غرور أبي جهل
ونظرت قريش إلى قلة المسلمين ، فقال أبو جهل : ماهم إلا أكلة رأس لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم باليد .
فقال عتبة بن ربيعة : أترى لهم كمين أو مدد ؟ فبعثوا عمير بن وهب الجمحي وكان فارساً شجاعاً ، فجال بفرسه حول عسكر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم رجع إليهم فقال : القوم ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا او ينقصون قليلاً . ولكن أمهلوني حتى أنظر إذا كان لهم كمين أو مدد .
فضرب في الوادي حتى أبعد ، فلم يرَ شيئاً ، فرجع اليهم وقال :
ما رأيت شيئاً ، ولكن وجدت ـ يا معشر قريش ـ البلايا ( البراذع ) تحمل المنايا ، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم ، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم ، فإن أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك الا ترون انهم خرس لا يتكلمون يتلمظون تلمظ الأفاعي ما أرى انهم يولون حتى يقتلوا بعددهم !
فقال له أبو جهل : كذبت وجبنت .
وأرسل إليهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن أرجعوا من حيث أتيتم ، فلئن يلي هذا الأمر مني غيركم أحب إليّ من أن تلوه أنتم .
فقال عتبة : ما رد هذا قوم قط ، وأفلحوا . ثم ركب جمله الأحمر ، فنظر إليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يجول بين العسكرين وينهى عن القتال ، فقال : إن يكن بأحد منهم خير فعند صاحب ذلك الجمل وان يطيعوه يرشدوا .
ووقف عتبة يخطب في أصحابه ، فقال : يا معشر قريش أطيعوني اليوم واعصوني الدهر ‍‍! إن محمداً له إلُّ وذمه ، وهو ابن عمكم فخلوه والعرب ، فإن يكن صادقاً فأنتم أعلى عيناً ، وان يكن كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره .


(74)

قال حكيم بن حزام : فانطلقت إلى أبي جهل ، فوجدته قد نثل درعاً وهو يهيؤها فاعلمته ما قال عتبة . فقال : انتفخ والله سحره حين رأى محمداً وأصحابه ، والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، وما بعتبة ما قال ، ولكن رأى ابنه أبا حذيفة فيهم وقد خافكم عليه .
وبلغ ذلك عتبة ، فقال : سيعلم المصفّر أسته من انتفخ سحره ، أنا ، أم هو ؟ ثم إلتمس بيضةً يدخلها رأسه . فما وجد في الجيش بيضةً تسعه من عظم هامته ، فاعتجر ببرد له (1).
بدء القتال
وكان عتبة قد قال أنه يتحمل دم حليفه عمرو بن الحضرمي الذي قتله المسلمون في مكان يقال له نخلة ، وذلك في غزوة العشيرة ، فبلغ ذلك أبا جهل ، فخاف أن ينجح عتبة في خطته ويرجع الناس بدون قتال ، فجاء إلى عامر بن الحضرمي أخي عمرو وقال له : هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس ، وقد رأيت ثارك بعينك ، فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك .
فقام عامر فاكتشف ، ثم صرخ ، واعمراه . . واعمراه . . فحميت الحرب ، وحقب أمر الناس واستوسقوا على ما هم عليه من الشر .
وخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي ـ وكان سيئ الخلق ـ فقال : أعاهد الله لأشربن من حوضهم ولأهدمنه أو لأموتن دونه .
فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب ، فضربه فأطن قدمه بنصف ساقه فوقع على الأرض ثم حبا إلى الحوض ، فاقتحم فيه ليبر يمينه ، وتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض .
____________
1 ـ الطبري 2 ـ 279 والكامل 2 ـ 124 .
(75)

