ذكروا : أن معاوية بعث إلى ابن الحصين * ليلاً فخلا به وقال له : يا بن الحصين ؛ بلغني أن عندك ذهناً وعقلاً ، فأخبرني عن شيءٍ أسألك عنه .
قال : سلني عما بدا لك .
قال : اخبرني مالذي شتت أمر المسلمين وفرّق أهوائهم ؟
قال : قتل الناس عثمان ! قال : ما صنعت شيئاً ! قال : فمسير علي إليك وقتاله إياك ! قال : ما صنعت شيئاً ! قال : فمسير طلحة والزبير وعائشة ، وقتال عليّ إياهم ! قال : ما صنعت شيئاً .
قال : ما عندي غير هذا يا أمير المؤمنين .
قال : فأنا أخبرك ، إنه لم يشتت بين المسلمين ، ولا فرق أهوائهم ، ولا خالف بينهم إلا الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر . . فلم يكن رجل منهم إلا رجاها لنفسه ، ورجاها له قومه ، وتطلعت إلى ذلك نفسه ، ولو أن عمر استخلف عليهم كما استخلف ابو بكر ، ما كان في ذلك إختلاف . (1)
تحليل رائع من سياسي بارع خاض تجارب كثيرة في مضماري الملك والزعامة ، فمعاوية وان كان قد باع شرفه وآخرته بدنياه في خوضه حرباً ظالمةً ضد ثاني رجل في الدولة الإسلامية ، إلا أن ذلك لا يمنع من أن تكون له نظرة صائبة وعميقة حول بعض المفاهيم السياسية ! إنه هنا يكشف ـ في الحقيقة ـ سراً من الأسرار التي أودت إلى تمزق الأمة وتفككها ، فالشورى كانت واحدة من الأسباب التي ساهمت في ذلك ، وليست هي السبب الرئيسي .
هو هنا يطرح لمحدثه سبباً واحداً كان يراه علة الكل ، وعلة العلل في تفرق شمل الأمة ، يرى الشورى ـ بما زرعت في قلوب أعضائها من طموح للخلافة دفعهم للتهيؤ لها ـ هي السبب الوحيد في ذلك !
وربما كان معاوية يلمز من حديثه هذا إلى علي ، وكأنه يريد أن يجعله في عداد هؤلاء الطامحين ، كما تكشف عن ذلك مواقفه من علي .
لكن الشيء الواضح من أخطاء هذه الشورى ، أنها بالإضافة إلى كونها حفزت أعضائها على التهيوء للخلافة وأوجدت تكتلات حزبية مختلفة ومتناحرة ، فقد جعلت في نفس الوقت أناساً آخرين ليسوا من أعضائها ينحون هذا المنحى . « فقد طمح إلى الخلافة رجال غير رجال الشورى من قريش ، لأنهم رأوا أن بعض من رشحهم عمر لا يفضلونهم في شيء ، بل ربما امتازوا عليهم في أشياء كثيرة . » (1) ولعل معاوية واحد منهم .
فوجىء الناس ـ في اليوم الأول لبيعة عثمان ـ بأمور ما عهدوها من سيرة الشيخين أبي بكر وعمر ، وانما تفرد بها عثمان ، مما دفعهم لإِعلان الاستياء والاستنكار ، جاعلين في حسابهم أنه بذلك يخرق العهد الذي اخذه عليه عبد الرحمن .
قال اليعقوبي : وخرج عثمان والناس يهنئونه ، فصعد المنبر ، فجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول الله ، ولم يجلس أبو بكر ولا عمر فيه ، جلس أبو بكر دونه بمرقاة ، وجلس عمر دون أبي بكر بمرقاة ، فتكلم الناس في ذلك ، فقال بعضهم : اليوم ولد الشر .
وروي : أنه خرج من الليلة التي بويع له في يومها لصلاة العشاء الآخرة وبين يديه شمعة ، فلقيه المقداد بن عمرو ، فقال ما هذه البدعة ! (1)
ولم تكن حكاية المنبر والشمعة هذه بذات بال لولا أنها خارجة على سيرة الشيخين ، وأنها مؤشر لإِرتكاب أمور أفضع وأخطر بكثير ! .
