أزواجـه وأولاده

الرجل كل الرجل ، ذلك الذي يعظم في أعين الناس ، فينسون كل شيء حوله ، ينسون محيطه وأبنائه ، وماله وما عليه إلا شخصيته ، وهذا أمر نلمسه وندركه ، فالأنظار عادةً تصوب نحو العظماء دون التفكير بمن حولهم حتى ولو كانوا أبنائهم .
والذي يبدو أن سلمان من هذا النمط النادر ، فلا هو يهتم بالتحدث عن عائلته وبيته ، ولا الناس يتحدثون عن ذلك ، اللهم إلا ما يتصل منه بعالم المثل والأخلاق .
عن عبد الرحمن بن السلمي قال : إن سلمان الفارسي تزوج إمرأة من كندة ، فلما كان ليلة البناء عليها ، جلس عندها فمسح بناصيتها ودعا لها بالبركة ، وقال لها :
أتطيعيني فيما آمرك ؟
قالت : جلست مجلس من تطيع .
قال : فان خليلي صلى الله عليه وآله وسلم أوصاني إذا اجتمعت إلى أهلي أن أجتمع على طاعة الله .
فقام وقامت إلى المسجد فصليا ما بدا لهما ، ثم خرجا فقضى منها ما تقضي


(154)

الرجال من النساء ، فلما أصبح ، غدا عليه أصحابه وقالوا : كيف وجدت أهلك ؟
فأعرض عنهم ، ثم قال : إنما جعل الله الستور والخدور والأبواب لتواري ما فيها ؛ حسب امرىءٍ منكم أن يسأل عما ظهر له ، فأما ما غاب عنه فلا يسئلن عن ذلك . سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : التحدث عن ذلك كالحمارين يتشامان في الطريق .
وفي مهج الدعوات : انه كان له ولد إسمه عبد الله .
وذكر صاحب « نفس الرحمن » أن من أحفاده ضياء الدين ، وهو من علماء خجند ، وله شرح على كتاب ( محصول الرازي ) . . وكان متكفلاً للأمور الشرعية في بخارى ، وتوفي بهرات سنة 633 . (1)
____________
1 ـ نفس الرحمن / الباب الرابع عشر ، غير مرقم .
(155)

كيفية وفاته رضي الله عنه

لقد آن لهذا الفارس أن يترجل بعد أن حاز قصب السبق في ميدان الإيمان ، لقد كان أروع مثل للعبقرية التي تنجبها أمة فكان « سابق فارس » نحو الإيمان ورائدها نحو الأسلام ، قضى عمره المديد مجداً في طلب الحق حتى كان له ما أراد ، وقد شاء الله له أن يعود من حيث أتى ، إلى وطنه وأهله وعشيرته دالاًّ لهم ومرشداً ، وأمير عدل يحكم بينهم بالحق .
ومضت سنين أحسبها تنوف على ربع قرن ، كان سلمان خلالها ينفض عن نفسه غبار هذه الدنيا الزائفة مزمعاً الرحيل نحو العالم الخالد . . عالم الآخرة . لينعم هناك برضوان الله ورحمته في جنته الخالدة مع الأنبياء والشهداء والصديقين .
قال الأصبغ بن نباته : كنت مع سلمان الفارسي رحمة الله عليه وهو أمير المدائن ، فأتيته يوماً وقد مرض مرضه الذي مات فيه . . فلم أزل أعوده في مرضه حتى اشتد به الأمر ، فالتفت إلي وقال :
يا أصبغ ، عهدي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : يا سلمان ، سيكلمك ميت إذا دنت وفاتك . (1)
____________
1 ـ راجع البحار 22 / 374 والقصة طويلة ومفصلة اقتضبنا منها ما يناسب الموضوع .
(156)

