امتلأت نفسي ارتياحا حين نُبئت بالمسابقة التي دعت إليها « مكتبة العلمين »
الموقّرة ـ في النجف الاشرف ـ لتأليف كتاب مستقل عن شخصية الزهراء
فاطمة بنت محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وعلّة ارتياحي لهذا النَّبأ : أنّ كثيرا من شباب أُمتنا اليوم
تجهل الكثير عن أهل البيت ( عليهم السلام ) وليس بدعاً من الأمر حين نقول ذلك ،
لأنّ شباب الاُمة اليوم قد فقدوا الدّافع الذي يدفعهم للبحث عن الشّخصيات
الإسلامية بعد أن جهلوا الإسلام برمّته ، وجذبتهم الألوان التي زُيّنت بها حضارة
الغرب الجاهلي ، واغتّروا بها وركضوا خلف سرابها الموهوم ، وثمة نقطة أخرى
تؤصّل هذه المأساة ، أنّ الشباب المعاصر ليس في وسعه الحصول على كتب مبّسطة
تنطق بلغة العصر ، تعرض حياة هؤلاء القادة من أهل البيت ( عليهم السلام ) لأنّ أكثر
أئمة أهل البيت ما زالت حياتهم مبعثرة في كتب السيرة القديمة بترتيب لا يستسيغه
شباب اليوم الذي اعتاد على المجلات الملونة والجرائد المنمّقة والكتب الجذابة ،
وحين تكون الكتب القديمة بأساليبها غير المستساغة اليوم من العوامل التي تسهم
في عملية جهل شبابنا بسيرة أهل البيت ( عليهم السلام ) فقد أصبح لزاماً على ذوي
الإحاطة بسيرة أهل البيت ( عليهم السلام ) أن يقوموا بمهمة التأليف بأسلوب عصريّ عن
هذه السّيرة الجليلة. وحين يتولّون هذه المهمة فإنّما يتولّونها كجزء من عملهم كدعاة
لله ونهجه المقدّس ، لأن تبيان سيرة أهل البيت ( عليهم السلام ) يمثّل التجسيد الحيّ
للرسالة الإسلامية برمّتها ، فهؤلاء القادة قد هظموا الإسلام بطابعه الأصيل فتمثل
في واقع حياتهم كلّها ، فهم في الفكر وفي السّلوك وفي العواطف وكلّ الوان نشاطاتهم
إسلام يسير على الأرض.
والباحث في حياتهم لا يتناول جانباً منها حتى يلمس جانباً من المنهج الإلهي
قد انعكس واقعاً متحرّكاً حياً ونحن حين نقول هذا لم نكن لننطلق بدافع عاطفي ينبثق من حبنا لأهل البيت ( عليهم السلام ) وإنّما نبني هذه الحقيقة على أساس
رصين من أحكام لا تقبل النقد أو الرد كقوله تعالى : «
».
فأهل البيت ( عليهم السلام ) قد طهّرهم الله عقلاً ومنطقاً وسلوكاً من كلّ آثار
الجاهلية فعادوا وهم يحملون طابعاً كلّه قدسيّة وطهارة مطبوعة بطابع منهج الله
سبحانه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وحين يكون أهل
البيت ( عليهم السلام ) قد أحتلُّوا هذا المقام السّامي في الشّرع الإسلامي المقدس فقد
انطلق الرسول الأكرم لتبيان هذه الحقيقة حين أعلن لأمّته موضّحاً قيمة أهل بيته
( عليهم السلام ) بقوله : «
».
فهم على هذا الأساس ترجمان القرآن وصورة حيّة لمبادئه السماوية المقدّسة ،
فالكتاب قرآن صامت وهم قرآن ناطق ، وحين يتبوأ أهل البيت ( عليهم السلام ) هذا المقام
الكريم عند الله ورسالته الخالدة فقد أصبح لزاماً على المنظّمات والهيئات
الإجتماعية والثقافية أن تحذو حذو «
» في شحذ الهمم
بوسائل مادّية أو معنوية للتأليف عن سيرة أهل البيت ( عليهم السلام ) لكي يجد
شبابنا ما يسد فراغهم من كتب سيرة مبسطة تلهمهم معرفة حيّةً بالرسالة الإسلامية.
