أمير المدائن

« ونُريدُ أن نَمنَّ على الذين استُضعِفوا في
الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين
. . »






(116)



(117)

رأى عُيَيْنة بن حصن سلمان عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً وعليه شملة : فقال له : إذا دخلنا عليك ، فنح عنا هذا وأمثاله فنزلت الآية الكريمة :
« واصْبِر نَفْسَكَ مع الذين يدعونَ ربهم بالغَداةِ والعَشِيّ يريدون وَجْههُ ولا تعدُو عيناكَ عنهم تُريدُ زينةَ الحياةِ الدنيا ولا تُطِعْ مَن أغفلنا قَلْبَهُ عن ذِكْرنا واتَّبع هواه وكانَ أمرُهُ فُرطا . » (1)
وقيل : إن المؤلفة قلوبهم وهم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وذووهم ، جاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعنده سلمان وأبو ذر وصهيب وعمار وغيرهم من فقراء المسلمين ، فقالوا : « يا رسول الله ، لو جلست في صدر المجلس وتغيبت عن هؤلاء وأرواح جبابهم ـ وكانت عليهم جباب صوف ـ جالسناك أو حادثناك وأخذنا عنك » « فلا يمنعنا من الدخول عليك إلا هؤلاء ! » (2)
مساكين أولئك النفر من المؤلفة قلوبهم ، لقد نفخ الشيطان في أعطافهم ، واستحكمت العصبية في نفوسهم ، فصاروا لا ينظرون إلا إلى أنفسهم ، ولا يبصرون إلى ما وراء أنوفهم ، لقد أعمى الكبر أعينهم وأصم أسماعهم فتاهوا عن الحق وأضاعوا الهدف ، لقد عظم عليهم أن يروا هذه الفئة المؤمنة بجانب محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمن يكون سلمان وصهيب وبلال ـ في نظرهم ـ
____________
1 ـ أنساب الأشراف / 487 .
2 ـ راجع الميزان 3 / 305 ومجمع البيان 6 / 465 .

(118)

وهل هم إلا من الدهماء وأخلاط الناس وفدوا من فارس والروم والحبشة طلباً للعيش ، واليوم أصبحوا يزاحمون سادات قريش في ديارهم ، لقد عظم عليهم أن يروا أنفسهم في هذا الموقع ، فهم يتعاملون مع الحياة والناس من زاوية محيطهم الضيق . ولم يكونوا ـ في يوم من الأيام ـ ليفكروا في حدوث مثل هذا في حياتهم ، ولكنه الواقع الذي لا مفر منه ، فها هم الدهماء ـ بنظرهم ـ يحتلون الصدارة في مجلس محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومحمد من ؟ لو لم يكن نبياً لكان سيد العرب بلا منازع ، فكيف وهو اليوم النبي المرسل الذي يمني أصحابه ببسط نفوذ الإسلام على ما وراء الجزيرة وكسر شوكة الأباطرة والأكاسرة والمتجبرين ، وقد رأوا انتصارته الكاسحة رأي العين ولمسوها بأنفسهم .
أجل ، عظم في نفس عيينة أن يرى نفسه مضطراً للجلوس إلى جانب سلمان ولم يكن يخطر على بال هذا المغرور المائل بعطفه أن سلمان سيصبح يوماً ما أميراً على البلد التي كانت مقراً لأكاسرة الفرس ، وأنه سيحتل مكان سابور ذي الأكتاف ، وابرويز ، ويزدجرد هؤلاء الذين دوخوا العالم بانتصارتهم ، وأذقوا الناس أنواع ظلمهم ، سيحتل مكانهم ليحكم بين الناس بالعدل والحق وبما أنزل الله .
لو فكر عيينة بمثل هذا لجن أو صعق .
ومرت السنين تتلوها سنين والمسلمون يسجلون أعلى الإنتصارات وأعظمها في ميادين الفتح ووعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بفتح مدائن كسرى وظهورهم على القصور الحمر في الروم وقصور الحيرة في صنعاء ، هذا الوعد ظل حلماً في نفوس المؤمنين ينتظرون تحقيقه ، وخيالاً في نفوس المنافقين ، حتى حان الموعد ، وتحقق الوعد الحق .
ففي سنة أربعة عشر للهجرة تجهز المسلمون لغزو القادسية ، وكان في نية عمر ـ ثاني الخلفاء ـ الشخوص إليها بنفسه ، فاستشار علياً عليه السلام في ذلك فنهاه ، وقال له في كلام طويل :