مقتل عتبة وشيبة والوليد
ثم خرج عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، والوليد بن عتبة ودعوا إلى المبارزة .
فخرج إليهم عوف ومعوذ ابنا عفراء ، وعبد الله بن رواحة وهم من الأنصار .
فقالوا : من أنتم ؟ قالوا : من الأنصار . فقالوا : أكفاءٌ كرام وما لنا بكم من حاجة ، ليخرج إلينا أكفاؤنا من قومنا .
فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قم يا حمزة ، قم يا عبيدة بن الحارث ، قم يا علي فقاموا ، ودنا بعضهم من بعض ، وانتسبوا لهم .
فقال عتبة : أكفاءٌ كرام .
فبارز عبيدة بن الحارث بن المطلب عتبةً .
وبارز حمزة شيبة .
وبارز علي ( عليه السلام ) الوليد . (1)
أما حمزة فلم يمهل شيبه حتى قضى عليه في الضربة الأولى .
وكذلك فعل علي بن أبي طالب ، فإنه لم يمهل الوليد حتى قتله .
وأما عبيدة وعتبة ، فكل منهما قد ضرب صاحبه وأصابه بجروح لا يرجى منها الشفاء . فكرَّ الحمزة حينئذٍ على عتبة يبارزه ، فصاح المسلمون : يا علي ، أما ترى الكلب قد بهر عمك ؟ ـ وكان الحمزة وعتبة قد اعتنقا بعد أن تكسر سيفهما ، والحمزة أطول من عتبة ـ فقال له علي عليه السلام : يا عم طأطأ رأسك ، فادخل الحمزة رأسه في صدر عتبة ، فضرب علي عليه السلام عتبة ،
____________
1 ـ الكامل 2 / 124 / 125 .
(76)

فقدَّه نصفين (1)
ثم حملا عبيدة بن الحارث ، وكانت قد قطعت ساقه ، فألقياه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستعبر عبيدة وقال ألستُ يا رسول الله شهيداً ؟
قال صلى الله عليه وآله وسلم : بلى .
قال : لو كان أبو طالب حياً لعلم أني أحق بما قال :
كـذبتـم وبيـت الله نخـلـي محمـداً * ولمـا نطـاعن دونه وننـاضـلِ
ونـنصـره حتـى نُصـرّع حـولـه * ونـذهـَل عن أبنـائنا والحلائـِل

ثم مات رضي الله عنه ، وتزاحف القوم ودنا بعضهم من بعض ، وكان شعار النبي في هذه الغزوة : يا منصور أمت (2).
وكان من دعاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في ذلك اليوم قوله : « اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض ، اللهم انجز لي ما وعدتني . . »
وبرز بعد ذلك حنظلة بن أبي سفيان إلى علي ( عليه السلام ) فلما دنا منه ، ضربه علي بالسيف فسالت عيناه ولزم الأرض (3).
وبرز بعد ذلك العاص بن سعيد بن العاص (4) فبرز إليه علي عليه السلام فقتله .
____________
1 ـ سيرة المصطفى 347 .
2 ـ شرح النهج 14 / 130 / 133 .
3 ـ والى ذلك يشير امير المؤمنين بقوله : ـ مخاطباً معاوية ـ « وعندي السيف الذي اعضضت به أخاك وخالك وجدك يوم بدر » ( شرح النهج 14 ـ 131 ) .
4 ـ وقد وصف عمر بن الخطاب العاص لولده سعيد بقوله : « مررت به يوم بدر فرأيته يبحث للقتال كما يبحث الثور بقرنه فهبته وزغت عنه ، فقال : إلي يا بن الخطاب ! فصمد له =

(77)

قال الواقدي وابن اسحاق : وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفاً من البطحاء فرماهم بها ، وقال : شاهت الوجوه ! اللهم ارعب قلوبهم ، وزلزل أقدامهم ، فانهزم المشركون لا يلوون على شيء ، والمسلمون يتبعونهم يقتلون ويأسرون . (1)
وكان بلال بن رباح الحبشي يعجن عجيناً ، فبصر بأمية بن خلف (2) فترك العجين وصاح بأعلى صوته : يا أنصار الله هذا أمية بن خلف رأس الكفر ، لا نجوت إن نجا . فاحاطوا به حتى جعلوه في مثل المسكة (3) وقتلوه مع ولده علي بن أمية .
وكان المقداد قد أسر النضر بن الحارث ، فلما خرج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من بدر وكان بالأثيل (4) عرض عليه الأسرى ، فنظر إلى النضر بن الحارث فأبدَّه البصر ، فقال لرجل إلى جنبه : محمد والله قاتلي ! لقد نظر إلي بعينين فيهما الموت ! فقال الذي إلى جنبه : والله ما هذا منك إلا رعب !
فقال النضر لمصعب بن عمير : يا مصعب ، أنت اقرب من ههنا بي
____________
= علي وتناوله ، فوالله ما رمت مكاني حتى قتله » . سيرة المصطفى ـ 347 وفي شرح النهج ، قول عمر لسعيد : مالي أراك معرضاً كأني قتلت أباك ! إني لم أقتله ولكن قتله أبو حسن ، ـ وكان علي عليه السلام حاضراً ـ فقال : اللهم غَفراً ! ذهب الشرك بما فيه ، ومحا الإسلام ما قبله ، فلماذا تَهاجَ القلوب ؟ ! فسكت عمر . وقال سعيد : لقد قتله كُفءٌ كريم ، وهو أحب الي من أن يقتله من ليس من بني عبد مناف ـ 14 ـ 144 ـ 145 .
1 ـ شرح النهج 14 ـ 146 .
2 ـ كان أمية بن خلف من جبابرة قريش وعتاتهم ، وكان يعذب بلالاً في مكة ، يخرج به إلى الرمضاء إذا حميت فيضجعه على ظهره ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فيضعها على ظهره ، ثم يقول له : لا تزال هكذا ، أو تفارق دين محمد . فيقول بلال : أحد . . أحد . . كما في شرح النهج 14 ـ 138 .
3 ـ المسكة : السوار .
4 ـ الأُثيل : تصغير الأثل ، موضع قرب المدينة .

