5 ـ معاوية والثورة المضادة
أدت سياسة عثمان (رض) التي ارتكزت على محاباة بني أمية ، وسوء توزيع الثروة في الدولة ، ورفع أسوأ الناس على رقاب المؤمنين ، وارتكاب المخالفات القانونية ، وتركيز السلطة في يد عائلة بعينها دون إعتبار للأهلية والكفاءة ـ كما هو مفصل في تاريخنا ـ الى تمرد عامة الشعب، وتذمر كبار الصحابة، حتى انتهى الأمر بمقتل الخليفة ، وسقوط الدولة الإسلامية الناشئة في دوامة صراع سياسي خطير . وأخذت الأخطاء التي بدأت قبل سنوات بدرجة واحدة ، تتسع على مر الأيام ، ويزداد انفراجها ، حتى وصلت الأمور الى تحول معاكس للخط الذي تأسست عليه الدولة .
ولأن الثورة على نظام الحكم ـ أي نظام ـ حرام لا تجوز في اعتقاد مؤرخينا الذين نشأوا وتربوا في ظل نظم غير شرعية ، كان لابد من البحث عن تبرير خارج عن العقل والمنطق ـ كالعادة ـ لإقناعنا بأنه ما أسقط الدولة وأشاع الفتنة إلا العناصر الخارجية
فهم لم يربطوا بين المسببات وأسبابها ، ولم يرجعوا المعلولات الى عللها، ولم يفتشوا عن أسباب ثورة أهل مصر على عثمان (رض)
( 104 )
لأن هذا المنهج ـ رغم علميته وإسلاميته ـ سيؤدي الى تخطئة بعض الشخصيات التي يريدون من كل مسلم تقديسها مهما فعلت .
من أجل هذا اخترعوا شخصية خيالية لم توجد في التاريخ أصلاً إلا في أوهامهم ، وسموها عبدالله بن سبأ أو ابن السوداء ، وأطلقوا لخيالهم العنان تحت تخدير العواطف ، فتخيلوا أنه لابد وأن يكون يهودياً ، ونسبوا إليه كل الفساد ، ووضعوا على رأسه مسؤولية الثورة والتذمر . فتعيين الخليفة مجلس شوراه من أقربائه وممن لعنهم أو نفاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كمروان بن الحكم ، وسعيد بن العاص ، وعبدالله بن عامر ، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح ، مع وجود أجلة الصحابة ، ثم إطلاق يد العائلة المالكة وعلى رأسها هؤلاء في تغيير الدولة والتلاعب بشئونها ، وإشاعة الفوضي السياسية والقانونية وتعطيل أحكام الشرع ، ثم حماية الخليفة لهم . ووعده بإصلاح الأمور مرات ، واخلافه لهذا الوعد ، واصراره على صحة سياسته التي احتج عليها كل الصحابة إلا المستفيدين ، لم يكن من أسباب التذمر . كما أن تعيين الخليفة لمرتد أباح الرسول دمه في فتح مكة كعبدالله بن
( 105 )
سعد بن أبي سرح والياً على مصر في وجود أجلاء كعمار بن ياسر ، ومحمد بن أبي بكر ، ومحمد بن أبي حذيفة ، وغيرهم ، ثم قيام هذا الوالي بتعطيل الشرع ونهب خزانة الدولة واضطهاد النصارى ، وإذلال الناس، لم يكن سبباً كافياً لتذمر أهل مصر ، بل لابد وأن يكون السبب وراء ذلك عبدالله بن سبأ اليهودي ، ولابد وأن يكون الصحابة الذين ثاروا على فساد نظام الدولة من أتباع هذا اليهودي . تماماً كما تقول الأنظمة المعاصرة عمن ثار عليها ، لأن الثورة على النظم الفاسدة حرام وفتنة وإراقة دم .
