أن تطلبوه بمعصية ربكم ، فإنه لا يُقدرُ على ما عنده إلا بطاعته .
لقد بين لكم الحلال والحرام غير أن بينهما شُبَهاً من الأمر لم يعلمها كثير من الناس إلا من عَصَم ، فمن تركها حفظ عرضه ودينه ، ومن وقع فيها ، كان كالراعي إلى جنب الحمى أوشك أن يقع فيه . وليس ملك إلا وله حمى ، آلا وإن حمى الله مَحارمه . والمؤمن من المؤمنين ، كالرأس من الجسد ، إذا اشتكى تداعى عليه سائُر الجسد ، والسلام عليكم ! (1)
المشركون يُسوون صفوفهم
أما المشركون فقد استدبروا المدينة واستقبلوا أُحداً ، وصفوا صفوفهم ، فأستعملوا على الميمنة خالد بن الوليد ، وعلى الميسرة عكرمة ابن أبي جهل ، وعلى الخيل صفوان بن أمية ، وعلى الرماة ، عبيد الله بن أبي ربيعة ، وأعطوا اللواء إلى طلحة بن أبي طلحة من بني عبد الدار .
وأرسل أبو سفيان إلى الأنصار يقول : خلّوا بيننا وبين ابن عمنا ، فننصرف عنكم ، فلا حاجة بنا إلى قتالكم . فرد عليه المسلمون بما يكره !
وصاح ابو سفيان يُحرض بني عبد الدار ويقول : يا بني عبد الدار ، إنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم ، فإما أن تكفونا لواءنا ، وإما أن تُخلوا بيننا وبينه نكفيكموه ، فإنا قوم مستميتون موتورون نطلب ثأراً حديث العهد . فغضب بنو عبد الدار وقالوا : نحن نُسلّم لواءنا ؟! لا كان هذا أبداً ، وأغلظوا القول لأبي سفيان .
بدء القتال
ثم أخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سيفاً وقال : من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ فقام إليه رجال ، فأمسكه عنهم ، وما زال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يردد قوله حتى قام أبو دجانة الأنصاري واسمه ، سماك بن خرشة ، من بني ساعدة ، فقال : وما حقه يا رسول الله ؟
فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، حقه أن تضرب به العدو حتى ينحني ! قال : أنا آخذه ـ يا رسول الله ـ ، فأعطاه إياه .
وكان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب ، ويعتصب بعصابةٍ له حمراء ، فإذا إعتصب بها عرف الناس أنه عازم على الحرب .
ثم بدأت المعركة ، وقام الرماة يرمون خيل المشركين بالنبل ، فولّت هاربةً ، ودنا القوم بعضهم من بعض . « وأقبل خالد بن الوليد وعكرمة فلقيهما الزبير والمقداد فهزما المشركين » (1)
وتقدم طلحة ـ حامل لواء المشركين ـ وصار النسوة خلف الرجال يضربن بين أكنافهم بالطبول والدفوف ، وهند ومن معها يحرضن الرجال ، ويذكرن قتلى بدر ويقلن :
| نحـن بـنـات طـارق | * | تمشـي علـى النمـارق |
| مشـي القطـا البـوارق | * | المسـك فـي المفـارق |
| والـدر فـي المخـانـق | * | إن تـقبـلـوا نعـانـق |
| أو تـدبـروا نـفـارق | * | فـراق غـيـر وامـق |
وتقدم طلحة صاحب اللواء ، وصاح : هل من مبارز ؟
فقال له علي عليه السلام : هل لك في مبارزتي ؟ قال : نعم .
فبرزا بين الصفين ورسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جالس تحت الراية وعليه درعان ومغفر وبيضة ، فالتقيا بسيفيهما ، فضربه عليٌّ ضربةً على رأسه ، فمضى السيف حتى فلق هامته وانتهى إلى لحيته ، فوقع كالثور يخور بدمه ، وانصرف عنه علي عليه السلام ، فلما قتل طلحة ، كبر رسول الله تكبيراً عالياً ، وكبر معه المسلمون ، فقيل لعلي ( عليه السلام ) هلاَّ ذَفَفتَ ( أجهزت ) عليه ؟ فقال : لما صُرع ، استقبلني بعورته ، وسألني الرَحِم .
ثم شد أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على كتائب قريش يضربون وجوههم ، حتى انتقضت صفوفهم ، وقد حمل اللواء بعد طلحة أخوه
فتقدم باللواء والنسوة خلفه يُحرّضْنَ ويضربن الدفوف . فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب ، فضربه بالسيف على كاهله ؛ فقطع يده وكتفه حتى إنتهى إلى مئزره ، فبدا سحره ، ثم رجع عنه وهو يقول أنا ابن ساقي الحجيج !
وحمل اللواء بعدهما أخوهما أبو سعيد ابن أبي طلحة ، فحمل عليه علي عليه السلام فقتله .
ثم حمل اللواء بعده مسافع بن طلحة ، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح فقتله ! فنذرت أمه ـ وأسمها سلافة ـ أن تشرب الخمر في قحف رأس عاصم ، وجعلت لمن جاءها برأسه مائةً من الإبل . (1)
ثم حمل اللواء أخوه كلاب بن طلحة بن أبي طلحة ، فقتله الزبير بن العوام .
ثم أخذ اللواء اخوه الجلاس بن طلحة ، فقتله طلحة بن عبيد .
ثم حمله أرطاة بن شرحبيل ، فقتله علي بن أبي طالب .
ثم حمله غلام لبني عبد الدار ، فقتله علي عليه السلام .
وتعاقب حملة اللواء من بني عبد الدار ، حتى قتل منهم تسعة من أشد أبطال المشركين . (2)