وفـي حصـار الطـائف. . (1)
بعد أن فرغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من فتح مكة واستقامت له الأمور فيها ، قام بإرسال السرايا نحو القبائل المجاورة لمكة لتطهير المنطقة من عبادة الأوثان ونشر راية التوحيد ، وكانت الظروف مهيأةً له بالنسبة لذلك .
وفي ذات يوم بلغه أن « هوازن » وأحلافها من « ثقيف » و « وجشم » و « نصر » قد ساءهم إنتصاره بمكة وقدّرُوا أن الدائرة ستدور عليهم ، وأن المسلمين سيقتحمون عليهم بلادهم ، فاجتمعوا فيما بينهم وقرروا القيام بمبادرة عسكرية لصد الهجوم المرتقب من النبي وأصحابه ، فبلغ عددهم مجتمعين نحو ثلاثين ألف مقاتل أو أكثر ، ونزلوا بسهل « أوطاس » المعروف « بحنين » بقيادة مالك بن عوف .
وتجهز النبي صلى الله عليه وآله وسلم لملاقاتهم ومعه نحو عشرة آلاف مقاتل ، وبدأت الحرب بين الفريقين ونظراً لتفوّق المشركين عددياً ، ووجود بعض المنافقين والمتخاذلين ومن أسلموا رهبةً في صفوف المسلمين ، فقد رجحت كفّةُ المشركين عسكرياً وحلّت الهزيمة في صفوف المسلمين ولولا ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخروجه إلى المعركة بنفسه وثبات بعض أصحابه معه وتذكير المسلمين ببيعتهم للرسول صلى الله عليه وآله وسلم تحت الشجرة وحثهم على
____________
(1) راجع التكامل 2 / 266 ـ 267 وسيرة المصطفى 621 بتصرف .
(94)
مواصلة الكفاح لولا هذا لكانت هزيمتهم محتمةً والفشل حليفهم ، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ، فقد انتهت المعركة بنصر المسلمين ، وفي ذلك نزلت الآية الكريمة :
« ويومَ حُنَينٍ إذ أَعجبتكم كثرَتُكُم فلم تُغنِ عَنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرضُ بما رَحُبَت ثم وَلَّيتم مدبرين ثم أنزلَ اللهُ سكينتَهُ على رسُولِهِ وعلى المؤمنينَ وأنزَلَ جنوداً لم تروها » .
وقد ظفر المسلمون في هذه الحرب بغنائم كثيرة بلغت إثنين وعشرين ألفاً من الإبل وأربعين ألفاً من الشياه ، وأربعة آلاف أوقية من الفضة ، وكان عدد الأسرى ستة آلاف أسير ، أما قائد المشركين مالك بن عوف فقد فَرّ في عدد من ثقيف إلى الطائف ، وكانت الطائف مدينةً محصنةً لها أبواب ، وكان أهلها ذَوو خبرةٍ في الحرب وثروات طائلة مكّنتهم أن يجعلوا حصونهم من أمنع الحصون ، فجمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغنائم والأسرى وجعل على حراستها بُديل بن ورقاء وجماعة من المسلمين ، وأمر مناديه بالرواح إلى الطائف لمحاصرتها طمعاً في أن يسلم أهلها ، فسار المسلمون نحوها ونزلوا في مكانٍ قريب منها ، ولما أشرف عليهم أهل الطائف هالتهم كثرتهم ، فأمطروهم بوابل من النبل وأصابوا عدداً من المسلمين مما حدا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمرهم بالانتقال إلى مكان آخر .
أقام المسلمون في ذلك المكان أياماً ينتظرون مواجهة ثقيف لهم ، لكن ثقيف لم تكن بحالةٍ من الاستعداد تمكنهم من المواجهة بعد هزيمتهم في حنين ، فأثرت الانتظار على المواجهة والمكوث داخل الحصن ، سيّما وأن الحصن منيعٌ والمؤن متوفرة ، وليس لدى المسلمين السلاح الذي يمكنهم من إقتحام الحصن .
