( 206 )
( 207 )
لقد واكب الإمام الحسين معركة اأبيه الإمام علي ضد التسلط الأموي الذي كان يتمثل في معاوية بن أبي سفيان . . . ورأى الإمام الحسين كيف بالغ معاوية واجتهد في استخدام أساليب التضليل الإعلامي والفكري ليربح المعركة على الإمام علي . . ومع أن الإمام علي يمثل الخلافة الشرعية للمسلمين ، ومع ما لشخصيته من مميزات وتاريخ عظيم لا يمكن انكاره ، ومع أن معاوية كان في موقع المتمرد والمنشق على جماعة المسلمين . . مع كل ذلك الا أنه استطاع التأثير على قطاع واسع من ابناء الأمة ليقفوا الى جانبه ويدعموه في صراعه ضد الشرعية . . واستمراره في الولاية على الشام رغم عزله من قبل الخليفة الشرعي ، بل وتمكنه من تحشيد الجيوش لمحاربة الإمام علي في صفين ، وبعد ذلك اتساع رقعة سيطرته ونفوذه في العديد من الأقطار وحسمه الموقف مع الإمام الحسن لصالح استئثاره بالسلطة وتخلي الإمام الحسن عنها عبر مسألة الصلح المعروف .
كل ذلك دليل على نجاح وتأثير الأساليب والخطط والممارسات التي قام بها معاوية بن أبي سفيان ، ومن أبرزها محاولات الخداع والتضليل الديني والإعلامي ، فقد شجع طبقة من الوضاعين وصناع الأحاديث الملفقة الكاذبة في مدح معاوية وبني أمية وسلطتهم ، وذم الإمام علي وأهل البيت ، وبذل لهم
( 208 )
الأموال على ذلك .
يقول ابن أبي الحديد المعتزلي : وذكر شيخنا أبو جعفر الأسكافي ( توفي : 240 هـ ) ( رحمه الله تعالى ) : أن معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي ( عليه السلام ) تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جُعلا يرغب في مثله ، فاختلقوا ما ارضاه ، منهم أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير (1)
.
قال : وقد صح أن بني أمية منعوا من اظهار فضائل علي ( عليه السلام ) ، وعاقبوا على ذلك الراوي له ، حتى إن الرجل اذا روى عنه حديثاً لا يتعلق بفضله بل بشرائع الدين لا يتجاسر عن ذكر اسمه ـ أي اسم علي ـ فيقول : عن أبي زينب (2) .
وكتب معاوية الى عماله في جميع الأفاق : ان انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته ، والذين يروون فضائله ومناقبه ، فأدنوا مجالسهم وقربوهم واكرموهم ، واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم ، واسمه واسم أبيه وعشيرته .
ففعلوا ذلك ، حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه ، لما كان يبعثه اليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع ، ويفيضه في العرب منهم والموالي ، فكثر ذلك في كل مصر ، وتنافسوا في المنازل والدنيا ، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمال معاوية ، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة الا كتب اسمه وقربه وشفعه فلبثوا بذلك حيناً .
ثم كتب الى عماله أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية ، فاذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس الى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب ـ يعني
____________
(1) ( شرح نهج البلاغة ) ابن أبي الحديد ( ج 4 ـ ص 63 ) .
(2) المصدر السابق ص 73 .
( 209
)
الإمام علي ـ الا وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإن هذا أحب اليّ وأقر لعيني ، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته ، وأشد اليهم من مناقب عثمان وفضله .
فقرئت كتبه على الناس ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى ، حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر ، وألقي الى معلمي الكتاتيب ، فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع ، حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن ، وحتى علموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله (3) .
والى جانب الأحاديث الملفقة الموضوعة فقد استخدم معاوية وسيلة اعلامية اخرى هي توظيف القصاصين الذين يحدثون الناس بالقضايا والوقائع التي تريد السلطة الترويج لها .
قال الأستاذ أحمد أمين : وأما قصص الخاصة فهو الذي جعله معاوية ، ولى رجلاً على القصص فاذا سلم من صلاة الصبح جلس وذكر الله ( عز وجل ) وحمده ومجده وصلى على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ودعا للخليفة ولأهل ولايته وحشمه وجنوده ودعا على أهل حربه وعلى المشركين كافة (4) .