(78)

رحماً . كلم صاحبك أن يجعلني كرحل من أصحابي ، هو والله قاتلي إن لم تفعل .
قال مصعب : إنك كنت تقول في كتاب الله كذا وكذا ، وتقول في نبيّه كذا وكذا .
قال : يا مصعب ؛ فليجعلني كأحد أصحابي إن قتلوا قتلت ، وان منَّ عليهم منَّ علي .
قال مصعب : إنك كنت تعذب أصحابه .
قال : أما والله لو اسرتك قريش ما قتلت أبداً وأنا حي .
قال مصعب : والله اني لأراك صادقاً ، ولكن لست مثلك ، قطع الإسلام العهود .
وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً أن يضرب عنقه . (1)
كان المقداد يستمع ـ في هذا الحال ـ إلى الحوار الذي جرى بين النضر بن الحارث ومصعب بن عمير وكأنه ينتظر فرصةً تسمح للصفح والعفو عنه عسى أن يجعل الله في ذلك خيراً ، فلما أمر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) علياً بضرب عنقه ، صاح المقداد بأعلى صوته :
يا رسول الله ، أسيري ؟ ! (2)
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم اغن المقداد من فضلك . ثم ضرب علي عنقه . (3)
وبدأ تقسيم الغنائم ، فكان لكل مسلم سهم ما عدا المقداد ، فكان له
____________
1 ـ شرح النهج 14 ـ 171 .
2 ـ يستفاد هذا المعنى من موقف آخر للمقداد كما تقدم في سرية ( نخلة ) .
3ـ المصدر السابق .

(79)

سهمان سهم له ، وسهم لفرسه « سبحة » * وكان يتفاخر بذلك ويقول :
« ضرب لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يومئذٍ بسهم ، ولفرسي بسهم ! وقائل يقول : ضرب رسول الله يومئذٍ للفرس بسهمين ، ولصاحبه بسهم » (1) .
____________
* ـ سبحة : أول فرس لأول فارس في الإسلام ، ( فعن القاسم بن عبد الرحمن قال : أول من عدا به فرسه في سبيل الله ، المقداد بن الأسود . وعن علي ( عليه السلام ) ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد بن عمرو ـ الطبقات الكبرى 3 ـ 162 وكانت في فترة ما من التاريخ حديث المجالس في المدينة وفي مكة وفي جوارهما ، وكان المقداد يتفاخر بذكرها وتعداد مآثرها ومن ذلك قوله : « شهدت بدراً على فرسٍ لي يقال لها : سبحة » الإصابة 3 ـ 454 ـ 455 وكان يقول : « شهدت بدر الموعد على فرسي سبحة اركب ظهرها ذاهباً وراجعاً ، فلم يلق كيداً » المغازي 387 .
ويحكى : أن عبيد بن ياسر كان « قد أهدى للنبي فرساعتيقاً يقال له : مراوح وقال : يا رسول الله : سابق ، ـ أي هذا سابق غيره ـ فأجرى رسول الله الخيل بتبوك ، فسبق الفرس ، فأخذه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) منه ، فسأله المقداد بن عمرو الفرس . فقال رسول الله : أين سبحة ؟ ! فقال : يا رسول الله ، عندي ، وقد كبرت . وأنا أظنُّ بها للمواطن التي شهدتُ عليها ، وقد خلفتها لبعد هذا السفر وشدة الحر عليها ، فأردت أن أحمل هذا الفرس المعرق عليها فتأتي بمهر ! فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فذاك ، إذن .
فقبضه المقداد ، فخبر منه صِدقاً ثم حمله على سبحة ، فنتجت له مهراً كان سابقاً ، يقال له : الذيّال . سبق في عهد عمر وعثمان ، فابتاعه منه عثمان بثلاثين ألفا . المغازي 1033 .
1 ـ المغازي 102 ـ 103 .

