أنت في الصفحة : مقالات

مقالات
مَـرتَـعًـا لِلشَّـيطـانِ!
مَـرتَـعًـا لِلشَّـيطـانِ!
الكاتب : أحمد سالم إسماعيل

تأريخ النشر : 2024-05-07

الكاتب : أحمد سالم إسماعيل

 أحمد سالم إسماعيل
بسم الله الرّحمن الرّحيم، الحمدُ لله وسلامٌ على عباده الّذين اصطفى مُحمّدٍ وآله خير الورى.
هل سافرتَ يومًا في نُزهةٍ إلى حديقة أو بُستان؟ هل شاهدت أطفالًا يلعبون؟ هل كان كنت في مع عائلتك في السفرة؟ هل كان معكم أطفال لعبوا في البستان؟ ثُمّ ماذا؟ هل أكلتم الطّعام والفاكهة؟ هل شعرتم بوسع المكان؟ هل أحسستُم بالرّاحة والتّرويح عن النّفس؟
إذا كانت الجوابات بـ(نعم) فهذا هو معنى الرَّتْع والمَرتَع( )، والمكان الذي ذهبتم إليه يسمّى (مَرتَع)، ووردتْ هذه الكلمة في القُرآن الكريم بإحدى اشتقاقاتها؛ فعلًا مضارعًا (يَرَتَعْ)، في قصة النّبيّ يوسُف (عليه السّلام)، عن لسان إخوته مُخاطبين أباهم النّبيَّ يعقوبَ (عليه السّلام)، قال تعالى: ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾( ).
ومِن ثَمَّ؛ هل للشّيطان مَرتَع؟! أعني: هل يخرج الشيطان في نُزهة؟ هل يأكل ويشرب ما لذّ وطاب؟ هل له فاكهة يأكلها؟ هل يلعب في أرض خضراء كما نحن نلعب؟ هل يشعر بالرّاحة في نفسه كما نحن؟
يبدأ الشيطان مع ابن آدم من الصِّغَر، فترى هذا المسكين يولَدُ طفلًا رضيعًا، لا يدري أنّ وراءه شيطانًا يتربّصُ به! لذا نجد في أحكام الإسلام أنّ من المستحبّات الأذان في الأذن اليمنى للمولود والإقامة في اليسرى، فإنّ ذلك عِصمةٌ من الشّيطان الرّجيم( ).
هذه أوّل خطوة في منع الشيطان من تأسيس مَرتَعٍ له! ماذا يعني؟ يعني أنّ اللعين يسعى لتأسيس مرتع له في كُلّ إنسان مُنذ ولادته إلى وفاته، كيف لا وقد أقسم بعزّة الله أن يقعد في طريق النّاس؛ ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾( )، وفي موضع آخر من القُرآن الكريم يحكي ما توعّد به إبليس؛ ﴿قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾( ).
ثُمّ يَكبُرُ ذلك المولود شيئًا فشيئًا؛ وهو في سِنِيِّ عُمُرِه الأولى؛ لا يبذل معه الشيطان جهدًا كبيرًا، بل مع أبويه، فتراه يُوقِعُ بينهما البغضاءَ، ويحثّهما على الكلام البذيء! لماذا؟
لأنّ الطّفل صحيفةٌ بيضاء؛ وأداة الكتابة فيها حَوَاسُّهُ؛ عَيناهُ وأُذُناهُ.
فإذا لم يَسَعِ الشيطانَ أن يُوقِعَ بين الأبوين؛ فقد خَسِرَ هذه الجولة، لكنّهُ لا يملّ ولا يكلّ عن الغواية! فريثما يكبر ذلك الطّفل فيصبح غلامًا يافعًا يدخل مرحلة التّكليف الشّرعيّ، وتبدأ معه مرحلة المراهقة؛ تلك المرحلة الّتي يخطّط لها إبليسُ مُنذُ الصِّغَر؛ فإذا فشل بفعل التّربية الصّحيحة للوالدين- أتى من منفذ آخر! ما هو؟ الصّديق... نعم: الصّديق.
يتّخذ الشّيطان صديقَ السُّوءِ مَنفذًا للشابّ المستقيم؛ فإذا انجرفَ الشابُّ ربحَ الشّيطانُ هذه المرحلة؛ وقد يحصل العكس!؟ نعم؛ يمكن بسهول أن يخسر إبليس هذه المرحلة أيضًا؛ ذلك بأن يكون الأبوان سَيِّدَيِ الموقف، مُبادِرَينِ لمساعدة ولدهما، يُعاملانِهِ بِرِفْقٍ ولُطف؛ لأنّ مرحلة المراهقة صعبةٌ وحسّاسةٌ جدًّا، فإذا نجحَ الوالدان وخسرَ إبليس هذه المرحلة أيضًا- فهل يكُفّ عن ولدهما؟
