لقد عاش ابن رسول الله وابن عم الخليفة مشردا متنكرا ينفر من الانس كما ينفر من الوحوش الضواري لا لشيء الا لأنه كان عالما عاملا بما امر الله ويطالب بالحق والعدل ، وعاش المخنثون والعاهرات وأهل الفسق والجور في دعة وأمان يوفر لهم الخليفة وأعوانه جميع الملذات ويغدق عليهم الأموال بلا حساب ، ومضى المهدي العباس وهو يتتبع فلول العلويين ليتشفى بقتلهم والتنكيل ، ومضى المهدي العباسي وهو يتتبع فلول العلويين ليتشفى بقتلهم والتنكيل بهم وترك الحكم لولده موسى الملقب بالهادي وكان كما يصفه المؤرخون قاسي القلب شرس الاخلاق يتلذذ بالتنكيل بأبناء عمومته العلويين وغيرهم من الصلحاء والبرياء ، وفي عهده كان على المدينة رجل من ولد عمر بن الخطاب يتحامل على الطالبيين ويسومهم صنوف الألوان من العذاب ويفرض عليهم الاقامة الجبرية في المدينة على ان يثبتوا وجودهم لدى السلطة الحاكمة بين الحين والاخر ويلصق بهم التهم المشينة كالخمر والفجور ونحو ذلك ليبرر اساءته اليهم ، وفي عهده كانت معركة فخ التي قتل فيها اكثر من مائة وخمسين علويا قيادة الحسين بن علي بن الحسن كما اشرنا الى ذلك في الفصول السابقة ، والحسين قائد المعركة في فخ امه زينب بنت عبدالله بن الحسن بن الحسن ابن امير المؤمنين علي بن ابي طالب ، وقد قتل المنصور اباها واخوتها وعمومتها وزوجها علي بن الحسن وقتل حفيد المنصور ابنها الحسين وكانت تلبس المسوح على جسدها لا تلبس بينها وبينه شيئاً حتى لحقت بالله باكية نادبة . وما اشبهها بالعقيلة الكبرى زينب ابنة علي (ع) فلقد اشترك معاوية في قتل ابيها وقتل اخاها الحسن بالسم وقتل ولده يزيد بن ميسون اخاها الحسين وولداها عونا ومحمدا وأخيها العباس وخمسة عشر شابا من اولاد اخوتها وبني عمومتها وظلت تندبهم حتى ماتت كمدا وحزنا ، وقد لاقت تلك ما لا قته من اعداء رسالة جدها الأمويين وهذه لاقت ما لاقته من ابناء عمومتها الذين قامت دولتهم على حساب العلويين ورحم الله القائل : وهلك موسى الهادي بعد مضي خمسة عشر شهراً من حكمه ليترك الحكم لاخيه هارون الرشيد الذي مثل أدوار جده المنصور مع العلويين وشيعتهم وأدوار الأمويين في الفسق والفجور والملاهي ونثر الملايين من الدنانير تحت أقدام الراقصات والمغنيات العاهرات ، ومع انه كان من اسوأ حكام تلك الاسرة الظالمة فقد شاع عنه انه كان من أعظم ملوك العالم شأنا وأسماهم مكانة ، وتحدث المؤرخون والناس عن شهرته وأدواره في تشجيع العلوم والآداب وادارة شؤون الملك وبناء المساجد والقناطر والمستشفيات وما الى ذلك من المشاريع العمرانية والاقتصادية التي تشبه الاساطير ، وألبسته تلك الاساطير ثوبا فضفاضا من العظمة والجلالة تركته في الاذهان من اعاظم ملوك العالم وأقواهم ، في حين انه كان كغيره من السلاطين منصرفا الى الملذات والشهوات والجواري والتنكيل بالعلويين وكل من ينكر عليه جوراً وظلما وفسادا في الأرض ، وفي الوقت ذاته كان محظا وموفقاً بتلك الاسرة الكريمة البرامكة التي كانت تدير شؤون الدولة وتعمل ليل نهار لبنائها وادارة شؤون البلاد ، وكانت مقدرة تلك الاسرة ونزاهتها ونزعة التشيع التي ظهرت عليها هي السبب لا نزال تلك النكبة بها واستئصالها ولا صحة لما يرويه المؤرخون