ونحن حين نتناول الحديث عن الزهراء ( عليها السلام ) بصفتها غرس النبوة
وشجرة الإمامة فإنّما تنكشف لنا أبعاد الرسالة الإسلامية بطابع تجسيدي نلمسه في
كلّ جانب من جوانب شخصيتها ( عليها السلام ) ونحن نتابعها ، ففي قرانها بعلي بن
أبي طالب ( عليه السلام ) تنجلي لنا الصورة الحيّة التي رسمها الإسلام للقرآن الذي
ارتضاه خالق هذا الوجود ، وفي مواقفها البطولية بعد وفاة أبيها يتكشف لنا
المدى البعيد الذي رسمه الإسلام للمرأة من حقوق وواجبات ومدى فاعليتها في
بناء المجتمع الإسلامي ، وعلى هذا الأساس تقاس سائر جوانب شخصيّة الزهراء
( عليها السلام ) وسيدرك القارىء الكريم ـ إن شاء الله ـ هذه الحقيقة عند
متابعته لهذا البحث المتواضع ، ومن الله تعالى نستمد العون والسداد إنّه سميع مجيب.
( 14 )
( 15 )
المدخل
( 16 )
( 17 )
زفت البشرى إلى عبد المطلّب ـ شريف مكة ـ بميلاد محمد ( صلى الله عليه وآله ) فأشرق
وجهه وتهلّل فرحاً لهذا النبأ لأنّه وجد في هذا الوليد الجديد خلفاً لابنه الفقيد
عبدالله الذي ملأ قلب أبيه أسىً وألماً . وهبّ الشيخ الكريم إلى بيت اليتيم
ليستقبل وديعة ولده الفقيد ، وكان أول واجب أدّاه الرّجل الحنون هو تسميته بـ
« محمد » ، ومنحت آمنة وليدها كلّ رقّة وحنان حتى أصبح في عمر يستحق بعثه
إلى المراضع في البادية كما هي العادة التي يتّبعها الآباء لتربية أبنائهم تربية
ينهضون على أساسها بأعباء الحياة القاسية التي يحياها إنسان الصّحراء من فروسية
وركوب خيل وحمل سلاح وغير ذلك.
وأرسل عبدالمطلب الحنون وديعته إلى البادية حيث تولّت حليمة السّعدية
تربيته ، ويترعرع محمد ( صلى الله عليه وآله ) في حضن مربّيته الجديدة ويعمّ الخصب كلّ الحي الذي
نشأ فيه فضلاً عن البيت الذي تولّى مسؤولية رعايته وتنشئته.
وتمضي الأيام وتنتهي الفترة التي أُعدت لتربية الطفل اليتيم ، ويعود إلى أمُه
ليحظى من جديد بحنانها وإخلاصها المنقطع النظير ، وليتفيّأ تحت ظلالها الوارفة ،
ولكن لفترة قصيرة ، إذ تعاجله يد المنون فتخطف أُمّه وتسلّمه ليتم جديد ، بل
لتعمّق آثار اليتم وتؤصّلها في نفسه ، وتتسلّمه يد عبد المطلب الأمينة لتواصل
رعايته بعيداً عن آثار اليتم وذكريات الماضي ، وتفيّأ الصبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) من ظلال
جدّه الحنون ، ولكنّ الموت عاجله فغيب شخص جدّه عبد المطلب عنه ، فعادت
أشباح اليتم بضراوتها لتخيّم على محمد ( صلى الله عليه وآله ) من جديد.
ويسرع أبو طالب عمُّه الكريم ليسد الثغرة التي حدثت في حياة ابن أخيه ،
وليؤدّ وصيّة أبيه بشأن حبيبه محمد حيث ورّثه وصيّة خالدة ما دامت السماوات والارض :
« اُنظر ـ يا أبا طالب ـ أن تكون حافظاً لهذا الوحيد الذي لم يشم رائحة
أبيه ولم يذق شفقة أُمه ، اُنظر أن يكون ـ من جسدك ـ بمنزلة كبدك .. فإني
قد تركت بنيّ كلّهم وخصصتك به لأنّك من أُمّ أبيه... ».
