ويوم التلاقي ، ويوم التنادي ، ويوم الحساب ، ويوم الفصل ، ويوم الحسرة ، ويوم الوعيد.
والقيامة من المنازل الشديدة والمواقف العصيبة على ابن آدم ، لما فيها من شدّة الأهوال ، ورهبة الفزع ، وطول الوقوف ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَاهُم بِسُكَارَى وَلكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ ) (1).
قال أمير المؤمنين عليه السلام : « كلّ شيءٍ من الدنيا سماعه أعظم من عيانه ، وكلّ شيء من الآخرة عيانه أعظم من سماعه ، فيكفيكم من العيان السماع ، ومن الغيب الخبر »(2).
ومواقف القيامة كثيرة ، وساعاتها طويلة ، ومقاماتها مختلفة ، قال الإمام الصادق عليه السلام : « حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا عليها ، فانّ للقيامة خمسين موقفاً ، كلّ موقف مقداره ألف سنة » ثمّ تلا قوله تعالى : ( تَعْرُجُ الْمَلأئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ) (3).
وفيما يلي نذكر تلك المشاهد من نفخة الصور إلى انتظار النداء بفصل القضاء ، إما بالإسعاد في الجنة ، أو الإشقاء في النار :
1 ـ نفخة الصعق ، أو صيحة الموت : قال تعالى : ( وَنُفِخَ فِي
____________
1) سورة الحج : 22/1 ـ 2.
2) نهج البلاغة / صبحي الصالح : 170/ الخطبة (114).
3) الكافي / الكليني 8 : 143/108 ، أمالي الطوسي : 36/38 ، والآية من سورة المعارج : 70/4.

( 116 )

الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّماوَاتِ وَمَن فِي الاََْرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللهُ ) (1)وقال سبحانه : ( مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلأ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلأ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ) (2).
ورد في التفسير أن الصور : هو قرن ينفخ فيه ، وقيل : هو جمع صورة ، فإن الله سبحانه يصوّر الخلق في القبور كما صورهم في أرحام الاُمهات ، ثم ينفخ فيهم الأرواح كما نفخ وهم في أرحام اُمّهاتهم(3).
لكن ظاهر الآيات وصريح الأحاديث يدلان على المعنى الأول ، فقد ورد في الأخبار المتضافرة أن الله تعالى خلق إسرافيل وخلق معه صوراً له طرفان : أحدهما في المشرق ، والآخر في المغرب ، وهو قابض عليه ، منتظرٌ لأمر الله تعالى ، فإذا أمره نفخ فيه(4).
ومن نتائج تلك النفخة أن لا يبقى ذو روح في السماوات والأرض إلاّ صعق ومات ، ولا يبقى للحياة عين ولا أثر إلاّ ما شاء الله سبحانه ( لأ إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (5).
قال أميرالمؤمنين عليه السلام : « وإنّه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لاشيء معه ، كما كان قبل ابتدائها ، كذلك يكون بعد فنائها ، بلا وقتٍ ولا مكانٍ ، ولاحينٍ ولا زمانٍ ، عدمت عند ذلك الآجال والأوقات ، وزالت السنون
____________
1) سورة الزمر : 39/68.
2) سورة يس : 36/49 ـ 50.
3) مجمع البيان / الطبرسي 6 : 766.
4) راجع : تفسير القمي 2 : 257 ، بحار الأنوار 6 : 324/2.
5) سورة القصص : 28/88.

( 117 )

والساعات ، فلا شيء إلاّ الله الواحد القهّار الذي إليه مصير جميع الاُمور »(1).
2 ـ تغيير النظام الكوني : الحياة في الآخرة هي نشأة ثانية تقوم على نظام جديد يكتسب صفة الخلود ، ويشتمل على محض السعادة أو الشقاء ، ويتمّ ذلك بعد تغييرالنظام السائد في النشأة الدنيا القائمة على الزوال والفناء ، قال تعالى : ( يَوْمَ تُبَدُّلُ الاََْرْضُ غَيْرَ الاََْرْضِ وَالسَّماوَاتُ وَبَرَزُوا للهِِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) (2).
وقد وصف الله تعالى ذلك التغيير الحاصل في السماوات والأرض في آيات كثيرة ، يدلّ مضمونها على تسيير الجبال ونسفها حتى تكون قاعاً صفصفاً ، أو كثيباً مهيلاً ، أو كالعهن المنفوش ، وتفجير البحار وتسجيرها ، وتكون الأرض بارزةً كما دحاها أول مرة ، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ، ثم تتزلزل وترتجف وتندكّ ، وتتكور الشمس ، ويخسف القمر ، وتتهافت النجوم وتنكدر ويذهب نورها ، وتحمرّ السماء ، فتكون وردةً كالدهان ، وتنشقّ وتتصدّع ، وتُطوى كطيّ السجل للكتب.
قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصف ذلك اليوم : « يوم عبوس قمطرير ، ويوم كان شرّه مستطيراً ، إنّ فزع ذلك اليوم ليرهب الملائكة الذين لا ذنب لهم ، وترعد منه السبع الشداد ، والجبال الأوتاد ، والأرض المهاد ، وتنشقّ السماء فهي يومئذ واهية ، وتتغيّر فكأنّها وردة كالدهان ، وتكون الجبال كثيباً مهيلاً بعدما كانت صُمّاً صلاباً... »(3).
____________
1) نهج البلاغة / صبحي الصالح : 276/ الخطبة (186).
2) سورة إبراهيم : 14/48.
3) أمالي الطوسي : 28/31.

( 118 )

3 ـ نفخة الإحياء ، أو صيحة البعث : وهي النفخة التي تحيا بها جميع الكائنات في النشأة الآخرة ، قال تعالى : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِنَ الاََْجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ) (1) .
وقال سبحانه : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ) (2).
قال أمير المؤمنين عليه السلام : « لا تنشقّ الأرض عن أحدٍ يوم القيامة إلاّ وملكان آخذان بضبعيه ، يقولان : أجب ربّ العزّة »(3).
فيجيبون الداعي بعد أن تشقّق الأرض عنهم ، سراعاً إلى عرصة الموقف ، خشّعاً أبصارهم ، ترهقهم ذلّة ، كأنّهم جراد منتشر ، أو فراش مبثوث ، قال تعالى : ( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الاََْجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ) (4) .
4 ـ الحشر : الحشر : الجمع ، يقال : حشر القوم : جمعهم وساقهم ، ويراد بالحشرهنا : اجتماع الخلق يوم القيامة حيث يحشرون حشراً عاماً لا يستثني أحداً ، قال تعالى : ( وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ
____________
1) سورة يس : 36/51 ـ 53.
2) سورة ق : 50/20 ـ 21.
3) الأمالي / الصدوق : 497/681.
4) سورة المعارج : 70/43 ـ 44.