(119)

« إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا : هذ1 أصلُ العَرب ، فاذا اقتطعتموه إستَرحتُمْ . . . إنك إن شخصت من هذه الأرض ، انتَقضَت عليك العربُ من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدعُ وراءك من العورات أهمَّ إليك مما بين يديك . . الخ » (1)
فأمَّرَ عمر سعد بن أبي وقاص على المسلمين . وبعث يزدجرد رُستُم الأرمني أميراً على الفرس .
أرسل سعد ، النعمان بن مقرن رسولاً من قبله إلى يزدجرد ، فدخل عليه وكلمه بكلام غليظ ، فقال يزدجرد : لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك ، ثم حَّمله وقراً من تراب على رأسه وساقه حتى أخرجه من باب من أبواب المدائن وقال : ارجع إلى صاحبك ، فقد كتبت إلى رستم أن يدفنه وجنده من العرب في خندق القادسية . ، ثم لأشغلن العرب بعدها بأنفسهم ، ولأصيبنهم بأشد مما أصابهم به سابور ذو الأكتاف .
فرجع النعمان إلى سعد ، فأخبره . فقال : لا تخف فان الله قد ملكنا أرضهم ، تفاؤلاً بالتراب .
قال الطبري : وتثبط رستم عن القتال وكرهه وآثر المسالمة ، واستعجله يزدجرد مراراً واستحثه على الحرب وهو يدافع بها ويرى المطاولة ، وكان عسكره مائة وعشرين ألفاً ، وكان عسكر سعد بضعةً وثلاثين ألفاً .
وأقام رستم بريداً من الرجال الواحد منهم إلى جانب الآخر من القادسية إلى المدائن ، كلما تكلم رستم كلمة أداها بعضهم إلى بعض حتى تصل إلى سمع يزدجرد في وقتها .
وشهد وقعة القادسية مع المسلمين طليحة بن خويلد ، وعمرو بن معدي
____________
1 ـ نهج البلاغة / 2 / 29 ـ 28 .
(120)

كرب ، والشماخ بن ضرار ، وعبدة بن الطبيب الشاعر ، وأوس بن معن الشاعر ، وقاموا في الناس ينشدونهم الشعر ويحرضونهم .
وقرن أهل فارس أنفسهم بالسلاسل لئلا يهربوا ، فكان المقرنون منهم نحو ثلاثين ألفاً .
والتحم الفريقان في اليوم الأول ، فحملت الفيلة التي مع رستم على الخيل فطحنتها ، وثبت لها جمع من الرجالة ، وكانت ثلاثة وثلاثين فيلا ، منها فيل الملك وكان أبيض عظيماً ، فضربت الرجال خراطيم الفيلة بالسيوف فقطعتها وارتفع عواؤها ، وأصيب في هذا اليوم ـ وهو اليوم الأول ـ خمسمائة من المسلمين وألفان من الفرس .
ووصل في اليوم الثاني أبو عبيدة الجراح من الشام في عساكر من المسلمين ، فكان مدداً لسعد ، وكان هذا اليوم على الفرس أشد من اليوم الأول ، قتل من المسلمين ألفان ومن المشركين عشرة آلاف ، وأصبحوا في اليوم الثالث على القتال ، وكان عظيماً على العرب والعجم معاً ، وصبر الفريقان ، وقامت الحرب ذلك اليوم وتلك الليلة جمعاء لا ينطقون ، كلامهم الهرير فسميت ليلة الهرير .
وانقطعت الأخبار والأصوات عن سعد ورستم ، وانقطع سعد إلى الصلاة ، وأصبح الناس حسرى لم يغمضوا ليلتهم كلها والحرب قائمة بعد إلى وقت الظهر ، فأرسل الله تعالى ريحاً عاصفاً في اليوم الرابع أمالت الغبار والنقع على العجم فانكسروا ، ووصلت العرب إلى سرير رستم وقد قام عنه ليركب جملاً وعلى رأسه العلم ، فضرب هلال بن علقمة الجمل الذي رستم فوقه فقطع حباله ، ووقع على هلال أحد العدلين فأزال فقار ظهره ، ومضى رستم نحو العتيق * فرمى نفسه فيه ، واقتحم هلال عليه فأخذ برجله وخرج به يجره حتى ألقاه تحت رجل الخيل وقد قتله ، وصعد السرير فنادى : أنا هلال ، أنا قاتل رستم ،
____________
* العتيق : الخندق .
(121)