عن قصة اخته العباسية وزواجها المشروط من جعفر البرمكي وحملها منه الذي اغضب الرشيد بل هو من الاساطير المفتعلة لتغطية تلك الجريمة وتبرير ما أنزله فيهم من الظلم والتنكيل ، ولعل نزعة التشيع التي ظهرت في بعض تصرفاتهم ومواقفهم من بعض العلويين كان لها الدور الاكبر في القضاء عليهم واستئصالهم . ومهما كان الحال فلقد جاء في ثمرات الاوراق والاغاني ان الرشيد كان منصرفا الى الملذات والشهوات وانه اول خليفة لعب بالصولجان والشطرنج والنرد وكان من ذلك مصمما على القضاء على العلويين واستئصالهم على حد تعبير المؤلف . ستون شهيداًفعل بأصحابه . وجاء في مقاتل الطالبيين عن ابراهيم بن رياح ان الرشيد حين ظفر بيحيى بن عبدالله بن الحسن بنى عليه أسطوانة وهو حي كما كان يفعل جده المنصور معهم ، وأضاف الى ذلك مؤلف أخبار عيون الرضا : ان المنصور لما بنى الابنية ببغداد جعل يطلب العلويين طلباً شديدا ويضع من ظفر به منهم في الاسطوانات المجوفة المبنية من الجص والآجر فظفر ذات يوم بغلام منهم حسن الوجه اسود الشعر من ولد الحسن بن علي (ع) فسلمه الى الباني وأمره ان يجعله في جوف اسطوانة ويبني عليه ووكل من يراقبه في ذلك وحين اراد الباني ان يدخله حيا الى الاسطوانة اخذته الرقة والشفقة فأدخله الاسطوانة وترك فيها فرجة صغيرة يدخل منها الهواء وقال للغلام لا بأس عليك فاجر فاني سأخرجك في جوف الليل ، وفي الليل جاءه وأخرجه وقال له اتقي الله في دمي وغيب وجهك فاني قد اخرجتك خوفا من ان يكون جدك خصمي يوم القيامة ، فقال له الغلام : سأفعل ولكن أريد منك ان تذهب الى امي وتخبرها بأني قد نجوت ، فذهب الباني الى الموضع الذي وضع له فسمع فيه البكاء والنحيب فدخله وأخبرها بنجاة ابنها . وطلب الرشيد يحيى بن عبدالله بن الحسن وكان قد فر منه الى الديلم واجتمع عليه الناس وأخيرا استسلم الى الرشيد بعد ان اعطاه الامان والعهود بأن لا يمسه بسوء ولكنه لم يف بعهوده ولا بمواثيقه وقتله بفتوى بعض الشيوخ الذين أفتوه بأن عهوده لا يجب الوفاء بها وحبس محمد بن يحيى بن عبدالله وقتله في حبسه كما ضرب الحسين ابن اسماعيل بن عبدالله بن جعفر ضربا مبرحا حتى مات ودخل عليه احد العلويين من نسل الحسين (ع) فقذف هارون امه فرد عليه العلوي بالمثل فأمر جلاديه بقتله فضربوه بعمود من حديد فمات لأول ضربة وأخيرا لم يستطع ان يرى الإمام موسى بن جعفر طليقا يتابع رسالته والشيعة يزدحمون على بابه فأرسل جلاوزته اليه وهو الى جانب قبر جده رسول الله فأخرجوه ووضعوا سلاسل الحديد في يديه ورجليه وأرسله الى البصرة وكان عليها عيسى بن جعفر بن المنصور فوضعه في سجنه سنة كاملة فانصرف الى العبادة فكتب عيسى بن جعفر الى الرشيد : اني قد اجتهدت ان آخذ عليه حجة فما قدرت على ذلك وما وجدته خلال هذه المدة الا صائماً مصليا فان لم تستلمه خليت سبيله ، فاستدعاه الرشيد ووضعه في سجون بغداد وأخيرا دس اليه السم القاتل بواسطة السندي ابن شاهك ، الى غير ذلك من الجرائم التي ارتكبها مع العلويين هو وغيره ممن حكم بعده من العباسيين وقد عرضت بعض الجوانب من سيرتهم مع العلويين أحياء وأمواتا بنحو لم يسبقهم اليه الامويون من قبل خلال حديثنا عن المآتم الحسينية في الفصل السابق ويجد