( 119 )

أَحَداً ) (1) ويشمل الوحوش والدوابّ والطيور ، لقوله تعالى : ( وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ) (2)وقوله : ( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الاََْرْضِ وَلأ طَائِرٌ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) (3) .
والحشر من المنازل التي تذهل العقول وتروّع القلوب حتى تبلغ الحناجر ، حيث يُساق الخَلْق إلى أرض المحشر في يوم الفزع الأكبر ، كما خلقهم ربهم أول مرّة ، حفاةً عُراةً غُرلاً ، قد ألجمهم العرق من ضيق المكان.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام : « وذلك يوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين ، لنقاش الحساب وجزاء الأعمال ، خضوعاً ، قياماً ، قد ألجمهم العرق ، ورجفت بهم الأرض ، فأحسنهم حالاً من وجد لقدميه موضعاً ولنفسه متّسعاً »(4).
وعن الإمام الصادق عليه السلام : « مثل الناس يوم القيامة إذا قاموا لربّ العالمين ، مثل السهم في القرب ، ليس له من الأرض إلاّ موضع قدمه ، كالسهم في الكنانة ، لا يقدر أن يزول هاهنا ولا هاهنا »(5).
ويعرض الناس على ربهم صفاً لفصل القضاء ، لا تفاضل بينهم في نسب أو مال أو جاه أو مقام ، بارزين لا تخفى منهم خافية ( يَوْمَئِذٍ
____________
1) سورة الكهف : 18/47.
2) سورة التكوير : 81/5.
3) سورة الأنعام : 6/38.
4) نهج البلاغة / صبحي الصالح : 147 / الخطبة (102).
5) الكافي / الكليني 8 : 143/110.

( 120 )

تُعْرَضُونَ لأ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ) (1)فيتبدّل الغيب شهادةً ، والسرّ علناً ( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ) (2)وتظهر كلّ فعلةٍ أو عقيدة خافية ظهوراً بارزاً في أرض الموقف ( يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لأ يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ) (3).
ويتفاوت حشر الناس بحسب أعمالهم الظاهرة ، فيحشر المتقون ركباناً ( يَوْمَ نحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً ) (4)وعلى وجوههم مظاهر الفرح والسرور ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ) (5)بما اُعدّ لها من الثواب والفوز العظيم ، ولهم نور وبهاء يميزهم عن أهل الموقف ( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم ) (6).
ويحشر المجرمون من الكافرين والمشركين مقرّنين مع أوليائهم من الشياطين جثياً ( فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ) (7) ومع ما كانوا يعبدون من دون الله سبحانه ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ ) (8)ويتميزون عن أهل الموقف بوجوههم المسودّة ومظاهرهم الكئيبة ( وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ) (9).
____________
1) سورة الحاقة : 69/18.
2) سورة الطارق : 86/9.
3) سورة غافر : 40/16.
4) سورة مريم : 19/85.
5) سورة عبس : 80/38 ـ 39.
6) سورة الحديد : 57/12.
7) سورة مريم : 19/68.
8) سورة الفرقان : 25/17 .
9) سورة عبس : 80/40 ـ 41.

( 121 )

ويسحبون على وجوههم إلى النار وقد خبت حواسّهم ( وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً ) (1).
5 ـ المحكمة الإلهية : قال تعالى : ( وَأَشْرَقَتِ الاََْرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لأ يُظْلَمُونَ * ووُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ) (2)تلك هي المحكمة الإلهية التي لا تشبه محاكم الدنيا في شيء ، لأن قاضيها يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وشهودها الأنبياء والمرسلون ، وأعضاء المتهم ، وأعماله التي تتجسّد أمامه ، وصحائف الأعمال التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصتها ، فأنّى للمتّهم الإنكار والأعمال محضرة ، والصحف منشورة ، والشهود قائمة ، والجوارح ناطقة ؟!
وفيما يلي نذكر بعض ما يتعلق بفصل القضاء في تلك المحكمة من السؤال والحساب والشهود ، وهي كما يلي :
أولاً : السؤال : وهو واقع على جميع الخلق لقوله تعالى : ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (3)وقوله تعالى : ( فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) (4)يعني عن الدين ، وأمّا الذنب فلا يُسأل عنه إلاّ من يُحاسب ، وكل محاسب فهو معذّب ولو بطول الوقوف(5).
____________
1) سورة الإسراء : 17/97.
2) سورة الزمر : 39/69 ـ 70.
3) سورة الحجر : 15/92 ـ 93.
4) سورة الأعراف : 7/6 .
5) الاعتقادات / الصدوق : 74.

( 122 )

وتُسأل الأعضاء والجوارح ، لما روي عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى : ( إِنَّ الْسَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) (1)أنه قال : « يُسأل السمع عما سمع ، والبصر عما يطرف ، والفؤاد عما يعقد عليه »(2).
والسؤال يستغرق كلّ وجود الانسان وكيانه واعتقاده ، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ، وعن جسده فيما أبلاه ، وعن ماله مما اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن حبّنا أهل البيت »(3).
والمراد بأهل البيت الذين يُسأل الناس عن محبّتهم ، هم المنصوص على عصمتهم في قوله تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (4)والذين باهَلَ بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصارى نجران استناداً إلى قوله تعالى : ( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (5) وهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام والتسعة المعصومون من ذريته دون غيرهم من الخلق.
وإنّما يُسأل عن محبّة أهل البيت عليهم السلام لأنّ الله سبحانه فرض مودتهم
____________
1) سورة الإسراء : 17/36.
2) تفسير العياشي 2 : 292/75.
3) الخصال / الصدوق : 253/125 ، الأمالي / الطوسي : 593/1237 ، المعجم الكبير/ الطبراني11 : 83/11177 ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ، مجمع الزوائد / الهيثمي 10 : 346 ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت.
4) سورة الأحزاب : 33/33 .
5) سورة آل عمران : 3/61.

( 123 )

على الخلق في قوله تعالى : ( قُل لأ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (1) كمبدأ عقائدي يجسّد عمق الانتماء للإسلام وأصالة الارتباط بالعقيدة ، وأكّد ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه ، وأحبّوني لحبّ الله ، وأحبوا أهل بيتي لحبّي »(2).
والمسؤول عنه ليس مجرد الحبّ والمودّة ، بل اعتقاد الموالاة لهم عليهم السلام باعتبارهم أوصياء معصومين وقادة رساليين للاُمّة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد جاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى : ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْؤُولُونَ ) (3)أنّه قال : « يعني عن ولاية علي بن أبي طالب »(4).
ثانياً : الحساب : قال تعالى : ( إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا
____________
1) سورة الشورى : 21/23.
2) سنن الترمذي 5 : 664/3789 ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ، حلية الأولياء / أبو نعيم 3 : 211 ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت ، تاريخ بغداد / الخطيب 4 : 159 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ، أُسد الغابة / ابن الأثير 2 : 13 ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ، المستدرك / الحاكم 3 : 150 وصححه ـ دار المعرفة ـ بيروت.
3) سورة الصافات : 37/24.
4) عيون أخبار الرضا عليه السلام / الصدوق 1 : 313/86 ، معاني الأخبار / الصدوق : 67/7 ، الصواعق المحرقة / الهيتمي : 149 باب 11 فصل 1 قال : أخرجه الديلمي ، الأمالي / الطوسي : 290/564 ، تفسير الحبري : 312/60 مؤسسة آل البيت عليهم السلام ـ قم ، المناقب / ابن شهر آشوب 2 : 152 دار الأضواء ـ بيروت ، مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام / الخوارزمي : 195 ، تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : 17.