ولابد أن هذا الدعاء كان استهلالاً يبتدئ به القاص ثم يأخذ بعده في قصصه (5) .
كما أحاط معاوية سلطته بمجموعة من الشعراء المرتزقة كالأخطل ومسكين الدارمي ، يقول « بروكلمان » : وكان . . ـ معاوية ـ أبداً قادراً على أن يفيد مما كان لشعراء عصره من تأثير عظيم في الرأي العام بسبيل مصالحه العائلية (6) .
ولمعرفة الامام الحسين بهذه السياسة الأموية في تضليل الناس وخداعهم كان
____________
(3) المصدر السابق ج 11 ص 44 ـ 45 .
(4) ( فجر الإسلام ) أحمد أمين ص 159 .
(5) ( ثورة الحسين ) محمد مهدي شمس الدين ص 119 .
(6) ( تاريخ الشعوب الإسلامية ) كارل بروكلمان ص 124 .
( 210
)
لابد له من التفكير في مستقبل ثورته المقدسة ، وكيفية حمايتها وصيانتها من تأثير الاعلام الأموي الحاكم . . .
فالأمويون لن يكتفوا بقتل الامام الحسين ، وهم يعلمون بمكانته لدى الأمة ، بل سيلجأون لتشويه ثورته واسقاط شخصيته بمختلف وسائلهم وأساليبهم الماكرة كما صنعوا مع أبيه الإمام علي من قبل . .
فكيف يفشل الامام الحسين مخططهم الإعلامي المضاد ؟ .
وكيف يجهض محاولاته في تشويه صورة الثائرين ؟ .
وكيف تصل أهداف ثورته ومنطلقاتها الى أسماع الجمهور المسلم ؟ .
وكانت اجابة الامام الحسين على هذه التساؤلات إجابة حكيمة قوية هي استعانته باخته السيدة زينب لتقوم بذلك الدور العظيم . .
فالحسين بنفسه كان يوضح للأمة أسباب ثورته وأهداف حركته ، وكان يكشف للناس انحرافات الحكم الأموي وفساده ، ويؤكد على المسؤولية الملقاة على كاهل المسلمين للتصدي لهذا الجور والظلم . . لقد تصدى الامام بنفسه للقيام بالمهمة الاعلامية يوم كان في المدينة المنورة وحين انتقل الى مكة المكرمة والتقى بجموع الحجيج ، وأثناء سيره الى العراق ، وفي أرض كربلاء وحتى قبيل شهادته بلحظات كان يخاطب الجيش الأموي محرضاً وموجهاً . .
لكن حاجة الثورة الى الاعلام بعد شهادته ستكون أشد وأكبر ، لأن الأمويين ستأخذهم نشوة الانتصار الظاهري ، وسيجعلون من سحق المعسكر الحسيني مثلاً وعبرة لارهاب من يفكر في معارضتهم والوقوف أمام بغيهم وفسادهم . .
فالاعلام بعد الشهادة أكثر أهمية منه قبلها . .
ومن غير السيدة زينب تُسند اليه هذه المهمة الخطيرة ؟ .
ومن سواها يجيد القيام بهذا الدور العظيم ؟ .
( 211 )
خطابها في الكوفة
وغادرت السيدة زينب كربلاء بعد ظهر اليوم الحادي عشر من المحرم مثقلة بما لا تتحمله الجبال الرواسي من الهموم والأحزان ، فلأول مرة في حياتها تسافر دون أن يحيط بها رجالات أسرتها وحماة خدرها ، وهي قد رزئت بأفجع مصيبة يمكن أن تحل بانسان ، حيث فقدت أكثر من سبعة عشر بطلاً من أهلها ما على وجه الأرض لهم شبيه ، اضافة الى حوالي السبعين من أنصارهم والمدافعين عنهم ، وشاهدت السيدة زينب مصارعهم على بوغاء كربلاء بتلك الصورة الفظيعة . .