وطال الانتظار بالمسلمين . وهنا أشار سلمان الفارسي ( رضي ) باستعمال المنجنيق قائلاً : يا رسول الله ، أرى أن تنصب المنجنيق على حصنهم ، فانا كنا بأرض فارس ننصب المنجنيقات على الحصون وتُنصبُ علينا . فنصيب من
(95)
عدونا ويصيب منا بالمنجنيق ، وإن لم يكن المنجنيق طال الثواء (1) .
فأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعمل منجنيقاً بيده ، فنصبه على حصن الطائف (2) وقذفوا به الصخور إلى ما وراء الحصن فلم تعمل فيه ، ثم استعملوا نوعاً آخر من الأسلحة كان لبعض القبائل المقيمة بأسفل مكة علم بها وهو الدبابة وهي آلة من جلود البقر يدخلون في جوفها تقيهم النبال والسيوف ، ثم يندفعون بها إلى الحصون ، ومنها ينفذون إلى ما وراءها ، ولكن رجال الطائف كانوا من المهارة بمكان ، حيث أرسلوا عليهم سِكَكَ الحديد المحماة . فلاذوا بالفرار . . ولم يطل انتظار المسلمين كثيراً فقد أشار النبي عليهم بقطع كرومهم وأشجارهم ، وحين ناشدوه الله والرحم كفَّ عن ذلك ، ثم أمر مناديه أن ينادي : أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حرٌّ ، فنزل إليه نفرٌ منهم ، منم أبو بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة فأخبر النبي أنهم يملكون من المؤن والذخائر ما يكفيهم زمناً طويلاً ، فاستدعى رسول الله نوفل بن معاوية الدؤلي واستشاره في أمرهم ، فقال نوفل :
يا رسول الله ، إن ثقيفاً كثعلب في جحر ، فإن أقمت عليه أخذته ، وإن تركته لم يضرَّك .
وكان قد مضى على النبي نحواً من خمسة عشر يوماً أو تزيد وقد أصبحوا على أبواب شهر ( ذي القعدة ) وهو من الأشهر الحُرُم وقد حرَّمَ الإسلام فيه القتال ، فآثر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرجع عنهم ليعود إليهم بعد إنقضاء الأشهر الحرم فيما لو أصرّوا على موقفهم المعادي للإسلام . لكنهم عادوا إلى صوابهم وأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفداً يعرضون عليه إسلامهم ثم أسلموا .
قال أبو عمر : وقد روي أن سلمان شهد بدراً وأحُداً وهو عبدٌ يومئذٍ ، والأكثر أن أول مشاهده الخندق ، ولم يفته بعد ذلك مشهد .(2)
____________
1 ـ المغازي للواقدي / 927 والثواء : الإقامة .
2 ـ شرح النهج 18 / 35 .
(96)
(97)
على لسان النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم
ونستعرض هنا ما جاء على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشأن هذا الصحابي الجليل من كلمات مضيئة هي بمثابة أوسمةٍ منحها إياه النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم باستحقاق وجدارة . ونقتصر هنا على ذكر الرواية بذلك ، دون ذكر السند .
قال صلى الله عليه وآله وسلم :
« سلمان منا أهل البيت » (1)
« لو كان الدين في الثريا ؛ لناله سلمان ! » (2)
« أمرني ربي بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم : علي ، وأبو ذر ، والمقداد ، وسلمان . »
(1)
« سلمان يبعث أمةً ، لقد أشبع من العلم » (3)
عن عائذ بن عمرو :
أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر ، فقالوا : والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله
مأخذها .
____________
1ـ حديث متواتر .
2 ـ الاستيعاب ( على الإصابة ) 2/ 59 .
3 ـ انساب الأشراف / 488 وغيره .
(98)
قال : فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم ؟
فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : يا أبا بكر ، لعلك أغضبتهم ؟ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك .
فأتاهم أبو بكر فقال : يا إخوتاه أغضبتكم .