وينتقل محمد ( صلى الله عليه وآله ) إلى بيت عمّه أبي طالب ليجد الرّحمة والحنان ترفرف فوق
رأسه لتنسيه آلام حزنه وكآبته التي نالته بعد فقد أُمه وجدّه بعد أبيه ، ويترعرع
( 18 )
محمد ( صلى الله عليه وآله ) وهو يتذوق طعم الحنان بأجلى صوره فهو يتمتع بشفقة الأُبوة متمثّلة
بشخص عمّه أبي طالب ، وبحدب الاُمومة متمثّلاً بشخص زوجة عمه فاطمة بنت
أسد التي وجد فيها الاُمّ الرؤوم التي احتضنته كما احتضنت وليدها عليّاً ( عليه السلام ) وإلى
جانب هذه اللذّة التي ذاق محمد طعمها وجد لذة الإلفة والإنسجام الروحي بينه
وبين ابن عمّه علي ( عليه السلام ) حيث وجد فيه خير صفيّ له في فتوته ، ويسخّر أبو طالب
كلّ طاقاته المعنويّة والماديّة لأجل محمد وديعة أبيه العزيز ، فوجد محمد ( صلى الله عليه وآله ) في عمّه
هالةً من العاطفة الخيّرة تجاهه حتى صحبه في اسفاره إلى بلاد الشام.
وترعرع الفتى في بيت عمّه وراح ينفرد عن قومه في لون حياته الخاصة
والعامة ، فالصدق والأمانة والوفاء وحسن الخلق وجفاء الأصنام والعقائد السائدة ،
كلّ ذلك كان ديدنه ( صلى الله عليه وآله ) حتى اعتادت قريش أن تسمّيه «
الصادق الأمين » وقد
احتكمت لديه في رفع الحجر الاسود عند بناء البيت فحلّ خصومتهم بإحضاره
ثوباً وضع في وسطه الحجر الأسود وأمر كلّ قبيلة أن ترفع طرفاً من أطراف
الثوب ، وعند وصوله إلى المكان المعد له أنزله من الثوب . وقضى بذلك بينهم قضاءً
حقن لهم دماءهم مما جعل صيته تتحدث به أندية مكّة وغيرها ، وبلغ صيته النساء
القرشّيات فاُعجبن ومن بين النساء اللواتي طرق سمعها حديث محمد ( صلى الله عليه وآله ) خديجة
بنت خويلد الإمرأة القرشيّة التي عرفت بثروتها وشرفها وعفّتها ، وكانت قد فقدت
زوجها واختزلت من عمرها زمناً دون زواج.
سمعت هذه المرأة الثرية عن محمد ( صلى الله عليه وآله ) الشيء الكثير وراحت تستقصي أنباءه
كلّ حين ، وبلغها يوماً أنّ محمداً يفتش عن مال ينطلق به مع القافلة إلى بلاد الشام
للمتاجرة هناك حيث اعتاد عرب الحجاز ـ يومذاك ـ أن يتاجروا مع بلاد
الشام أو الحبشة حيث كانت مكة سوقاً عالميّة ومفترق طرق التجارة بين الشمال
والجنوب ، وتجد خديجة هوىً في نفسها لمدّ محمد بما يحتاج إليه من مال شريطة أن
يكون لها نصيب من الرّبح الذي يكسبه ، وبعثت لذلك غلامها « ميسرة » بغية
التفاوض مع محمد.
وعلى الفور يتّفق الطرفان ويسافر محمد وميسرة في تجارتها إلى الشام ، وما هي
إلاّ ايام ويعودان وهما يصحبان ربحاً وفيراً ، ويسرع ميسرة إلى سيدته ليبشرها
بنتائح الرحلة ، ولكنها لم تكترث للمال ، بل راحت تستفسر عن سلوك محمد ، خلال
( 19 )
الرّحلة ، وراح ميسرة يوضّح ما رآه عن محمد ، فما كان من خديجة إلاّ أن يشرق
وجهها بالبشر والأمل ، الأمل الكثير الذي تنتظره ، وهنا تزداد ثقة مما سمعته من
الأنباء المثيرة عنه ، وهنا تتحدّى خديجة التقليد الذي اعتاد عليه الناس
يومذاك ـ حيث تبعث أُختها هالة أو نفيسة بنت منبه ـ على قول ـ لتتصل
بمحمد ، فتعرض عليه رغبتها في الزواج منه ، فيجد محمد ( صلى الله عليه وآله ) هوىً في نفسه
للفكرة ، التي عرضت عليه ، فيتّصل بأعمامه ليشرح لهم ما جرى بينه وبين ممثلة
خديجة ، فيستقبل أبو طالب وهو زعيم مكة وشريف العرب ـ يومذاك ـ هذا
العرض بكلّ رحابة صدر واطمئنان ، ويتّصل بذوي خديجة ليخطبها منهم مفتتحاً
حديثه بالكلمة القصيرة الآتية :
«
الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذريّة إسماعيل ، وجعل لنا بيتاً
محجوجاً ، وحرماً آمناً ، وجعلنا الحكام على النّاس ، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن
به ثم إنّ ابن اخي محمد بن عبدالله لا يوازن برجل من قريش إلا رجح ، ولا يقاس
بأحد إلا عظم عنه ، وإن كان في المال قُلّ ، فإنّ المال رزق حائل وظلٌّ زائل ، وله
في خديجة رغبة ولها فيه رغبة ، وصداق ما سألتموه عاجله من مالي وله ـ
والله ـ خطب « عظيم ، ونبأ شائع ».
