اضواء على تراث الزهراء
1ـ تمهيد
2ـ أبعاد الجاهليّة
3ـ فلسفة الإسلام
( 138 )
( 139 )
1ـ تمهيد
تُعرف قيمةُ الإنسان بما يقدّمه للأجيال التي تعاصره أو تعقبه من عطاء
حضاري يُدلها على السّبيل الذي يجب أن تلتزمه في حياتها ،وتتفاعل معه ،
ويرفعها إلى مستواها اللائق تحت الشّمس.
وأقول : العطاء الحضاري ، لأنّ النّوع الإنساني مجبول على التّفاعل مع الكون
بما فيه من قوىً وطاقاتٍ بدافع حبّ الإستطلاع والتملُّك ، ومع أبناء جنسه بدافع
غريزة التجمع الفطرية المركوزة في كيان الإنسان.
وهذا التفاعل بشتّى شطريه : « مع الكون أو الإنسان » يحتاج إلى التّنظيم
والصّقل ، ابتعاداً عن الإضطرابات والنّزاع والحروب والبغضاء بين أبناء النّوع
الإنساني ، وهذا التّنظيم لا يتمُّ بطبيعة الحال بصفة ميكانيكية عن طريق استعمال
أدوات خاصّة تتحقّق على يديها المعجزة ـ معجزة التّنظيم في كيان المجتمع
الإنساني ـ وإنّما يتمُّ ذلك عن طريق واحد : هو الفكر ، هو التشريع ، هو التقاليد
التي يتبنّاها النّاس وينضوون تحت لوائها ، لأنّها ـ وحدها ـ التي تنظّم حقوق
الفرد والمجتمع وواجباتهما.
ولمّا كانت الحضارة ـ المفاهيم عن الكون والحياة والإنسان ونحوها ـ هي
( 140 )
وحدها التي تستطيع أن تنهض بهذه الأعباء الجسيمة ، فلا بدّ أن يكون افتراضنا
وقعيّاً ومنطقيّاً ، حينما قلنا : إنّ قيمة الإنسان تتمثّل بعطائه الحضاري.
وتحت نقطة أُخرى يجب أن نلتفت إليها بهذا الصّدد ، إنّ الإنسان الّذي لا
يتبنّى مبدءاً في حياته يعيش من أجله ويخضع لمتطلّباته ويكافح في سبيل تطبيقه
أو تثبيته أو نشره في الأرض ، هذا الإنسان لا تختلف حياته عن حياة البهائم ـ
على الإطلاق ـ حيث أصبح همُّه أن تمتلىء معدته أو يؤنّق لباسه فيعيش كما
يحلو له ، وهذا الصّنف من النّاس صفعهم القرآن ـ وهو منهج خالق الإنسان ـ
بقوله « ... والذين كفروا يتمتّعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنّار مثوىً
لهم »(1).
ولهذا ترى القادة من أهل البيت ( عليهم السلام ) نهجوا السّبيل الذي جعلهم يعيشون من
أجل المبدأ الإسلامي القويم حيث أخضعوا كلّ متطلّبات حياتهم لصالح منهج الله
سبحانه ، فانطلقوا يتحدّثون باسم المنهج ويسلكون ما رسمه ويفكرّون في حدود
معالمه القويمة.
والزهراء ( عليها السلام ) مدرسة الإمامة وغرس النبوّة ـ كانت على المستوى ذاته ،
فأوقفت حياتها الرُّوحية والفكريّة والجسميّة خدمةً للرّسالة وذوداً عن حياضها.
وقد ضربت في ذلك أروع الأمثلة وأنصعها ، وممّا يجلي هذه الحقيقة النّاصعة :
الرُّجوع إلى تراثها الفكريّ الضخم الذي خلّفته لأجيال الأُمّة الإسلامية ضاربةً لهم
أروع الأمثلة في الذّود عن حياض الرسالة وتبيان معالمها القويمة. ولعلّ الباحث في
حياة الصّدّيقة الزهراء لا يجد في تراثها الحضاري الضّخم أعظم من خطبتها التي
ألقتها في مسجد أبيها ، والتي لو ورثناها وحدها منها لدلّت ـ بوضوح وجلاء ـ
على عظمة شخصيّة الزهراء ( عليها السلام ) لأنّها قد جسّدت كلّ آرائها ومناهجها التي
استقتها من منهل الوحي المقدّس.
