لقد نفذ احفاد ابي طالب كل وصاياه ووقفوا في وجه اولئك الجلادين والفراعنة أحفاد ابي سفيان يناضلون ويدافعون عن رسالة محمد وتعاليم محمد بنفس الروح والعزيمة التي كان جدهما ابا طالب يدافع ويناضل بهما ويقول لابن اخيه : ولقد علمت بأن ديـن محمد * مـن خير اديان البرية دينا ان ابا طالب الذي وقف إلى جانب الدعوة ودافع وناضل عنها وعن صاحبها بكل ما لديه من مال وجاه وقوة منذ ان بزغ فجرها ولم يتنازل عن مواقفه منها بالرغم من مغريات قريش وجبروتها وفي الوقت ذاته كان يعلن بكل مناسبة بأن دين محمد من خير أديان البرية ويأمر بنيه ذويه بالسير على خطا باعثها وحاميها واعتناق الإسلام ، ان ابا طالب صاحب هذه المواقف الكريمة الخالدة لقد مات كافرا وفي ضحضاح من نار عند اخواننا اهل السنة ومعاوية وأبا سفيان اللذين لم يفارقا الأصنام ولم يتنازلا عن وثنيتهما لحظة واحدة كما تؤكد ذلك مواقفهما من الإسلام وحماة الإسلام في عشرات المناسبات ، ماتا مسلمين مؤمنين ومن عدول الصحابة . وعشرات الشواهد تدل على ان ابا طالب سلام الله عليه لا ذنب له عند الامويين ورواتهم ومحدثيهم إلا انه والد الإمام علي بن ابي طالب الذي ضعضع كبريائهم وداس عنصريتهم ووثنيتهم بقدميه في بدر وأحد والأحزاب ، وفضح مخططاتهم في سيرته وسلوكه وسياسته ، ولو استطاعوا ان يلصقوا به الشرك لم يقصروا ، ومع ذلك فقد وضع لهم ابو هريرة وابن جندب وكعب الأحبار والزبيريون وابن شهاب الزهري عشرات الأحاديث في ذمه وتجريحه ولعنوه على منابرهم نحواً من مائة عام ولكنهم كانوا بما اقترفوه في حقه كأنهم يأخذون بضبعه إلى السماء وكأنهم كانوا ينشرون جيف الحمير فيما وضعوه من الأحاديث في فضل بعض الصحابة والأمويين على حد تعبير الشعبي وعبدالله بن عروة لولديهما . ومهما كان الحال فستبقى مواقف انصار الحسين وشباب كربلاء بالذات في سبيل الحق والمبدأ والعقيدة مثلا كريماً لكل ثائر على الظلم والجور والطغيان إلى حيث يشاء الله وسلام الله عليهم وعلى جدهم ابي طالب حين ولدوا وحين استشهدوا وحين يبعثون مع الأنبياء والصديقين وشهداء بدر وأحد ورحمته وبركاته . ونتمنى على شبابنا الذين ينشدون التحرر من الاستغلال والاستعباد وتسلط الحاكمين ان يرجعوا إلى تعاليم الإسلام وسيرة اهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم من وثنية الأمويين وعنصريتهم ومن كل ما هو غريب عن الإسلام وبعيد عنه ونتمنى عليهم ان يرجعوا ايضاً إلى مدرسة كربلاء ليقتدوا بشبابها الذين كانوا ثورة عارمة على الظلم والتسلط والاستغلال واستعباد الانسان لأخيه الانسان وسيجدون فيها وفي الإسلام ما يغنيهم عن تلك المبادئ المستوردة من هنا وهناك والتي تنطوي على اسوأ انواع التسلط واستعباد الشعوب باسم الحرية والعدالة والديمقراطية وما إلى ذلك من الشعارات البراقة الجوفاء التي يتاجرون فيها لتضليل الشعوب والبريئين من الناس ومنه سبحانه نستمد لهم الهداية والوعي السليم ليدركوا ما تنطوي عليه تلك المبادئ من تضليل وهدم للقيم