وبينما هو في مرضه إذ دخل عليه سعد بن أبي وقاص يعوده ، فبكى سلمان ، « فقال له سعد : ما يبكيك يا أبا عبد الله ؟ توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو عنك راضٍ ، وترد عليه الحوض .
فقال سلمان : أما اني لا أبكي جزعاً من الموت ، ولا حرصاً على الدنيا ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد إلينا فقال : ليكن بلغة أحدكم مثل زاد الراكب ، وحولي هذه الأساود .
وإنما حوله إجانة ، وجفنة ، ومطهرة .(1)
واشتد به المرض ، فمر على المقابر ـ وكأنه أراد أن يستعلم أمره ـ فقال : السلام عليكم يا أهل القبور من المؤمنين والمسلمين ، يا أهل الدار هل علمتم أن اليوم جمعة .
وحين عاد إلى مقره استلقى على فراشه ، فغفى ونام « فأتاه آتٍ فقال : وعليكم السلام يا أبا عبد الله ، تكلمت فسمعنا ، وسلمت فرددنا ، وقلت : هل تعلمون أن اليوم جمعة ، وقد علمنا ما تقول الطير في يوم الجمعة : قدوس . . قدوس . . ربنا الرحمن الملك . . » (2)
وأفاق سلمان من غفوته ، ثم التفت إلى من حوله قائلاً لهم : أسندوني ، فلما أسندوه رمق السماء بطرفه وقال :
« يا من بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون ، وهو يجير ولا يجار عليه بك آمنتُ ، ولنبيك إتبعت ، وبكتابك صدقتُ ، وقد أتاني ما وعدتني ، يا من لا يُخلف الميعاد إقبضني إلى رحمتك ، وانزلني دار كرامتك ، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . » (3) والتفت إلى من حوله قائلاً :
____________
1 ـ نفس المصدر / 381 خبر معروف .
2 ـ سلمان الفارسي / 138 ـ 139 .
3 ـ البحار 22 / 379 .

(157)

« قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم « إذا حضرك أو أخذك الموت ، حضر أقوام يجدون الريح ولا يأكلون الطعام ـ يعني الملائكة ـ . »
ثم أخرج صرةً من مسك . فقال : هبة أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . . ثم بلّها ونضحها حوله ، ثم قال لإمرأته : قومي أجيفي الباب . » (1)
« قالت زوجته : ففعلت ، وجلست هنيئة ، فسمعت هسهسةً ، فصعدت ، فإذا هو قد مات وكأنما هو نائم . » (2)

« تجهيـزه ودفـنه »

قالوا : وإن الذي قام بتجهيزه هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام !(4)وكيفية ذلك هو ما رواه الأصبغ بن نباتة ، قال :
« فبينما نحن كذلك ـ منشغلين بموت سلمان ـ إذ أتى رجل على بغلة شهباء متلثماً ، فسلم علينا ، فرردنا السلام عليه . »
فقال : يا أصبغ جدوا في أمر سلمان ، وأردنا أن نأخذ في أمره ، فأخذ معه حنوطاً وكفناً فقال : هلموا ، فان عندي ما ينوب عنه ، فأتيناه بماءٍ ومِغسل ، فلم يزل يغسِّلُه بيده حتى فرغ ، وكفَّنهُ وصلينا عليه ودفنَّاه ولحدَّه علي عليه السلام بيده ، فلما فرغ من دفنه وهمَّ بالإنصراف تعلقت بثوبه ، وقلت له : يا أمير المؤمنين ، كيف كان مجيئك ؟ ومن أعلمك بموت سلمان ؟
قال : فالتفت عليه السلام إلي وقال : آخذُ عليك ـ يا أصبغ ـ عهد الله وميثاقه أنك لا تحدث به أحداً ما دمتُ حياً في دار الدنيا .
فقلت : يا أمير المؤمنين ، أموت قبلك ؟
فقال : لا يا أصبغ ، بل يطول عمرك !
____________
1 ـ نفس المصدر / 283 ومعجم رجال الحديث 8 / 195 .
2 ـ سلمان الفارسي / 139 .