والمتتبّع التّأريخي لحياة الزهراء لا يمكن أن يفصل خطبتها عنها ، لأنّ خطبتها
أضخم رصيد لفهم شخصيتّها على الصّعيد الواقعي والمنطقي ولذا فليس بدعاً من
الأمر أن نخصّص فصلاً خاصّاً لألقاء الأضواء على بعض جوانب خطبة
____________
(1) سورة محمد آية | 12.
( 141 )
الزهراء ( عليها السلام ) لمعرفة أبعاد شخصيتها الفذّة ومدى هظمها لمنهج السّماء المبارك ،
واستيعاب معالمه الرئيسة.
وحين نؤكّد ـ هنا ـ أهميّة خطبة الزهراء لا نريد بذلك ، أن نجرّد الزهراء
عن باقي تراثها الحضاريّ الضخم ، ذلك لأنّ التأريخ قد أتحفنا بكثير من
النُّصوص التي باستطاعتنا أن نستقي تراثها الحضاريّ منها ، ولكنّنا وجدنا أنّ
أبرز شيء في تراثها : خطبتها التي ألقتها في مسجد أبيها في مطلع خلافة أبي بكر.
كما أنّ هذه الخطبة قد جمعت كلّ تراثها وفهرسته في آنٍ واحد ، وهذا ممّا حدا
بنا أن نلقي أضواءً على بعض جوانب الخطبة الرائعة التي جمعت كما يتّضح أروع
المفاهيم الإسلامية في الحكم والمجتمع ومعالم التّشريع الإسلامي الرّصين. وسنورد
بعض نصوصها إبقاءً لغرضنا في البحث.
( 142 )
( 143 )
2ـ أبعاد الجاهليّة
« ... فرأى الأُمم فرقاً في أديانها ، عُكّفاً على نيرانها ، عابدةً لأوثانها ، منكرةً
لله مع عرفانها ، فأنار الله تعالى بأبي محمد ظُلمها ، وكشف عن القلوب بهمها وجلى
عن الأبصار غممها ، وقامَ في النّاس بالهداية ، وأنقذهم من الغواية ، وبصّرهم من
العماية ، وهدادهم إلى الدّين القويم ، ودعاهم إلى الصّراط المستقيم ... ».
هذا مقطعٌ قصير من خطبة الزهراء ( عليها السلام ) والذي نحن بصدد بسط مفاهيمه
النّاصعة.
والباحث المتتبع حين يستقرىء هذه الكلمات الوضّاءة يقطف أشهى الثّمار
منها ، فيستنبط مفهوماً إسلامياً رائعاً عن الجاهليّة التي رزحت البشريّة تحت
أعبائها الثقيلة ، قبل بزوغ شمس الإسلام الحنيف على يد الرسول العظيم
محمد ( صلى الله عليه وآله ).
فالزهراء ( عليها السلام ) تفهرس لنا حياة البشريّة برمّتها قبل أن يصدع أبوها القائد
برسالته السّماويّة المباركة ، فهناك الّذين فرقوا دينهم شيعاً وأخضعوه لمتطلبات
شهواتهم ورغباتهم كاليهود والنّصارى.
وهناك العاكفون على الأوثان الخاضعون للأصنام التي صنعوها بأيديهم
واتخذوها آلهةً من دون الله سبحانه ، معتقدين بقدرتها على الخلق والإبداع والرّزق
والتوفيق والنّصر.
( 144 )
وهذا ما كانت عليه الجزيرة العربيّة حيث دان العرب لهذا النوع من التدّين ،
فملؤا بيت الله الحرام بركام من الأحجار والصُّخور ، دعوها آلهةً تقرّبهم ـ
بزعمهم ـ إلى الله زلفى.
وإلى جانب هذا المنهج الماديّ الطائش نشأت عبادة النيران والإنصياع لها
والسّير وفقاً لمنهج خرافي هابط يعزز مفهوم هذه العبادة الخرقاء ، وقد رزحت بلاد
فارس تحت هذا النّوع من التديُّن الأجوف على يد الدّين المجوسيّ.
وإلى جانب هذه الأنواع من الأديان الوضيعة نشأ خليط من الأديان ، سارت
عليه الدّولة البيزنطية التي تمثل المعسكر الغربي للعالم ـ يومذاك ـ حيث
خلطت مفاهيم الكنيسة المسيحيّة مع المفاهيم الوثنيّة الماديّة مما كون خليطاً جاهليّاً
جديداً في عالم الأديان الترابية.