فانهزمت الفرس ، وتهافتوا في العتيق ، فقتل منهم نحو ثلاثين ألفاً ، ونهبت أموالهم وأسلابهم وكانت عظيمةً جداً .
ومن طريف ما يذكر : أن العرب أخذت كافوراً كثيراً فلم يعبئوا به لأنهم لم يعرفوه ، وباعوه من قوم بملح وقالوا : أخذنا منهم ملحاً طيباً ، ودفعنا إليهم ملحاً غير طيب .
وأصابوا من الجامات من الذهب والفضة ما لا يقع عليه العد لكثرته ، فكان الرجل منهم يعرض جامين من ذهب على صاحبه ليأخذ منه جاماً واحداً من فضة ، يعجبه بياضها ويقول : من يأخذ صفراويين ببيضاء .(1)
وأخذ ضرار بن الخطاب في ذلك اليوم من فارس الراية العظمى ، وكانت متخذةً من جلود النمور المعروفة بـ ( درفش كاويان ) وكانت مرصعة بالياقوت واللؤلؤ وأنواع الجواهر ، فعوض منها بثلاثين ألفاً ، وكانت قيمتها ألفي ألف ومائتي ألف . (2)
وكانت هذه المعركة هي الباب الأول الذي ينفذ منه المسلمون إلى المدائن حيث القصر الأبيض الذي يقطنه يزدجرد .
وفي سنة ستة عشر للهجرة كان المسلمون على أبواب بهرسير ( المدائن الغربية ) فلما رأوا الإيوان قالوا : الله أكبر ! أبيض كسرى ! هذا ما وعد الله ورسوله . وكان نزولهم عليها في ذي الحجة .
وحاصر المسلمون هذه المدينة شهرين وضربوها بالمجانيق واستعملوا أنواع السلاح في قتال أهلها . ثم دخلوها فلم يخرج لهم أحد إلا رجل ينادي بالأمان ، فأمنوه فقال لهم : ما بقي بالمدينة من يمنعكم ، فدخلوا فما وجدوا فيها شيئاً ولا أحداً إلا أسارى وذلك الرجل . وكان المشركون قد فروا منها .
____________
1 ـ شرح النهج 9 / 96 إلى 99 .
2 ـ مروج الذهب 2 / 319 .

(122)

وفي شهر صفر صمم المسلمون على عبور دجلة ـ وكان فائضاً ـ وهو يفصل بين بهرسير وبين المدائن التي فيها الطاق ، وتلاحق الناس في دجلة وانهم يتحدثون كما يتحدثون في البر وطبقوا دجلة حتى ما يرى من الشاطئ شيء . وكان الذي يساير سعداً سلمان الفارسي ، فعامت بهم خيولهم . وسعد يقول : حسبنا الله ونعم الوكيل ، والله لينصرن الله وليه ؛ وليظهرن دينه ، وليهزمن عدوه إن لم يكن في الجيش بغى ، أو ذنوب تغلب الحسنات . فقال له سلمان : الإسلام جديد ، ذللت لهم البحور كما ذلل لهم البر ، أما والذي نفس سلمان بيده ليخرجن منه أفواجاً كما دخلوا فيه أفواجاً فخرجوا منه كما قال سلمان لم يفقدوا شيئاً .
خرج الناس سالمين وخيلهم تنفض أعرافها ، فلما رأى الفرس ذلك وأتاهم أمر لم يكن في حسابهم خرجوا هاربين نحو حلوان ، وكان يزدجرد قد قدم عياله إليها قبل ذلك . ودخل المسلمون المدائن ، فأخذوا في سككها لا يلقون فيها أحداً يخشونه إلا من كان في القصر الأبيض ، فأحاطوا بهم ودعوهم ، فاستجابوا على تأدية الجزية والذمة .
قال ابن الأثير :
« وكان سلمان الفارسي رائد المسلمين وداعيتهم ، دعا أهل ( بهر سير ) ثلاثاً ، وأهل القصر الأبيض ثلاثاً . » (1) « كان يقول لهم : إنما كنت رجلاً منكم ، فهداني الله للإسلام فإن أسلمتم ، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا ، وإن أنتم أبيتم ؛ فأدوا الجزية وأنتم صاغرون ، فإن أبيتم ، نابذناكم على سواء إن الله لا يحب الخائنين . »(2) يخاطبهم بهذا القول قبل الهجوم عليهم ، عَلَّهم يفيئون إلى الإسلام ، وكان يقول : « أَدعوهم كما رأيتُ رسول الله يدعوهم . » (3) يفعل ذلك بهم ثلاثاً .
____________
1 ـ راجع الكامل 2 / 508 إلى 514 .
2 ـ سلمان الفارسي 127 كما عن مسند أحمد .
3 ـ نفس المصدر .