لكن أمراً آخر حصل في ذلك اليوم أثار حفيظة المخلصين ، فدفعهم إلى الجهر بالمعارضة ، فقد تناهى إلى سمعهم قول لأبي سفيان في محضر الخليفة تستشم منه رائحة الإِلحاد في دين الله ، وبداية التفكير في تحويل الخلافة الى ملك ، وذلك .
أن عثمان ـ بعد البيعة ـ دخل رحله ، فدخل اليه بنو أمية حتى إمتلأت بهم الدار ثم أغلقوها عليهم ، فقال أبو سفيان بن حرب : أعندكم أحد من غيركم ؟ قالوا : لا .
قال : تلقّفوها يا بني أميّة تلقُّف الكرة ، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما من عذاب ولا حساب ، ولا جنّةٍ ، ولا نار ، ولا بعث ، ولا قيامة ! » فانتهره عثمان وساءه بما قال ، وأمر بإخراجه .
فدخل عبد الرحمن بن عوف على عثمان ، فقال له : ما صنعت ! فوالله ما وُفقت حيث تدخل رحلك قبل ان تصعد المنبر ، فتحمد الله وتثني عليه ، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتعدَ الناس خيراً .
فخرج عثمان ، فصعد المنبر ، فحمد الله واثنى عليه ، ثم قال : هذا مقام لم نكن نقومه ، ولم نُعدّ له من الكلام الذي يقام به في مثله ، وسأهيء ذلك ان شاء الله . . (1)
وشاعت مقالة أبي سفيان بين المسلمين ، فساءهم ذلك ، فكان أول من أعلن استنكاره وغضبه ، عمار بن ياسر ، فأقبل في اليوم التالي حتى دخل السمجد والناس مجتمعون فيه ، فقام وقال :
« يا معشر قريش ؛ أما إذا صرفتم هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم ههنا مرة ، وههنا مرة ، فما أنا بآمنٍ من أن ينزعه الله منكم فيضعه في غيركم كما نزعتموه من أهله ووضعتموه في غير أهله . (2)
وخرج المقداد في ذلك اليوم ، فلقي عبد الرحمن بن عوف ، فأخذ بيده وقال :
إن كنت أردت ـ بما صنعت ـ وجه الله ، فأثابك الله ثواب الدنيا والآخرة ، وإن كنت إنما أردت الدنيا ، فاكثر الله مالك !
فقال عبد الرحمن : إسمع ، رحمك الله ، إسمع ! قال : لا أسمع والله . وجذب يده من يده ، ومضى حتى دخل على علي عليه السلام ، فقال :
قم ، فقاتل حتى نقاتل معك . قال علي : فبمن أقاتل ؛ رحمك الله ؟ !
وأقبل عمار بن ياسر ينادي :
أما والله لو أن لي أعواناً لقاتلتهم ! والله لئن قاتلهم واحد ، لأكونن له ثانياً !
فقال علي : يا أبا اليقظان ، والله لا أجد عليهم أعواناً ، ولا احب أن أعرضكم لما لا تطيقون . (1)
وجاءت حادثة العفو عن عبيد الله بن عمر « قاتل الهرمزان » فزادت الطين بلة .
قال اليعقوبي : واكثر الناس في دم الهرمزان ، وإمساك عبيد الله بن عمر ! وصعد عثمان المنبر ، فخطب الناس ، ثم قال :
آلا إني ولي دم الهرمزان ، وقد وهبته لله ولعمر !
فقام المقداد بن عمرو ، فقال : إن الهرمزان مولىً لله ولرسوله ، وليس لك أن تهب ما كان لله ولرسوله .
قال : فننظر ، وتنظرون . ثم اخرج عثمان عبيد الله بن عمر من المدينة إلى الكوفة ، وأنزله داراً فنسب الموضع إليه فقيل : « كويفة ابن عمر . . » (2)
كان الهرمزان أحد ملوك فارس ، وكان قد عقد صلحاً مع المسلمين في السنة السادسة عشرة للهجرة ، ما لبث أن نقضه فيما بعد بتحريض من يزدجرد ، وعلم المسلمون بذلك فجهزوا جيشاً لمحاربته ومحاربة من تعاقد معه على ذلك . فأسر ، وأقبلوا به الى المدينة مكتوفاً وعليه تاجه وحليته ، فأراد عمر أن يضرب عنقه ، فأعلن إسلامه في قصة طريفة .