وعلى ضوء ما رسمته الصدّيقة الزهراء ( عليها السلام ) ـ هنا ـ نستطيع أن نستنبط
النقطتين الآتيتين : ـ
1ـ إنّ الأديان والمناهج الفكرية والإجتماعية التي تتمخض عن تفكير الإنسان ،
أو التي أضافها الإنسان إلى بعض الشرائع السالفة ، كلّ ذلك يؤلّف جاهلية واحدة ،
وإن تعدّدت أشكالها وألوانها ، لأنّ الجاهلية في منطق الزهراء ـ كما يبدو ـ
وهو الإبتعاد عن منهج الله الذي بشّر به الرُّسل والأنبياء ـ عليهم السلام ـ
وتطبيق سواه على واقع الإنسان الكفريّ والعمليّ ، سواءً أكان ذلك ديناً وثنياً
ماديّاً أو خليطاً من مفاهيم سماويّة وأُخرى وضعيّة ، حيث عبّرت الزهراء ( عليها السلام ) عن
الواقع ـ بما فيه الدّين اليهودي والمسيحيّ ـ بالظُّلم والغمم والبهم والغواية
والعماية ، وهذا يدلُّنا ـ بوضوح ـ على أنّ الدّيانتين السابقتين خاضعتان
للأنحراف أيضا ، وإلاّ لماذا وصفتهما الزّهراء ( عليها السلام ) بالعماية والغواية ونحوها من
النُّعوت دون استثنائهما ؟
فاليهوديّة والنّصرانيّة كانتا ـ في ذلك العهد ـ قد صفّيت حساباتهما ،
وانحرفتا عن السّمة الإلهية الأصيلة.
3ـ حين تعلن الزهراء ( عليها السلام ) أنّ المناهج كلّها قد انحرفت عن منهج الله سبحانه
وأُصيبت بداء الغواية والعماية على حدّ تعبيرها يدلُّنا هذا على أنّها إنّما أرادت أن
( 145 )
تعلن للجاحدين أنّ أباها لم يأتِ برسالته السّمحاء إلا عن طريق واحد ، هو طريق
الوحي المقدّس ـ طريق السّماء والإصطفاء والنبوّة ـ وليس عن طريق بلورةٍ
وتفاعل للمفاهيم الدينيّة السّائدة ، وصبّها في قالب جديد ، ذلك لأنّ المفاهيم الدينيّة
السّابقة قد انحرفت جميعاً عن منطق الحق والإستقامة ؛ فكيف تقوى إذا مزجت
وبلورت على خلق نظام متناسق كرسالة الإسلام المقدّسة وهذا ما يجعل العقول
البشريّة تطمئن إلى كون رسالة محمد ( صلى الله عليه وآله ) وتعاليمه وتلقيناته قد تلقّاها من
السماء بعيداً عن أوضار الجاهلية وآفاق الأرض وانحرافاتها.
وحين ترسم الزهراء ( عليها السلام ) هذه الحقيقة النّاصعة تنطلق ـ في مقطع آخر من
خطبتها الرائعة ـ لتبيان الملابسات التي اتّسمت بها الجاهليّة في الجزيرة العربية ،
فهي قد أعطت القاسم المشترك للجاهليّات المتمثّل برفض منهج الله واستبداله
بنتاج العقول البشريّة القاصرة ، ثم انطلقت لتبيان السمات الأُخرى التي تختص بها
جاهليّة الجزيرة العربية ، فضلاً عن اشتراكها مع غيرها بسمة الخروج عن حكم الله
ومنهجه ، فتقول مخاطبة العرب : « ... وكنتم على شفا حفرة من النار ، مذقة
الشّارب ونهزة الطّامع وقبسة العجلان ، وموطىء الأقدام ؛ تشربون الطرق ،
وتقتاتون القدّ ، أذلةً خاسئين تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم الله
بأبي محمد ... ».
وفي هذا المقطع الجديد من خطبة الزهراء ( عليها السلام ) تنعكس أمامنا صورة واقعية
لظلامات الناس في الجاهليّة التي أطبق ليلها على الجزيرة العربية قبل أن يشع نور
الهداية الساطع.