ونظرية ابن سبأ التي ساقها مشايخنا في تبرير الكارثة ، يستحي منها كل طفل مسلم به مسكة من عقل ، لأنها تعني أن الخلافة الراشدة والدولة المحمدية كانت من الضعف بمكان بحيث أن يهودياً واحداً استطاع أن يقلبها بغير عناء .
كما أنها تعنى أن كبار الصحابة الذين لم يوافقوا على سياسة عثمان ، لم يكونوا يعرفون دينهم ، فانساقوا وراء مقولة يهودي ودمروا دولة الإسلام .
( 106 )
ثم ليت مؤرخينا استطاعوا أن يثبتوا دور ابن سبأ في الأحداث، لأنك تراهم يذكرون اسمه في البداية فقط ، ثم تجري الأحداث مجراها الطبيعي محكومة بقوانين العمران والسياسة المنطقية ووفق عللها الطبيعية من تنافس بين الصحابة ، وسوء إدارة الدولة ، وفساد الشورى ، وضغائن القبائل ، وما اليها .
ولأن العلة التي ذكرها المؤرخون ـ أي ابن سبأ ـ علة وهمية ، تراهم على غير يقين منها ، فمرة قالوا وراءها عبدالله بن سبأ ، ومرات قالوا أن عمرو بن العاص هو محركها ، لأنه كان يؤلب الناس على عثمان حتى رعاة الغنم المتفرقين في الصحراء ، ومرة يعلقون المسؤولية في عنق محمد بن أبي بكر ، وأخرى يضغونها على رأس مروان بن الحكم (1)
وكثير من المؤرخين يقولون أن الأسباب التي نقمها الناس على عثمان كثيرة وخطيرة ، وأنهم رأوا الإعراض عن ذكرها أفضل ، ولم يذكروا إلا ماسمحت به أنفسهم وجادت به وجهات نظرهم.
____________
(1) أنظر تفصيل ذلك على سبيل المثال في الطبري : 3|378 حتى 398 .
( 107 )
فنحن إذن لا نقرأ إلا ما سمحوا لنا بقراءته والإطلاع عليه ، لا ما وقع كله ، وما يدريك لعل فيما لم يذكروه مفاتيح معضلات كثيرة ، أو ربما فيه من الحقائق التاريخية ما يكشف كثيراً مما لم يزل عندنا طلاسم غير مفهومة ؟
إن أحداث المأساة السياسية التي وقعت في عهد عثمان (رض) لم يكن وراءها يهودي ولا نصراني ، بل كانت لها أسبابها وعللها السياسية والإقتصادية والإدارية والإجتماعية والنفسية والفكرية التي اجتمعت وسارت وفق قوانين التاريخ وسنة الله في خلقه .
ومن الأدلة على ذلك أن الصحابة لم يذكروا ابن سبأ قط ، بل منهم من تنبأ بما وقع من الأحداث الجليلة ، فانقلاب معاوية على الخليفة الشرعي وتأمره على الناس بالسيف تنبأ به كعب وغيره من الصحابة (1)
وإنعكاس حال الدولة استشفه علي ( ع ) (2)
____________
(1) الطبري : 3|381 .
(2) الطبري : 3|456 .

( 108 )
كما تنبأ به عثمان نفسه حين ثار عليه أهل مصر فقال ( والله لئن فارقتهم ليتمنون أن عمري كان طال عليهم مكان كل يوم بسنة مما يرون من الدماء المسفوكة والإحن والأثرة الظاهرة والأحكام المغيرة ) (1)
ذلك أن أحوال الدولة وخط سيرها كان واضحاً أمامهم جميعاً، ومن ثم استطاعوا أن يروا المصير قبل وقوعه ، لأنه كان أمراً مفهوماً ، إذ كيف يتوقع ذو عقل السلامة لدولة يديرها مجلس شورى من الملاعين والمطرودين ؟
لقد كانت الدولة في عهد عثمان دخلت مرحلة وسطاً بين الخلافة والملك ، وكانت تسير بخطى واضحة في طريقها الى نظام سياسي غير الذي أراده لها مؤسسها ، وكانت هذه حقيقة سياسية يعرفها الكثير . أنظر الى مروان بن الحكم ـ مثلاً ـ وقد حاصر الناس عثمان فخرج عليهم ليقول لهم ( جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا ؟ إرجعوا عنا ) (2)
____________
(1) الطبري : 3|393 وانظر كذلك 3|425 .