والأخلاق واستغلال للضعفاء انه قريب مجيب . لقد اوصى الحسين اهل بيته بالصبر بعد ما استشهد جميع اصحابه ولم يبق معه إلا اولئك الشباب من ولده وولد علي وجعفر وعقيل والحسن السبط فاجتمعوا يودع بعضهم بعضاً وهم في مطلع شبابهم كالأسود الضواري واثبت من الجبال الرواسي : اقاموا بها كالمزن فاخضر وعدها * وأعشب مــن اكنافها كـل ماحـل زهت ارضها من شر كل شمردل * طـويل نجاد السيف جلـو الشمائـل كأن لعزرائيـل قـد قـال سيفـه * لك السلـم موفوراً ويـوم الكفاح لي حموا بالظبي ديـن النبي وطاعنوا * ثبـاتا وخـاضت جـردهم بالجحافل ولمـا دنـت اجـالهم رحبـوا بها * كـأن لهـم بـالمـوت بلغـة آمـل عطاشي بجنب النهر والماء حولهم * يبـاح إلـى الـوراد عـذب المناهل فلم تفجع الايام مـن قبـل يومهم * بـأكــرم مقتـولاً لالأم قـاتــل ورحم الله من قال في وصفهم : يحيـون هنـدي السيوف بأوجـه * تـهلل مـن لـئلاء طلقهـا الـبشير يـلفـون احـاد الالـوف بمثلهـا * اذا حـل مـن معقـود رايـاتها نشر بيوم بـه وجـه المنـون مـقطب * وحـد المـواضي بـاسم الثغـر يفتر إذا اسـود يـوم النقع اشرقن بالبها * لهـم اوجـه والشـوس الوانها صفر وما وقفوا في الحرب إلا ليعبـروا * إلى المـوت والخطي مـن دونه جسر يكـرون والابطـال نكسا تقاعست * مـن الخـوف والأسـاد شيمتها الكر إلى ان ثووا تحت العجاج بمعـرك * هو الحشر لا بل دون مـوقفه الحشر وماتوا كرامـا تشهد الحرب انهـم * ابـاة إذا الـوى بهــم حـادث نكر إبـا حسن شكـوي اليـك وانهـا * لـواعـج أشجان يجيش بهـا الصدر أتدري بما لاقت مـن الكرب والبلا * وما واجهت بالطف ابناؤك ابن اؤك الغر فكـم نـكأت منكـم أميـة قرحـة * إلى الحشر لا يأتي على جرحها السبر فمـن صبيـة قـد أرضعتهـا أمية * ضـروع المنـايا والدمـاء لهـا در فها هي صرعى والسهام عـواطـف * حنـوا عليهـا والرمـال لها حجـر وزاكيـة لـم تلق فـي النوح مسعداً * سـوى انهـا بالسوط يـزجرها زجر ومذهولة من دهشة الخيـل ابـرزت * عشيـة لا كهـف لـديها ولا خـدر تجـاذبهـا أدي العـدو خمـارهـا * فتستر بـالأيـدي اذا اعـوز الستـر سرت تتـراماهـا العـداة سوافـراً * يـروح بهـا مصر ويغدوا بها مصر تطـوف بها الاعداء فـي كل مهمه * فيجـذبهـا قفـر ويقـذفهـا قفــر بطلة كربلاء زينب بنت علي (ع)وليس بغريب على تلك الذات العملاقة التي التقت فيها الأنوار الثلاثة : نور محمد وعلي وفاطمة ومن تلك الأنوار تكونت شخصيتها ان تجسد بمواقفها خصائص النبوة والامامة وأمها الزهراء التي امتازت بفضلها على نساء العالمين . ان اللسان ليعجز وان اللغة على سعة مفرداتها لتضيق عن وصفها وعن التعبير عما ينطوي عليه الإنسان من الشعور نحو المرأة الكبيرة والقدوة العظيمة ابنة علي والزهراء التي عز نظيرها بين نساء العرب والمسلمين بعد أمها البتول سيدة نساء التي ابتسمت للموت حين بشرها به الرسول الامين في الساعات الاخيرة من حياته وقال لها : انت اول اهل بيتي لحوقا بي . ان الالمام بحياة بطلة كربلاء في عهود