( 124 )

حِسَابَهُمْ ) (1) الحساب : هو المقابلة بين الأعمال والجزاء عليها ، والمواقفة للعبد على ما فرط منه ، والتوبيخ له على سيئاته ، والحمد له على حسناته ، ومعاملته في ذلك باستحقاقه(2).
والله تعالى يخاطب عباده من الأولين والآخرين بمجمل حساب عملهم مخاطبةً واحدةً ، يسمع منها كلّ واحد قضيته دون غيرها ، ويظنّ أنه المخاطب دون غيره ، لا تشغله تعالى مخاطبة عن مخاطبة ، ويفرغ من حساب الأولين والآخرين في مقدار ساعة من ساعات الدنيا(3).
وفي قوله تعالى : ( وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (4)ورد في الخبر أنه تعالى يحاسب الخلائق كلّهم في مقدار لمح البصر ، وروي بقدر حلب شاةٍ(5).
وعن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى : ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خمسين أَلْفَ سَنَةٍ ) (6)قال : « لو ولي الحساب غير الله لمكثوا فيه خمسين ألف سنة من قبل ان يفرغوا ، والله سبحانه يفرغ من ذلك في ساعة »(7).
وسئل أمير المؤمنين عليه السلام : كيف يحاسب اللهُ الخلقَ على كثرتهم ؟ فقال : « كما يرزقهم على كثرتهم » قيل : فكيف يحاسبهم ولايرونه ؟ قال : « كما
____________
1) سورة الغاشية : 88/25 ـ 26.
2) تصحيح الاعتقاد / المفيد : 113.
3) الاعتقادات / الصدوق : 75.
4) سورة البقرة : 2/202.
5) مجمع البيان / الطبرسي 2 : 531.
6) سورة المعارج : 70/4 .
7) مجمع البيان / الطبرسي 10 : 531.

( 125 )

يرزقهم ولا يرونه »(1).
وعن الإمام الباقر عليه السلام : « إن أوّل ما يُحاسب به العبد الصلاة ، فان قُبلِت قُبِل ماسواها »(2).
ولا ينجو من أهوال يوم الحساب إلاّ من حاسب نفسه في الدنيا ، ووزن أعماله وأقواله بميزان الشريعة ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : « عباد الله ، زنوا انفسكم من قبل أن تُوزنوا ، وحاسبوها من قبل أن تُحاسبوا ، وتنفّسوا قبل ضيق الخناق ، وانقادوا قبل عنف السياق »(3).
ثالثاً : الشهود وتطاير الكتب : وهي من أهوال القيامة المروّعة ، لانّ العبد يجد نفسه أمام عدة شهود لا تُدحض حجّتهم ، ولا يكذّب قولهم ، فلا محيص له إلاّ الإقرار بالذنب والاعتراف بالخطيئة ، ومن الشهود :
أ ـ الله سبحانه : فهو تعالى محيط بكلّ شيءٍ علماً ، وعلى كلّ شيء شهيد ، يشهد على العبد في خلواته ، ويعلم ما يكنّه ضميره ، وهو أقرب إليه من حبل الوريد ، قال تعالى : ( وَلأ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شَهُوداً ) (4) وقال سبحانه : ( مَا يَكُونُ مِن نَجْوَى ثَلأثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلأ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلأ أَدْنَى مِن ذلِكَ وَلأ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ ) (5).
____________
1) نهج البلاغة / صبحي الصالح : 528 / الحكمة (300).
2) الكافي / الكليني 3 : 268/4 التهذيب / الطوسي 2 : 239/ 946.
3) نهج البلاغة / صبحي الصالح : 123 / الخطبة (90).
4) سورة يونس : 10/61.
5) سورة المجادلة : 58/7.

( 126 )

وعن أمير المؤمنين عليه السلام : « اتقوا معاصي الله في الخلوات ، فإنّ الشاهد هو الحاكم »(1).
ب ـ الأنبياء والأوصياء : دلّ الكتاب الكريم على أنّ الله سبحانه يستشهد كلّ نبي على اُمّته يوم القيامة ، ويستشهد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم على اُمّته ، قال تعالى : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤُلأءِ شَهِيداً ) (2).
وفي قوله تعالى : ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هؤُلأءِ ) (3)بيّن سبحانه أيضاً أنه يبعث في يوم القيامة من كلّ اُمّة شهيداً ، وهم الأنبياء والعدول من كلّ عصر ، يشهدون على الناس بأعمالهم(4).
وفي هذه الآية دلالة على أن كل عصر لا يجوز أن يخلو ممّن يكون قوله حجّة على أهل عصره ، وهو عدل عند الله تعالى ، وهو قول الجبّائي وأكثر أهل العدل ، وهذا يوافق ما ذهب إليه الإمامية ، وإن خالفوهم في أن ذلك العدل والحجّة من هو(5).
ومن المعلوم أن الاُمّة كلّها لا تتصف بالخيار والعدل ، وكونهم شهداء على الناس ، فإنّ فيهم الكثير ممن لا يخفى حاله ، فهذه الصفات إنما تكون
____________
1) نهج البلاغة / صبحي الصالح : 532 / الحكمة (324).
2) سورة النساء : 4/41.
3) سورة النحل : 16/89.
4) مجمع البيان / الطبرسي 6 : 584.
5) مجمع البيان / الطبرسي 6 : 586.

( 127 )

باعتبار البعض ، والموجّه إليه الخطاب هو ذلك البعض.
وقد روى العياشي عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى : ( وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (1) أنه قال : « فإنّ ظننت أنّ الله تعالى عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحّدين ، أفترى أنّ من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاعٍ من تمر ، يطلب الله شهادته يوم القيامة ، ويقبلها منه بحضرة جميع الأُمم الماضية ؟ كلا لم يعنِ الله مثل هذا من خلقه ، يعني الاُمّة التي وجبت لها دعوة إبراهيم عليه السلام ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلْنَّاسِ ) (2)وهم الاُمّة الوسطى ، وهم خير اُمّة اُخرجت للناس »(3).
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال : « نحن الاُمّة الوسطى ، ونحن شهداء الله على خلقه ، وحججه في أرضه »(4).
ج ـ الملائكة : جعل الله تعالى على الانسان حفظةً من الملائكة ، يصاحبونه ويسجّلون كلّ أعماله ، قال تعالى : ( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَـمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) (5)وحينما يرد العبد صعيد الحساب تشهد عليه الملائكة بما عمل في الدنيا من خير أو شرّ ،
____________
1) سورة البقرة : 2/143.
2) سورة آل عمران : 3/110.
3) تفسير العياشي 1 : 63/114.
4) الكافي / الكليني 1 : 146/2 و147/4 ، بصائر الدرجات / الصفار : 183/11 و102/3 ـ مؤسسة الأعلمي ـ طهران ، تفسير العياشي 1 : 62/110.
5) سورة ق : 50/17 ـ 18.