وكانت الأربع والعشرون ساعة التي سبقت سفرها الى الكوفة من أصعب واشد الساعات التي مرت عليها في حياتها ، حيث أحرق الظالمون خيامها ، وهجموا عليها مع باقي نساء ويتامى عشيرتها ، وسلبوا كل ما لديهن من الحلي والحلل . .
ودخلت السيدة زينب الكوفة صباح اليوم الثاني عشر من المحرم تحيط بها كل تلك الهموم والآلام ، وتثقل كاهلها تلك المصائب والأحزان . . .
من جهة أخرى فقد خطط حاكم الكوفة عبيدالله بن زياد للاستفادة من وصول سبايا الحسين في اظهار قوة السلطة وتصميمها على سحق أي محاولة تمرد أو
( 211 )
معارضة ، وأن يجعل من قدوم السبايا تظاهرة لإدانة تحرك الامام الحسين وثورته ، وللإحتفاء بانتصاره الزائف على ثورة الحق والعدل . . .
في غمرة هذه الأجواء دخلت السيدة زينب الكوفة مع السبايا على جمال غير مهيأة لإراحة راكبيها ، وفي حال مأساوي فظيع . . .
وللسيدة زينب في الكوفة تاريخ وذكريات ، فقد كانت سيدة الكوفة أيام خلافة أبيها أمير المؤمنين علي قبل عشرين سنة من دخولها الآن . . فلابد وأن تستعيد في نفسها صور تلك الأيام ، وأن تثور في قلبها ومخيلتها الذكريات . . ففي تلك المحلة كانت تقيم ، وذاك محراب أبيها علي ومنبره في مسجد الكوفة . . وهذه الأزقة التي كان يسلكها أبوها علي . . وهذا باب دارها الذي كان يقصده السائلون والمحتاجون . .
وتتوالى الصور والذكريات في مخيلة السيدة زينب ، ولعلها تتمنى وترغب في أن تسرح بفكرها وتسترسل بمشاعرها مع تلك الصور والذكريات العزيزة ، لكن سياط الواقع الأليم تنتزعها من تلك الذكريات انتزاعاً . .
عن حذلم بن كثير قال : قدمت الكوفة سنة 61 هـ عند مجيء علي بن الحسين من كربلاء الى الكوفة ومعه النسوة ، وقد أحاط بهم الجنود ، وقد خرج الناس للنظر اليهم ، وكانوا على جمال بغير وطاء ، فجعلن نساء أهل الكوفة يبكين ويندبن . .
ورأيت علي بن الحسين قد أنهكته العلة ، وفي عنقه الجامعة ، ويده مغلولة الى عنقه ، وهو يقول بصوت ضعيف : إن هؤلاء يبكون وينوحون من أجلنا فمن قتلنا ؟ ! .
قال حذلم بن كثير : ورأيت زينب بنت علي ، ولم أر خفرة أنطق منها كأنها تفرغ عن لسان أبيها أمير المؤمنين ، وقد أومأت الى الناس أن أسكتوا ، فارتدت الأنفاس ، وسكنت الأصوات ، فقالت :
ـ « الحمد لله والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار . .
( 213 )
أما بعد : يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر .
أتبكون ؟ فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنة . .
إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا . .
تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم . .
ألا وهل فيكم الا الصلف والنطف ، والكذب والشنف ، وملق الأماء وغمز الأعداء . .
أو كمرعى على دمنة ، أو كقصة على ملحودة . .
ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون . .
أتبكون وتنتحبون ؟ ! .
أي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً . .
فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً . .
وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ، ومعدن الرسالة ، وسيد شباب أهل الجنة ، وملاذ خيرتكم ، ومفزع نازلتكم ، ومنار حجتكم ، ألا ساء ما تزرون ! .
وبعداً لكم وسحقاً ، فلقد خاب السعي ، وتبت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ورسوله وضربت عليكم الذلة والمسكنة . .
ويلكم يا أهل الكوفة ! .
أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم ؟ .
وأي كريمة له أبرزتم ؟ .
وأي دم له سفكتم ؟ .
وأي حرمة له انتهكتم ؟ .
لقد جئتم شيئاً إدّا ! تكاد السماوات يتفطرن منه ، وتنشق الأرض ، وتخر
( 214 )
الجبال هدّا ! ! .