قالوا : لا . يغفر الله لك يا أخي . (1)
عن أبي هريرة أنه قال :
« لما نزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هذه الآية : وإن تتولو يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم . قلنا . قلنا : يا رسول الله ، من هؤلاء الذين إن تولينا إستبدلوا بنا . ؟ ـ وسلمان الفارسي إلى جنبه ـ .
فضرب صلى الله عليه وآله وسلم بيده على ركبته فقال : هذا وقومه . مرتين أو ثلاثاً . والذي نفسي بيده لو كان الإيمان يناط بالثريا ، لتناوله رجال من الفرس . أو قال : من هؤلاء . (2)
____________
1 ـ صحيح مسلم / 4 / 1947 رقم الحديث 2504 .
2 ـ مفتاح الجنات 1 / 8 ـ 9 .
(99)
بين النبي وسلمان
قالت عائشة : « كان لسلمان مجلس من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينفرد به الليل ، حتى كاد يغلبنا على رسول الله . » (1)
وعن الصادق جعفر بن محمد عليه السلام قال :
عاد رسول الله صلى الله عليه وآله سلمان الفارسي فقال : يا سلمان ؟ لك في علتك ثلاث خصال . أنت من الله عز وجل بذكر ، ودعاؤك فيه مستجاب . ولا تدع العلّةُ عليك ذنباً إلا حطته ، متعك الله بالعافية إلى منتهى أجلك . (2)
____________
1 ـ الاستيعاب ( حاشية على الإصابة 2 / 259 ) .
2 ـ الدرجات الرفيعة 209 ـ 210 .
(100)
(101)
بين سلمان وأبي الدرداء
حين هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة واستقرت به الدار هناك ، آخى بين المسلمين من المهاجرين والأنصار ، ولا يخفى ما لهذه المؤاخاة من مغزىً دقيق ، فالمهاجرون ضيوف على الأنصار ولا رابط قبليَّ بينهم يؤكد تلاحمهم ـ حسب المنطق السائد آنذاك ـ بل كانت الخصومات والحروب بين الأنصار ـ من الأوس والخزرج ـ مستمرة قبل الإسلام سرعان ما تستشري بينهم لأتفه الأمور ، فكانت المؤاخاة في الله عاملاً فعَّالاً في شد الروابط بين المسلمين جميعاً وتوحيد صفوفهم ، ومدعاةً لنسيان الضغائن والأحقاد فيما بينهم .
آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أبي بكر وخارجة ( من الخزرج ) ، وبين عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك ، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ . . وبين سلمان الفارسي وأبي الدرداء عُويمر بن ثعلبة . (1)
وكان كلٌ من سلمان وأبو الدرداء مثالاً عالياً للأخوّةِ في الله ، يُكِنُّ كل منهما للآخر آسمى معاني التعظيم والإجلال ، لكن يبدو أن لسلمان في نفس أبي الدرداء مكانة كبرى ، حيث كان أبو الدرداء يأخذ بنصائحه وتوجيهاته ، ويطيعه فيما يقول ، فقد روي : « أن سلمان بات عنده ليلة ، فلما كان الليل قام أبو الدرداء ـ للعبادة ـ فحبسه سلمان وقال : إنّ لربك عليك حقا ، وإنَّ لأهلِكَ
____________
1 ـ راجع سيرة ابن هشام 2 / 108
(102)
عليك حقّاً ، وإن لجسدك عليك حقّاً ، فاعطِ لكل ذي حقٍ حقه .
فلما كان وجه الصبح قال : قُم الآن ، فقاما فصلّيا ( النافلة ) ثم خرجا إلى الصلاة . فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام إليه أبو الدرداء وأخبره بما قال سلمان . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل ما قال سلمان .
وكان سلمان إذا نزل الشام نزل على أبي الدرداء . ، وروى أبو جحيفة أن سلمان جاء يزور أبا الدرداء ، فرأى أم الدرداء مبتذلة ، فقال : ما شأنكِ ؟ فقالت : إن أخاك ليس له حاجة في شيء من الدنيا .