ونستطيع هنا أن نميز النقاط الآتية :
1ـ إبتعاد العرب نهائياً عن ظلال الحق والواقع ، مما جعلهم يقفون على شفير
الهاوية ، وذلك نتيجة عدم استظلالهم بنور الهدى الذي جاءهم على يد الرسول
الكريم إبراهيم وابنه إسماعيل ( عليهما السلام ) وتحويلهم رسالة السماء وتعاليمها الى عبادة
لأوثان صنعوها من الحجارة ، وملأوا بها بيت الله الحرام بحجة أنها تقربهم الى الله زلفى.
2ـ تفرّقهم المرير وعدم قدرتهم على التجمُّع حتى على أساس قومي ، فكانت
( 146 )
الحروب الدّامية تدور رحاها بينهم ، ومنها ما يستمرُّ عشرات السنين بين قبائلهم
المتناحرة على الماء والكلأ ، مما جعل الإستيلاء عليهم أمراً لا يحتاج إلى بذل كثير
من جهد : « مذقة الشّارب ، ونهزة الطّامع ، وقبسة العجلان ، وموطىء الأقدام ».
فهم هدف لكلّ غازٍ ومستعمر وفاتح ، فقد غزاهم الأحباش واستعمروا بعض
أراضيهم ، أُسوة بالفرس والرُّومان ، فالذّلة والمسكنة والوهن كانت صفة ملازمة
للعرب في جزيرتهم ، لا حول لهم ولا طول في إقامة مجتمع أو إنشاء أُمّة أو دفاع عن
حمىً أو وطن من الغزاة.
3ـ حالتهم المعاشية منحطّة لا نظير لها ، نظراً لصحراوية أرضهم ، وقلّة مواردها
المائية مما جعلهم يشربون المياه الآسنة التي لا تصلح أن تكون صالحة لشرب البهائم
فضلاً عن الإنسان ، سيّما وهي من مياه الأمطار التي تجتمع في بُقع واطئة من
الصّحراء ، مكوّنة واحاتٍ وقتية يسرع إليها الناس لسدّ حاجاتهم وحاجات
مواشيهم ، وقد تتعرض دوماً لخوض الإبل وبرازها وبولها وهذا ما وصفته الزّهراء
( بالطرق ).
ثم تعرّج ـ عليها السلام ـ لتتحدث عن غذاء القوم في جاهليّتهم ، فتصفه
وصفاً دقيقاً بقولها : « وتقتاتون القدّ » إذ كان العرب يقتاتون جلد المعزى لسوء
حالتهم المعاشية.
وحين تنزل أُمّة إلى المستوى الذي يجعلها تتناول جلد الماعز غداءً تسدُّ به
رمقها ، فإنّها قد بلغت ـ على هذا الاساس ـ مستوىً اقتصاديا لا مثيل له في
قاموس الإنحطاط.
والزهراء ( عليها السلام ) حين تصوّر لنا حياة العرب ، فإنّما تصوّرها بصفة جماعيّة لا
اجتماعيّة ، لأنّ المجتمع العربي الجاهليّ لا يخلو من فئة يعدُّ أفرادها بالاصابع قد
بلغت مستوىً من الثّراء ، وهؤلاء يمكن العثور عليهم ـ فقط ـ في مكّة المكرّمة ،
أما سائر أقاليم الجزيرة العربية فلا تخرج ـ على الإطلاق ـ عن الإطار الذي
رسمته الزهراء آنفاً ، فالحياة بصفة عامّة حياة طرقِ وقدًّ ، وهكذا كان حديث
الزهراء ( عليها السلام ) حديثاً اجتماعيّاً بحتاً يصف الانسان العربي وظروفه في ظلال الجاهليّة
الهوجاء ، وقبل حدوث العمليّة التحريريّة الكبرى التي حقّقتها رسالة الإسلام.