ولقد جئتم بها خرقاء ، شوقاء ، كطلاع الأرض ، وملء السماء ، أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ؟ ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون . .
فلا يستخفنكم المهل ، فإنه لا يحفزه البدار ، ولا يخاف فوت الثأر ، وإن ربكم لبالمرصاد . .
قال الراوي : فوالله لقد رأيت الناس حيارى يبكون ، قد ردّوا أيديهم في أفواههم ، ورأيت شيخاً واقفاً الى جنبي يبكي حتى اخضلت لحيته بالدموع ، ويده مرفوعة الى السماء وهو يقول : بأبي أنتم وأمي كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونساؤكم خير النساء ، ونسلكم خير النسل ، لا يبور ولا يخزي أبداً . .
فقال لها الامام : علي بن الحسين : « أسكتي يا عمة فأنت بحمد الله عالمة غير معلمة ، وفهمة غير مفهمة » (7) .
مصادر الخطبة ورواتها :
لقد أوردت خطاب السيدة زينب في الكوفة مصادر عديدة هي من أمهات المراجع ، ومن أبرز تلك المصادر :
1 ـ الشيخ الطوسي في : ( أماليه ) . .
2 ـ أبو المؤيد الموفق بن أحمد الخوارزمي في الجزء الثاني من كتابه : .
____________
(7) اعتمدنا في نقل النص على المصادر التالية :
أ ـ ( الاحتجاج ) للطبرسي ص 303 .
ب ـ ( حياة الإمام الحسين ) للقرشي ج 3 ص 334 .
جـ ـ ( مقتل الحسين ) للمقرم ص 311 .
د ـ ( زينب الكبرى ) للنقدي ص 48 .
( 215 )
مقتل الحسين
3 ـ أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور في : ( بلاغات النساء ) . .
4 ـ أبو عثمان الجاحظ في : ( البيان والتبيين ) .
5 ـ الشيخ أحمد بن علي الطبرسي ـ من علماء القرن السادس ـ في كتابه : ( الأحتجاج ) .
لكن اسم الراوي الذي نقل عنه الخطاب يختلف من مصدر الى آخر فالشيخ الطبرسي ينقله عن حذيم بن شريك الأسدي ، ويكرر اسمه ثلاث مرات بين فقرات الرواية ، كما ينقل عنه أيضاً خطاب الإمام زين العابدين في الكوفة (8) .
وحذيم بن شريك الأسدي ذكره الشيخ الطوسي في ( رجاله ) في أصحاب الحسين ( عليه السلام ) (9) .
أما الشيخ النقدي فقد قال : أن الخطبة قد تواترت الروايات عن العلماء وارباب الحديث بأسانيدهم عن حذلم بن كثير .
وذكر أن حذلم بن كثير من فصحاء العرب . . وقال : إن الجاحظ رواها في كتابه ( البيان والتبين ) عن خزيمة الأسدي (10) أما الشيخ القرشي فقد أثبت الرواية عن « جذلم بن بشير » (11) .
ولم يثبت السيد المقرم اسماً للراوي واكتفى بعبارة « يقول الراوي » (12) .
وذكر أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور في كتابه ( بلاغات النساء ) سند الخطبة كما يلي : « عن سعيد بن محمد الحميري ـ أبو معاذ ـ عن عبدالله بن عبد
____________
(8) ( الاحتجاج ) الطبرسي ج 1 ص 303 ـ 305 .
(9) ( أعيان الشيعة ) السيد محسن الأمين ج 4 ص 606 .
(10) ( زينب الكبرى ) النقدي ص 49 ـ 50 .
(11) ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 334 .
(12) ( مقتل الحسين ) المقرم ص 334 .
( 216 )
الرحمن ـ رجل من أهل الشام ـ عن شعبة ، عن حذام الأسدي ، وقال مرة أخرى حذيم قال : قدمت الكوفة » (13) .
آفاق الخطاب :
يمثل خطاب السيدة زينب في الكوفة أول تصريح وتعليق على واقعة كربلاء بعد حدوثها يصدر من أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وتكمن أهمية الخطاب في أنه موجه للمجتمع المسؤول عن ما حدث بصورة مباشرة وهو المجتمع الكوفي . . والخطاب أيضاً يعتبر الجولة الأولى في معارك السيدة زينب ضد الاجرام والظلم الأموي . .