فلما جاء أبو الدرداء رحّبَ بسلمان وقرب له طعاماً . فقال سلمان : أطعِم . قال : إني صائم . قال : أقسمت عليك إلا ما طَعِمت ، إني لست بآكل حتى تَطعم . (1)
« وكان سلمان الفارسي وأبو الدرداء يأكلان من صحفة ، فسبحت الصحفة أو سبح ما فيها . » (2)
وسكن سلمان العراق ، وسكن أبو الدرداء الشام ، فكتب إلى سلمان يقول : سلامٌ عليك ، أما بعد : فإنَّ الله رزقني بعدك مالاً وولداً ، ونزلتُ الأرض المقدّسة .
فكتب إليه سلمان : سلام عليك ، أما بعد : فإنك كتبت لي أن الله رزقك مالاً وولداً ، فاعلم أن الخير ليس بكثرة المال ، ولكن الخير أن يكثر حِلمُكَ ، وأن ينفعك عَمَلُك . وكَتبتَ إليَّ نزلت الأرض المقدسة ، وإنَّ الأرض لا تعمل لأحد . إعمل كأنك تُرى ، واعدد نفسك من الموتى . (3)
____________
1ـ الإستيعاب ( على الإصابة 2 / 60 / 61 ) .
2 ـ شذرات الذهب 1 / 44 .
3 ـ أسد الغابة 2 / 328 .
(103)
كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوصي فيه بآل سلمان (1)
قالوا :
وكتب النبي صلى الله عليه وآله عهداً لحي سلمان بكازرون ، وصورته :
بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كتاب من محمد رسول الله ، سأله سلمان وصيةً بأخيه ماهاد بن فروخ وأهل بيته وعقبه من بعده ، من أسلم منهم وأقام على دينه سلام الله . أحمد الله إليكم الذي أمرني أن أقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، أقولها وآمر الناس بها ، وأن الخلق خلق الله ، والأمر حكمه ، الله خلقهم وأماتهم ، وهو ينشرهم ، وإليه المصير ، وإن كلَّ أمر يزول ، وكل شيء يبيد ويفنى ، وكل نفس ذائقة الموت من آمن بالله ورسوله ، كان له في الآخرة دِعةُ الفائزين ، ومن أقام على دينه تركناه فلا إكراه في الدين ، وهذا كتابٌ لأهل بيت سلمان ، أن لهم ذمة الله وذمتي على دمائهم وأموالهم في الأرض التي يقيمون فيها ، سهلها وجبلها ، ومراعيها وعيونها ، غير مظلومين ولا مضيقاً عليهم .
فمن قرئ عليه كتابي هذا من المؤمنين والمؤمنات ، فعليه أن يحفظهم ويكرمهم ، ويبرَّهم ولا يتعرض لهم بالأذى والمكروه ، وقد رفعت عنهم جزَّ الناصية ، والجزية ، والخمس ، والعشر إلى سائر المؤن والكَلَف ، ثم إن سألوكم فاعطوهم ، وإن استغاثوا بكم فأغيثوهم ، وإن استجاروا بكم فأجيروهم ، وإن أساؤا فاغفروا لهم ، وإن أُسيء إليهم فامنعوا عنهم ، ولهم أن يعطوا من بيت
____________
1 ـ الدرجات الرفيعة / 206 ـ 207 .
(104)
مال المسلمين في كل سنة مائة حلة في شهر رجب ، ومائة في الأضحية ، ومن الأواني مائة ، فقد استحق سلمان ذلك منا ، لأن فضل سلمان على كثير من المؤمنين ، وانزل في الوحي علي أن الجنة إلى سلمان أشوق من سلمان إلى الجنة ، وهو ثقتي وأميني ، تقي نقي ناصحٌ لرسول الله والمؤمنين وسلمان منا أهل البيت ، فلا يخالفن أحد هذه الوصية ، فمن خالفها فقد خالف الله ورسوله وعليه اللعنة إلى يوم الدين ، ومن أكرمهم فقد أكرمني وله عند الله الثواب ومن آذاهم فقد آذاني وأنا خصمه يوم القيامة ، وجزاؤهم جهنم ، وبرئت منه ذمتي والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
وكتب علي بن أبي طالب بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رجب سنة تسع من الهجرة وحضر أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسلمان وأبو ذر وعمار وعتبة وبلال والمقداد وجماعة آخرون من المؤمنين .