(2) الطبري : 3|379 .

( 109 )
إن طريقة تفكير الصحابة ومن عاش خلال تلك الأحداث كانت مختلفة عن طريقة تفكيرنا التي ورثناها عن مشايخنا ومؤرخينا ، ومن هنا لم يؤثر عن أحدهم أنه قال أن سياسة الدولة كانت مضبوطة وأن سبب الفساد كان هذا أو ذاك من اليهود أو النصارى .
وكيف كان من الممكن توقع غير ما آلت إليه الخلافة في الوقت الذي كان يعتبرها مروان بن الحكم ـ كما مر قبل سطور قليلة ـ ملكاً له وعائلته والخليفة حي بين الناس ؟
قتل الخليفة ، وأدرك الناس أن الدولة قد حلت بها كارثة ، فهرعوا الى الإمام علي ( ع ) يبايعونه وقالوا ( إن هذا الرجل قد قتل ولابد للناس من إمام ، ولا نجد اليوم أحق بهذا الأمر منك ، لا أقدم سابقة ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لا تفعلوا فإني أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً ، فقالوا لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك ، قال : ففي المسجد فإن بيعتي لا تكون خفياً ولا تكون إلا عن رضا المسلمين ) (1)
____________
(1) الطبري : 3|450 .
( 110 )
وفي رواية أخرى أنه ( حين قتل عثمان رضي الله عنه واجتمع المهاجرون والأنصار وفيهم طلحة والزبير ، فأتوا علياً فقالوا يا أبا حسن هلم نبايعك ، فقال : لا حاجة لي في أمركم أنا معكم ، فمن اخترتم فقد رضيت به فاختاروا . فقالوا : والله ما نختار غيرك ، فاختلفوا إليه بعد ما قتل عثمان رضي الله عنه مراراً ، ثم أتوه في آخر ذلك فقالوا إنه لا يصلح الناس إلا بإمرة ، وقد طال الأمر ، فقال لهم : إنكم قد اختلفتم اليَّ وأتيتم ، وإني قائل لكم قولاً إن قبلتموه قبلت أمركم ، وإلا فلا حاجة لي فيه . قالوا ما قلت من شيء قبلناه إن شاء الله . فجاء فصعد المنبر ، فاجتمع الناس إليه فقال : إني قد كنت كارهاً لأمركم فأبيتم إلا أن أكون عليكم . ألا وإنه ليس لي أمر دونكم ، إلا أن مفاتيح مالكم معي، ألا وإنه ليس لي أن آخذ منه درهماً دونكم ، رضيتم ؟ قالوا نعم ، قال أللهم اشهد عليهم ثم بايعهم على ذلك (1)
وهذه الروايات ـ إن صحت ـ دلت على أمور :
____________
(1) نفس المصدر : 3|450 ـ 451 .
( 111 )
الأول : أن طريقة اختيار القيادة هذه المرة اختلفت عن المرات الثلاثة الماضية ، وهذه هي المرة الأولى التي ذهب الناس فيها مراراً يلحون على شخص أن يتولى قيادتهم ، دون أن يتم الأمر فلتة ، أو بالعهد دون مشورة ، أو بمجلس شورى منتقى .