(123)

واسم المدائن بالفارسية ( توسفون ) وإنما سمتها العرب المدائن لأنها سبع مدائن ، بين كل مدينة إلى الأخرى مسافة قريبة ، وقد ورد ذكرها في شعر العرب .
قال رجل من مراد :
دعوت كـريبـاً بالـمدائـن دعـوةً * وسيرت إذ ضمـت علـي الأظافـر
فيال بنـي سعـد عـلام تركـتمـا * أخاً لكما يدعـوكمـا وهـو صابـر
أخاً لـكما إن تـدعـواه يجبـكمـا * ونصركمـا منـه إذا ريـع فـاتـر

وقال عبدة بن الطبيب :
هل حبلُ خـولة بعد الهجر موصولُ * أم أنتَ عنها بعيـدُ الدار مشغـولُ ؟
ولـلأحـبـة أيــامٌ تـَذَكَّـرُهـا * وللنـوى قبل يـوم البين تأويـلُ
حلّـَت خـويلـةُ في دارٍ مجـاورةً * أهل المدائن فيها الديـك والفيـل (1)

هذا ، وقد تولى سلمان ولاية المدائن في عهد عمر بن الخطاب . . ولم أعثر على نص يحدد تأريخ هذه الولاية وزمانها ، إلا أنه من المرجح أن توليه لها كان بعد فتحها دون أن يسبقه أحد إليها * سيما إذا أخذنا بعين الإعتبار خصوصية اللغة ( الفارسية ) بالإضافة إلى كونه من السابقين ، مما يعطيه الأفضلية في ذلك .
ومما يجدر ذكره ، أنه حين ورد إلى المدائن قعد تحت ظلال الحائط في المسجد ولم يقبل أن يدخل قصر الإمارة . كما روي ذلك عنه ، وهو إن دل على شيء فأنما يدل على مدى السمو النفسي الذي كان يتمتع به هذا الرجل والذي جعله في مصاف عباقرة العالم ممن تخدمهم الدنيا ولا يخدمونها ، وقد بقي سلمان
____________
1 ـ معجم البلدان 5 / 75 راجع التفصيل .
* في الإصابة 2 ص 318 في حديثه عن حذيفة بن اليمان قال : قال العجلي استعمله عمر على المدائن ، وفي المستدرك 3 ص 385 في حديثه عن فضائل حذيفة قال : وزعم بعضهم أنه كان بالمدائن الخ . . لكن المحقق أن الذي تولى إمارة المدائن هو سلمان وبقي بها إلى أن توفي .

(124)

في المدائن إلى أن توفي في سنة 34 هجرية على الأصح ـ كما يقول السيد بحر العلوم . (1)
بينما يذهب البعض إلى أنه بقي فيها إلى خلافة أمير المؤمنين علي عليه السلام « وأنه توفي في سنة 36 للهجرة » . (2) ولعلهم يستندون في ذلك إلى الكتاب الذي بعث به إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، والكتاب هذا نصه :
أما بعدُ : فإنما مَثَلُ الدنيا مثل الحيَّة ، ليِّنٌ مَسُّها قاتلٌ سَمُّها ، فأعرض عما يعجبك فيها لقلة ما يصحبك منها ، وضع عنك همومها لما أيقنت به من فراقها وتصرف حالاتها ، وكن آنس ما تكون بها أحذر ما تكون منها ، فان صاحبها كلما إطمأن فيها إلى سرور أشخصته إلى محذور ، أو إلى إيناس أزالته عنه إلى إيحاش ، والسلام . (3)
لكن هذا لا يكفي دليلاً لما ذهبوا إليه ، فان لعلي عليه السلام في نفس سلمان مكانة كبرى تخوله أن يبعث إليه بمثل هذا الكتاب حتى في عهد عمر ، وقد ذكر الشريف الرضي رحمه الله أنه كتبه إليه قبل خلافته .
____________
1 ـ رجال بحر العلوم 3 / 16 .
2 ـ راجع الكامل 3 / 287 .
3 ـ نهج البلاغة 3 / 128 .