(158)

قلت يا أمير المؤمنين ، خذ علي عهداً وميثاقاً ، فإني لك سامع مطيع ، اني لا أحدث به حتى يقضي الله من أمرك ما يقضي ، وهو على كل شيء قدير .
فقال لي : يا أصبغ ، بهذا عهدني رسول الله ، فاني قد صليت هذه الساعة بالكوفة ، وقد خرجت أريد منزلي ، فلما وصلت إلى منزلي إضطجعت ، فأتاني آتٍ في منامي وقال : يا علي ، إن سلمان قد قضى نحبه !
فركبت وأخذت معي ما يصلح للموتى ، فجعلت أسير ، فقّرب الله لي البعيد ، فجئت كما تراني ، وبهذا أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قال الأصبغ : ثم إنه دفنه وواراه ، فلم أرَ صعد إلى السماء ، أم في الأرض نزل ، فأتى الكوفة والمنادي ينادي لصلاة المغرب . (1)

رواية ثانية عن ( مناقب ابن شهر اشوب )

روى حبيب بن حسن العتكي ، عن جابر الأنصاري قال :
صلى بنا أمير المؤمنين عليه السلام صلاة الصبح ، ثم أقبل علينا فقال : معاشر الناس ، أعظم الله أجركم في أخيكم سلمان ، فقالوا في ذلك ـ أي صاروا بين مصدق ومكذب ـ فلبس عمامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودراعته ، وأخذ قضيبه وسيفه ، وركب على العضباء (2) وقال لقنبر (3) : عدَّ عشراً ! قال : ففعلت ، فإذا نحن على باب سلمان .
قال زاذان : فلما أدركت سلمان الوفاة قلت له : من المغسل لك . ؟
قال : من غسل رسول الله . ( يعني علياً ) .
فقلت : انك بالمدائن وهو بالمدينة !
____________
1 ـ البحار 22 / 380 .
2 ـ ناقة النبي .
3 ـ خادم الإمام .

(159)

فقال : يا زاذان ، إذا شددت لحيي ، تسمع الوجبة ! فلما شددت لحييه سمعت الوجبة ، وأدركت الباب ، فإذا أنا بأمير المؤمنين عليه السلام ، فقال : يا زاذان ، قضى أبو عبد الله سلمان ؟
قلت : نعم يا سيدي ، فدخل وكشف الرداء عن وجهه . . الخ الرواية (1)
وهناك رواية أخرى بنفس المضمون ، لكنها تشير إلى أن ذلك حدث في خلافة عمر بن الخطاب .
ومن الواضح أن هذه الروايات يناقض بعضها بعضاً ، فالأولى تقول : أنه ـ يعني علياً ـ كان في الكوفة ، والثانية تقول : أنه جاء من المدينة ، والثالثة : أن ذلك تم في خلافة عمر . إلى غير ذلك .
ولكن لنا أن نقول : بأن هذا الأمر شائع بين الناس ، بل بين الخاصة إلى عصرنا الحاضر ، فالمعروف أن الذي جهز سلمان رضي الله عنه هو أمير المؤمنين علي عليه السلام ، ولعل عدم اثبات المؤرخين لمثل هذا في كتبهم يرجع إلى تكذيب القصة من أساسها ، حيث أن أذهانهم لا تتحمل فكرة إنتقال الأجسام من مكان إلى مكان بسرعة غير طبيعية تفوق سرعة ( الحصان والجمل ) .
أما نحن ، فعلينا أن ننظر لهذا الأمر من زاوية فكرية متحررة ، فنقول :
إن حدوث مثل هذا الأمر ممكن عقلاً ، بل هو واقع أيضاً في عصرنا الحاضر بفضل التقنية والتقدم العلمي الذي يهيئ الوسيلة لذلك .
إذن ، يبقى السؤال : كيف وما هي الوسيلة في ذلك العصر ؟
إن قدرة الله سبحانه لا يقف دونها شيء ، فهو مسبب الأسباب ، والقادر على تهيئتها متى يشاء ، وقد ورد في كتابه الكريم مثل لما نحن في صدده ، في عرضه لقصة « عرش بلقيس » حيث قال تعالى :
« قال يا أيها الملأُ أيُّكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين * قال عفريتٌ من »
____________
1 ـ البحار 22 / 373
(160)