الثاني : أن الإمام علي ( ع ) ظل يرفض هذا المنصب ، ربما لأنه كان يعلم أن الدولة قد سارت في طريق وعر ، وتغير حال الناس فيها ، وهو ما سيسبب له بالتأكيد مصاعب في إدارتها ورد الأمور الى مجراها الأصلي . وربما رفض مراراً ليثبت لكل ذي عينين أنه لم يختلس الأمر ، ولم يسارع اليه ، ولم يلفق له الطرق ويخترع الوسائل ، وإنما كان اختياره اختياراً حراً من قبل الناس الذين أصروا عليه ، فهي بيعة صافية رائقة لا يشوبها غبش .
الثالث : أن الإنحراف الذي سبب الكوارث الماضية كان في أساسه انحرافاً اقتصادياً مالياً بالدرجة الأولى ، وهو ما يظهر من عبارته، ولو لم تكن لهذا الأمر علاقة بما جرى ما أفرده الإمام بالذكر في عهد البيعة الذي له منزلة الدستور.
( 112 )
الرابع : أن السياسة الإقتصادية والمالية التي سيتبعها الإمام علي ـ أو القيادة الجديدة ـ ستقوم على المساواة وإحقاق الحق والإنصاف وعدم المحاباة والإلتزام الدقيق بالشرع . وأعتقد أن هذا الإحساس الذي لابد وأن كل فرد آنذاك قد شعر به .
وتمت بيعة الإمام بعد أن كانت الدولة قد شهدت تغييرات هائلة في جميع جوانبها الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والقانونية ، فغاصت في بحر تعالت أمواجه وهزت كيان الدولة هزاً عنيفاً .
وما أن تولى الأمر حتى بدأ يعيد عربة الدولة الى الخط الذي خرجت عنه ، فعزل العصابة التي استولت على مناصب الدولة العليا ، وولى مكانها أهل الصلاح والتقى ، وسوى بين الناس في الأنصبة ، وكانت بيعته فرصة عظيمة لإعادة الدولة من الطريق المنحرف الى الصراط المستقيم . غير أن السياسات الخاطئة ـ خصوصاً الإقتصادية ـ التي كانت الدولة قد سارت عليها ربع قرن بعد وفاة المؤسس ، أسفرت عن خلق خط سياسي معاد لأية
( 113 )
إصلاحات اقتصادية ، لا سيما وأن كبار أهل الأثر والنفود ـ أو أغلبهم ـ كانوا ممن استفادوا من هذه السياسة الإقتصادية ، وتغير وضعهم الإجتماعي وأصبحت لهم مكاسب ومصالح مشتركة يدافعون عنها ، ويرون الحفاظ عليها بأي ثمن .
ومن هنا كانت أزمة الإمام علي ( ع ) الحقيقية ، إذ تسلم السلطة والحمل ثقيل ، والمهمة صعبة ، أضف الى ذلك العناصر الأخرى كإزدهار بني أمية سياسياً ، وضعف أتباع خط الإمام علي ( ع ) نظراً لفقرهم وزهدهم ، واستفحال الضغائن القبلية ، والأحقاد الشخصية ، وتبني سياسة الإنتقام من الإمام الذي وتر بسيفه كل بيوتات الكفر التي تصدت للإسلام خلال الحروب الماضية .
تزعم حركة قلقلة الدولة فريقان :
الأول بزعامة معاوية وكان أقوى وأكبر كما كانت له مطامع قبلية معروفة ، وهو من البيت الذي ظل يحارب الإسلام ودعوته حتى فتحت عليه مكة واضطر للإسلام قبل أشهر قليلة من وفاة الرسول عليه وآله الصلاة والسلام .
( 114 )
وهذا الفريق نجح في استقطاب الناس بالعطايا والوعود والهدايا، واتخذ من دم عثمان حجة للثورة على الخليفة الشرعي ونشر الفوضى في الدولة الإسلامية .