وبعد مناقشات مع عمّها عمرو بن أسد ، قبل العرض وزوج ابنة أخيه إلى
محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، ويعانق قلب محمد ( صلى الله عليه وآله ) قلب خديجة وتنسجم روحاهما في وقت كان
محمد ( صلى الله عليه وآله ) يبلغ الخامسة والعشرين سنة من عمره ، ويبلغ عمر خديجة الأربعين سنة.
وتمر الأيام سريعة يعيش فيها محمد وخديجة عيشة هانئة نديّة ، يقضي فيها محمد
أكثر أوقاته بعيداً عن غوغاء الجاهلية وضجيجها في «
غار حراء » خارج مكة
متأملاً في أوضاع قومه المتردية ، متفكراً في ملكوت الله سبحانه ، وخديجة تشاركه
أحاسيسه ومشاعره بقلب يفيض بالحبّ والوفاء ، وهي في داخل بيتها ، ويبلغ
محمد ( صلى الله عليه وآله ) الأربعين من عمره ، ويطالعه الوحي ليكلّفه مسؤولية حمل رسالة
الإسلام ـ رسالة السّماء ـ وتبليغها للمجموعة البشريّة ، فيستمع إلى أول بيان
إلهي ليتحمّل أعباء الرسالة :
( 20 )
«
إقرأ باسم ربّك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * إقرأ وربُّك الأكرم
الذي علّم بالقلم * علّم الإنسان ما لَم يعلم .... ».
ويعود محمد وهو يحمل نبأ تكليفه بحمل الهداية إلى الإنسانيّة ، يعود من
« حراء » إلى بيته فتستقبله خديجة الوفية ، فيبشرها بما رأى ، فتصدّقه وتؤمن به ،
ويصدّقه علي ( عليه السلام ) حيث كان يافعاً وقد ربّاه محمد في بيته بعد أن أملق عمّه
أبو طالب ، وتنشأ أول نواة في الأرض لخلق
« خير أُمّة أُخرجت للنّاس ... ».
ويحس محمد ( صلى الله عليه وآله ) بدوّار وتعب فيطلب لخديجة أن تدثّره لينام قليلاً ولكنّه
فوجىء ببيان السّماء للنُّهوض بأعباء الدعوة وأن يضم إلى جانب حمل الرسالة حمل
الدعوة لها :
«
يا أيها المُدثر قم فأنذر ، وربك فكبّر ، وثيابك فطهّر ، والرجز فاهجر ، ولا تمنن
تستكثر ؛ ولربّك فاصبر » ...
ونهض لينفذ نداء السّماء ، فيتّصل بأصدقائه وممن يثقون بصدقه وأمانته
سابقاً ، فصدّقه بعضهم . واستمر الرّسول ( صلى الله عليه وآله ) يدعو بصورة فرديّة لأنّ الظروف
يومئذ لا تسمح إلاّ بسرية الدعوة ، واستمر يعمل طبقاً لهذا المنهاج ثلاث سنين
لتثقيف أتباعه في دار الأرقم المخزومي ، ولكنّ هذه الفترة من عمر الدّعوة لم
يكسب فيها غير زهاء الأربعين شخصاً ، أكثرهم من الفتيان والفقراء ، وفي أحد
الأيّام تلقّى محمد ( صلى الله عليه وآله ) بياناً كلّفه بالإنتقال إلى مرحلةٍ جديدةٍ من مراحل الدعوة
المباركة : «
وأنذر عشيرتك الاقربين ، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ».