فقد روي : أن عمر قال له : « يا هرمزان ، كيف رأيت وبال الغدر » ؟
فقال : يا عمر ، إنا وإياكم في الجاهلية كنا نغلبكم ، إذ لم يكن الله معكم ، ولا معنا ! فلما كان الله معكم غلبتمونا .
قال : فما عذرك في انتقاضك مرةً بعد مرة ؟ !
قال : أخاف إن قلتُ أن تقتلني . قال : لا بأس عليك ، فاخبرني .
فاستسقى ماءً ، فأخذه ، وجعلت يده تُرعَد . قال : مالك ؟ قال : أخاف أن تقتلني وأنا اشرب .
قال : لا بأس عليك حتى تشربه . فألقاه من يده ، فقال : ما بالك ! أعيدوا عليه الماء ولا تجمعوا عليه بين القتل والعطش .
قال : كيف تقتلني ، وقد أمنتني ! ؟
قال : كذبت ! قال : لم أكذب .
فقال أنس : صدق يا أمير المؤمنين . قال : ويحك يا أنس ! أنا أؤمن قاتل مجزأة بن ثور والبراء بن مالك ! والله لتأتيني بالمخرج أو لأعاقبنّك !
قال : إنك قلت : « لا بأس عليك حتى تخبرني ولا بأس عليك حتى تشرب » ! وقال له ناس من المسلمين مثل قول أنس .
فأقبل على الهرمزان ، فقال : تخدعني ! والله لا تخدعني إلا أن تُسلم ، فأسلم ، ففرض له الفين وأنزله المدينة » . (1)
فلما قُتل عمر ، ظن ابنه عبيد الله أن الهرمزان كان شريكاً لأبي لؤلؤة في قتل والده ، فعمد إلى الهرمزان فقتله ، وقتل معه جفينة ابنة ابي لؤلؤة .
« وأراد عبيد الله أن لا يترك سبيّاً بالمدينة يومئذٍ إلا قتله ، فاجتمع المهاجرون الأولون ، فأعظموا ما صنع عبيد الله من قبل هؤلاء ، واشتدوا عليه وزجروه عن السبي .
فقال : والله لأقتلنهم وغيرهم ـ يعرض ببعض المهاجرين ـ فلم يزل عمرو بن العاص يرفق به حتى دفع إليه سيفه . . (2) ـ »
فلما استخلف عثمان ، دعا المهاجرين والأنصار ، فقال : اشيروا علي في قتل هذا الذي فتق في الدين ما فتق ! فاجمع راي المهاجرين والأنصار على كلمة واحدة يشجعون عثمان على قتله . وقال جل الناس : أبعد الله الهرمزان وجفينة ، يريدون يتبعون عبيد الله أباه !!.
وعن المطلب بن عبد الله قال : قال علي لعبيد الله بن عمر : ما كان ذنب بنت أبي لؤلؤة حين قتلتها ؟ فكان رأي علي حين إستشاره عثمان ، ورأي الأكابر من أصحاب رسول الله على قتله ، لكن عمرو بن العاص كلم عثمان
أما عثمان ، فحين بلغه مقالة علي تلك ، قام فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :
« أيها الناس ، إنه كان من قضاء الله ان عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، أصاب الهرمزان وهو رجل من المسلمين ليس له وارثٌ إلا الله والمسلمون ؟ وأنا إمامكم ، وقد عفوت ، أفتعفون عن عبيد الله بن خليفتكم بالأمس ؟ قالوا نعم . فعفا عنه . (2)
وفي ذلك اليوم قال المقداد مقالته الآنفة .