(80)


____________
النضر بن الحارث
النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة . . كان أشد قريش في تكذيب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والأذى له ولأصحابه . وكان ينظر في كتب الفرس ويخالط اليهود والنصارى وسمع بذكر النبي وقرب مبعثه فقال : إن جاءنا نذير لنكونَنَّ أهدى من احدى الأمم فنزلت الآية : ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم . . . ) 6 ـ 109 وكان يقول : إنما يأتيكم محمد بأساطير الأولين . فنزل فيه عدة آيات .
وأتى النضر وعقبة بعض أهل الكتاب فقالوا : اعطونا شيئاً نسأل عنه محمداً . فقالوا : سلوه عن فتيةٍ هلكوا قديماً ، وعن رجل طاف حتى بلغ المشرق والمغرب ، فسألوه عن أهل الكهف وذي القرنين ، فانزل الله عز وجل في أمرهم ما أنزل .
وقال النضر وأمية بن خلف وأبو جهل للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ان كان قرآنك من عند الله فأحيي لنا آبائنا ، وأوسع لنا بلدنا بأن تسير هذا الجبال عنا فقد ضيَّقت مكة علينا ، أو أجعل لنا الصفا ذهباً نستغني عن الرحلة ( رحلة الشتاء والصيف ) فإن فعلت ذلك ، آمنا بك : وكان النضر خطيب القوم ، فانزل الله سبحانه :( ولو أن قرآناً سُيّرت به الجبال أو قُطعت به الأرضُ أو كُلّم به الموتى الى قول تعالى : فكيف كان عقاب ) ( الرعد 13 ـ 31 ) .
وأخذ النضر عظماً نخراً فسحقه ونفخه ، وقال : من يحي هذا يا محمد ؟
فنزلت فيه الآية : ( وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم . . ) أنساب الأشراف 1 / 142 ـ 143 .
اسر في بدر أسره المقداد بن عمرو ، وقتل صبراً بالأثيل فقالت أخته :
يـا راكـبـاً إن الأُثـيـل مـَظـنـةٌ * من صبـح خـامسـةٍ وانت مـوفق
بـلـغ بـه مـيـتـاً فـإن تحـيـةً * مـا إن تـزال بهـا الـركائب تخفق
مـني إلـيه وعـبـرةً مـسفـوحـةً * جـادت لمـا تحهـا واخـرى تخنق
فليسـمعـن النـضـر إن نـاديـتـه * إن كـان يسمـع ميت أو يـنـطـق
ظـلت سيوف بـني أبيه تـنـوشـه * لله أرحــام هــنــاك تـمـزق
صـبـراً يقـاد الى المديـنـة راغماً * رسف المقـيـد وهو عـانٍ موثـَقُ
أمـحمـد ولأنـت نجـل نجـيـبـةٍ * في قـومهـا والفحـل فحلّ معـرق
مـا كـان ضـرك لو مننت وربمـا * مـنَّ الـفتى وهو المغيظُ الـمحنَـقُ
والـنضر اقـرب من قتـلتَ وسيلـةً * واحـقهـم إن كـان عتـق يـعتـق

قال الواقدي : وروي أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما وصل إليه شعرها رقَّ له ، وقال : لو كنت سمعتُ شعرها قبل أن أقتله لما قتلته . شرح النهج 14 ـ 171 ـ 172 .