وبهذا النّداء الإلهي القويم يدخل الرسول ( صلى الله عليه وآله ) مرحلة جديدة : ـ مرحلة
إنذار عشيرته ـ وكان ذلك بسبب الحياة القبليّة التي يعتمد عليها المجتمع
المكّي ـ بل الحجازي ـ يومذاك.
ويدعو محمد ( صلى الله عليه وآله ) عمومته وأبناء عشيرته من بني هاشم ليتناولوا وليمة أقامها
لهم في بيته ، ويعلن لهم : أنّه مرسل من الله ، وأنهم مطالبون بتصديقه واتّباعه ،
لكنّه فوجىء باستهزاء عمّه عبد العزى ابن عبد المطلب المعروف بأبي لهب ، فعرقل
مسيرته بكلمته الهوجاء مخاطباً بني هاشم : «
خذوا على يدي صاحبكم قبل أن يأخذ
على يده غيركم ، فإن منعتموه قتلتم وإن تركتموه ذللتم ».
( 21 )
ولكنّ أبا طالب ـ الرّجل المؤمن الفذ ردّ أبا لهب ردّاً عنيفاً بقوله :
« يا عورة ، والله لننصرنّه ثم لنعيننّه . يا ابن أخي ، إذا أردت ، أن تدعو إلى
ربّك فأعلمنا حتى نخرج معك بالسلاح .. ».
وتتحدث أندية مكة بخبر محمد ( صلى الله عليه وآله ) ويؤلف أبو لهب حزباً لمقاومة
الرسول ( صلى الله عليه وآله ) فكان يخرج إلى أحياء مكة واسواقها بحثاً عن محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وكلّما
وجده مع قوم أفسد عليه أمره ومنعه من تبليغ رسالته ووقفت قريش في وجه محمد
وأصحابه آخذة بمبدأ أبي لهب ـ العدوّ اللدود الطليعي ـ لله ورسالته ورسوله ،
وكان أوّل ما فكرت به قريش هو اتباع الطريقة السلميّة في مواجهة الدعوة عن
طريق مفاوضات تطفح بالمساومات والإغراء بالمال والجاه والسلطان.
وكان يمثل محمداً في هذه المفاوضات عمّه الوفيّ أبو طالب ، وكانت قريش تأمل
أن يتنازل محمد عن دعوته تحت مطارق إغرائه بالمال وغيره ، ولكنّه صرّح بكلمة
عنيفة وضح فيها تصميمه الثابت على دعوته لأنّها دعوة الله ، فلا تخضع
للمساومات والإغراء :
« يا عمُّ ، لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في شمالي : على أن أترك هذا الأمر ،
ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه .... ».
وبهذه الكلمة الصّريحة الخالدة قطع محمد ( صلى الله عليه وآله ) هذه المفاوضات فارتدت قريش
على أدبارها مهزومة ، وكان لا بدّ لها من تبرير لهزيمتها الفظيعة ، ففكرت باتّباع
سياسة التنكيل والتشريد لأتباع محمد ( صلى الله عليه وآله ) حتى ينفضوا فتموت الدّعوة في
مهدها ، ونفذ هذا المخطط بحذافيره ، فكانت أسواق مكّة تضج بهتاف الدّعاة
الأبرار وهم يهتفون : أحد ، أحد وكان ضحية هذه الخطة الهوجاء ياسر وسمية حتى
فارقا الحياة.
ويمر محمد على مسرح التّعذيب فيثير حماس الصّابرين بقوله : «
صبراً آل ياسر ،
فإن موعدكم الجنّة ».
فيزداد هتافهم لله حتّى تصعد أرواحهم إليه راضية مرضيّة ، ولم يقف التنكيل
على أشخاص الصّحابة الأبرار وإنّما تعدّى إلى شخص الرّسول القائد نفسه حيث
( 22 )
كان أبو لهب وزبانيته يلقون عليه الأحجار ويضعون الشّوك في طريقه ليلاً ، فكم
كانت الدّماء تسيل من أعضائه الطاهرة ولكنّه يستقبلها بكلمته الهادئة : «
اللهم
اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ».