من هنا لابد من قراءه الخطاب قراءة متأنية واعية ، ونسلط هنا الأضواء على بعض آفاق ذلك الخطاب الهام :
أولاً : تحمل المجتمع الكوفي المسؤلية المباشرة عما حدث للامام الحسين وأهل البيت وعن مصير الثورة المقدسة ، فالكوفيون هم الذين كاتبوا الحسين وألحوا عليه بالقدوم اليهم ، وبايعوا سفيره مسلم بن عقيل ، فكيف خذلوا الامام وتخلوا عنه ، واستسلموا لترهيب ابن زياد وترغيبه ؟
ثم إن الجيش الذي زحف لقتال الامام ، وصنع تلك الجريمة الكبرى ، كان في أغلب قياداته وجنوده من أبناء المجتمع الكوفي . .
وبعد كل ما حدث لماذا يتفرج الكوفيون على نتائج الأحداث ، وهم يرون رأس الامام الحسين ورؤوس أهل بيته مرفوعة على أطراف الرماح تخترق شوارع بلدتهم ، ويشاهدون نساء الحسين وعيالاته أسارى سبايا بين ظهرانيهم ، فلماذا السكوت والخنوع والصمت على كل ما يجري ؟ وماذا ينتظرون لكي تتحرك غيرتهم الدينية وشيمتهم العربية ؟ .
لذلك تنقل الرواية التي ضمنت الخطاب قول الامام زين العابدين ( عليه السلام ) معلقاً على بكاء نساء أهل الكوفة : « إن هؤلاء يبكون وينوحون من
____________
(13) ( بلاغات النساء ) ابن طيفور ص 23 .
( 217 )
أجلنا فمن قتلنا » ؟ .
وهذا ما ركزت عليه السيدة زينب في خطابها ، إذ اعتبرت أهل الكوفة مسؤولين بشكل مباشر عن الفاجعة ، ووجهت اليهم أشد التوبيخ والذم . . .
فقالت عنهم : « أهل الختل والغدر » والختل هو الخداع ، والغدر هو الخيانة ونقض العهد ، فأهل الكوفة بدعوتهم الامام للقدوم اليهم وبمبايعتهم له والتزامهم بنصرته ثم التخلي عنه بل والمشاركة في قتاله قد مارسوا أسوأ أنواع الخداع والخيانة ونقض العهد . . واعتبرتهم السيدة زينب نموذجاً وتطبيقاً للمثل المعروف عن المرأة الحمقاء التي كانت تغزل مع جواريها الى انتصاف النهار ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن ، وهذا دأبها كل يوم . . وهو مثل ذكره القرآن الحكيم : ( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ) (14) . وكأن السيدة زينب بقولها : « إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا » تشير الى أن أهل الكوفة قد تكرر في تاريخهم وواقعهم أنهم يقفون الى جانب الحق ويقدمون التضحيات ، لكنهم وفي ذروة الصراع مع أهل الباطل يتراجعون وينسحبون ، ويضيعون بذلك جهودهم وتضحياتهم ومستقبلهم ، حصل ذلك في موقفهم مع الامام علي حيث خاضوا معه معركة الجمل ومعركة صفين ، وحينما لاح فجر النصر لهم بعد تضحياتهم الكبيرة استجابوا لخدعة معاوية برفع المصاحف وطلب التحكيم ، فاغتالوا بذلك انتصارهم وأعطوا الفرصة لعدوهم . . وكرروا ذات الموقف مع الامام الحسن حيث بايعوه والتفوا حوله وزحفوا معه لمواجهة تمرد معاوية لكنهم لما حانت ساعة المواجهة تخاذلوا وهدموا بذلك صرح الشرعية والقيادة الذي بنوه ببيعتهم للامام الحسن . . ومع الامام الحسين مارسوا نفس الطريقة والحالة ، فهم قد بايعوا الامام وأقدموه اليهم ، وكادت الكوفة أن تستعيد دورها القيادي بخضوها لسفير الامام مسلم بن عقيل ، لكنهم في اللحظات الأخيرة والحساسة ، بدّدوا كل تلك الآمال ،
____________
(14) سورة النحل ( آية 92 ) .