(81)

غـزوة أُحـد

وقعت في السنة الثالثة للهجرة ، لسبع ليالٍ خلون من شوال فقد حشدت قريش ومعها المشركون ، جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل أو يزيد ، بينهم سبعمائة دارع ، وقادوا معهم مائتي فرس ، وثلاثة آلاف بعير (1) وقصدوا المدينة طلباً بالثأر لقتلاهم في بدر . (2)
وفي خلال الفترة التي كانوا يستعدون بها للخروج ، كان العباس بن عبد المطلب يطلع على كل صغيرة وكبيرة من أمرهم ، فكتب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كتاباً يعلمه فيه بتحركاتهم واستعداداتهم ، وعددهم وعدتهم ، وأرسله سرّأً مع رجل من غفار وأوصاه بالكتمان ، وأن يجدّ السير .
مضى الغفاري بالكتاب لا همَّ له إلا إيصاله إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . (2)
ومضت قريش في طريقها إلى أحد ، فمروا بالأبواء حيث يوجد قبر أمنة أم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأشارت هندُ على المشركين بنبش القبر ، وقالت : « لو نجشتم قبر أم محمد فإن أسِرَ منكم أحد فديتم كل إنسان بإربٍ من إربها ‍!! فقال بعض قريش لا يفتح هذا الباب . » (3)
ومضى الغفاري حتى وصل إلى المدينة في ثلاثة أيام ، فوجد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )
____________
1 ـ كما في شرح النهج 14 / 217 .
2 ـ مقتضب .
3 ـ النصائح الكافية / 112 .

(82)

في قبا ، على باب مسجدها ، فدفع إليه كتاب العباس ، فدفعه النبي إلى أبي بن كعب فقرأه عليه ، فأمره النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يكتم الخبر ولا يحدث أحداً بما فيه .
وعاد النبي إلى المدينة ، وقصد دار سعد بن الربيع ، وقص له ما بعث به العباس ، وأمره بالكتمان ، فقال سعد : والله إني لأرجو أن يكون في ذلك خير .
نزول قريش قرب المدينة
أما قريش ، فقد تابعت سيرها حتى بلغت العقيق ، ونزلت في سفح جبل على خمسة أميال من المدينة ، ثم ساروا حتى نزلوا في مقابل المدينة بمكان يدعى : « ذو الحليفة » فتركوا خيلهم وإبلهم ترعى في زروع المدينة المحيطة بها .
وبعث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنس ومؤنس ابني فضال يستطلعان له الخبر ، فألفياهم قد قاربوا المدينة واطلقوا الخيل والإبل في الزروع المحيطة بها .
وبعث رسول الله بعدهما الحباب بن المنذر سراً ، وقال له : إذا رجعت فلا تخبرني بخبرهم بين الناس ، إلا ان ترى فيهم قلة ! فذهب حتى دخل بينهم ، ووقف على عددهم وعدتهم ، فرجع وأخبره بحالهم . (1)
فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لا تذكر من أمرهم شيئاً ، حسبنا الله ونعم الوكيل ، اللهم بك أصول وبك أجول .
النبي يستشير أصحابه
واستشار النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أصحابه بشأن الخروج لملاقاة العدو ، فأشار عليه
____________
1 ـ سيرة المصطفى 393 ـ 394
(83)

عبد الله ابن أبي سلول وبعض شيوخ الصحابة أن لا يخرج من المدينة
لكن فتيان المهاجرين والأنصار والبعض الآخر من شيوخ الصحابة أحبوا الخروج إلى عدوهم وملاقاته حيث نزل بأرضهم .
فقال : أياس بن أبي أوس : إني يا رسول الله لا أحب أن ترجع قريش إلى قومها لتقول : حصرنا محمداً في صياصي يثرب وآطامها ، فتكون هذه جرأة لقريش ، وهاهم قد وطئوا سعفنا ، فإذا لم نذب عن عرضنا وزرعنا ، فلم نزرع ؟ وقد كنا ـ يا رسول الله ـ في جاهليتنا والعرب يأتوننا فلا يطمعون بهذا منا حتى نخرج إليهم بأسيافنا فنذبهم عنا ، فنحن اليوم أحق إذ أمدّنا الله بك ، وعرفنا مصيرنا ، فلا نحصر أنفسنا في بيوتنا .
وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة ، فقال في جملة ما قال : . . وعسى الله أن يظفرنا بهم ، فتلك عادة الله عندنا ، أو تكون الأخرى ، فهي الشهادة ، لقد أخطأتني وقعة بدر وكنت عليها حريصاً ، ولقد بلغ من حرصي أني ساهمت ابني في الخروج فرزق الشهادة . . وقد رأيت إبني البارحة في النوم في أحسن صورة ، يسرح في ثمار الجنة وأنهارها ، وهو يقول : إلحق بنا ، ترافقنا في الجنة ، فقد وجدت ما وعدني ربي حقا . ، وقد ـ والله ـ أصبحت يا رسول الله مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة ، وقد كبرت سني ، ودق عظمي ، وأحببت لقاء ربي فادع الله ـ يا رسول الله ـ أن يرزقني مرافقة سعدٍ في الجنة !
فدعا له رسول الله بذلك ، فقتل مع من قتل في تلك المعركة .
وقال الحمزة بن عبد المطلب : والذي أنزل عليك الكتاب ، لا أطعَم اليوم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارجاً من المدينة .
وتتابع الناس ، كلٌّ يدلي برأيه وبما عنده ، ورسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يبدو كارهاً للخروج ، فلم يزالوا به حتى أظهر موافقته لهم .
فلما جاء وقت الصلاة من يوم الجمعة ، صلى بالناس وصعد المنبر ،