( 23 )
يومُ سعيدُ
( 24 )
( 25 )
وفي مثل هذا الظّرف الدّقيق الّذي تمرُّ به الدعوة الإسلامية حيث يلتحم
معسكر الإيمان ـ وهو ما زال غضّاً ـ مع معسكر الوثنية بقوّته وجبروته . وفي
مثل هذه المعركة الضاربة بين رسالة السماء وفوضى الجاهلية ، وفي أقسى الظروف
التي تمرُ بها الرسالة الإسلامية المباركة ، يعلن البيت النبوي ـ بيت الرسالة ـ نبأ
ميلاد فاطمة بنت محمد ( صلى الله عليه وآله ).
ولدت فاطمة المباركة في وقت كانت أُمها قد قوطعت نهائياً من جميع النساء
القرشيات ، أُسوة برجالهن الّذين قاطعوا محمداً المنقذ ( صلى الله عليه وآله ) . وحين يكون بيت
الرسالة قد قوطع من قريش هذه المقاطعة العنيفة ، وحين يحاصر هذا الحصار
الشاق ، فلا بد للسماء أن تحطم هذه الأغلال وتقهرها أمام عمل غيبي مشهود ، فما
دام أهل الأرض وأهل الدنيا ـ وهم منغمسون في جاهلية جهلاء ـ قد تعاهدوا
على محاصرة محمد وأهل بيته ( عليهم السلام ) فالسماء مستعدة لنصرته ونصرة من يحذو
حذوهم..
أنّى كان لون ذلك النصر والعون ، ماديّاً كان أم معنويّاً ، وليس ذلك بعسير
على الله سبحانه ، وليس من المستحيل عليه ، وإن تشككت به بعض العقول
المعاصرة ، لأنّ هذا الشك المرير الذي تحياه بعض النفوس ـ اليوم ـ ما هو إلاّ
نتيجة لجذب النّفوس من الإيمان بالله سبحانه ، فلو امنت النُّفوس بالله وقدّر الناس
ربهم حقّ قدره ، لعلموا مدى قدرته وأبعاد حكمته وإطار علمه ، ولكن الجدب
الروحي والفكري هو الذي يملي الظنون وإنكار كلّ شيء لا يخضع للحس.
أجل امتدّت يد السّماء الكريمة لتشارك خديجة في مراسيم ولادتها لفاطمة ،
وفعلاً دخلت على خديجة نساءٌ سمر طوال كأنّهن من نساء قريش ولسن منهنَ ،
وإنما جئن من خارج هذا العالم المحسوس ، جئن من العالم الذي حجبت أبصارنا
عن رؤيته ، جئن من عالم الآخرة ليلين من بنت خويلد كما تلي النساء من النساء
أثناء الولادة.
وتتحفنا روايات التأريخ الإسلامي : أنّ النساء اللائي زرن خديجة هنّ : حوّاء
وآسيا بنت مزاحم وكلثم أُخت موسى ومريم بنت عمران
(1).
____________
(1) ذخائر العقبى : للطبري.
( 26 )
وتضع خديجة ابنتها الزّهراء ، فيذاع النّبأ ، وتردّد أصداؤه في كل أُفق ليبلغ
كلّ مجاهدٍ من أتباع محمد ( صلى الله عليه وآله ) ... .
ولدت فاطمة المباركة في وقت كانت أُمُّها تنتظر مولودتها بفارغ صبر ولهفة
شوق لتميط عنها الوحشة التي فرضتها عليها قريش.
وكان لهذا النّبأ صداه العميق في النفوس المجاهدة الصّابرة في المعترك وفي جميع
الجبهات التي تملكها دعوة الله في مكة ، وسرى النّبأ إلى القائد محمد ( صلى الله عليه وآله ) فأشرق
وجهه بالبشر وتهلل فرحاً وسروراً ، وأسرع إلى خديجة ليبارك لها في مولودتها
المباركة ، وكان أول بادرة فاه بها ( صلى الله عليه وآله ) : أن دعاها بفاطمة ولقّبها بالزّهراء...