والثاني بزعامة أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير ، وهذا الفريق أقل وأضعف ، لكنه أيضا استتر بالمطالبة بدم عثمان دون وجه حق، وكانت الدوافع مختلفة ، فأم المؤمنين عائشة كانت بنفسها تحرض الناس على قتال عثمان وتقول لهم صراحة : اقتلوه، وترميه بالكفر (1)
وكذلك فعل طلحة وكان من أكبر المساعدين على قتله (2)
ثم بايع هو والزبير الإمام في البداية ، ثم انقلبا عليه لما رفض طلبهما بتولي إمرة البصرة والكوفة ، وادعيا أنهما بايعا مكرهين . (3)
____________
(1) الطبري : 3|477 .
(2) الفخري لابن طباطبا ، ص60 قال وهذا تشهد به جميع التواريخ .
(3) الطبري : 3|451 ـ 452 . وانظر تفصيل وقائع هذا الدور في جميع كتب التاريخ المعتبرة .

( 115 )
نعم ندمت عائشة على خروجها على الإمام علي كما ندم غيرها ، لكنهم ندموا بعد أن كان الخراب قد عم .
واضطر الإمام لأن يواجه ثلاث حروب طاحنة في أقل من خمسة أعوام هي مدة حكمه . فانهزم له الفريق الثاني في موقعة الجمل ، وأوشك الفريق الأول في صفين على الهزيمة ، فلجأ الى حيلة التحكيم ورفع المصاحف ، كما هو مشهور لدينا معروف ، وانتهى الأمر بالكذب والخداع .
وظهر الى الوجود من بعد فريق ثالث هم البغاة الخوارج ، الذين اضطر الإمام لقتالهم في النهروان .
وعاش الإمام ولا سلطان له على الشام مركز معاوية ، وأقام البغاة دولة داخل الدولة الى أن قتل الإمام على يد ابن ملجم المصري لعنه الله . ولأن الأمة لم تكن ترى أحداً من زعماء الفريقين المذكورين يستحق القيادة بايعوا الإمام الحسن بن علي عليه السلام ، فرأى أن يهادن قليلاً لتستتب الأمور ، وتهدأ العاصفة ، لكن نفراً من أتباعه ثاروا عليه ، وهجموا عليه وجرحوه ونهبوا متاعه ، فاضطر في النهاية للتفاوض مع معسكر
( 116 )
البغي ليحقن دماء أتباع أهل البيت ، الذين كادت السيوف الباغية أن تستأصلهم من جذورهم . وشرط له معاوية شروطاً لم يف بأي منها ، بعد أن تمكن من السلطة بحد السيف عام 41 هـ وهو ما قيل لنا عنه أنه عام الجماعة ، ولم يكن إلا عام الفرقة والاستسلام للبغي وإنقلاب خلافتنا ملكاً عضوضاً .
ثم دس معاوية للحسن السم وإنفرد بالأمر . .. وهذا كله مفصل في كتب التاريخ كلها فليرجع اليه من شاء ، وقد أعرضنا عن تفصيله لما يقتضيه المقام من الإختصار .
ركب معاوية السلطة ، ووقف بعدها ليعلن فصل الدين عن الدولة صراحة ، ويقول ( يا أهل الكوفة أترونني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج ، وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون ، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وأَلي رقابكم ، وقد آتاني الله ذلك وأنتم له كارهون . ألا إن كل دم أصيب في هذه مطلول ، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين ) (1)
____________
(1) الكامل لابن الأثير : 6|220 ، مصر ، 1356هـ .
( 117 )
وهذا منه إعلان صريح بما يلي :
1 ـ أن العبادات قد فصلت عن القيادة والسياسة ، فالأولى لكم فيها اتباع الشرع وما قال الله وقال الرسول ، والثانية لي وأنا حر فيها .
2 ـ أنه قاتل الناس ليتأمر عليهم ، ويأخذ القيادة بحد السيف .
3 ـ أن الناس كارهون له في ذلك ، إذ لم يكن ما فعله يحظى بذرة رضا .