فلما بلغ علياً ـ ما قاله عثمان ـ تضاحك ، وقال : سبحان الله ! لقد بدأ بها عثمان ! أيعفو عن حق إمرئ ليس بواليه ! تالله إن هذا لهو العجب ! (2)
وكان عبيد الله قد حبس في بيت ، وقيل في السجن ، فأطلقه عثمان وكان رجلٌ من الأنصار يقال له : زياد بن لبيد البياضي ، إذا رأى عبيد الله بن عمر قال :
| ألا يـا عبيـد الله مـالـك مهـربٌ | * | ولا ملجـأٌ مـن ابن أروى (3) ولا خفـرْ |
| أصبـت دمـاً والله في غـير حِلّـهِ | * | حرامـاً وقتـل الهـرمـزان لـه خطـر |
| على غير شيء غير أن قـال قائـل | * | أتتـهمـون الهـرمـزان عـلـى عمـر |
| فقـال سفيـهٌ والـحـوادث جّمـة | * | نعـم ، أتـهمـه قـد أشـار وقـد أمـر |
| وكـان سلاح العبد في جوف بيتـه | * | يقـلبـه والأمـر بـالأمـر يـعـتـبـر |
فشكا عبيد الله بن عمر إلى عثمان زياد بن لبيد وشعره ، فدعا عثمان زياداً فنهاه ، فقال زياد في عثمان :
| أبـا عمـرو عبـيـد الله رهـنٌ | * | فـلا تشكـك بقتـل الهـرمـزان |
| فإنـك إن غفـرت الجـرم عنـه | * | واسـباب الخـطا فرسـا رهـانِ |
| أتعفـو ، إذ عفـوتَ بغيـر حقٍ | * | فـما لـك بـالذي تحكـي يـدانَ |
ولما اكثر الناس التحدث في دم الهرمزان ، أمر عثمان عبيد الله بالرحيل إلى الكوفة وأقطعه فيها داراً وأرضاً فسمي ذلك الموضع بـ « كويفية بن عمر » وحين ولي الإمام علي عليه السلام الخلافة ، طلب عبيد الله فهرب إلى معاوية ، فقال عليه السلام : لئن فاتني في هذا اليوم لا يفوتني في غيره !
فلما كانت حرب صفين قتل فيها . وقيل : إن علياً هو الذي قتله ، ضربه ضربةً فقطع ما عليه من الحديد حتى خالط سيفُه حشوة جوفه . (2)
المصادر التاريخية لا تشير إلى أي لون من ألوان الخلاف بين عثمان والمقداد قبل حادثة الشورى ، لا من قريب ولا من بعيد ، حتى إذا بدأت الشورى بدأ معها الخلاف بينهما ! وكان خلافاً يحسبه الغافل أنه ناجم عن عداء قديم مستشرٍ بينهما ، سيما إذا أخذنا بعين الإعتبار مواقف المقداد الصلبة من عثمان في تلك الفترة ، غير أن نظرة تأمل منا في نوعية هذا الخلاف كافية في إيقافنا على حقيقة الأمر ، من أن ما جرى بينهما لم يكن مرده لعداءٍ شخصي ، بل هو خلاف مبدئي تطور فيما بعد ليأخذ صفة العداء والجفوة بين الطرفين .
واضحٌ أن الخلافة أمانة عظمى في عنق متقلدها ، ومسؤولية كبرى في عاتقه عليه أن ينهض بأعبائها ، وإلا فهي الخيانة ! وبيعة عثمان ؛ أخذ فيها عليه شرطان صريحان غير كتاب الله ، هما : « سنة رسول الله وسيرة الشيخين ابي بكر وعمر ( رض ) بهما تصح بيعته وبدونهما لا بيعة قائمة ولا خلافة .