(84)

فوعظهم وحثهم على الجد والإجتهاد والصبر ، وأخبرهم بأن النصر سيكون حليفهم إذا هم صبروا وأخلصوا في جهاد أعداء الله وأعداء رسوله ، ثم أمرهم أن يتجهزوا للقاء العدو .
النبي يتجهز للحرب
ولما حان وقت العصر ، صلى بهم ، وكانوا قد احتشدوا حول النبي ليعرفوا رأيه النهائي ، وحضر أهل العوالي ، ولما فرغ من صلاته ، دخل منزله ، ووقف الناس ينتظرون خروجه ، فقال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير : لقد إستكرهتم رسول الله على الخروج فاتركوا الأمر اليه .
وخرج عليهم صلى الله عليه وآله لابساً لامته ، وقد تعمم ولبس الدرع وتقلد سيفه ، وتنكب القوس ، ووضع الترس في ظهره ، فلما رأوه بتلك الحال أقبل عليه جمع ممن كانوا قد تحمسوا للخروج ، وقد ندموا على موقفهم مخافة أن تنزل فيهم آية من عند الله ، فقالوا : يا رسول الله ، ما كان لنا أن نخالفك ؟ فاصنع ما بدا لك ، والأمر إلى الله وإليك ! فإن خرجت ، خرجنا ، وأن أقمت أقمنا .
فرد عليهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بقوله : لقد دعوتكم لذلك فأبيتم ، وما ينبغي لِنَبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه ؛ أنظروا ما آمركم به فاتبعوه ، والنصر لكم ما صبرتم . (1)
ثم استخلف على المدينة ابن ام مكتوم ليصلي بالناس ، وعقد ثلاثة ألوية ، فأعطى لواء المهاجرين لعلي بن أبي طالب ، ولواء الأوس إلى أسيد بن حضير ، ولواء الخزرج الى الحباب بن المنذر ، وقيل أعطاه إلى سعد بن عبادة ، وجعل على الخيل الزبير ، ومعه المقداد بن الأسود ، وخرج الحمزة بالجيش بين
____________
1 ـ المصدر السابق
(85)

يديه . (1) وركب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فرسه ، وكان عدد المقاتلين ألفاً بينهم مائة دارع .
فلما كان بين المدينة وأحد ، عاد عبد الله بن أبي بثلث الناس ، فقال : أطاعهم محمد وعصاني ، وكان أتباعه من أهل النفاق والريب .
ومضى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع الصبح حتى بلغ أحداً ، فاجتازوا مسالكها ، وجعلوها بين أظهرهم وجعل الرماة وراءه وهم خمسون رجلاً ، وكان من جملتهم المقداد بن الأسود ، وأقر عليهم عبد الله بن جبير ، وقال له : إنضح عنا الخيل بالنبل لا يأتونا من خلفنا ، واكد عليهم أن يلزموا مكانهم حتى ولو قتل المسلمون عن آخرهم .
وجعل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يمشي على رجليه يسوي تلك الصفوف ، ويبوئ أصحابه للقتال ، يقول : تقدم يا فلان ، وتأخر يا فلان ، حتى انه ليرى منكب الرجل خارجاً فيؤخره . . حتى إذا استوت الصفوف ، سأل : من يحمل لواء المشركين ؟ قيل : بنو عبد الدار . قال : نحن أحق بالوفاء منهم . أين مصعب بن عمير ؟ قال : ها أنذا ! قال . خذ اللواء ، فأخذه مصعب بن عمير فتقدم به بين يدي رسول الله .
ثم نهى المسلمين أن يقاتلوا القوم حتى يأمرهم بالقتال .
خطبة النبي في أصحابه
ثم قام رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فخطب الناس ، فقال : يا أيها الناس ، أوصيكم بما أوصاني الله في كتابه ، من العمل بطاعته والتناهي عن محارمه ، ثم أنكم اليوم بمنزل أجر وذخر لمن ذكر الذي عليه ثم وطن نفسه له على الصبر واليقين والجد والنشاط فإن جهاد العدو شديد ، شديد كْربُه ، قليل من يصبر
____________
1 ـ هكذا في الطبري وفي الكامل 2 / 152
(86)