الطفولة والصبا والامومة وكيف نشأت طفلة وشابة برعاية امها الزهراء وأبيها الوصي وفي بيت زوج كريم من كرام أحفاد ابي طالب ، وبعد ان اصبحت أما لأسرة غذتها بتعاليم الإسلام وأخلاق امها وأبيها يضطرنا الى التطويل الذي يعرض القارىء للملل في الغالب ، وفي الوقت ذاته فان الحديث عن بطولاتها التي لا تزال حديث الاجيال والتي تجلت في رحلتها مع اخيها تاركة بيتها تحث الخطا خلفه في رحلته الى الشهادة لتعلم الرجال والنساء كيف يموتون في مملكة الجلادين يضع بين يدي القراء صورة كريمة عن ذلك الغرس الطيب وعن مراحل نموه حتى بلغ الى هذا المستوى من النضوج والقدرة على الثبات والصمود في وجه تلك الإحداث التي لا يقوى على تحملها احد من الناس . ومهما كان الحال فلعلنا بعد هذا الفصل نتوقف لإعطاء فكرة كافية عن ذلك الغرس الطيب وكيف نما وتكامل نموه حتى بلغ أشده ونهض بأعباء المسؤولية العظمى وأدى دوره الكامل عندما وقعت تلك المأساة الكبرى التي حلت بالعلويين والطالبيين رجالاً ونساء على تراب كربلاء ، وكيف استطاعت ان تتحمل تلك الصدمة وتقوم بدورها الكامل بالحكمة والصبر الجميل ذلك الدور الذي يمثل اسمى درجات البطولة وأغناها بالقيم والمثل العليا ، لعلنا بعد هذه اللمحات عن مواقفها في كربلاء تتحدث في فضل مستقل عن مراحل حياتها التي أهلتها لتلك المواقف التي لا تزال حديث الاجيال . لقد ثبتت في ذلك الموقف كالطود الشامخ تاركة على تراب كربلاء آثار مسيرتها ومواقفها بين تلك الضحايا التي لا تزال حديث الاجيال ومثلا كريما لكل ثائر على الظالم والجور وللمرأة التي تعترضها الخطوب والشدائد خلال مسيرتها في هذه الحياة . لقد كان عويل النساء وصراخ الصبية وضجيج المنطقة كلها بالبكاء والنياحة كفيلا بأن يهد اقوى الاعصاب ويخرس أفصح الالسنة والخطباء ويقعد بأكبر الرجال ولو لم يكن يتصل بتلك الضحايا بنسب او سبب ، فكيف بمن رأى ما حل بأهله وبنيه واخوته وأبناء اخوته وعمومته وأحس بثقل المسؤولية وجسامتها ، ولكن ابنة علي ذلك الطود الاشم الذي كان أثبت من الجبال الرواسي في الشدائد كانت تجسد مواقف ابيها في كل موقف تتزلزل فيه أقدام الابطال وبقيت ليلة العاشر من المحرم ساهرة العين تجول بين خيام اخوتها وأصحابهم وتنتقل من خيمة الى خيمة وهم يستعدون لمقابلة ثلاثين الف مقاتل قد اجتمعوا لقتال اخيها وبنيه وأنصاره ورأت اخاها العباس جالساً بين اخوته وأحفاد ابي طالب وهو يقول لهم : اذا كان الصباح علينا ان تتقدم للمعركة قبل ان يتقدم اليها الانصار لان الحمل الثقيل لا ينهض به إلا اهله . وفي طريقها الى خيام الانصار سمعت حبيب بن مظاهر يوصيهم بأن يتقدموا إلى المعركة حتى لا يرون هاشمياً مضرجاً بدمه ، وسمعت الانصار يقولون : ستجدنا كما تريد وتحسب يا ابن مظاهر ، فانطلقت نحو خيمة اخيها الحسين (ع) وهي تبتسم وقد غمرها السرور وطفا منه على وجهها اثر رد عليه لمحة من بهائه وصفائه ومضت تريد اخاها الحسين لتخبره بما رأت وسمعت من اخوتها والأنصار وما هي إلا خطوات