وحين ترسم الزهراء هذه الحقيقة التأريخية الناصعة أمام مخاطبيها والأجيال
الإسلامية ، تنطلق بعد ذلك لرسم معالم الشريعة الإسلامية بكل دقة وإيجاز :
( 147 )
3ـ فلسفة الإسلام في منطق الزهراء
« ... فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشّرك ، والصّلاة تنزيهاً لكم عن الكبر ،
والزكاة تزكية للنّفس ونماء في الرّزق ، والصيام تثبيتاً للإخلاص ، والحج تشييداً
للدّين ، والعدلَ تنسيقاً للقلوب ، وطاعتنا نظاماً للملّة ، وإمامتنا أماناً من الفرقة ،
والجهاد عزّاً للإسلام وذلاً لأهل الكفر والنّفاق ، والصّبر معونةً على استيجاب
الأجر ، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر مصلحةً للعامة ، وبرّ الوالدين وقايةً من
السُّخط ، وصِلَة الأرحام منسأةً في العمر ومنماةً في العدد ، والقصاص ، حقناً للدّماء ،
والوفاء بالنّذر تعريضاً للمغفرة ، وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخسة ، والنّهي
عن الخمر تنزيهاً عن الرجس ، واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة ، وترك السّرقة
إيجاباً للعفّة ، وحرّم الله الشّرك إخلاصاً له بالربوبيّة : « فاتّقُوا الله حقّ تقاته ، ولا
تموتُنّ إلا وأنتم مسلمون ، وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عَنهُ ، فإنّما يخشى الله من
عباده العلماءُ ...»
في هذا المقطع الوضّاء من الخطبة ترسم الزهراء ( عليها السلام ) الحقيقة الكبرى التي امتاز
بها الإسلام عن سواه من الشرائع : في كونه عقيدةً ونظاماً ومنهجاً فهرس الحياة
الإنسانيّة برُمّتها ، وبرمج متطلّبات النّوع الإنساني بهيكل تشريعي ضخم ، طرق
باب كلّ مشكلة من مشاكل الحياة الإنسانية ، وتوفّر على حلّها بما يتناسب
والمصلحة وبما يتماشي والحكمة.
( 148 )
وهذه الحقيقة الكبرى التي امتاز بها منهج الله تعالى قد أغفلها الكثيرون من
أبناء الأُمّة الإسلامية ، تأثراً بالحضارة الغربيّة الغازية التي فصلت الدّين عن
الحياة. وعلى هذا الأساس ردّد أبناؤنا صدى أفكار أعدائهم فراحوا يسمُّون
دينهم بدين الكنائس والمساجد ، فليس بمقدوره بل وليس من اختصاصه أن
ينشىء أُمّةً ، أو يخلق مجتمعاً لأنّ وظيفته ـ بزعمهم ـ محصورة في إطار المساجد
والطُّقوس العبادية.
ونحن بدورنا حين نستقرىء جانباً من خطبة الزّهراء ( عليها السلام ) يتّضح لنا أنّها حين
تحدّثت عن فلسفة الإسلام وإطاره العام لم تكن لتستهدف اقناع مخاطبيها أنّ في
الإسلام نظاماً يهذّب الفرد ، وينظّم الجماعة ، ويقيم الدّولة ، وإنّما كان ذلك أمراً
بديهيّاً في حديثها ، بل من الأُمور التي لا يرتاب فيها مسلم ، مهما انخفضت درجة
إيمانه بالإسلام يومذاك ، ولذا فإنّ الزّهراء ( عليها السلام ) استعرضت معالم الإسلام وتعليماته
كوسيلة لتبيان حقيقة أُخرى ترتبط بالحقيقة الأُولى ، إذ كان همُّها أن تبيّن
الأهداف السّامية التي من أجلها كان التّشريع الإسلامي بهذا الشكل لا بسواه ، بل
إنّها أرادت أن ترسم العلل التي من أجلها حدّدت معالم الرّسالة الإسلامية بهذه
الصيغة المعلومة لا بسواها.
ولا بدّ لنا أن نلّم إلمامةً سريعة بالمفاهيم الإسلامية التي طفحت بها هذه التحفة
التي منحتها الزّهراء لأجيالنا الإسلامية المتعاقبة وبمقدورنا أن نستنبط النقاط
التالية على ضوئها :
1ـ الجانب العقيدي :
يعتبر جانب العقيدة في كلّ رسالة أو مذهب اجتماعي الحجر الأساس الذي
تبتني عليه معالم الرسالة وتحدّد على ضوئها أُطرها ومقوّماتها...