الجنّ أنا آتيكَ به قبلَ أن تقوم من مَقَامِك وإني عليه لقويُّ أمين ، قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيكَ به قبل أن يرتدَّ إليك طرفك فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي . » (1)
وهكذا في طرفة عين كان عرش بلقيس ينقل من اليمن إلى القدس على يد صاحب سليمان ( آصف بن برخيا ) (2) الذي عنده علم من الكتاب !
فما ظنك بصاحب محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال فيه : أنا مدينة العلم وعلي بابها .
____________
1 ـ النمل / 38 ـ 39 .
2 ـ راجع مجمع البيان 7 / 223 .

(161)

كم عاش سلمان . . ؟

مسألة ـ طول العمر ـ حيرت كثيراً من الباحثين ، وهي مسألة تترتب عليها أهمية كبرى في غير ما نحن فيه ، من حيث أنها تصل بنا إلى الحديث عن ( المهدي ) أو المخلص الذي ينتظره العالم والذي ولد منذ أكثر من ألف سنة ولا زال حياً ، تسوقنا إلى الحديث عنه مرغمين ، لذلك فإن رفض الفكرة من أساسها يعني الرفض لفكرة بقاء المهدي ، وأمثالها ، مع أن ذلك أمر تسالمت عليه الأديان وأقرته .
إذن : مسألة طول العمر مسألة ذات أهمية قصوى لما يترتب عليها من آثار جليلة ، فلا يمكن الوقوف أزاءها موقف الحيرة والتردد ، بل لا بد من البت فيها كي نريح ونستريح .
والآن : ماذا يقول المؤرخون عن عمر سلمان . ؟
قال العباس بن يزيد ، قال أهل العلم : عاش سلمان ثلاثمائة وخمسين سنة ، فأما مائتان وخمسون فلا يشكون فيه .
قال أبو نعيم : كان سلمان من المعمرين ، يقال أنه أدرك عيسى بن مريم وقرأ الكتابين . (1)
وقال ابن الأثير : وكان عمره مائتين وخمسين سنة ، هذا أقل ما قيل فيه .
____________
1 ـ أسد الغابة 2 / 332 .
(162)

وقيل ثلاثمائة وخمسون سنة ، وكان قد أدرك بعض أصحاب المسيح عليه السلام .(1)
وقال ابن عبد البر : يقال أنه أدرك عيسى بن مريم ، وقيل بل أدرك وصي عيسى ، ثم عقب قائلاً :
قال الذهبي : وجدت الأقوال في سنه كلها دالة على أنه تجاوز المائتين وخمسين ، والاختلاف إنما هو في الزائد . . الخ (2).
والذي أعتقده أن هذه النصوص كافية في إقتناعنا بالنسبة لعمر سلمان الذي تجاوز المائتين وخمسين سنة ، ولكن يبقى سؤال : هل هناك مانع من أن يعيش الإنسان فترات طويلة ربما تجاوزت الألف سنة أو أكثر ؟
والجواب هو بالنفي القاطع ، فلا مانع من ذلك البتة ، بل كل الشواهد الدينية والعلمية تقر ذلك وتؤيده ، وكذلك الحسية .
الشواهد الدينية ، تؤكد أن الخضر عليه السلام لا زال حياً منذ عهد موسى عليه السلام ، وأن نوح عليه السلام لبث في قومه 950 سنة بنص الآية الكريمة : « فلبث فيهم ألف سنةٍ إلا خمسين عاما . » وقصة أصحاب الكهف : « ولبثوا في كهفهم ثلاث مائةٍ سنين وازدادوا تسعا » فيها دليل كافٍ ، إلى ما هنالك .
الشواهد العلمية : وهي تتلخص بنظرية أن الإنسان « قابل للبقاء إلى حد بعيد » وأن السؤال المحير هو : « لماذا الموت ؟ » لا « لماذا الحياة » فإن الأنسجة الرئيسية في جسم الكائن الحي قابلة للإستمرار إلى ما لا نهاية له ما لم يعرض لها ما يقطع حياتها .
فقد أصبح من المقرر لدى علماء الحياة أن لا مانع للإنسان من حياةٍ طويلة إذا تيسرت له جميع الظروف المناسبة ، بل لقد قرروا أن الأجزاء الأولية
____________
1 ـ الكامل 3 / 287 .
2 ـ الإصابة 2 / 62 .