يُتابع ويُتابع، فيأتي إلى الشّابِّ عن طريق النّساء، فتراهُ يلعبُ في نفسه ويحثّه على ركوب المعاصي؛ فإذا استجاب الشّابُّ لإبليس فقد ربح إبليسُ وخسر الشّابّ؛ أمّا إذا رفض الشّابّ العروض المُغرية لإبليس فقد فاز هُو بالمرحلة، ولا سيّما إذا اتّخذ ما يحرز معه نصف دينه؛ وهو الزّواج؛ فإذا اختارَ زوجةً صالحةً تُعينُهُ على دينه ودُنياه- خسر إبليسُ وخَسِئَ. تُرى هل يكفّ عنه بعدها؟
يبدأ بمحاولة تخريبٍ لتلك للعلاقة بين الزّوجين، أو بين الزوج وأمّه وأبيه، وأخواته وإخوته، فيجعل الزّوج الشّابّ بين المطرقة والسّندان؛ ويجعل الزّوجة ترتابُ وتُشكّك بزوجها وتبحثُ في أسراره؛ فَتُوقَدُ لذلك نارُ الفِتنة، ويحدثُ ما يحدثُ! ويرافق كلّ ذلك حالاتٌ من الغضب، الّذي هو جمرةٌ تُوقِدُ نارًا تحرقُ كُلّ ما أمامها؛ رُوِيَ عن الإمام أبي جعفرٍ الباقرِ (عليه السّلام): «إِنَّ هَذَا الْغَضَبَ جَمْرَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، تُوقَدُ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، وإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا غَضِبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ ودَخَلَ الشَّيْطَانُ فِيهِ، فَإِذَا خَافَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ فَلْيَلْزَمِ الأَرْضَ فَإِنَّ رِجْزَ الشَّيْطَانِ لَيَذْهَبُ عَنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ»( ).
كلّ ذلك لِيُخرّبَ بين الزّوجينِ ويهدم بنيان الأسرة من أساسه القائم على المودّة والرّحمة؛ اللتين وهبهما الله تعالى للزّوجين من أوّل يوم في الحياة الزّوجيّة؛ قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾( )،
وتجنُّبًا لكلّ مُنغّصات الحياة؛ جعلَ الإسلامُ شرطًا مُهمًّا في الزّواج؛ هو (الدّين)، فأهمّ شيء في الرّجل هو دِينُهُ؛ وأفضلُ من ذلك أن يكون دَيِّنًا صاحب تَقوًى؛ وفي ذلك أرشد الإمامُ الحسنُ المُجتبى (عليه السّلام) رَجُلًا جاءَ يستشيرُهُ في تزويج ابنتِهِ؟ فقال (عليه السّلام): «زَوِّجْها مِن رَجُلٍ تَقِيٍّ، فإنّهُ إِنْ أَحَبَّها أَكرَمَها، وإنْ أَبغَضَها لَم يَظلِمْها»( ).
وجعل الإسلام في الزّوجة شَرطَ الدّين أيضًا؛ ففي رواية عن الإمام الباقر (عليه السّلام) قال: «قال رسولُ اللهِ (صلّى اللهُ عليه وآله): مَن تَزَوَّجَ امرأةً لا يَتَزَوَّجُها إلّا لِجمالِها لَمْ يَرَ فيها ما يُحِبُّ، ومَن تَزَوَّجَها لِمالِها لا يَتَزَوَّجُها إلّا لَهُ وَكَلَهُ اللهُ إلَيهِ، فَعَلَيكُم بِذاتِ الدّينِ»( ).
فإذا أوقع الشّيطان بين الزّوجين، عندئذٍ تظهر مزيّة صاحب التّقوى على غيره من الرّجال، وتظهر مزيّة ذات الدّين على غيرها من النّساء.