قال ابن شهر اشوب : والكتاب إلى اليوم ـ في عصره ـ في أيديهم ويعمل القوم برسم النبي فلولا ثقته بأن دينه يطبق الأرض لكان كتبه هذا السجل مستحيلاً . (1)
وأورد المحدث النوري في كتابه نفس الرحمن هذا النص ، وقال أنه وجده في ( تأريخ كزيده ) وقال ما معناه أن أقارب سلمان من أكابر فارس وعندهم هذا العهد بخط أمير المؤمنين وعليه خاتم النبي على أديم أبيض . (2)
وقد ذكر صاحب مجموعة الوثائق السياسية نسخة هذا العهد في القسم الرابع من كتابه ، في ذكرما نسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من العهود ، أخرجها من نسخة عهد نشرها جمشيد جي جيرجي ، وهي مبنية على أصل كان عندهم وذكرها أيضاً عن طبقات المحدثين بأصبهان لابن حُبَّان ، أخبار أصفهان لأبي نعيم ، لكن ألفاظ العهد وأسلوبه يغاير سائر عهوده . (3)
____________
1 ـ راجع البحار ج 22 ص 368 ـ 369 .
2 ـ نفس الرحمن / والمؤسف أن صفحاته غير مرقمة .
3 ـ راجع التعليق على البحار الجزء الآنف ص 369 .
(105)
سلمان والتشيع
أمير المدائن
في الشام وبيروت
سلمان يختار الكوفه مقراً للجند
(106)
(107)
سلمان والتشيع . .
الشيعة لغةً : الأتباع والأنصار ، ثم صار اسماً يطلق على محبي آل بيت محمدٍ عليهم السلام ومتبعيهم والسائرين على منهاجهم ، .
روى أبو بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال : ليهنكم الإسم ، قلت : وما هو ؟ قال : الشيعة . قلت : إن الناس يعيروننا بذلك .
قال : أما تسمع قول الله سبحانه : « وإنَّ من شِيعَتِهِ لإبراهيم » وقوله : « فاستغاثَهُ الذي من شِيعتِه على الذي من عَدُوّه .» (1)
والتشيع ليس مذهباً طارئاً في الإسلام ، بل هو من صميمه دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما دعا إلى بقية أركان الدين ، فقد نشأ في عهد رسول الله كما تدل على ذلك الأحاديث الكثيرة والمتواترة ، وأهمها وأكثرها شهرة الحديث المعروف ( بحديث الغدير ) الذي جاء في خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجته الأخيرة المعروفة ( بحجة الوداع ) حيث قال :
معاشر المسلمين ، ألست أولى بكم من أنفسكم ؟
قالوا : اللهم بلى .
قال : من كنت مولاه ، فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأنصر من نصره واخذل من خذله .
____________
1 ـ مجمع البيان 8 / 448 ـ 449 .
(108)
وقد روي هذا الحديث بطرق مختلفة وألفاظ متغايرة بمضمون واحد ، فقد رواه من الصحابة أكثر من مائة وعشرة صحابياً ، ومن التابعين أربعة وثمانون تابعياً ، ورواه من العلماء ثلاثماءة وستون عالماً ، (1)
عدا من ألف فيه . بل رواه الطبري من نيف وسبعين طريقاً . وابن عقدة من ماءة وخمس طرق وغيره من مائة وخمسة وعشرين طريقاً .
قال الشيخ الطوسي : فان لم تثبت بذلك صحته ، فليس في الشرع خبر صحيح !