( 128 )

قال تعالى : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ) (1).
قال أمير المؤمنين عليه السلام : « سائق يسوقها إلى محشرها ، وشهيد يشهد عليها بعملها »(2).
د ـ الأعضاء والجوارح : وفي بعض مواقف القيامة يختم الله تبارك وتعالى على أفواههم ، وتشهد أيديهم وجميع جوارحهم بما كانوا يعملون ، قال تعالى : ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (3).
والمراد بالشهادة شهادة الأعضاء على السيئات والمعاصي بحسب ما يناسبها ، فما كان منها من قبيل الأقوال كالقذف والكذب والغيبة ونحوها ، شهدت عليه الألسنة ، وما كان منها من قبيل الأفعال كالسرقة والمشي للنميمة والسعاية وغيرها ، شهدت عليه بقية الأعضاء(4).
هـ ـ صحائف الأعمال : ذكرنا أنّ أعمال الانسان وأقواله تضبط في صحف عند الحفظة من الملائكة ، قال تعالى : ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ) (5).
وفي يوم القيامة تُنشَر صحف الأعمال ، فيخرج الله سبحانه لكلّ اُمّةٍ كتاباً ينطق بجميع أقوالهم وحقائق أفعالهم ، قال تعالى : ( وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ
____________
1) سورة ق : 50/20 ـ 21.
2) نهج البلاغة / صبحي الصالح : 116 / الخطبة (85).
3) سورة النور : 24/24.
4) تفسير الميزان / الطباطبائي 15 : 94.
5) سورة الانفطار : 82/10 ـ 12.

( 129 )

جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (1).
ويخرج لكلّ إنسانٍ كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، ويجعل الله سبحانه الإنسان حسيب نفسه والحاكم عليها ، قال تعالى : ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) (2).
ويشفق المجرمون من الكافرين والمشركين مما في تلك الكتب من المتابعة والرصد الدقيق ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُـجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هذَا الْكِتَابِ لأ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلأ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ) (3).
و ـ ظهور الأعمال أو تجسّمها : قال تعالى : ( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ) (4). وقال تعالى : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ) (5).
فالأعمال شهود على الإنسان في النشأة الآخرة ، لكن اختلف المفسرون في بيان طريقة إحضارها ، فبعضهم تأوّل ذلك باحضار جزاء الأعمال من الثواب والعقاب ، أو بإحضار صحائف الأعمال وما فيها من الحسنات والسيئات ، بناءً على أن الأعمال أعراض ، والأعراض
____________
1) سورة الجاثية : 45/28 ـ 29.
2) سورة الإسراء : 17/13 ـ 14.
3) سورة الكهف : 18/49.
4) سورة الزلزلة : 99/6.
5) سورة آل عمران : 3/30 .

( 130 )

تنعدم(1) ، أو بظهورها عياناً ، لأنّ الإحضار يدلّ على أن الأعمال موجودة ومحفوظة عن البطلان ، لكنها غائبة عنا في هذا العالم ، ويحضرها الله تعالى لخلقه يوم القيامة ، ومن هنا قيل : بأن كتاب الأعمال يتضمن نفس الأعمال بحقائقها.(2)
وعليه فإن إظهار الأعمال بأعيانها يدلّ على أنّها تُحفَظ في العالم الخارجي بطريقة غيبية هي أقرب إلى التصوير فضلاً عن الحفظ والتدوين ، وتعرض على العبد يوم القيامة فيراها عياناً ، ولا حجة كالعيان.
6 ـ الميزان : الميزان في اللغة : آلة توزن بها الأشياء ، أو هو المعيار الذي يُعرَف به قدر الشيء ، ومن مشاهد القيامة نصب الموازين الحق لتمييز أهل الطاعة والإيمان عن أهل الجحود والعصيان ، قال تعالى : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلأ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) (3).
ولا يقام للكافرين والمشركين وزن يوم القيامة ، بل تبطل أعمالهم ، ويحشرون إلى جهنّم زمراً ، قال تعالى : ( أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلأ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) (4).
وعن الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام ـ في حديث ـ قال : « اعلموا عباد الله أن أهل الشرك لا تُنصَب لهم الموازين ، ولا تُنشَر لهم الدواوين ، وإنّما يحشرون إلى جهنّم زمراً ، وإنّما نصب الموازين ونشر
____________
1) مجمع البيان / الطبرسي 2 : 732 ، تفسير الرازي 8 : 16.
2) راجع : الميزان / الطباطبائي 3 : 156 و 13 : 55 .
3) سورة الأنبياء : 21/47.
4) سورة الكهف : 18/105.

( 131 )

الدواوين لأهل الإسلام ، فاتقوا الله عباد الله »(1).
وأصل الميزان لا خلاف فيه بين طوائف الاُمة المختلفة ، لدلالة الكتاب عليه ، وإخبار المعصوم عنه ، لكن وقع الاختلاف في مفهومه ومعناه على أقوال بعضها يستند إلى الروايات وأهمها :
أوّلاً ـ إن في القيامة موازين كموازين الدنيا ، لكلّ ميزان لسان وكفّتان ، تُوزَن به أعمال العباد من الحسنات والسيئات ، أخذاً بظاهر اللفظ ، واختلفوا في الموزون هل هو الأعمال ، أو صحائف الأعمال ، أو غيرها ، على عدّة أقوال(2).
ثانياً ـ الميزان كناية عن العدل في الآخرة ، وأنه لا ظلم فيها على أحدٍ ، ووضع الموازين هو وضع العدل ، وثقلها رجحان الأعمال بكونها حسنات ، وخفّتها مرجوحيتها بكونها سيئات ، أي إن الترجيح بالعدل ، فمن رجحت أعماله لغلبة الحسنات فاوُلئك هم المفلحون ، ومن لم ترجح أعماله لقلّة الحسنات فاُولئك الذين خسروا أنفسهم(3).
ويؤيد هذا المعنى ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام وقد سأله الزنديق : أوليس توزن الأعمال ؟ فقال عليه السلام : « لا ، إنّ الأعمال ليست بأجسام ، وإنّما هي صفة ما عملوا ، وإنّما يحتاج إلى وزن الشيء من جهل عدد الأشياء ، ولايعرف ثقلها أو خفّتها ، وإنّ الله لا يخفى عليه شيء ».
____________
1) الكافي 8 : 75/29 ، الأمالي / الصدوق : 595/822 ـ مؤسسة البعثة ـ قم.
2) راجع : كشف المراد / العلاّمة الحلي : 453 ، تفسير الميزان / الطباطبائي 8 :14 ، حق اليقين / عبدالله شبر 2 : 109.
3) راجع : تصحيح الاعتقاد / المفيد :114 ، تفسير الميزان / الطباطبائي 8 : 12 ـ 13.