( 218 )
واغتالوا مستقبلهم ومستقبل الأمة . . اذاً فهم كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ، وزينب بهذا التمثيل تحاكي ما قاله أبوها من قبل لذات المجتمع حين قال : « أما بعد : يا أهل العراق ، فإنما أنتم كالمرأة الحامل حملت فلما أتمت أملصت ، ومات قيمها ، وطال تأيمها ، وورثها أبعدها » (15) . أوليست زينب تفرغ عن لسان أبيها ؟ كما قال الراوي . . وتوجه زينب لهم التهمة بصراحة ووضوح في فقرات عديدة من خطابها : « فلقد ذهبتم بعارها وشنارها » . . « ويلكم يا أهل الكوفة أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم » . . . « لقد جئتم شيئاً إدّاً » ، « ولقد جئتم بها حرقاء شوهاء » . .
ثانياً : التركيز على نقاط ضعف المجتمع الكوفي ومساوئ أخلاقه : فالجريمة لم تنطلق من فراغ ، وإنما هي نتيجة طبيعية لتلك الأخلاقيات المنحرفة . . .
وتنبههم الى أبرز مساوئ أخلاقهم بقولها : « وهل فيكم الا الصلف والنطف ، والكذب والشنف ، وملق الاماء ، وغمز الأعداء ، أو كمرعى على دمنة ، أو كقصة على ملحودة » .
و « الصلف » : هو التمدح بما ليس في الذات أو فوق ما في الذات اعجاباً وتكبراً (16) .
ومن يقرأ رسائل الكوفيين للامام الحسين ، وكلماتهم أثناء مبايعتهم والتفافهم حول سفيره مسلم بن عقيل ، والتي ادعوا فيها اخلاصهم وتفانيهم واستعدادهم للتضحية فداءاً للامام الحسين ، وأكدوا فيها تصميمهم على مقاتلة الأعداء وإلحاق الهزيمة بهم . . ومن يلاحظ حقيقة موقفهم وواقعهم فيما بعد تجاه الامام الحسين ، يرى بوضوح أنهم يتصفون بالصلف كما قالت عنهم السيدة زينب ، وقد سبقها أبوها الامام علي في اكتشاف هذه الصفة السلبية للمجتمع الكوفي في قوله لهم :
____________
(15) ( نهج البلاغة ) الإمام علي الخطبة رقم : 71 .
(16) المنجد في اللغة .
( 219 )
ـ « كلامكم يوهي الصم الصلاب ، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء ! تقولون في المجالس كيت وكيت ، فاذا جاء القتال قلتم : حيدي حياد » (17) .
ولا غرو فإنها تفرغ عن لسان أبيها . . أما « النطف » فهو التلطخ بالعيب ، أو القذف بالفجور . .
و « الشنف » بالتحريك البغض والتنكر . .
وتشير السيدة زينب الى ابتلائهم بمرض التملق المفرط « ملق الاماء » فالأمة التي لا حول لها ولا قوة تجد نفسها مضطرة الى إبداء أعلى درجة من الخضوع والطاعة والانقياد لسيدها ، وتبالغ في جلب ودّه ورضاه ، والمجتمع الكوفي كان كذلك في تعامله مع السلطة المهيمنة عليه آنذاك . .
و « الغمز » الطعن بالشر . .
« كمرعى على دمنة أو كقصة على ملحودة » تشير بذلك الى حالة الازدواجية التي كان يعاني منها المجتمع الكوفي ، فظاهره حسن يغري بينما ما تنطوي عليه النفوس سيء خبيث ، وتشبههم بالزرع الأخضر في مكان أوساخ الحيوانات وفضلاتها « مرعى على دمنة » ، وبالقبر المجصص ظاهره بالجص الجميل المنظر ، ولكن ماذا في حفره القبر غير الرفاة المتفسخة لجسد الميت « كقصة على ملحودة » . .