أيُّها الزّوج: ليس من الدّين والتّقوى أن تضرب زوجتك! وليس من الدّين أن تحرمها نفقتها! وليس من الدّين أن تمنعها من زيارة أهلها! وليس من الدّين أن تتأمّر عليها معتبرًا إيّاها خادمةً لك! فإذا فعلتَ شيئًا من ذلك ونحوه فأنت لست بصاحب دينٍ وتقوًى، فانظُر أين تضعُ نفسك؟؟
أيتها الزّوجة: ليس من الدّين أن تُخبِري بأسرارِ زوجك وتجعليها (عِلكةً) في أفواه صديقاتِكِ! وليس من الدّين أنْ تتجسّسي على زوجكِ! وليس من الدّين أن تتبغّضين إليه ولا تترفّقي به! وليس من الدّين أن تَعبئي بأيّة كلمة تُسهِم في خراب العلاقة بينكما أو تُسبّب جمودها وبرودها! فإذا فَعلتِ شيئًا من ذلك ونحوه فلَستِ من ذوات الدينٍ والتقوى، فانظُري أينَ تضعينَ نَفسَكِ؟؟
هلّ يكفُّ الشّيطان بعد ذلك؛ كلّا.
يستمرّ ويستمرّ حتّى يبلغ عمر ابن آدم أربعين سنةً؛ فإذا كان مُستقيمًا فهنيئًا له على ما قضاهُ من الجهاد الأكبر بمحاربة الشيطان ومجاهدة نفسه الأمّارة بالسّوء؛ وإن لم يكن كذلك فقد أصبح (مرتعًا للشّيطان) وكيف يرجو بعدها أن يهتديَ؟ إلّا أن تُدرِكَهُ رحمةُ الله وينقذه لُطفُ رَبِّهِ.
رُوِيَ في ذلك عن النّبيّ (صلّى اللهُ عليه وآله): «إذا بَلَغَ الرّجُلُ أربعينَ سنةً ولم يَغلِبْ خَيرُهُ شَرَّهُ- قَبَّلَ الشَّيطانُ بَينَ عَينَيهِ، وقال: هذا وَجهٌ لا يُفلِحُ»( ). ما هو حال مَن يُقبِّلُهُ الشّيطان بين عَينَيهِ؟!
الأمر مُخيفٌ جدًّا؛ والعاقل يختارُ الموتَ على أن يُصبح (مرتَعًا للشّيطان)؛ وبذلك دعا إمامنا زين العابدين (عليه السّلام) في دعاء مكارم الأخلاق؛ «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ، ومَتِّعْنِي بِهُدًى صَالِحٍ لَا أَسْتَبْدِلُ بِهِ، وطَرِيقَةِ حَقٍّ لَا أَزِيغُ عَنْهَا، ونِيَّةِ رُشْدٍ لَا أَشُكُّ فِيهَا، وعَمِّرْنِي مَا كَانَ عُمُرِي بِذْلَةً فِي طَاعَتِكَ، فَإِذَا كَانَ عُمُرِي مَرْتَعًا لِلشَّيْطَانِ فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَ مَقْتُكَ إِلَيَّ، أَوْ يَسْتَحْكِمَ غَضَبُكَ عَلَيَّ»( ).
هكذا يعلّمنا الإمام (عليه السلام) أن نفضّل الموت على أن نكون أُلعوبةٍ بيد إبليس؛ لأنّ هذا العُمر إذا أصبح مرتعًا للشّيطان فقد صار وسيلةً لِلَهْوِهِ ولَعِبِهِ وفاكهةً لذيذةً في فَمِهِ، وبُستانًا يَتَنَزّه فيه متى شاء؛ فيحقّ لمن يسمعُ هذه الكلماتِ أن يملكَهُ الخوفُ والوجلُ؛ وأن يرجوَ رحمةَ اللهِ، ويتوسّلَ بأوليائه ليكون من المُفلِحينَ، واللهُ المستعانُ على ذلك كلّه، والحمدُ لله وحدَهُ.

 أحمد سالم إسماعيل
وحدة البُحوث والدّراسات القُرآنيّة في معهد القُرآن الكريم فرع النّجف الأشرف
يوم الثلاثاء 4 صفر 1442هـ / الموافق 22/ 9/ 2020م
الصور المرفقة (1 صورة)
تعليقات القرآء (0 تعليق)
لاتوجد اي تعليقات حاليا.

ملاحظة: لطفا التعليق يخضع لمراجعة الادارة قبل النشر

الرجاء الضغط على المربع أدناه

جاري التحميل ...

لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...

جاري التحميل ...