( 132 )

قال : فما معنى الميزان ؟ قال : « العدل » قال : فما معناه في كتابه ( فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ) (1) ؟ قال : « فمن رجح عمله »(2).
ثالثاً ـ الميزان : هو الحساب ، وثقل الميزان وخفّته كناية عن قلّة الحساب وكثرته ، لما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال : « ومعنى قوله : ( فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) ، ( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ) فهو قلة الحساب وكثرته ، والناس يومئذٍ على طبقات ومنازل ، فمنهم من يحاسب حساباً يسيراً وينقلب إلى أهله مسروراً ، ومنهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، لأنهم لم يتلبّسوا من أمر الدنيا بشيء ، وإنّما الحساب هناك على من تلبّس هاهنا ، ومنهم من يحاسب على النقير والقطمير ، ويصير إلى عذاب السعير ، ومنهم أئمة الكفر وقادة الضلال ، فاُولئك لا يقيم لهم وزناً ، ولا يعبأ بهم ، لأنهم لم يعبأوا بأمره ونهيه ، فهم في جنهم خالدون ، تلفح وجوههم النار ، وهم فيها كالحون »(3).
رابعاً ـ الموازين : الأنبياء ، والأوصياء ، لما روي عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ) قال : « الموازين : الأنبياء والأوصياء »(4)فهم عليهم السلام المعايير التي يعرف بها الحق والعدل ، ورجحان الأعمال إنما هو بقدر الإيمان بخطّهم ، واعتقاد محبّتهم وطاعتهم ، والاقتداء بهديهم وآثارهم.
____________
1) سورة الأعراف : 7/8.
2) الاحتجاج / الطبرسي : 351.
3) الاحتجاج / الطبرسي : 244.
4) الكافي / الكليني 1 : 347/36 ، معاني الأخبار / الصدوق : 31/1 ، الاعتقادات / الصدوق : 74.

( 133 )

هذه هي أهم الأقوال والأخبار الواردة في معنى الميزان ، ولعلها تمثّل بعض مصاديقه ، ولا يلزمنا الاعتقاد بها على التفصيل ، إنما الواجب هو الإيمان بالميزان على الجملة دون الخوض في التفاصيل والماهيات.
7 ـ الصراط : الصِّراط في اللغة : الطريق ، أو السبيل الواضح ، وهو لغة في ( السِّراط ) بالسين ، والصاد أعلى لمكان المُضارعة(1) ، وإن كانت السين هي الأصل ، والصاد لغة قريش التي جاء بها الكتاب ، وعامة العرب تجعلها سيناً ، قال تعالى : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) (2)أي ثبّتنا على المنهاج الواضح(3).
والصراط من منازل المعاد ، ويراد به الجسر الذي يُنصَب على جهنّم ، ويُكلّف جميع الخلق المرور عليه ، ويكون أدقّ من الشعرة ، وأحدّ من السيف ، فأهل الجنة يمرون عليه لا يلحقهم خوف ولا غمّ ، والكفار يمرون عليه عقوبةً لهم وزيادة في خوفهم ، فإذا بلغ كلّ واحدٍ إلى مستقره من النار سقط من ذلك الصراط(4).
وتتفاوت سرعة العابرين على الصراط بحسب ماقدّموا من أعمال في الدنيا ، فالمؤمنون يعبرونه كالبرق الخاطف ، والكافرون يتعثّرون من أول قدم ، ويتهافتون إلى النار ، قال الإمام الصادق عليه السلام : « الناس يمرون على الصراط طبقات ، والصراط أدق من الشعرة ، وأحدّ من السيف ، فمنهم من يمرّ مثل البرق ، ومنهم من يمرّ مثل عدو الفرس ، ومنهم من يمر حبواً ،
____________
1) أي مضارعة الطاء.
2) سورة الفاتحة : 1/6.
3) لسان العرب ـ سرط ـ 7 : 313 ـ 314.
4) كشف المراد / العلاّمة الحلي : 453.

( 134 )

ومنهم من يمرّ مشياً ، ومنهم من يمرّ متعلقاً ، قد تأخذ النار منه شيئاً وتترك شيئاً »(1).
وقيل : الصراط في الآخرة هو نموذج يُعبّر عن صراط الدنيا ، فمن استقام في هذا العالم على الصراط المستقيم ، خفّ على صراط الآخرة ونجا ، ومن عدل عن الاستقامة في الدنيا ، وأثقل ظهره بالأوزار وعصى ، تعثّر في أول قدمٍ من الصراط وتردّى(2).
قال الإمام الصادق عليه السلام في بيان معنى الصراط : « هو الطريق إلى معرفة الله عزَّ وجلَّ ، وهما صراطان : صراط في الدنيا ، وصراط في الآخرة ، وأمّا الصراط الذي في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة ، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه ، مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة ، ومن لم يعرفه في الدنيا ، زلّت قدمه عن الصراط في الآخرة ، فتردّى في نار جهنم »(3).
ويدلّ عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إذا كان يوم القيامة ، ونُصب الصراط على شفير جهنّم ، لم يجز إلاّ من معه كتاب علي بن أبي طالب »(4).
وطريق الأئمة عليهم السلام هو منهاجهم الواضح المعبّر عن الاستقامة والاعتدال في محبّتهم ، والتمسك بالحدّ الوسط الذي يقع بين الأفراط والتفريط ، أو الغلو والتقصير ، وهو الحبّ الذي أُمرنا به ، وعلينا أن ندين
____________
1) الأمالي / الصدوق : 242/257 ، تفسير القمي 1 : 29.
2) إحياء علوم الدين / الغزالي 5 : 363.
3) معاني الأخبار / الصدوق : 32/1.
4) الصواعق المحرقة / ابن حجر : 149 ، مناقب علي بن أبي طالب / ابن المغازلي : 242/289 ، فرائد السمطين / الجويني 1 : 289/228 ، الأمالي/ الطوسي : 290/564.