(163)

للأنسجة يمكن أن تبقى حيةً نامية ما دام يتوفر لها الغذاء اللازم والمناخ الملائم وما دامت في منأىً عن العوارض الخارجية المعيقة للنمو والحياة . (1)
إذن فلنفتش عن سر الموت ، لماذا يموت الإنسان ؟
هناك ما يقرب من مائتي إجابة عن هذا السؤال الخطير الذي كثيراً ما يطرح في المجالس العلمية ، والذي دافعه حلم الإنسان بالخلود ، وقد يطرح بعضهم أجوبةً لهذا السؤال : منها : ( فقدان الجسم لفاعليته ) ، ( وانتهاء عملية الأجزاء التركيبية ) ، ( تجمد الأنسجة العصبية ) ، ( حلول المواد الزلالية القليلة الحركة ، محل الكثير منها ) ، ( ضعف الأنسجة الرابطة ) ، « انتشار سموم « بكتريا » الأمعاء في الجسم » وما إلى ذلك .
وربما كان القول « بفقدان الجسم لفاعليته » قولاً جذاباً ، فان الآلات الحديدية والأقمشة والأخشاب كلها تفقد فاعليتها بعد أجل محدود كذلك أجسامنا أيضاً تبلى وتفقد فاعليتها كالجلود التي نلبسها في موسم الشتاء .
لكن العلم الحديث لا يؤيدنا في ذلك ، لأن المشاهدة العلمية للجسم الإنساني تؤكد أنه ليس كالجلود الحيوانية والآلات الحديدية ، وليس كالجبال . . وإن أقرب شيء يمكن تشبيهه به ، هو ذلك ( النهر ) الذي لا يزال يجري منذ آلاف السنين على ظهر الأرض ، فمن الذي يستطيع القول بأن النهر الجاري يبلى ويهن ويعجز ؟ .
بناءً على هذا الأساس ، يعتقد الدكتور « لنس بالنج * » أن الإنسان أبدي إلى حد كبير ، نظرياً ، فان خلايا جسمه آلات تقوم بإصلاح ما فيه من الأمراض ومعالجتها تلقائياً ! وبرغم ذلك فإن الإنسان يعجز ويموت ؛ ولا تزال علل هذه الظاهرة أسراراً تحير العلماء .
____________
1 ـ يوم الخلاص / 113 .
* ـ حائز على جائزة نوبل للعلوم .

(164)