حتى رأته مقبلاً فابتسمت له وتلقاها مرحباً وقال لها : منذ ان خرجنا من المدينة ما رأيتك مبتسمة ولا ضاحكة فما الذي رأيت ، فقصت عليه ما سمعته من الهاشميين وأنصارهم وظلت الععقيلة ليلتها تلك ساهرة العين تنتقل من خيمة الى خيمة ومن خباء الى خباء بين النساء والأطفال واخواتها حتى إذا اقبلت ضحوة النهار وسقط اكثر انصار اخيها ومن معه من بنيه واخوته وابناء عمه على ثرى الطف ، ورجع الحسين للوداع الاخير وزينب على جانبه كالمذهولة قال لها : مهلا اخيه لاتشقي علي جيبا ولا تخمشي علي وجها ولا تشمتي بناء الاعداء ، وأوصاها بالنساء والاطفال ، فقالت له : طب نفسا وقر عينا فانك ستجدني كما تحب ان شاء الله . ولما سقط عن جواده صريعا اسرعت على مصرعه وصاحت تستغيث بجدها وأبيها وأوشكت الصرخة ان تنطلق من حشاها اللاهب عندما رأت رأسه مفصولا عن بدنه والسيوف والسهام قد عبثت بجسمه وقلبه ورأت اخوتها وبنيها وأبناء عمومتها من حوله كالاضاحي ومعها قافلة من النساء والاطفال وأمامها صفوف الاعداء تملأ صحراء كربلاء فرفعت يديها في تلك اللحظات الحاسمة نحو السماء لتند عن فمها عبقة من فيض النبوة والخلود تناجي ربها وتتضرع اليه قائلة : اللهم تقبل منا هذا القربان . وهكذا كان على العقيلة ان تنفذ وصية اخيها وتثبت في وجه تلك الاهوال وأن تحمل قلبا كقلب ابيها في غمار جولاته وتقف كالطود الشامخ في وجه اولئك الذين وقفوا إلى جانب يزيد بن ميسون وجلاديه الممعنين في انتهاك الحرمات والمقدسات والذين باعوا ضمائرهم لاولئك الطغاة الجناة بأبخس الاثمان . ويقطع الحادي الطريق من كربلاء إلى الكوفة والسبايا على اقتاب الجمال تتقدمهم رؤوس سبعين من الانصار وعشرين من أحفاد ابي طالب بينهم رأس الحسين سيد شباب اهل الجنة ، وما ان أطل موكب السبايا والرؤوس ودنت طلائعه من مداخل الكوفة حتى ازدحم الناس في الطرقات ومن على المشارف والنساء على سطوح المنازل ولم يكن نبأ مصرع الحسين قد انتشر في جميع اوساط الكوفيين وأشرفت امرأة من على سطح بيتها فرأت نساء كالعاريات لولا أسمال من الثياب تقنعن بها فظنت المرأة انهن من سبايا الروم او الديلم وأرادت ان تستوثق لنفسها من الظن فطالما كانت ترى مواكب من سبايا الروم والترك تمر بالكوفة لم تر مثل ما رأت على هذا الموكب من الحزن واللوعة ، ولم تر قبل اليوم اسرى مع تلك المواكب من الصبيان يشدون بالحبال على اقتاب الجمال كما رأت في هذا الموكب فأدنت المرأة رأسها من احدى السبايا وقالت لها : من أي الاسارى انتن ؟ فردت عليها والالم يقطع أحشاءها : نحن اسارى آل بيت محمد رسول الله . وما كادت المرأة تسمع قولها حتى خرجت مولولة معولة وكادت ان تسقط من على سطحها من هول الصدمة والتفتت إلى النساء اللواتي على سطوحهن وقالت : انهن نساء اهل البيت ، فتعالى الصياح عند ذلك من كل جانب حتى ارتجت الكوفة بأهلها ولفت نواحيها صرخات متتالية كأنها العواصف في أرجائها والتف النسوة بالموكب يقذفن عليه الارز والمقانع ليتسترن بها بنات علي وفاطمة