ثم قال : والمراد بالمولى هنا : الأولى . والذي يدل على ذلك قول أهل اللغة ، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى في قوله تعالى : « النار مولىً لهم » معناه أولى لهم . وعن المبرد قال : مولى ، وولي ، وأولى ، وأحق بمعنى واحد . (2)
وقد بسطت الحديث حول هذا الموضوع في كتاب ( أبو ذر الغفاري ) واستشهدت بأحاديث كثيرة إشتملت على لفظ ( شيعة ) فراجع . (3)
إن البحث حين يتتبع ما كتب حول الشيعة والتشيع ، يجد أن سلمان الفارسي رضي الله عنه أول من يذكر في هذا المضمار بعد بني هاشم ، وما ذلك إلا لاشتهاره في هذا الأمر لدى العامة والخاصة وتكريس نفسه له . وإليك بعضاً من النصوص التي تناولت ذلك .
قال أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني :
« إن لفظ الشيعة على عهد رسول الله كان لقب أربعةٍ من الصحابة سلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري . . الخ » (4)
____________
1 ـ راجع الغدير من ص 8 إلى ص 151 .
2 ـ راجع الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد من 344 إلى 346 .
3 ـ أبو ذر الغفاري للمؤلف من ص 44 إلى ص 53 .
4 ـ الشيعة وفنون الإسلام / 31 .
(109)
وقال الشيخ المفيد رحمه الله في بيان امامة أمير المؤمنين :
« فاختلفت الأمة في إمامته يوم وفاة النبي صلى الله عليه وآله فقالت شيعته وهم : بنو هاشم كافة وسلمان وعمار . . الخ » (1)
وقال ابن أبي الحديد :
« وكان سلمان من شيعة علي عليه السلام وخاصته ، وتزعم الإمامية أنه أحد الأربعة الذين حلقوا رؤوسهم وأتوه متقلدي سيوفهم في خبر يطول . . الخ » (2)
إلى غير ذلك مما يذكرونه في كتب التأريخ والرجال .
ويخيل إليك وأنت تقرأ ما ورد على لسان سلمان عن النبي في فضائل أهل البيت عليهم السلام أن كلمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم « سلمان منا » شدته إلى التفاني في هذا السبيل . بيد أن الأمر أكبر من ذلك ، وسلمان أعظم من أن ينجرف في متاهات العاطفة الدنيا ، أليس هو ذلك الذي عرفناه شاباً ـ أو صبياً ـ يترك أهله ووطنه في سبيل الوصول إلى المنهل الروحي الذي يستقي منه تعاليم الدين ، وكابد ما كابد في سبيل ذلك حتى أفضى به الأمر إلى رسول الله ، وعرفناه كهلاً يلازم النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ويواكبه في حروبه وجهاده ، سخياً بنفسه في سبيل الله ، هذا الإنسان العظيم لم يكن التشيع بالنسبة إليه هواية تتحكم فيها العاطفة ، بل كان يرى فيه المكمل لرسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد عرف موقع علي عليه السلام من النبي وأدرك أنه الوصي من بعده على الأمة ، وماذا يضره إذا كان في جانب والمسلمون في جانب ، فقد كان نفسه قبل الإسلام في جانب ، وأمم أخرى في جانب ، لذلك التزم بصراحته التي لم تفارقه يوماً من الأيام ، وبقي على الخط الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعا المسلمين إليه .
____________
1 ـ الإرشاد / 10 .
2 ـ شرح النهج 18 / 39 .
(110)
لقد كان سلمان الفارسي رضي الله عنه ممن نادى بالتشيع ، ودافع عنه في أكثر من موطن ، ولم يكن تشيعه عاطفياً يقتصر على حب أهل البيت فقط ، بل تشيعاً مبدئياً ينادي بأحقية علي في الخلافة بعد رسول الله بلا فصل ، وكان يدعو المسلمين إلى ذلك بكل وضوح وجرأة ، مستنداً في ذلك لما سمعه من رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حق عليّ وأهل البيت الطاهر عليهم السلام .