(125)

في الشام وبيروت

لم تَفُت سلمان رضي الله عنه زيارة هذه البقعة من الأرض ، بل لم يفت هذه البقعة أن تتشرف بزيارة سلمان أحد حواري الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وأحد المدركين لوصي عيسى عليه السلام ، وما عشت أراك الدهر عجبا . إنني لم أكد أصدق ، وأنا أقرأ النص الذي يتحدث عن هذه الزيارة ، لأن سلمان بقدر ما له من مكانة في نفوس المسلمين ، لم يشأ أحد من مؤرخيهم إستعراض حياته في مؤلفاته ، بل كل ما يركزون عليه : قصة إسلامه ، وجزءٌ من مواقفه المشهورة التي صار يعرفها القريب والبعيد والقاصي والداني ، فلذا يجد الكاتب عن حياة سلمان صعوبةً ومشقة ، لأنه في هذا الحال سيضطر إلى الغوص في أعماق الكتب كي يعثر على فرائد تتعلق بحياته الكريمة يصطادها من خلال ما يقرأ والتي يدونها المؤلفون ـ عادةً ـ فيما يناسبها .
زار سلمان الشام ـ وكانت زيارة قصيرة ـ لكنها كانت حدثاً هاماً في تأريخها فحين تناهى إلى سمع الناس فيها أن سلمان ينوي زيارتهم ، هبوا لإستقباله ، وكأنهم يستقبلون ملكاً أو خليفة ، ولم يبق أحد من كبراء الشام وسادتها من ذوي المكانة والشرف إلا تمنى أن ينزل سلمان في ضيافته .
وفي هذه اللحظات يسأل سلمان عن أخيه أبي الدرداء لينزل في ضيافته فأجابوه بأنه في بيروت .
وكانت بيروت في ذلك الوقت ثغراً من الثغور الهامة التي يرابط فيها


(126)

المسلمون . فتوجه سلمان نحوها ، ويحدثنا بالقصة القاسم بن عبد الرحمن حيث يقول :
« زارنا سلمان الفارسي ، فخرج الناس يتلقونه كما يتلقى الخليفة ، فلقيناه وهو يمشي فوقفنا نسلم عليه ، ولم يبق شريف إلا سأله أن ينزل عنده ، فسأل عن أبي الدرداء ! فقيل : هو مرابط .
فقال : وأين مرابطكم ؟
قالوا : بيروت .
فتوجه قِبَله ، فلما صار إلى بيروت ، « واجتمع بمن فيها » قال سلمان :
يا أهل بيروت ، ألا احدثكم حديثاً يذهب عنكم غرض * الرباط ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : رباط يوم كصيام شهر وقيامه ، ومن مات مرابطاً في سبيل الله أجير من فتنة القبر ، وأجرى له ما كان يعمل إلى يوم القيامة . (1)
____________
* غرض الرباط ـ عناؤه .
1 ـ انساب الاشراف 487 ـ 488 .

(127)

سلمان يختار الكوفة

الكوفة، هذه البقعة الطيبة من الأرض ورد في فضلها وفضل مسجدها احاديث كثيرة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام ، وما ذلك إلاّ لقدسيتها وكرم تربتها .
« كان علي عليه السلام يقول : نعمة المدرة . وقال : انه يحشر من ظهرها يوم القيامة سبعون ألفاً وجوههم على صورة القمر.
ويقول : هذه مدينتنا ومحلتنا ، ومقر شيعتنا .
وقال جعفر بن محمد الصادق عليه السلام : اللهم ارم من رماها ، وعاد من عاداها .

ويقول : تربة تحبنا ونحبها . (1)
وكان علي عليه السلام يقول : الكوفة كنز الإيمان وحجة الإسلام وسيف الله ورمحه يضعه حيث شاء . والذي نفسي بيده لينتصرن الله بأهلها في شرق الأرض وغربها كما انتصر بالحجاز .
وأما مسجدها فقد رويت فيه فضائل كثيرة .
روى حبة العرفي ، قال : كنت جالساً عند علي عليه السلام فأتاه رجل
____________
1 ـ شرح النهج 3 / 198 .
(128)