عن أعين الناس وغصت الطرقات بالنساء والرجال يبكون ويندبون فالتفتت ابنة علي وفاطمة اليهم ببصرها النافذ وقالت : يا اهل الكوفة يا اهل الغدر والختل والمكر أتبكون فلا رفأت الدمعة ولا هدأت الرنة انما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً وهل فيكم إلا الصلف وملق الاماء وغمز الاعداء الا ساء ما قدمت لكم انفسكم ان سخط الله عليكم وفي العذاب انتم خالدون فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً فلقد ذهبتم بعارها وشنارها بعد ان قتلتم سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شباب اهل الجنة . ويسير الموكب متخطياً تلك الحشود من الرجال والنساء إلى قصر الامارة ليضمها مجلس ابن مرجانة فتجلس متنكرة مطرقة يحف بها موكب النسوة في ذلك المجلس الذميم وهو ينظر اليها ببسمة الشامت المنتصر ويسأل من هذه المتنكرة فلا ترد عليه احتقاراص وازدراء لشأنه ، وأعاد السؤال ثانيا وثالثاً فأجابته بعض امائها : هذه زينب ابنة علي ، فانطلق عند ذلك بكلمات تنم عن لؤمة وحقده وخسته قائلا : الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم ، فردت عليه غير هيابة لسلطانه ولا لجبروته قائلة : الحمد لله الذي اكرمنا بنبيه وطهرنا من الرجس انما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا ثكلتك امك يا بن مرجانة . فقال لها وقد استبد به الحقد والغضب : كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك ؟ قالت : ما رأيت إلا جميلاً ، اولئك قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم وتختصمون عنده وستعلم لمن الفلج ثكلتك امك يا بن مرجانة . ويأبى له حقده وصلفه الا ان يتناول قضيباً كان الى جانبه ليضربها به ، ولكن عمرو بن حريث احد جلاوزته نظر الى الوجوه قد تغيرت على ابن مرجانة وايقن ان عملاً من هذا النوع سيلهب المشاعر لاسيما وان النفوس قد اصبحت مشحونة بالحقد والكراهية ومهيأة للإنفجار بين الحين والآخر لما حل بالحسين وبنيه وأصحابه فحال بين ابن مرجانة وما اراد فرمى القضيب من يده وعاد يخاطبها بلغة الشامت الحاقد ويقول لها : لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين والعتاة المردة من اهل بيتك ، فبكت عند ذلك وقالت : لعمري لقد قتلت كهلي وقطعت فرعي واجتثثت اصلي فان يكن في ذلك شفاؤك فقد اشتفيت . ثم يأتيه البريد بكتاب يزيد يأمره ان يحمل السبايا والرؤوس والاطفال الى قصر الخضراء في دمشق عاصمة الجلادين ، ويسير الحداة بموكب السبايا الى حيث ابن ميسون في اعتساف وارهاق في الليل والنهار ليقطع موكب الرؤوس والسبايا مسافة ثلاثين يوما في عشرة ايام ، ويضم العقيلة مجلس يزيد ورأس الحسين بن علي والزهراء بين يديه ينكث ثناياه بمخصرته ويتمثل بقول القائل : لأهلــوا واستهلـوا فـرحاً * ثـم قـالوا يـا يزيد لا تشل لـعبـت هـاشم بالملك فلا * خبـر جـاء ولا وحي نـزل لست من خندق ان لـم أنتقم * مـن بنـي احمد ما كان فعل وكان على زينب وقد رأته بتلك الحالة فرحا