بل الذي يظهر من بعض النصوص حول هذا الموضوع أنه كان أول من دعا المسلمين لمبايعة أمير المؤمنين علي عليه السلام ، كما روي ذلك عن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن أبائه عليهم السلام ، قال :
خطب الناس سلمان الفارسي رحمة الله عليه بعد أن دفن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثة أيام ، فقال :
« ألا أيها الناس ، إسمعوا عني حديثي ، ثم أعقلوه عني ، ألا واني أوتيت علماً كثيراً ، فلو حدثتكم بكل ما أعلم من فضايل أمير المؤمنين لقالت طائفة منكم : هو مجنون . وقالت طائفة أخرى : اللهم اغفر لقاتل سلمان . ألا إن لكم منايا تتبعها بلايا ، ألا وان عند علي عليه السلام علم المنايا والبلايا ، وميراث الوصايا وفصل الخطاب وأصل الأنساب ، على منهاج هارون بن عمران من موسى عليه السلام إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه : أنت وصي في أهل بيتي ، وخليفتي في أمتي ، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى ، ولكنكم أخذتم سنة بني إسرائيل ، فأخطأتم الحق ، فأنتم تعلمون ولا تعلمون ، أما والله لتركبن طبقاً عن طبق حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة .
أما والذي نفس سلمان بيده ، لو وليتموها عليّاً لأكلتم من فوقكم ومن تحت أقدامكم ، ولو دعوتم الطير لأجابتكم في جو السماء ، ولو دعوتم الحيتان من البحار لأتتكم ، ولما عال ولي الله ، ولا طاش لكم سهم من فرائض الله ، ولا اختلف اثنان في حكم الله ، ولكن أبيتم فوليتموها غيره ، فأبشروا بالبلايا
(111)
واقنطوا من الرخاء ، وقد نابذتكم على سواء ، فانقطعت العصمة فيما بيني وبينكم من الولاء .
عليكم بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فوالله لقد سلمنا عليه بالولاية وأمرة المؤمنين مراراً جمة مع نبينا ، كل ذلك يأمرنا به ، ويؤكده علينا ، فما بال القوم عرفوا فضله فحسدوه ! وقد حسد هابيل قابيل فقتله ! وكفاراً قد ارتدت أمة موسى بن عمران ، فأمر هذه الأمة كأمر بني اسرائيل ، فأين يذهب بكم ؟ .
أيها الناس ، ويحكم ؛ أجهلتم أم تجاهلتم ، أم حسدتم أم تحاسدتم ؟ والله لترتدن كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف ، يشهد الشاهد على الناجي بالهلكة ، ويشهد الشاهد على الكافر بالنجاة ، ألا وأني أظهرت أمري ، وسلمت لنبيي ، واتبعت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة علياً أمير المؤمنين عليه السلام وسيد الوصيين ، وقائد الغر المحجلين ، وإمام الصديقين والشهداء والصالحين . (1)
ويؤكد موقفه هذا كلمته المشهورة يوم السقيفة حين أخبر بمبعاية الناس لأبي بكر ، وهي قوله : « كرديد ونكرديد » وقد ذكرها المعتزلي في شرح النهج في أكثر من مورد كما ذكرها غيره . إلا أنهم إختلفوا في تفسيرها . لكن الذي يظهر أن معناها فعلتم وما فعلتم . وابن أبي الحديد نفسه يفسرها بتفاسير مختلفة . فتارةً يقول : « أن المراد صنعتم شيئاً وما صنعتم أي استخلفتم خليفة ونعم ما فعلتم ، إلا أنكم عدلتم عن أهل البيت ، فلو كان الخليفة منهم كان أولى . » (2)
وأخرى يقول : « تفسره الشيعة فتقول : أراد أسلمتم وما أسلمتم ، ويفسره أصحابنا فيقولون معناه : أخطأتم وأصبتم » (3)
وفي الحقيقة أن مراد سلمان واضح جداً ، بل صرح به هو حيث قال مخاطباً
____________
1 ـ الاحتجاج 1 / 151 ـ 152 .
2 ـ شرح النهج 18 / 39 .