4 ـ التخلص من كل العهود والمواثيق والشروط التي قطعها على نفسه مع الإمام الحسن ومع الأشخاص والقبائل ، وأن الدماء التي أريقت في سبيل وصوله الى السلطة ، والمعارك التي قتل فيها عشرات الألوف من المسلمين لاحساب عليها ولا قود ولاعقاب، وعلى الأمة إذن أن تنسى ماكان، وتبدأ صفحة جديدة من تاريخها، الذي ستبدأ أحداثه وفق تصور جديد ، وسياسة مغايرة .
ثم قاد معاوية الثورة المضادة بمعنى الكلمة ، فأسس جهازاً لتشويه أهل الحق ، وآخر لتصفية المعارضين جسدياً ، واخترع
( 118 )
الأحاديث ، ولفق التفاسير ، وأنشأ الفرق الفكرية المعارضة ، ونشر بين المسلمين السكوت على الظلم والظالمين بل وتأييدهم ، وأن الأسلم لهم عند احتدام المعركة بين الحق والباطل الفرار الى رؤوس الجبال خشية الفتنة ، وأرهب الآمنين من الناس ، وصادر أموال المعارضين ظلماً وعدواناً ، وأغدق أموال الدولة على حزبه ومؤيديه ، وعطل الحدود وأوقف الشرع ، وابتدع في الدين على النحو المفصل في تاريخنا المقروء الذي يعرفه كل صبي .
غير أن خطورة ما فعله معاوية تكمن في أنه ما فعله باسم أية نظرية أخرى صراحةً بل باسم الإسلام ، فإذا الإسلام الذي قدمه للناس شيئاً آخر يعاكس تمام الإسلام المحمدي . فكان ثورة مضادة سارت في الإتجاه المعاكس كلية ، لكنها تحمل اسم الإسلام القديم .
وأخطر من هذا كله أن مشايخنا وعلماءنا ـ إن صح وصفهم بالعلماء ـ غلفوا هذا السم الزعاف بطبقة حلوة المنظر ، وقالوا لنا إنه لم يكن انقلاباً على الإسلام بأي معنى بل كان إجتهاداً ،
( 119 )
وأخذنا نحن من أيديهم هذا السم المدسوس ، واعتقدنا أنه الدواء الناجع الفعال الذي يشفى ما بنا ـ بل وما بالأجيال المسلمة الى يوم القيامة ـ من كل الأسقام ، واشتركنا معهم في هذه الجريمة ، وضللنا معهم أنفسنا وأبناءنا والأجيال التالية ، ولم نفكر لحظة في أن ما قاله مشايخنا ينبغي فحصه والتروي في قبوله ، وأن الأخطاء المخالفة للإسلام لابد وأن نعترف بها ونتجنبها في كل مسيرة ، ليكون ما لدينا من إسلام صافياً رائقاً ، وتمادينا تحت تخدير العواطف فإذا بنا ليوم في مآزق وحفر عميقه حفرها لنا علماؤنا ، وقفزنا فيها بإرادتنا دون وعي ، ولا نستطيع اليوم أن نخرج منها.
والأغبى من هذا التصرف ، أننا نبصق في وجه كل من ألقى لنا حبلاً من عقل لنستمسك به ، ونخرج من هذه الحفر الى حيث الهواء النقي، والفكر الإسلامي الحر ، الذي لا يقدس الأوراق ولا الأشخاص، إلا ما ومن كان منها مقدساً يستحق التقديس حقاً .