عليه إلاّ من عزَمَ الله رُشده ، فإن الله مع من أطاعه ، وان الشيطان مع من عصاه ، فإفتتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد ، والتمسوا بذلك ما وعدكم الله ، وعليكم بالذي آمرُكم به ، فإني حريص على رَشَدِكم ، فإن الإختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف مما لا يُحبُّ الله ، ولا يعطي عليه النصر ولا الظفر . يا أيها الناس ، جُدّد في صدري أن من كان على حرام فرق الله بينه وبينه ، ومن رغب له عنه ، غفر الله ذنبه ، ومن صلى عليَّ صلى الله عليه وملائكته عشرا ، ومن أحسن من مسلم أو كافرٍ ، وقع أجره على الله في عاجل دنياه أو آجل آخرته ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فعليه الجُمُعة يوم الجمعة إلا صبياً أو إمرأة أو مريضاً ، أو عبداً مملوكاً ؛ ومن استغنى عنها استغنى الله عنه ، والله غني حميد .
ما أعلم من عمل يُقربكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به ، ولا أعلم من عمل يقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه . وإني قد نَفثَ في روعي الروح الأمين أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أقصى رِزقها ، لا يُنقصُ منه شيء وإن أبطأ عنها . فاتقوا الله رَبَّكم وأجملوا في طلب الرزق ، ولا يحملنكم إستبطاؤه أن تطلبوه بمعصية ربكم ، فإنه لا يُقدرُ على ما عنده إلا بطاعته .
لقد بين لكم الحلال والحرام غير أن بينهما شُبَهاً من الأمر لم يعلمها كثير من الناس إلا من عَصَم ، فمن تركها حفظ عرضه ودينه ، ومن وقع فيها ، كان كالراعي إلى جنب الحمى أوشك أن يقع فيه . وليس ملك إلا وله حمى ، آلا وإن حمى الله مَحارمه . والمؤمن من المؤمنين ، كالرأس من الجسد ، إذا اشتكى تداعى عليه سائُر الجسد ، والسلام عليكم ! (1)
____________
1 ـ مغازي الواقدي 1 / 221 ـ 223 .
(87)

المشركون يُسوون صفوفهم
أما المشركون فقد استدبروا المدينة واستقبلوا أُحداً ، وصفوا صفوفهم ، فأستعملوا على الميمنة خالد بن الوليد ، وعلى الميسرة عكرمة ابن أبي جهل ، وعلى الخيل صفوان بن أمية ، وعلى الرماة ، عبيد الله بن أبي ربيعة ، وأعطوا اللواء إلى طلحة بن أبي طلحة من بني عبد الدار .
وأرسل أبو سفيان إلى الأنصار يقول : خلّوا بيننا وبين ابن عمنا ، فننصرف عنكم ، فلا حاجة بنا إلى قتالكم . فرد عليه المسلمون بما يكره !
وصاح ابو سفيان يُحرض بني عبد الدار ويقول : يا بني عبد الدار ، إنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم ، فإما أن تكفونا لواءنا ، وإما أن تُخلوا بيننا وبينه نكفيكموه ، فإنا قوم مستميتون موتورون نطلب ثأراً حديث العهد . فغضب بنو عبد الدار وقالوا : نحن نُسلّم لواءنا ؟! لا كان هذا أبداً ، وأغلظوا القول لأبي سفيان .
بدء القتال
ثم أخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سيفاً وقال : من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ فقام إليه رجال ، فأمسكه عنهم ، وما زال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يردد قوله حتى قام أبو دجانة الأنصاري واسمه ، سماك بن خرشة ، من بني ساعدة ، فقال : وما حقه يا رسول الله ؟
فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، حقه أن تضرب به العدو حتى ينحني ! قال : أنا آخذه ـ يا رسول الله ـ ، فأعطاه إياه .
وكان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب ، ويعتصب بعصابةٍ له حمراء ، فإذا إعتصب بها عرف الناس أنه عازم على الحرب .