( 135 )

به ونلقى الله عليه.
قال الإمام الحسن العسكري عليه السلام : « الصراط المستقيم هو صراطان : صراط في الدنيا ، وصراط في الآخرة ، فأمّا الصراط المستقيم في الدنيا ، فهو ما قصر عن الغلوّ ، وارتفع عن التقصير ، واستقام فلم يعدل إلى شيء من الباطل ، أما الصراط الآخر فهو طريق المؤمنين إلى الجنة ، الذي هو مستقيم لا يعدلون عن الجنة إلى النار ، ولا إلى غير النار سوى الجنة »(1).
عقبات الصراط : الصراط من المنازل المروّعة ، لما فيه من العقبات التي لا بدّ للعبد من المرور عليها ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : « واعلموا ان مجازكم على الصراط ، ومزالق دَحْضِهِ ، وأهاويل زللـهِ ، وتارات أهواله »(2).
قال الشيخ الصدوق : وعلى الصراط عقبات تسمّى بأسماء الأوامر والنواهي كالصلاة ، والزكاة ، والرحم ، والأمانة ، والولاية ، فمن قصّر في شيءٍ منها حُبِس عند تلك العقبة ، وطُولب بحقّ الله فيها ، فإن خرج منها بعملٍ صالح قدّمه أو رحمةٍ تداركته ، نجا منها إلى عقبة اُخرى ، فلا يزال كذلك حتى إذا سلم منها جميعاً انتهى إلى دار البقاء ، فيحيا حياة لا موت فيها أبداً ، ويسعد سعادة لا شقاوة معها أبداً ، وإن لم يسلم زلّت قدمه عن العقبة فتردّى في نار جهنّم(3).
وقال الشيخ المفيد : العقبات : عبارة عن الأعمال الواجبة والمُساءلة عنها ، والمواقفة عليها ، وليس المراد بها جبال في الأرض تُقطَع ، وإنما هي
____________
1) معاني الأخبار / الصدوق : 33/4.
2) نهج البلاغة / صبحي الصالح : 111 ـ الخطبة (83).
3) الاعتقادات / الصدوق : 71 ـ 72.

( 136 )

الأعمال شُبّهت بالعقبات ، وجعل الوصف لما يلحق الانسان في تخلّصه من تقصيره في طاعة الله كالعقبة التي يجهد صعودها وقطعها ، قال الله تعالى : ( فَلأ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ ) (1)فسمّى سبحانه الأعمال التي كلّفها العبد عقبات ، تشبيهاً لها بالعقبات والجبال ، لما يلحق الانسان في أدائها من المشاقّ ، كما يلحقه في صعود العقبات وقطعها.
قال أمير المؤمنين عليه السلام : « إن أمامكم عقبة كؤوداً ومنازل مهولة ، لا بدّ لكم من الممر بها ، والوقوف عليها ، فإمّا برحمةٍ من الله نجوتم ، وإمّا بهلكةٍ ليس بعدها انجبار » أراد عليه السلام بالعقبة تخلّص الإنسان من التبعات التي عليه(2).

المبحث الخامس : أهل الجنة وأهل النار
يساق الناس بعد أهوال الحساب والصراط والميزان إلى المستقر الأبدي ، فإمّا إلى نعيم الجنة ، وإمّا إلى عذاب النار.

أوّلاً : صفة الجنة وأهلها ونعيمها
صفة الجنة : وهي الدار التي أعدّها الله سبحانه لمن عرفه وعبده من المتقين والمؤمنين والصالحين ، ونعيمها دائم لا انقطاع له ، وهي دار البقاء ، ودار السلامة ، لا موت فيها ولا هرم ولا سقم ، ولا مرض ولا آفة ، ولا زوال ولا زمانة ، ولا غمّ ولا همّ ، ولا حاجة ولا فقر ، وهي دار الغنى
____________
1) سورة البلد : 90/11 ـ 13.
2) تصحيح الاعتقاد / المفيد : 112 ـ 113.

( 137 )

والسعادة ، ودار المقامة والكرامة ، لا يمّس أهلها فيها نصب ، ولا يمسّهم فيها لغوب ، ولهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين ، وهم فيها خالدون ، وهي دار أهلها جيران الله وأولياؤه وأحبّاؤه ، وأهل كرامته(1).
أهل الجنّة : ( أُولئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (2).
وصف القرآن الكريم الفائزين بالنعيم المقيم والملك العظيم ، بأنّهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، والذين اتقوا ربهم ، والذين آمنوا بالله ورسله ، وأطاعوا الله ورسوله ، والذين صبروا ابتغاء وجه الله ، وأقاموا الصلاة ، وانفقوا مما رزقهم الله سرّاً وعلانية ، والصديقون والشهداء ، والذين اتّبعوا هدى الله ، والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله ، والذين خافوا مقام ربهم ونهوا النفس عن الهوى ، والذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، والذين هاجروا في سبيل الله ثم قُتِلوا أو ماتوا ، وعباد الله المخلصون ، والذين آمنوا بآيات الله وكانوا مسلمين ، ويتبعهم من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم المؤمنين ، وكلّ أواب حفيظ ، من خشي الرحمن بالغيب ، وجاء بقلب سليم(3).
____________
1) الاعتقادات / الصدوق : 76 ، تصحيح الاعتقاد / المفيد : 116.
2) سورة المؤمنون : 23/10 ـ 11.
3) راجع : سورة البقرة : 2/25 و38 ، سورة آل عمران : 3/198 ، سورة النساء : 4/13 و69 ، سورة التوبة : 9/20 ، سورة الرعد : 13/22 ـ 24 ، سورة طه : 20/75 ، سورة الحج : 22/58 ، سورة الصافات : 37/40 ، سورة غافر : 40/8 ، سورة الزخرف : 43/69 ، سورة الأحقاف : 46/13 ـ 14 ، سورة الفتح : 48/17 ، سورة ق : 50/31 ـ 33 ، سورة الطور : 52/21 ، سورة الحديد : 57/21 ، سورة النازعات : 79/40.

( 138 )

وجاء عن أمير المؤمنين عليه السلام في وصف ما كان عليه أهل الجنة في الدنيا ، وذلك فيقوله تعالى : ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ) (1) قال عليه السلام : « قد اُمِن العذاب ، وانقطع العتاب ، وزُحزحوا عن النار ، واطمأنّت بهم الدار ، ورضوا المثوى والقرار ، الذين كانت أعمالهم في الدنيا زاكية ، وأعينهم باكية ، وكان ليلهم في دنياهم نهاراً ، تخشّعاً واستغفاراً ، وكان نهارهم ليلاً توحّشاً وانقطاعاً ، فجعل الله لهم الجنة مآباً ، والجزاء ثواباً ، وكانوا أحق بها وأهلها ، في ملك دائم ، ونعيم قائم »(2).
أقسام المقيمين فيها : ذكر الشيخ المفيد أن الساكنين في الجنة على ثلاثة أضرب ، وهم :
1 ـ من أخلص لله تعالى ، فذلك الذي يدخلها على أمانٍ من عذاب الله.
2 ـ من خلط عمله الصالح بأعماله السيئة ، وكان يسوّف منها التوبة ، فاخترمته المنية قبل ذلك ، فلحقه خوف من العقاب في عاجله وآجله ، أو في عاجله دون آجله ، ثم سكن الجنة بعد عفو الله أو عقابه.
3 ـ من يتفضّل عليه الله سبحانه بغير عملٍ سلف منه في الدنيا ، وهم الولدان المخلدون ، الذين جعل الله تعالى تصرّفهم لحوائج أهل الجنة ثواباً للعاملين ، وليس في تصرّفهم مشاقّ عليهم ولا كلفة ، لأنّهم مطبوعون إذ
____________
1) سورة الزمر : 39/73.
2) نهج البلاغة / صبحي الصالح : 282 ـ الخطبة (190).