هكذا رأينا كيف اختارت الأمة قيادة باختيارها الحر في النور، كما حدث مع الإمام علي ( ع ) بعد أن كان الوقت المناسب قد
( 120 )
مضى ، وهو ما يعتبر شكلاً آخر من أشكال تعيين القيادة يختلف عما سبقه من أشكال . ثم ما إن تولت القيادة الجديدة حتى بدأت الطوابير الخفية في العمل لإقصائها ، فرأينا شكلاً وأسلوباً آخر للقيادة هو ما فعله معاوية ، وهو ما يقودنا الى نتائج تستحق إمعان الفكر :
أولاً : إن بيعة علي ( ع ) إذا كانت هي الصواب أو الطريق الطبيعي لاختيار القيادة ، لأنها تمت برضا المسلمين ومشورتهم ، فما حكم ما فعله معاوية ؟ وإن كان ما فعله معاوية لا غبار عليه، فكيف يمكن الدفاع عن بيعة علي ( ع ) ونحن أهل السنة نؤمن بخلافته الراشدة وبيعته السليمة ؟
ثانياً : أن الطريقة التي وصل بها معاوية الى الحكم وتصدر القيادة إن كانت صحيحة وفق الإسلام ـ ولا أعتقد بصحتها أبداً ـ فكيف يمكن إغلاق باب البغي والإنقلابات العسكرية ضد النظام الإسلامي ، إن شاء له الله أن يقوم هنا أو هناك ؟ لأن هذا يمكن أن يقع في أي وقت بعد اللحظة الأولى التي تتأسس فيها دولة إسلام .
( 121 )
فما موقفنا من هذه الإنقلابات ومن يفعلها ، بشرط أن يكون موقفا متسقاً مع تاريخنا وإسلامنا ، لأننا إذا آمنا بما فعله معاوية ، ثم أدانت أجيالنا الإنقلابات العسكرية كطريق للوصول الى السلطة وأخذ القيادة ، وقعنا في تناقض يعطي من قام بالإنقلاب فرصة ليقول : والله أسوتي في ذلك معاوية ، وأنتم لستم بأعلم منه ولا تعتقدون بخطئة . فماذا نقول له ؟
ثالثاً : أننا لا نستطيع اعتبار طريقة معاوية شكلاً من أشكال الإسلام ، ثم في نفس الوقت نؤمن بعدم شرعية النظم التي تركبنا، خصوصاً في الدول العربية ، لأن كل هذه النظم في حقيقة الأمر امتداد لنظام معاوية تستمد منه شرعيتها في الإستيلاء على قيادة الأمة ، وتقتدي به .
وقد يقول أحدنا : يا عزيزي إن عدم شرعيتها في أنها لا تطبق الإسلام ولا تحكم بما أنزل الله ، فأقول : قد فعلها النميري من قبل وضياء الحق ، فهل صارت نظمهما إسلامية ؟ وأين الإسلام الذي طبقوه ، ولماذا لم يستمر بعدهم .
( 122 )
إن هذه الجنينية في التفكير ـ التي تزعم أن الحاكم إذا شرع في تطبيق الإسلام ، وجب علينا أن ندعوه أمير المؤمنين بصرف النظر عن طريقة وصوله الى القيادة ـ لو تمسكنا بها ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، لأن الشرعية شيء آخر ولها معايير مختلفة ، وهو ما قد أشير اليه في الباب القادم .
نحن إذن أمام معضلة وعلينا حلها : إما أن يكون أسلوب معاوية وأفعاله خطأ ، وبالتالي فالأنظمة التي تركبنا اليوم في العالم العربي والإسلامي خطأ وغير شرعية . وإما أن نعتقد صحة طريق معاوية ، ولا نستطيع أن نمس هذه الأنظمة بسوء ، وتكون كلها على صواب وشرعية ، وإياكم وأن تفتحوا فمكم بكلمة ضدها .