إن جسمنا هذا في تجدد دائم ، وإن المواد الزلالية التي توجد في خلايا دمائنا تتلف كذلك ثم تتجدد ، ومثلها جميع خلايا الجسم تموت وتحل مكانها خلايا جديدة ، اللهم إلا الخلايا العصبية . وتفيد البحوث العلمية : أن دم الإنسان يتجدد تجدداً كلياً خلال ما يقرب من أربع سنين ، كما تتغير جميع ذرات الجسم الإنساني في بضع سنين ، ونخرج من هذا بأن الجسم الإنساني ليس كهيكل ، وإنما هو كالنهر الجاري أي أنه ذو عمل مستمر . (1)
شواهد حسية :
بعد هذا فليس بعجيب أن يطول عمر بعض الناس إذا توفرت الظروف الصالحة ـ كما نرى بالبديهة في عصرنا الحاضر ـ فقد عمَّر كثيرون من سكان منطقة خوزستان إلى ما فوق المئتي سنة ، ووصل أفراد منهم إلى ربع الألف وزادوا (2) كما أجرت بعض وسائل الإعلام مقابلات معهم منذ أربع سنوات .
الإستقراء :
وهو شاهد رابع يضاف إلى تلك الشواهد ، فقد دون المؤرخون الشيء الكثير عن أخبار المعمرين وأحوالهم ، وأفرد بعضهم كتباً خاصةً لذلك ـ ونذكر من هؤلاء المعمرين ما يلي .
1 ـ لقمان بن عاد . قال في مجمع البحرين ، أنه عاش ألف سنة ، وقيل أنه عاش عمر سبعة أنسر ، فكان يأخذ النسر وهو فرخ ويجعله في الجبل ، فإذا مات أخذ غيره ، حتى كان آخرها « لُبَد » وكانت أطولها عمراً ، فقيل : طال الأمد على لبد ، ولما رأى هلاكه قال : اهلكتني يا لبد ، وفيه يقول الأعشى :
لنفسـك أن تختـار سبعـة أنسـر * إذا ما مضى نسـر خلـوت إلى نسـر
فعمـر حتـى خـال أن نسـوره * خلود وهل تبقى النفـوس على الدهـر
وقـال لأدنـاهن إذ حـل ريشـه * هلكـت وأهلكت ابن عـادٍ ولا تـدري

____________
1 ـ راجع الإسلام يتحدى / 80 .
2 ـ يوم الخلاص / 113 .

(165)

2 ـ ربيع بن ضبع بن وهب ، قيل : انه عاش ثلاثمائة وأربعين سنة وأدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يسلم ، وهو الذي يقول ، وقد جاوز المئتين :
ألا أبـلـغ بـنّي بـَني ربيـع * وأشـرار الـبنـين لهـم فـداء
بـأني قد كـبرت ودق عظمي * فـلا يشغلـكم عنـي الـنسـاء
إذا كـان الشتـاء فأدفئـونـي * فـان الشيـخ يهـدمـه الشتـاء
وأمـا حيـن يذهب كـل قـر * فـسـربـال خفـيـف أو رداء
إذا عـاش الفتى مئتيـن عامـاً * فقـد ذهـب اللـذادة والـفتـاء

3 ـ أكثم بن صيفي الأسدي التميمي . « قيل أنه عاش ثلاثمئة وثلاثين سنة . » (1) وكانت العرب لا تفضل عليه أحداً ، وهو القائل :
وإن إمرىءٍ قد عاش تسعين حجةً * إلى مئةٍ لم يسئم الـعيش ، جـاهـل
خلت مائتـان غيـر ست واربـع * وذلك من عـد اللـيـالـي قـلائـل

وقد أدرك الإسلام وكتب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً يقول فيه : باسمك اللهم ، من العبد إلى العبد فانا بلغنا ما بلغك ، وأتانا عنك خبر ، ما أصله ؟ فإن كنت رأيت فأرنا ، وإن كنت علمت ، فعلمنا ، وأشركنا في كنزك ، والسلام .
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى أكثم بن صيفي ، أحمد الله إليك ، إن الله أمرني أن أقول لا إله إلا الله ، أقولها وآمر الناس بها ، الخلق خلق الله والأمر كله لله ، خلقهم وأماتهم ، وهو ينشرهم وإليه المصير ، أدبتكم بآداب المرسلين ، ولتسئلن عن النبأ العظيم ، ولتعلمن نبأه بعد حين .
فلما وصل كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع بني تميم ووعظهم وحثهم على المسير إليه ، وعرفهم وجوب ذلك عليهم ، فلم يجيبوه ، فسار هو
____________
1 ـ الإصابة 1 / 112 راجع للتفصيل .
(166)