( 139 )

ذاك على المسارّ بتصرفهم في حوائج المؤمنين(1).
صفة نعيم الجنة : حُفّت الجنة بأنواع اللذات والنعم ، ولأهلها فيها نعيم مقيم وسرور دائم ، ولهم فيها كلّ ما يشاءون وجميع ما يشتهون ، قال تعالى : ( فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاََْنفُسُ وَتَلَذُّ الاََْعْيُنُ ) (2)وقال سبحانه : ( لَهُم مَا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) (3).
وفي الجنة ما لا تحيط بوصفه الكلمات وما لم يسمع به بشر مما أعدّه الله سبحانه لعباده المتقين ، قال تعالى : ( فَلأ تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم مِن قُرَّةٍ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (4).
وفي الحديث القدسي : « قال الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا اُذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر »(5).
اللذائذ الحسية : ثواب أهل الجنة الالتذاذ بالمآكل والمشارب ، والمناظر والمناكح ، وما تدركه حواسهم مما يُطبعون على الميل إليه ، ويدركون مرادهم بالظفر به(6).
وفيما يلي وصف لبعض تلك اللذائذ وفقاً لما جاء في الكتاب الكريم :
1 ـ المأكل والمشرب : يُرزَق أهل الجنة بغير حسابٍ رزقاً كريماً واُكلاً
____________
1) تصحيح الاعتقاد / المفيد : 116 ـ 117.
2) سورة الزخرف : 43/71.
3) سورة ق : 50/35.
4) سورة السجدة : 32/17.
5) كنز العمال / المتقي الهندي 15 : 778 / 43069 ، بحار الأنوار / المجلسي 8 : 191/168.
6) تصحيح الاعتقاد / المفيد : 117.

( 140 )

وافراً ، ليس له نفاد ، مما تشتهيه أنفسهم من أنواع الطعام والشراب ، ولهم فيها فاكهة كثيرة ممّا يتخيّرون ، لا مقطوعة ولا ممنوعة ، دانية عليهم ظلالها ، وذللت لهم قطوفها تذليلاً(1).
ولهم فيها شراب طهور ، ويسقون خمرةً مختومةً بالمسك ، لا تحدث صداعاً ، ولا تذهب عقلاً ، ولا لغو فيها ولا تأثيم ، ويطاف عليهم بكأسٍ منها بيضاء لذيذة ، ممزوجة بأنواع الطيب كالكافور والزنجبيل ، وفيها أنهار كثيرة وعيون ، منها أنهار من ماءٍ غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغيّر طعمه ، وأنهار من خمرٍ لذّة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفّى ، ويشربون من أعذب العيون كالتسنيم والسلسبيل ، ويقال لهم : كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون(2).
2 ـ الملابس والحُليّ : وفي الجنة يرفل المؤمنون بثيابٍ خضرٍ من أرقّ أنواع الحرير والديباج ، كالسندس والاستبرق ، ويُحلّون فيها بأساور من ذهبٍ ولؤلؤ وفضّة(3).
____________
1) راجع : سورة الرعد : 13/35 ، سورة الحج : 22/50 ، سورة يس : 36/57 ، سورة ص : 38/54 ، سورة غافر : 40/40 ، سورة فصلت : 41/31 ، سورة محمد : 47/15 ، سورة الطور : 52/22 ، سورةالرحمن : 55/52 ، سورة الواقعة : 56/21 و28 ـ 33 ، سورة الدهر : 76/14 ، سورة المرسلات : 77/42.
2) راجع : سورة الصافات : 37/45 ـ 47 ، سورة محمد : 47/15 ، سورة الطور : 52/19 و23 ، سورة الواقعة : 56/17 ـ 19 ، سورة الإنسان : 76/5 ـ 6 و17 ـ 18 و21 ، سورة المرسلات : 77/43 ، سورة المطففين : 83/25 ـ 28.
3) راجع : سورة الحج : 22/23 ، سورة الكهف : 18/31 ، سورة فاطر : 35/33 ، سورة الدخان : 44/53 ، سورة الدهر : 76/12 و21.

( 141 )

3 ـ التمتّع بالمناظر : ويتمتّعون بالمناظر الخلاّبة وهم متكئون على الأرائك المنصوبة على أطراف الأنهار المتصلة الجريان ، وتحت الظلال الوارفة الدائمة ، لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً ، ينظرون إلى المياه المسكوبة ، والعيون الجارية ، وحدائق النخل والأعناب والرمان الغنّاء ، وأفنانها المتهدّلة بمختلف الأثمار(1).
4 ـ التمتّع بالقصور وأثاثها : يدخل المؤمنون جناتٍ واسعة عرضها السماوات والأرض ، وأبوابها مشرعة لهم ، وتحرسها الملائكة المتأهّبة لاستقبالهم ، ولهم فيها درجات متفاضلات بعضها فوق بعض ، بحسب خيرية العمل ، في قصور الجنة وغرفها ، وفيها مساكن طيبة في جنات الخُلد العالية ، وغرف من فوقها غرف مبنية ، تجري من تحتها الأنهار ، وهم يفترشون بسطاً حساناً من العبقري ، بطائنها من استبرق ، ومتكئون على وسائد خضر مصفوفة مرفوعة ، حال كونهم متقابلين ، ويطاف عليهم بصحاف من ذهبٍ ، وآنية من فضة ، وأكواب وأباريق وكؤوس بما اشتهت أنفسهم(2).
____________
1) راجع : سورة الرعد : 13/35 ، سورة يس : 36/56 ، سورة الرحمن : 55/68 ، سورة الواقعة : 56/30 ، سورة الدهر : 76/13 ، سورة المرسلات : 77/41 ، سورة النبأ : 78/32.
2) راجع : سورة آل عمران 3 : 133 ، سورة الأنفال : 8/4 ، سورة التوبة : 9/72 ، سورة المؤمنون : 21/103 ، سورة العنكبوت : 29/58 ، وسورة الصافات : 37/43 ـ 44 ، سورة ص38/50 ـ 51 ، سورة الزمر : 39/20 ، سورة الزخرف : 43/71 ، سورة الطور : 52/20 ، سورة الرحمن : 55/54 ، سورة الواقعة : 56/15 ـ 18 و34 ، سورة الصف : 61/12 ، سورة الدهر : 12/14 ـ 16 ، سورة الغاشية : 88/10 ـ 16.