وانطلاقاً من هذه الحقيقة الثابتة ، إنطلق الإسلام في تثبيت جانب العقيدة في
نفوس الجماعة من أتباعه ، وأنفق وقتاً وجُهداً كبيراً خدمة لهذا الجانب في موكب
دعوته الهادر. ولهذا توفرّ القرآن الكريم ـ وهو دستور المنهج الإلهي ـ على
دراسة واسعة جدّاً للعقيدة ، أوقف خلالها زهاء ثلاثة أرباعه ، خدمةً لها وتثبيتاً
لمعالمها. وقد نبض بهذا العامل القرآن المكّي ـ خصوصاً ـ إذ كان الإيمانُ بالله
( 149 )
ورسوله واليوم الآخر هي الأوتار الحسّاسة التي أهتمّ في الضّرب عليها. وبعد
تثبيت هذه القواعد الرّصينة انطلق الوحي المقدّس لرسم معالم التّشريع الإجتماعي
والإقتصادي والعسكري وغيره ، لكي تكون هذه الجوانب قد امتلكت قاعدتها
الصُّلبة التي تستند عليها في تحقيق أهدافها في حياة النّوع الإنساني.
وإبرازاً لهذه الحقيقة ـ دشّنت الزهراء ( عليها السلام ) حديثها عن الإسلام مبتدئة
بالإيمان : « فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشّرك ... »
فهي تؤكد لنا أنّ الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ـ الذي أوجب الله
الإلتزام به كعقيدةٍ رصينة للمسلم يمثّل المناعة الطبيعية التي يمتلكها المسلم لدرء
وباء الشّرك الذي يزلزل العقيدة القويمة ويهدّد كيانها بالإنهيار ، فيصاب العقل
والفكر والرّوح بعاهة يفقدها التوازن ، لأنّ الشرك والإيمان لا يمكن أن يجتمعا في
كيان إنسان واحدٍ أبداً ، لأنّهما مفهومان لكلًّ منهما معالمه التي تسيطر على العقل
والروُّح ، فإذا دخل الشّرك عقلية المسلم فإنّ ذلك يعني أن قوى الإيمان قد انسحبت
من المنطقة التي احتلّتها قوى الشّرك في ذهنه ، ولذا كان الإيمان الرّصين إبادةً
لجراثيم الشّرك بالله سبحانه في عقلية المسلم.
والمشرك ـ على هذا الأساس ـ من يستهدي في حياته الفكرية أو العملية
منهجاً غير منهج الله تعالى ، أو من يخلط بين مفاهيم الرسالة الإسلامية وغيرها من
نتاج الجاهليّة الهوجاء.
وحين تفتتح الزّهراء ( عليها السلام ) حديثها عن الإسلام بالحديث عن الإيمان وفلسفته
وبصفته الركيزة الأُولى التي يقوم عليها المبدأ الإسلامي الحنيف ، تنطلق ـ بعد
ذلك ـ لتحديد معالم الإسلام فتختتم حديثها عنها بالتحدُّث عن الإيمان أيضاً :
وحرّم الله الشرك ، إخلاصاً له بالربوبية فاتقوا الله حقّ تقاته ، ولا تموتُنّ إلا وأنتم
مسلمون ، وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فإنّما يخشى الله من عباده
العلماء ... ».
فهي تعلن حرمة الشّرك الذي لا تتحقق العبودية المطلقة لله في كيان المرء إذا
دخل في نفسه ، ثم تعلن فلسفة تحريمه التي تنسجم ومتطلّبات الإيمان الصّحيح ، وأن
تحريمه كان حفظاً لمبدأ العبودية المطلقة لله سبحانه ، وتأكيداً لربويّته في الأرض : في
( 150 )
الفكر والعمل والعواطف ، ثم تنطلق لتحذّر من مغبة الشّرك : « فاتقوا الله حقّ
تقاته ، ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون ... ».
حيث ألزمت الامة والأجيال القادمة بالسّير على منهج الله بعيداً عن
المتاهات والزّيغ ، ولا يتُّم ذلك الا بالسّير وفقاً لمفهومي الحلال والحرام الاسلاميين ،
لأنهما ـ وحدهما ـ اللّذان يمثلان المقياس الثابت الّذي يزن المرء بهما سلوكه
وتصرفاته وكافة ألوان نشاطه في حياته.
وهذان المفهومان قد عبّرت عنهما الزّهراء بأمر الله ونهية ـ كما دلّ عليه
قولها ـ : « وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه فإنما يخشى الله من عباده العلماء ... ».