(88)

ثم بدأت المعركة ، وقام الرماة يرمون خيل المشركين بالنبل ، فولّت هاربةً ، ودنا القوم بعضهم من بعض . « وأقبل خالد بن الوليد وعكرمة فلقيهما الزبير والمقداد فهزما المشركين » (1)
وتقدم طلحة ـ حامل لواء المشركين ـ وصار النسوة خلف الرجال يضربن بين أكنافهم بالطبول والدفوف ، وهند ومن معها يحرضن الرجال ، ويذكرن قتلى بدر ويقلن :
نحـن بـنـات طـارق * تمشـي علـى النمـارق
مشـي القطـا البـوارق * المسـك فـي المفـارق
والـدر فـي المخـانـق * إن تـقبـلـوا نعـانـق
أو تـدبـروا نـفـارق * فـراق غـيـر وامـق

وتقدم طلحة صاحب اللواء ، وصاح : هل من مبارز ؟
فقال له علي عليه السلام : هل لك في مبارزتي ؟ قال : نعم .
فبرزا بين الصفين ورسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جالس تحت الراية وعليه درعان ومغفر وبيضة ، فالتقيا بسيفيهما ، فضربه عليٌّ ضربةً على رأسه ، فمضى السيف حتى فلق هامته وانتهى إلى لحيته ، فوقع كالثور يخور بدمه ، وانصرف عنه علي عليه السلام ، فلما قتل طلحة ، كبر رسول الله تكبيراً عالياً ، وكبر معه المسلمون ، فقيل لعلي ( عليه السلام ) هلاَّ ذَفَفتَ ( أجهزت ) عليه ؟ فقال : لما صُرع ، استقبلني بعورته ، وسألني الرَحِم .
ثم شد أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على كتائب قريش يضربون وجوههم ، حتى انتقضت صفوفهم ، وقد حمل اللواء بعد طلحة أخوه
____________
1 ـ راجع الكامل 2 / 152 وكذلك في الطبري .
(89)

عثمان بن أبي طلحة ، فتقدم وأنشد :
إن عـلـى ربّ الـلـواء حقـا * أن يـخضـب الـصعـدة أو يـنقـدّا

فتقدم باللواء والنسوة خلفه يُحرّضْنَ ويضربن الدفوف . فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب ، فضربه بالسيف على كاهله ؛ فقطع يده وكتفه حتى إنتهى إلى مئزره ، فبدا سحره ، ثم رجع عنه وهو يقول أنا ابن ساقي الحجيج !
وحمل اللواء بعدهما أخوهما أبو سعيد ابن أبي طلحة ، فحمل عليه علي عليه السلام فقتله .
ثم حمل اللواء بعده مسافع بن طلحة ، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح فقتله ! فنذرت أمه ـ وأسمها سلافة ـ أن تشرب الخمر في قحف رأس عاصم ، وجعلت لمن جاءها برأسه مائةً من الإبل . (1)
ثم حمل اللواء أخوه كلاب بن طلحة بن أبي طلحة ، فقتله الزبير بن العوام .
ثم أخذ اللواء اخوه الجلاس بن طلحة ، فقتله طلحة بن عبيد .
ثم حمله أرطاة بن شرحبيل ، فقتله علي بن أبي طالب .
ثم حمله غلام لبني عبد الدار ، فقتله علي عليه السلام .
وتعاقب حملة اللواء من بني عبد الدار ، حتى قتل منهم تسعة من أشد أبطال المشركين . (2)
____________
1 ـ فلما قتل عاصم رحمه الله في غزوة الرجيع ، جاء الوادي بسيل فحمله ، ولم يجدوا له أثراً .
2 ـ سيرة المصطفى 405 ـ 406 .