فقال : يا أمير المؤمنين هذه راحلتي وزادي أريد هذا البيت أعني بيت المقدس .
فقال عليه السلام : كل زادك ، وبع راحلتك وعليك بهذا المسجد ـ يعني مسجد الكوفة ـ فانه أحد المساجد الأربعة ، ركعتان فيه تعدلان عشراً فيما سواه من المساجد ، والبركة منه إلى إثنى عشر ميلاً من حيث أتيته ، وهي نازلة من كذا ألف ذراع . وفي زاويته فار التنور ، وعند الاسطوانة الخامسة صلى ابراهيم عليه السلام ، وقد صلى فيه ألف نبي وألف وصي وفيه عصا موسى والشجرة اليقطين ، وفيه هلك يغوث ويعوق وهو الفاروق ، وفيه مسير لجبل الأهواز ، وفيه مصلى نوح عليه السلام ، ويحشر منه يوم القيامة سبعون ألفاً ليس عليهم حساب ، ووسطه على روضة من رياض الجنة ، وفيه ثلاث أعين من الجنة تذهب الرجس وتطهر المؤمنين ، لو علم الناس ما فيه من الفضل لأتوه حبواً . (1)
هذه البقعة الطاهرة لم يكن لها إسم قبل السنة السابعة عشرة للهجرة ، أو على الأقل لم تكن معروفة بهذا الأسم قبل ذلك الحين ، فالعرب يقولون للرملة الحمراء : كوفة ويقولون لكل رمل وحصباء مختلطين : كوفة . فما هي قصتها ؟
يبدو أن المسلمين بعد أن فرغوا من حرب القادسية والمدائن وأقاموا فيهما لم تلائم التربة ولا الطقس أجسامهم ، فتغيرت ألوانهم ونحلت أبدانهم ، فكتب حذيفة إلى عمر : إن العرب قد رقّت بطونها ، وجفَّت أعضادها ، وتغيرت ألوانها .
فكتب عمر إلى سعد : اخبرني مالذي غير ألوان العرب ولحومهم ؟
فكتب اليه سعد : إن الذي غيَّرهم وَخُومةُ البلاد ، وإن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان .
____________
1 ـ معجم البلدان 4 / 492 .
(129)

فكتب إليه عمر : أن إبعث سلمان وحذيفة رائدين ، فليرتادا منزلاً برياً بحرياً ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر .
فأرسلهما سعد ، فخرج سلمان حتى يأتي الأنبار ، فسار في غربي الفرات لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة ، وسار حذيفة في شرقي الفرات لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة ، فأعجبتهما البقعة ، فنزلا فصليا ودعوا الله تعالى أن يجعلها منزل الثبات .
ثم رجعا إلى سعد فأخبراه ، فارتحل سعد من المدائن حتى نزل الكوفة في المحرم سنة سبع عشرة ، وكتب إلى عمر : اني قد نزلت بالكوفة منزلاً فيما بين الحيرة والفرات برياً وبحرياً *(1) ينبت الحلفاء والنصيّ *(2) ، وخيرت المسلمين بينها وبين المدائن ، فمن أعجبه المقام بالمدائن تركته فيها كالمسلحة .
ولما استقروا بها ، عرفوا أنفسهم ورجع إليهم ما كانوا فقدوا من قوتهم وأول شيء خط فيها وبني ، مسجدها ، قام في وسطه رجل شديد النزع فرمى من كل جهة بسهم ، وأُمر أن يبنى ما وراء ذلك ، وبني ظلّة في مقدمة المسجد على أساطين رخام من بناء الأكاسرة في الحيرة . (3)
وهكذا رأينا سلمان يختار هذه البقعة وكأن يد الغيب دلته عليها ، فهي اليوم مزار ملايين المسلمين ، أحياءً وأمواتاً وفي ظهرها ثاني أكبر مقبرة في العالم حيث مدفن أمير المؤمنين علي عليه السلام والبررة الصالحين من مواليه .
ولم يفتر سلمان عن ذكرها ، والتنويه بفضلها ، فكان يقول :
الكوفة قبة الإسلام ، يأتي على الناس زمان لا يبقى مؤمن إلا وهو بها أو يهوي قلبه إليها .
ويقول : أهل الكوفة أهل الله ، وهي قبة الإسلام يحن إليها كلُّ مؤمن . (4)
____________
*1 ـ كانوا يسمون النهر الكبير بحرا .
*2 ـ الحلفاء نبت ينبت في الماء وكذلك النصي .
3 ـ مقتضبة من الكامل 2 / 527 ـ 528 .
4 ـ معجم البلدان 4 / 492 .