ويعلق السيد المقرم على هذه الفقرة بقوله :
والذي أراه أن النكتة في هذه الأستعارة : ان القصة بلغة الحجاز الجص ، والملحودة القبر لكونه ذا لحد ، فكأن القبر يتزين ظاهره بياض الجص ولكن داخله جيفة قذرة ، وأهل الكوفة وإن تزين ظاهرهم بالإسلام ، الا أن قلوبهم كجيف الموتى بسبب قيامهم بأعمال الجاهلية الوخيمة العاقبة من الغدر وعدم الثبات على المبادىء الصحيحة ، وقد أنفردت « متممة الدعوة الحسينية » بهذه النكات البديعة
____________
(17) ( نهج البلاغة ) الإمام علي الخطبة رقم : 29 .
( 220 )
التي لم يسبقها مهرة البلغاء اليها ، لأنها ارتضعت در « الصديقة الكبرى » التي أخرست الفصحاء بخطابها المرتجل (18) .
ثالثاً : توضيح أبعاد الفاجعة : فما حدث في كربلاء لم يكن أمراً سهلاً ، وليس شيئاً عادياً بسيطاً ، إنه كارثة مروعة ، وفجيعة عظمى ، وجريمة نكراء .
والسلطة الحاكمة قد تحاول تبسيط ما حدث ، فهو تمرد على النظام اضطر الجيش الى قمعه ليس إلا ! ! .
لكن السيدة زينب في خطابها أوضحت للناس الأبعاد الحقيقية لما حدث حين قالت : « فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل بعدها ابداً » .
فالفظائع التي ارتكبت في كربلاء بحق أهل البيت تمثل جريمة نكراء تسود وجوه وتاريخ أصحابها بالعار والشنار وهو أقبح العيب ، ولا يمكن ازالة وتطهير آثار تلك الجريمة أبداً .
ثم تخاطبهم قائلة :
ويلكم يا أهل الكوفة ! أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم » .
فبالمقياس الديني أنهم قد اعتدوا على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فالحسين سبطه وحبيبه والعزيز على قلبه ، وعيال الحسين وثقله ، هم حرمة رسول الله . . فكيف يسمحون لأنفسهم كمسلمين أن يقترفوا ذلك ؟ .
إنها جريمة في مستوى الشرك بالله ( سبحانه ) لذلك تصفها السيدة زينب بما وصف به القرآن شرك الكافرين وادعاهم أن لله ولداً : ( وقالوا اتخذ الرحمن ولداً * لقد جئتم شيئاً إدّاً ) (19) .
كما تشير السيدة زينب الى أنهم مارسوا الجريمة بأكبر قدر من الحقد والبشاعة : « ولقد جئتم بها خرقاء وشوهاء » .
____________
(18) ( مقتل الحسين ) المقرم ص 312 .
(19) سورة مريم آية 88 ـ 89 .
( 221 )
وتثبت السيدة زينب في خطابها قضية تداولت نقلها بعض المصادر من أن السماء أمطرت دماً يوم متقل الحسين ، وحينما تقول ذلك السيدة زينب يصبح أخباراً حقيقياً صادقاً ، وهي بذلك تذكر من قد يكون غافلاً عن الربط بين القضيتين أي قتل الحسين ، وإمطار السماء دماً ، كما تخلد هذا الحادث للتاريخ والأجيال .
رابعاً : منزلة الحسين ومقامه : لابد وأن الإعلام الأموي سيسعى جاهداً للتقليل من شأن الحسين والأفتراء على شخصيته ، كما حصل لأبيه الإمام علي ، لذلك ركزت السيدة زينب في خطابها على التأكيد على منزلة الحسين ومقامه فهو : « سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شاب أهل الجنة » .
خامساً : الأنذار بالأنتقام : فعدالة الله ( تعالى ) تأبى أن تمر تلك الجريمة النكراء دون عقاب يتناسب مع خطورتها لكن العقاب قد لا يأتي فورياً « فلا يستخفنكم المهل فانه لا يحفزه البدار ولا يخاف فوت الثأر وإن ربكم لبالمرصاد » .
وكان الإنتقام الالهي من قتلة الحسين ومن المجتمع المتواطئ معهم شديداً وقوياً ، حيث لم يعرف ذلك المجتمع بعدها أمناً ولا استقراراً .