المتتبع لتاريخ الحاكمين في تلك العصور عشرات الشواهد على ان العباسيين كانوا أشد على ابناء عمومتهم العلويين من الأمويين وغيرهم من الحاكمين لانهم لم يستطيعوا بسط هيبتهم الا بنسيان العفو واستعمال العقوبة كما قال المنصور لابن عمه عبد الصمد بن علي بن عبدالله . ومن مجموع ذلك يتبين ان الانسان مهما بلغ من المرتبة والعظمة اذا لم يكن معصوما مسير لمصالحه وأهوائه والمصالح وحدها هي التي تكيفه وتخلق منه بعد وجودها انسانا اخر ويتحول من حقيقته قبل الحكم وغيره من المصالح الى حقيقة اخرى بعد ان يصبح حاكما . لقد انحدر الامويون والهاشميون من اب واحد وأم واحدة ولما شب وترعرع هاشم ونبغ من بين اخوته وبخاصة أمية صاحب الطموح استحكم الصراع والعداء بينه وبين هاشم على الزعامة ومضى يتصاعد مع الزمن واتساع شهرة هاشم الى ان اصبح العداء أصيلا بين الحيين ، وبعد ان ظهر محمد بن عبدالله (ص) برسالته ودعوته اتسع العداء بين الحيين واكتسب أبعاداً جديدة لان الاسلام يقضي على جميع امتيازات الحزبين القرشي والأموي ، وبلا شك لو ان قريشاً وجدت ان الإسلام لا يتعارض مع مصالحه لم تقف منه ذلك الموقف ، ولو ان عليا (ع) صاحب الحق الشرعي في الخلافة وقف من المهاجرين الذين استولوا على الخلافة بعد وفاة النبي (ص) موقفاً أشد صرامة واستمر عليه لوقفوا منه نفس الموقف الذي وقفه الحزب الاموي منه ومن ولديه الحسن والحسين وشيعتهم ، ولكنه كان مسيرا لمصلحة الإسلام وقد وجد ان مصلحة الإسلام تفرض عليه ان يهادن ويسالم ويقف الى جانبهم لإرساء قواعده وانتشاره ، وما كان من الامويين معه ومع ولديه وشيعتهم لم يكن من اجل العداء المستحكم بين الحيين بل من اجل الملك والحكم الذي يغير حقيقة الانسان قريباً كان او بعيداً ، وبلا شك فان البيت العباسي كان على وفاق تام مع البيت العلوي وكان يحس بأحاسيسهم ويتلوى لما اصابهم من الامويين والزبيريين ، وحينما تجسدت له الآمال بالوصول الى السلطة والحكم وانهارت دولة الأمويين وتمت البيعة للسفاح تصوروا ان خطر ابناء عمومتهم على ملكهم من أشد الاخطار ومن اجل ذلك تتبعوهم بالقتل والتشريد وقتل منهم المنصور وحده الفا ويزيدون ولو كان الحسين ابن علي موجودا في عهدهم لقتلوه وأصحابه ونساءه وأطفاله ومثلوا بهم كما كانوا يصنعون مع الأمويين ولو حكم العلويون من ابناء الحسن والحسين فلا أستبعد ان يصنعوا مع من يخافون منهم على حكمهم ما كان يصنعه معهم ابناء عمومتهم لان لمصالح وبخاصة ما كان منها من نوع الحكم والزعامة هي التي تكيف الانسان علويا كان او أمويا وتجعل منه انسانا اخر ما لم يكن معصوما او حائزاً على مرتبة عالية من العدالة تجعله قادراً على التحكم بميولة وأهوائه وحتى ان الزعيم الدين لا يبقى على ما كان عليه قبل الزعامة ويصبح وكأنه انسان اخر بالقياس الى ما كان عليه قبل زعامته ومن اجل ان الانسان حينما يصل الى الحكم والسلطة يصبح انسانا اخر مسيرا لمصالحه كانت العصمة او المرتبة العليا من العدالة من الضرورات الاولية التي لا بد منها في الحاكم . وسلام الله على الامام الصادق الذي قال : والله ما ذئبان ضاريان في زريبة غنم باشد فتكا في تلك الزريبة من فتك الجاه والمال في دين المسلم . وصدق من قال :
|