وراحت تتغدّى بلبن
أُمها السيّدة خديجة مشوباً بالهداية ، فراحت تنمو روحياً
وفكرياً كما تنمو جسميّاً وفسيولوجيّاً ، وكان اهتمام محمد بها منقطع النّظير ، ولكنّ
هذا الإهتمام لم يكن مجرد اهتمام عاطفيّ تفرضه عاطفة الابوة فحسب بل كان هذا
الإهتمام مقصوداً وهادفاً ، حيث رأى الرسول ( صلى الله عليه وآله ) في ولادة فاطمة ولادة الإمداد
الرّسالي لأنّ فاطمة ستكون وعليّ ( عليه السلام ) مدرسة يتخرّج في أحضانها قادة الأمة
المخلصين المتمثلين بأئمة أهل بيت الرسالة المعصومين ـ الأئمة الإثني عشر ـ
وهنا تتجلّى حقيقة أُخرى : هي أنّ اليد التي صنعت من فاطمة أُمّاً للقادة
المعصومين هي نفسها اليد التي صنعت من عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) أباً وزعيماً
لهم حيث كان الرسول ( صلى الله عليه وآله ) قد ربّى عليّاً في بيته يوم أملق عمّه ، فلم يكن
اختياره لعليّ قد صدر كما تصدر الأعمال العفوية وإنما كان ذلك وفق تصميم غيبيًّ
رصينٍ لكي تكون بيئة عليٍّ هي نفسها بيئة فاطمة ... ولكي يكون التوجه واحداً
والتربية واحدة ، ولكي ينشىء عليّ وفاطمة ـ بعد زمن ـ مدرسة الإمامة
لتكون الإمداد الرسالي لرسالة محمد ( صلى الله عليه وآله ) وفقاً للإرادة الإلهية المرسومة.
ونحن لا نثق ـ مطلقاً ـ بالأباطيل التي تدّعي أنّ محمداً قد ربّى عليّاً لمجرد
صدفة غير مقصودة ، بل إنّنا نرى في هذه الأقوال حطاً من شخصية الرسول
المعصوم ( صلى الله عليه وآله ) لأنّ أهل المذاهب الإجتماعية الهابطة إنّما يتصرفون في حياتهم تصرّفاً
هادفاً في شتى مجالات نشاطهم ، ففي سلوكهم وفي علاقاتهم مع الآخرين ، كلّ ذلك
بغية إنجاح مذاهبهم وتثبيت دعائمها ، فكيف بمن اختاره الله سبحانه لحمل الرسالة
( 27 )
الخاتمة للعالمين : «
وما ارسلناك إلاّ رحمة للعالمين ». فهل يسير في حياته طبقاً
للصّدف والظروف ؟ نحن لا نرتضي ذلك أبداً ، بل إنّ عقيدتنا لا تسمح لنا بترديد
هذه النغمات على الإطلاق ، فضلاً عن الاعتقاد بها.
وقد أثبتت الأدلة التاريخية القاطعة : أنّ محمداً القائد ( صلى الله عليه وآله ) كان يخطط لإنجاح
دعوته ما لم يستطع عباقرة القرن العشرين من الإهتداء لبعضهما ، فهل يعجز ـ يا
ترى ـ عن التّفكير في تبنّي ابن عمه عليّ بن أبي طالب وإنشائه ، إنشاءً روحيّاً
وفكرّياً بعيداً عن المصادفات والظروف ، وطبقاً لمصلحة إلهية محتومة ؟.
وترعرعت فاطمة في بيت الرسالة المقدسة حتّى نبت لحمها على الهدى وجرى
مع دمها شعاع الإيمان لكي تشعّ على الدنيا أنوار الهداية بعد أبيها رسول الله ( صلى الله عليه وآله )
عن طريق القادة الذين يتخرجون في مدرستها ـ مدرسة الوحي والإيمان ـ.
وهكذا آن لفاطمة أن تتلقّى تعاليم الوحي تلقي تنفيذٍ وتمثيلٍ على فكرها
وسلوكها وكلّ ألوان نشاطاتها.
وهنا يأتي دور المؤرّخين لسيرة الصدّيقة الزّهراء ( عليها السلام ) فتتضارب رواياتهم في
تأريخ ميلادها الميمون ، فقد ذهب أكثر مؤرخي الشّيعة الإمامية إلى أنّها وُلدت
بعد بعثة أبيها بخمس سنين ـ وهو المشهور ـ ويذهب البعض أنّها ولدت قبل
البعثة بخمس سنين وقريش تبني البيت ، وأنا أُرجح ما يذهب إليه القائلون
بالرأي الأول ، وعلى هذا الأساس جرى حديثي عن حياتها ( عليها السلام ).