تُرى ! أيطوي الصحابة كشحاً عن بعض التصرفات المخالفة ـ صراحةً ـ لسنة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو لسيرة الشيخين . يرون الخليفة متلبساً بها ؟ ! بالطبع ، لا ! إذا كانوا مخلصين لدينهم ، صادقين في تدينهم ؛ وهنا تكمن نقطة الخلاف بينه وبينهم بشكل عام . والمقداد واحد من الصحابة المخلصين لا يمكنه بحال السكوت أزاء حالات كهذه ، لذا ،
من ذلك : أن عثمان بينما كان جالساً ذات يوم وحوله بعض وجوه قريش ، إذ أقبل رجلٌ أحسبه كان شاعراً يتكفف اعطيات الملوك ، فجعل يمدح عثمان ، وكان المقداد حاضراً ، فجثا على ركبتيه وجعل يحثو الحصباء في وجه ذالك الرجل ! وتعجب عثمان من تصرف المقداد هذا ، والتفت إليه قائلاً : ما شأنك ؟
فقال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب ! (1)
إن حادثة بسيطة من هذا النوع ـ في نظري ونظرك ـ هي غاية في الخطورة إذا صدرت في مجلس كمجلس الخليفة ، لأنها خرق واضح للسنة ، لا يمكن لصحابي كالمقداد أن يسكت عليها ، فما ظنك إذن بما هو أعظم من هذا وأفظع ؟! كتعطيل الحدود ، واقرار الأيدي العادية . والإِسراف في مال الله ووضعه في غير مستحقيه ، كإعطاء مروان خمس خراج إرمينية ! واقطاعه فدك * وكانت فاطمة بنت الرسول قد
إن هذه المواقف من المقداد حيال تصرفات الخليفة ، تركت ولا شك أسوأ الأثر في نفسه وعرضته لغضبه وسخطه ، وحقد بني أمية حتى مات وعثمان ساخط عليه ، أو بالاحرى هو ساخط على عثمان كما روي ذلك
« أتراني أحب أن يموت مثل هذا من أصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله وسملم ) وهو عليّ ساخط ! » (1).
في قبال هذه المواجهة الصريحة ، كان للمقداد مع الخليفة مواجهة مبطنة ـ إذا صح التعبير ـ إعتمد فيها اسلوب الدعوة لعلي بكل صراحة ووضوح ، وهو الأسلوب الأشد تأثيراً في تهييج مشاعر المسلمين وإثارة عواطفهم ، فقد كان يرى أن الخلافة حق مشروع لعليٍّ عليه السلام وثابت له دون غيره وعلى هذا الأساس إنطلق في دعوته له ، وكان جريئاً في ذلك غير متكتم ولا مبالٍ بالنتائج مهما كانت ؛ وكان يتخذ من مسجد الرسول صلى الله عليه وآله في المدينة مقراً لبَثِّ دعوته تلك ، مبتدأً بعرض ظلامة الإِمام علي ( عليه السلام ) حول هذا الأمر ثم يطرح أمام الجمهور فضائله وكراماته وسابقته منتهياً ببيان أحقيته في الخلافة بأسلوب فريد وكأنه محام بارع أسند إليه القيام بهذا الدور .
روى بعضهم ، فقال : دخلت مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فرأيت رجلاً جاثياً على ركبتيه يتلهّفُ تلهُّفَ من كأن الدنيا كانت له فسُلبها ، وهو يقول :
واعجباً لقريش ! ودفعهم هذا الأمر عن أهل بيت نبيهم وفيهم أول المؤمنين وابن عم رسول الله ، أعلم الناس وافقههم في دين الله وأعظمهم فناءً في الإِسلام وأبصرهم بالطريق وأهداهم للصراط المستقيم !
والله لقد زوُوها عن الهادي المهتدي ، الطاهر النقي ، وما أرادوا
إصلاحاً للأمة ، ولا صواباً في المذهب ، ولكن آثروا الدنيا على الآخرة فبعداً وسحقاً للقوم الظالمين .
قال : فدنوت منه وقلت : من أنت يرحمك الله ، ومن هذا الرجل ؟
فقال : أنا المقداد بن عمرو ، وهذا الرجل علي بن أبي طالب !
قال : فقلت : آلا تقوم بهذا الأمر ، فاعينك عليه ؟!
فقال : يا بن أخي ، إن هذا الأمر لا يجري فيه الرجل والرجلان !! (1)
وكان يشاركه في هذا الرأي جماعة ، منهم : أبو ذر الغفاري ، وعبد الله بن مسعود ، وعمار بن ياسر ، وغيرهم .
قال : ثم خرجت فلقيتُ أبا ذر فذكرتُ له ذلك ، فقال : صدق أخي المقداد ! ثم أتيتُ عبد الله بن مسعود ، فذكرت ذلك له ، فقال : لقد أُخبرنا ، فلم نألُ . (1)
وكان هذا الموقف يتكرر منه أكثر من مرة وفي اكثر من مناسبة بلهجةٍ تختلف ليناً وشدةً باختلاف الظروف .