3 ـ شرح النهج 6 / 43 .
(112)
الصحابة : « أصبتم الخير ولكن أخطأتم المعدن . وفي رواية أخرى : أصبتم ذا السن منكم ولكن أخطأتم أهل بيت نبيكم ، أما لو جعلتموها فيهم ما اختلف منكم اثنان ولأكلتموها رغداً . » (1)
وذكرها البلاذري بشكل أوضح حيث قال :
« قال سلمان الفارسي حين بويع أبو بكر : « كرداذ وناكرداذ » ـ أي عملتم وما عملتم ـ لو بايعوا علياً لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم . » (2)
والمتتبع للأحاديث والأخبار يلمس موقف سلمان هذا من أهل البيت عليهم السلام فيما كان يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حقهم ، وعلى سبيل المثال نذكر شطراً من تلك الروايات :
الجويني بسنده عن زاذان ، عن سلمان ، قال :
سمعت حبيبي المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقول : كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله عز وجل مطيعاً يسبح الله ذلك النور ويقدسه قبل أن يخلق الله آدم بأربعة عشر ألف سنة ، فلما خلق الله تعالى آدم ركب ذلك النور في صلبه ، فلم يزل في شيء واحد حتى افترقنا في صلب عبد المطلب ، فجزءٌ أنا وجزءٌ علي . (3)
الجويني بسنده عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال :
« سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : خلقت أنا وعلي بن أبي طالب من نورالله عن يمين العرش نسبح الله ونقدسه من قبل أن يخلق الله عز وجل آدم بأربعة عشر ألف سنة . فلما خلق الله آدم نقلنا إلى أصلاب الرجال وأرحام النساء الطاهرات ، ثم نقلنا إلى صلب عبد المطلب وقسمنا نصفين ،
____________
1 ـ شرح النهج 6 / 43 .
2 ـ الأنساب / 591 .
3 ـ فرائد السمطين ص 42 ح 6 .
(113)
فجعل نصف في صلب أبي عبد الله وجعل نصف آخر في صلب عمي أبي طالب ، فخلقت من ذلك النصف وخلق علي من النصف الآخر ، واشتق الله تعالى لنا من أسمائه أسماءً ، فالله عز وجل محمود وأنا محمد ، والله الأعلى ، وأخي علي ، والله الفاطر ، وابنتي فاطمة ، والله محسن ، وأبناي الحسن والحسين ، وكان اسمي في الرسالة والنبوة وكان اسمه في الخلافة والشجاعة ، وأنا رسول الله ، وعلي ولي الله . » (1)
وبسنده عن الأصبغ ، قال :
سئل سلمان الفارسي رضي الله عنه عن علي بن أبي طالب وفاطمة عليهما السلام فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : عليكم بعلي بن أبي طالب فانه مولاكم فأحبوه ، وكبيركم فاتبعوه ، وعالمكم فأكرموه ، وقائدكم إلى الجنة فعززوه ، فإذا دعاكم فأجيبوه ، وإذا أمركم فأطيعوه ، أحبوه بحبي ، وأكرموه بكرامتي ، ما قلت لكم في علي إلا ما أمرني به ربي جلت عظمته . (2)
وبسنده عن عباد بن عبد الله ، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : أعلم أمتي من بعدي علي بن أبي طالب . (3)
وبسنده عن أبي عثمان ( النهدي ) عن سلمان الفارسي قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا كان يوم القيامة ضربت لي قبة حمراء عن يمين العرش ، وضربت لإبراهيم قبة من ياقوتةٍ خضراء عن يسار العرش ، وضربت فيما بيننا لعلي بن أبي طالب قبة من لؤلؤةٍ بيضاء ، فما ظنكم بحبيب بين خليلين . (4)
____________
1 ـ فرائد السمطين ص 41 ح 5 .
2 ـ فرائد السمطين ص 78 ح 45 .
3 ـ فرائد السمطين ص 97 ح 66 .
4 ـ فرائد السمطين ص 104 ح 74 .