مسروراً يتمثل بهذه الابيات التي تعبر عن حقده وتعصبه لجاهلية جده وأبيه ووثنيتهما ويعبث بثنايا ابي عبدالله الحسين بمخصرته ان تتكلم بين تلك الحشود المجتمعة في مجلسه لتحرق دنيا سروره وفرحه بكلماتها التي كانت أشد وقعا عليه من الصواعق والتضع الكثيرين ممن كانوا يجهلون مكانة الاسى ولا يعرفون عنهم شيئا في جو تلك الاحداث وافتتحت كلامها بعد حمد الله بقولها : أظننت يا يزيد حيث اخذت علينا أقطار الارض وآفاق السماء وأصبحنا نساق كما تساق الاسارى ان بنا على الله هوانا وبك عليه كرامة ، ومضت في حديثها وأبصار تلك الحشود المحيطة بيزيد شاخصة اليها تذكرهم بمنطق ابيها ومواقفه بين المعسكرين في صفين حينما كان يخاطب معاوية وحزبه ويناشدهم الرجوع عن غيهم وضلالهم الى حظيرة الاسلام وعدالته السمحاء . ومضت تقول : أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك اماءك وحرائرك وسوقك بنات رسول الله سبايا قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن تحدو اليهن الاعداء من بلد الى بلد ويستشرفهن اهل المناهل والمعاقل يتصفح وجوههن القريب والبعيد والدني والشريف وتتمنى حضور آباءك قائلا : لأهلـوا واستهلـوا فـرحـا * ثـم قالـوا يـا يزيد لا تشل منحنيا على ثنايا ابي عبدالله سيد شباب اهل الجنة تنكثها بمخصرتك وستردن وشيكا موردهم وتودن انك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت ، ومضت في خطابها توجه اليه اسوأ انواع التحقير والتقريع حتى سيطرت على المجلس بمنطقها وأسلوبها الرائع ، وراح الناس يتهامسون ويتلاومون وبكى بعضهم لهول المصاب وجسامته . واستطردت العقيلة تقول : ولئن جرت على الدواهي مخاطبتك اني لأستصغر قدرك توبيخك ، ألا فالعجب العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء . لقد دخلت زينب ابنة على وفاطمة الى عاصمة الجلادين برسالتها رافعة صوتها الى كل من لهم عهد مع اهل هذا البيت وكل من آمنوا برسالة محمد في عصر وجيل وأرض ووراءها قافلة من الاسرى وصفوف العداء من امامها تملأ الافق وتسد طريقها وكانت مسؤوليتها التاريخية الكبرى هي اكمال الرسالة واتمام المسيرة ولسانا لمن قطعت ألسنتهم سيوف الجلادين ودخلت مدينة الجريمة عاصمة القهر والبطش والتنكيل بالابرياء وهناك رفعت صوتها المدوي في أعماق التاريخ لتقول لابن ميسون مستخفة به بكل ما في الاستخفاف والاحتقار من معنى .
انها الدواهي التي لا تترك للإنسان رأيا ولا اختياراً وتسيطر على كل مشاعره وأحاسيسه هي التي فرضت عليّ ان أخاطبك يا بن ميسون ويا ربيب الشرك والوثنية ولولا تلك الدواهي الجسام لما خاطبتك ولا يمكن لذكرك ان يمر في خاطري ولو بما هو فيك ما صلف وخسة ونزق ووحشية . هذا الذي تعنيه بطلة كربلاء بقولها لذلك الجبار الاحمق الذي تمنى حضور أشياخه من أمية ومشركي مكة ليشاهدوا رأس الحسين بين يديه وليشاطروه الفرح والسرور وهو ينكث ثناياه بمخصرته ، هذا الذي كانت تعنيه من قولها ولئن جرت على الدواهي مخاطبتك وحضور مجلسك .
|