روى أحمد بن عبد العزيز الجواهري . . عن المعروف بن سويد ، قال :
كنت بالمدينة أيام بويع عثمان ، فرأيت رجلاً في المسجد جالساً وهو يصفق باحدى يديه على الأخرى والناس حوله ، ويقول :
واعجباً من قريش واستئثارهم بهذا الأمر على أهل هذا البيت ، معدن الفضل ، ونجوم الأرض ، ونور البلاد ! والله إن فيهم لرجلاً ما رأيت رجلاً بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولى منه بالحق ، ولا أقضى بالعدل ولا آمر بالمعروف ولا أنهى عن المنكر !
فسألت عنه ، فقيل : هذا المقداد . فتقدمت إليه وقلت : أصلحك الله ؛ من الرجل الذي تذكر ! ؟
فقال : ابن عم نبيك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب .
قال : فلبثت ما شاء الله ، ثم لقيت أبا ذر رحمه الله فحدثته بما قال المقداد . فقال : صدق ؛ قلت : فما يمنعكم أن تجعلو هذا الأمر فيهم ؟!
قال : أبى ذلك قومهم :
قلت : فما يمنعكم أن تعينوهم ؟ !
قال : مَهْ (1) ؟ لا تقل هذا ، إياكم والفرقة والإِختلاف (2) !!
ومرةً ثالثةً نراه ينهج نهجاً أشد لا يخلو من القسوة ؛ والصراحة الزائدة في التعبير عما يجول في نفسه ، أزاء هذا الأمر ، واضعاً خصمه أمام الأمر الواقع غير متحرج ولا مداهن كما حدث ذلك بينه وبين عبد الرحمن بن عوف ـ على ما جاء في شرح النهج ـ .
قال جندب * بن عبدالله الأزدي : كنت جالساً بالمدينة حيث بويع
قال المقداد : والله إني أحبهم لحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واني لأعجب من قريش وتطاولهم على الناس بفضل رسول الله
ثم انتزاعهم من أهله !
قال عبد الرحمن : أما والله ، لقد أجهدتُ نفسي لكم .
قال المقداد : أما والله لقد تركت رجلاً من الذين يأمرون بالحق وبه يعدلون ؛ أما والله لو أن لي على قريش أعواناً لقاتلتهم قتالي إياهم ببدرٍ وأُحد !!
فقال عبد الرحمن : ثكلتك أُمك ! لا يسمعن هذا الكلام الناس ؛ ؛ فإني أخاف أن تكون صاحب فتنةٍ وفرقةٍ .
قال : المقداد : إن من دعا إلى الحق وأهله وولاة الأمر لا يكون صاحب فتنةٍ ، ولكن من أقحم الناس في الباطل وآثر الهوى على الحق ، فذلك صاحب الفتنة والفرقة ! ـ يعرّض بعبد الرحمن ـ .
قال : فتربّدَ وجه عبد الرحمن ، ثم قال : لو أعلم أنك إياي تعني ، لكان لي ولك شأن ! .
قال : المقداد إياي تهدد ، يابن أم عبد الرحمن ؟ ثم قام عن عبد الرحمن فانصرف .
قال جندب : فاتبعته ، وقلت له : يا عبد الله ، أنا من أعوانك !
فقال : رحمك الله ؛ إن هذا الأمر لا يغني فيه الرجلان ولا الثلاثة ! . . (1)
هذه هي بعض مواقف المقداد ، وتلك هي آراؤه !! انها لا تدع مجالاً للشك في أنه كان أحد المبرزين الذين لم يكونوا شيعة فقط ، بل نهضوا بالدعوة الى التشيع أو بالدعوة لعليّ ( عليه السلام ) ـ ما شئت فعبر ـ على أوسع نطاق وبأصرح عبارة ، ولم تكن مواقفه وآراؤه تلك مرهونةً بعهد معين كما ربما يتصور البعض ، بل كان هذا رأيه في علي منذ وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يتغير ولم يتبدل قط . فقد ورد في ذلك قول الشيخ المفيد رحمه الله تعالى :
« فاختلفت الأمة في امامته يوم وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقالت شيعته وهم : بنو هاشم كافة . . وسلمان وعمار . . والمقداد . . (2) .