يقول معاوية لسفيان بن عوف الغامدي أحدقادته العسكريين، وقد بعثه ليغير على المسلمين في العراق :
( إن هذه الغارات يا سفيان على أهل العراق ترعب قلوبهم ، وتفرح كل من له هوى فينا منهم ، وتدعو إلينا كل من خاف الدوائر، فاقتل كل من لقيته ممن ليس على رأيك ، وأخرب كل
( 123 )
ما مررت به من القرى ، وأحرب الأموال فإن حرب الأموال شبيه بالقتل ، وهو أوجع للقلب ) (1)
هذا مثل من آلاف الأقوال والسياسات التي أثرت عن معاوية، وحفظتها لنا كتب التاريخ ، فماذا لو اقتدى بها حكامنا ، أنغضب ونسب ونلعن ؟ وإذا قالوا : إن لنا في معاوية أسوة حسنة وقد سبقنا إليها ومعه أكثر الصحابة ، وما اعترض عليه أحد من كبارهم وهم أهل العقد والحل ، فماذا نقول لهم ؟
وإذا راق للبعض أن يقولوا إن الجيل الأول كانوا صحابة ، أما نحن فلسنا بصحابة . قلنا أفنزلت الشريعة سواء للكل وفي كل العصور ؟ أم استثني الصحابة من أحكامها ؟ أم أن لدينا شريعيتن أحدهما للصحابة والجيل الأول والثانية للمسلمين من الدرجات الثانية والعاشرة أمثالنا ؟ فإن كان لدينا دليل على أن ما ينطبق علينا لا ينطبق على الصحابة فأين هو ، هاتوه ففيه حل جميع المعضلات .
____________
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد الشافعي : 2|85 ـ 86 .
( 124 )
إن وصول معاوية إلى قيادة خير أمة لم يكن غير نتيجة منطقية لأزمة القيادة التي ألقى الأمة والدولة في دوامتها نفر من كبار الجيل الأول ، لاعتبارات آخر ما فيها مصلحة الدين والدولة ، فظلت مخالفاتهم تتعاظم يوماً بعد يوم حتى وجد المسلمون أنفسهم بين أنياب بني أمية ، ومنذ ذلك الحين ونحن نتوارث هذه السياسات، يحكمنا بها الطواغيت، فيركبوننا ويقضون علينا مآربهم ، ونستكين لهم بهذه السياسات ، لا فرق بين ماضينا وحاضرنا ، فما نراه اليوم ليس إلا صورة عصرية مما ارتكبه الأوائل ومارسه السلف ، وليس من سبيل الى إصلاح الحاضر إلا بالوقوف موقفاً محدداً من هذا الماضي ، ورفض ما خالف ومن خالف فيه أحكام الإسلام ، وهي واضحة جلية من أجل أن نعرف رأسنا من أرجلنا ، على الأقل قبل قليل من يوم القيامة .
لكن مصيبتنا السوداء أننا نعيش على فتات ماضينا ، نلوك حوادثه ، ونمضغ سيرة السلف دون أن نزيل عنها ما علق بها ، فيتحول كل هذا في دمائنا أفيوناً وبلادةً ، دون أن نحس ، لأن
( 125 )
هذه الوقائع قد حولت الى معتقدات تقدم لنا ملفوفة في أوراق إسلامية، حملت أسماء مشاهير ، وما طبعت إلا في مطابع السلطة.
هذه هي وقائع تاريخنا التي صاغ على أساسها فلاسفتنا ومفكرونا ما صبوه فينا من فكر سياسي . وليتهم تركوا لنا الخيار لنزن ما يقولونه وما يقوله المعارضون للسلطة ، بل شنوها حرباً شعواء على من عارض السلطان ، ورموهم بما ليس فيهم ، وكفروهم ، فإذا المسلم اليوم لا يطيق أن يسمع رأياً معارضاً ، ولا يرى بين المسلمين مسلماً إلا نفسه وفرقته ، ولا يرى الإسلام والعقيدة الصحيحة إلا في أقوال ابن فلان وابن فلان ، فاتسعت الشقة بين من يعارضون ( فكر السلطة ) ونظرياتها في الحكم والسياسة ، وبين الأغلبية العظمى التي تردد بلا وعي ( فكر السلطة ) وتريد في نفس الوقت أن تصل الى السلطة وتسقط الأنظمة وتبيد الطواغيت .
**