وبنوه ، وبنو بنيه ، فمات قبل أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وعاش بعده حفيده صيفي بن رياح مئتين وسبعين سنة ، ولم ينكر من عقله شيء .
6 ـ عمرو بن جمحة الدوسي . قيل : انه عاش أربعمئة سنة ، وهو الذي يقول :

كبرت فطـال العمر حتى كأننـي * سيـم أفـاعٍ ليـله غيـر مهجـع
فما الموت أفنـاني ولكن تتـابعت * علي سنـون من مصيف ومربـع
ثلاث مئين قـد مررن كـوامـلاً * وهـا أنـا بعـد أرتجي مر أربـع

7 ـ عبيد بن شريد الجرهمي ، (1) قيل : إنه عاش ثلاثمئة وخمسين سنة ، وقيل أقل من ذلك ، وقد أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحسن إسلامه وبقي بعده إلى أيام معاوية ، وقدم عليه فقال له معاوية : أخبرني يا عبيد عما رأيت وسمعت . ؟ ومن أدركت ؟ وكيف الدهر ؟
فقال : أما الدهر فرأيت ليلاً يشبه ليلا ، ونهاراً يشبه نهارا ، ومولوداً يولد ، وحياً يموت ، ولم أدرك أهل زمان إلا وهم يذمون زمانهم ، وأدركت من قد عاش ألف سنة وحدثني عمن عاش قبله ألفي سنة . . الخ .
9 ـ العوام بن المنذر ، عاش دهراً طويلاً ، وأدرك خلافة عمر بن عبد العزيز ، فأدخل عليه وقد اختلفت ترقوتاه ، فقيل له : ما أدركت ؟ فقال :
فـوالله مـا أدري أأدركـت أمـةً * على عهد ذي القـرنين أم كنت أقـدمـا
متى تكشفوا عني الـقميص تبينـوا * جنـاحـي لم يكـسين لحمـاً ولا دمـا

10 ـ معد يكرب الحميري ، عاش مائتين وخمسين سنة .
____________
1 ـ في الإصابة 3 / ص 101 رقم 6395 عبيد بن شرية . . أحد المعمرين . . قال عاش مائتين وأربعين سنة ، وقيل ثلاثمائة سنة الخ . . راجع .
(167)

11 ـ جعفر بن فرط الجهني (1) عاش ثلاثمائة سنة ، وأدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأسلم .
12 ـ عوف بن كنانة الكلبي ، عاش ثلاثمائة سنة .
13 ـ هبل بن عبد الله بن كنانة ، عاش ستمائة وسبعين سنة .
14 ـ قس بن ساعدة الأيادي ، قيل أنه عاش ستمائة سنة ، وقيل أقل من ذلك . (2)
15 ـ ذو القرنين ـ 3000 سنة .
16 ـ الضحاك ( بيورسب ) 1200 سنة .
17 ـ أفريدون بن اثـفيان الذي ملك 500 سنة عاش 1000 سنة .
18 ـ ملك فارس الذي أحدث عيد النيروز 2500 سنة وقيل استتر عن قومه 600 سنة . الخ (3)
بعد هذا يمكننا بكل طمأنينة أن نقول :
19 ـ سلمان الفارسي عاش 250 سنة وقيل أكثر من ذلك . وقيل أنه أدرك بعض أوصياء المسيح عليه السلام وهو غير بعيد .
____________
1 ـ في الإصابة 1 / 261 رقم الصحابي 1290 جعفر بن قرط العامري ذكره أبو حاتم السجستاني في المعمرين وقال 300 سنة .
2 ـ حقائق الإيمان .
3 ـ يوم الخلاص ص 118 وقد ذكر أرقاماً لا داعي لذكرهما هنا .