وفي تاريخ اليعقوبي : في ذكر الذين مالوا مع علي بن أبي طالب ، عدّ منهم : « المقداد بن عمرو . . » (3) بل كان أحد الذين أطلق عليهم لفظ شيعة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما يقول السجستاني وغيره (4) ولا أرى موجباً للإِطالة في هذا الموضوع لأنه أصبح معروفاً لا يخفى على من « كان له قلب » !
الأحاديث الواردة حول بيان فضل المقداد ـ على لسان الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ جاءت شاملة له ولبعض الصحابة رضي الله عنهم ، وشذ أن تجد حديثاً مختصاً بالمقداد وحده ، لذلك فإني أقتصر في هذا المورد على ذكر الفقرات ـ من الحديث ـ التي تخص المقداد .
من ذلك ، ما ورد عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : سألت رسول الله عن سلمان الفارسي . . إلى أن قال قلت : فما تقول في المقداد ؟
قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : وذاك منا ، أبغض الله من أبغضه ، وأحب من أحبه ! (1)
وعنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه قال :
حذيفة بن اليمان من أصفياء الرحمن . . إلى أن قال : والمقداد بن الأسود من المجتهدين .
وعن أنس : ان النبي صلى الله عليه وآله سمع رجلاً يقرأ ويرفع صوته بالقرآن ! فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أوّاب * . وسمع آخر يرفع صوته ، فقال : مُرَاءٍ ! فنظرنا ، فإذا الأول المقداد بن عمرو . (2)
وعنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : الجنة تشتاق إليك يا علي والى عمار وسلمان وأبي ذر والمقداد .
وعنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إن الله أمرني بحب أربعة إلى أن قال : والمقداد بن الأسود ، وأبو ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي (1) .
وقد ورد حول قوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ) . أن الإمام الصادق قال : فوالله ما وفى بها إلا سبعة نفر (2) وعد المقداد واحداً منهم .
وجاء في حديث آخر له عليه السلام :
فأما الذي لم يتغير منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله حتى فارق الدنيا طرفة عين فالمقداد بن الأسود ، لم يزل قائماً قابضاً على قائم السيف عيناه في عيني أمير المؤمنين عليه السلام ، ينتظر متى يأمره فيمضي . (2)
نيف وثلاثون سنة ، قضاها أبو معبد فارساً في ميادين الجهاد ، ابتداءً بغزوة بدر ، وانتهاءً بفتح مصر ! وقد كانت هذه السنين هي سني التأسيس ، لذلك كانت صعبةً ومرّةً قاسيةً كابد فيها المسلمون المصاعب والمتاعب ، فكان نصيب أبي معبد منها الحظ الأوفر والكأس الأوفى حيث لم تخلو منه ساحة جهاد على ما نعهد ، فقد ورد في ذلك أنه « شهد المشاهد كلها مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبعده إلى أن أدركته الوفاة . . » (1)
وكانت وفاته في سنة 33 للهجرة أو أقل ـ على اختلاف الروايات ـ بعد أن شهد فتح مصر ، وقد بلغ من العمر سبعين سنة (2)
فقد كانت له أرض في مكان قريب من المدينة يقال له : الجرف * وكان يتعاهدها زراعةً وسقياً يقضي فيها أوقات فراغه مالم يؤذن بجهاد ! وفي ذات يوم تناول جرعةً من زيت « الخروع » فأضرت به ، فمات منها (3) . فنقل على أعناق الرجال حيث دفن بالبقيع (4) وكان قد أوصى
معرضاً بالعداء الذي كان بينه وبين المقداد ، فقال عثمان :
يا زبير ؛ تقول هذا ؟ ! أتراني أحب أن يموت مثل هذا من أصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو عليّ ساخط !! (2)
وكان عمار قد صلى على ابن مسعود من قبل ولم يؤذن به عثمان ، فساءه ذلك واشتد غضبه على عمار ، وقال : « ويلي على ابن السوداء ! أما لقد كنت به عليما » (3) .
روى عنه من الصحابة :
علي عليه السلام ، وابن عباس ، والمستورد بن شداد ، وطارق بن شهاب ، وغيرهم .
ومن التابعين :
عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وميمون بن أبي شبيب ، وعبد الله بن عدي بن الخيار ، وجبير بن نفير ، وغيرهم . (1)