( 142 )

5 ـ الولدان المخلّدون : ويتمتّع أهل الجنة بالخدمة المتصلة من الغلمان المخلدين الذين جعلهم الله سبحانه في منتهى الجمال والصفاء وحسن المنظر ، قال تعالى : ( وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنثُوراً ) (1).
6 ـ الأزواج والحور العين : ولهم في الجنة أزواج مطهّرة من الحور العين مقصورات في الخيام ، قد جعلهنّ الله عُرباً ؛ متحببات إلى أزواجهنّ ، قاصرات الطرف عليهم دون غيرهم ، كواعبَ أتراباً في العمر ، أبكاراً لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ، ساحرات الجمال ، فكأنهنّ الياقوت والمرجان ، أو كأمثال اللؤلؤ أو البيض المكنون(2).
اللذائذ الروحية : وفوق ذلك يتمتع أهل الجنة بنعيم روحي أو عقلي ، يتمثّل برضوان الله تعالى ومغفرته ورحمته بهم ، وإحساسهم بالسرور لترحيب الملائكة بهم ، ولسعادتهم الدائمة ، والشعور بالأمن من خوف العذاب والحزن وكلّ مظاهر اللغو والكذب والتأثيم والتحاسد والتباغض(3) .
____________
1) سورة الدهر : 76/19.
2) راجع : سورة يس :36/56 ،سورة الصافات : 37/48ـ 49 ، سورة ص : 38/52 ، سورة الدخان : 44/54 ، سورة الطور : 52/20 ، سورة الرحمن : 55/56 ـ 58 و72 ، سورة الواقعة : 56/22 ـ 23 و35 ـ 37 ، سورة النبأ : 78/33.
3) راجع : سورة آل عمران : 3/15 و136 ، سورة التوبة 9/72 ، سورة الحجر : 15/47 ـ 48 ، سورة مريم : 19/62 ، سورة فاطر : 35/34 ـ 35 ، سورة يس : 36/55 ، سورة الزمر : 39/73 ، سورة الدخان : 44/56 ، سورة 47/15 ، سورة الطور : 52/18 ، سورة المجادلة : 58/22 ، النبأ : 78/35 ، سورة الغاشية : 88/11.

( 143 )

ثانياً : صفة النار وأهلها وعذابها
صفة النار : النار هي دار الهوان ودار الانتقام من أهل الكفر والعصيان ، وقد وصفها القرآن الكريم بأنها كالسجن ، محيط بالكافرين ، حصير لهم ، ولها سرادق محيط بها ، وأنها مُؤصدة في عمدٍ ممدّدة ، وفيها ظلّ ذو ثلاث شعب ، لكنه غير ظليل ، ولا يقي من شدّة فورانها وتصاعد لظاها ، وأن وقودها الناس والحجارة ، وأوارها لا ينقطع ، فكلما خبت ازدادت سعيراً ، وتحرسها ملائكة غلاظ شداد موكّلون بالعذاب ، لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون ، ولها سبعة أبواب ، لكلّ باب منهم جزء مقسوم(1).
وعن أمير المؤمنين عليه السلام : « أن جهنّم لها سبعة أبواب أطباق بعضها فوق بعض... فأسفلها جهنّم ، وفوقها لظى ، وفوقها الحطمة ، وفوقها سقر ، وفوقها الجحيم ، وفوقها السعير ، وفوقها الهاوية ».
وفي رواية : « أسفلها الهاوية ، وأعلاها جهنّم »(2).
وقال عليه السلام في وصفها : « فاحذروا ناراً قعرها بعيد ، وحرّها شديد ،
____________
1) راجع : سورة البقرة : 2/24 ، سورة التوبة : 9/49 ، سورة الحجر : 15/43 ـ 44 ، سورة الإسراء : 17/8 و97 ، سورة الكهف : 18/29 ، سورة التحريم : 66/6 ، سورة المرسلات : 77/30 ـ 31 ، سورة الهمزة : 104/8 ـ 9.
2) مجمع البيان / الطبرسي 6 : 519.

( 144 )

وعذابها جديد ، دار ليس فيها رحمة ، ولا تُسمع فيها دعوة ، ولا تُفرّج فيها كُربه »(1).
أهل النار : ( أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلألَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ) (2).
جاء في الآيات الكريمة أنّ النار اُعدت للذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله وماتوا وهم كفّار ، والمشركين الذين جعلوا مع الله إلهاً آخر ، والمنافقين ، والمتكبرين ، والظالمين ، والطاغين ، والمكذّبين الله سبحانه ورسله ، ومن يعصي الله ورسوله ، ويتولى عن طاعته ، ويتعدى حدوده ، ويستكبر عن عبادته ، ويصدّ عن سبيله ، ويعرض عن ذكره ، ولا يرجو لقاءه ، والمكذبين بيوم الدين ، والذين رضوا بالحياة الدنيا وزينتها واطمأنوا بها وآثروها على الآخرة ، ومن كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ، ومن يرتدّ عن دينه ويموت كافراً ، والذين يأكلون أموال الناس بالباطل ، أو يأكلون أموال اليتامى ظلماً ، ومن يقتل مؤمناً متعمداً ، والذين يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله ، وأئمة الجور والضلال ، وتاركي الصلاة(3).
____________
1) نهج البلاغة / صبحي الصالح : 384 ـ الكتاب (27).
2) سورة البقرة : 2/175.
3) راجع سورة البقرة : 2/81 و86 و161 ـ 162 و217 ، سورة النساء : 4/10 و14 و56 و93 و145 ، سورة التوبة : 9/34 و63 ، سورة يونس : 10/7 ـ 8 و52 ، سورة هود : 11/15 ـ 16 ، سورة النحل :16/85 ، سورة الكهف : 18/102 ـ 106 ، سورة طه : 20/74 و124 ـ 127 ، سورة الفرقان : 25/11 ، سورة السجدة : 32/12 ـ 14 ، سورة الزمر : 39/60 ، و71 ـ 72 ، سورة غافر : 40/60 و 70 ـ 72 ، سورة ق : 50/24 ـ 26 ، سورة الجن : 72/17 و23 ، سورة المدثر : 74/41 ـ 46 ، سورة النازعات : 79/37 ـ 39.

( 145 )

قال أمير المؤمنين عليه السلام : « إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : يُؤتى يوم القيامة بالامام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر ، فيُلقى في نار جهنم ، فيدور فيها كما تدور الرحى ، ثمّ يُربَط في قعرها »(1).
وعنه عليه السلام وهو يعظ أصحابه : « تعاهدوا أمر الصلاة ، وحافظوا عليها ، واستكثروا منها ، وتقرّبوا بها ، فانها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً ، ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سئلوا : ( ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين)(2) ؟! ».
الخالدون فيها : لايخلد في النار إلاّ أهل الكفر والشرك ، وأمّا المذنبون من أهل التوحيد ، فإنهم يخرجون منها بالرحمة التي تدركهم والشفاعة التي تنالهم(3).
قال الامام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام : « لا يخلد في النار إلاّ أهل الكفر والجحود ، وأهل الضلال والشرك »(4).
عذاب النار : يتعرّض أهل النار لأصنافٍ من العذاب الحسي والروحي ، وقد وصف الله تعالى عذابها بالمهين والغليظ والأليم والعظيم والشديد ، فحينما يُساق المجرمون إلى جهنّم زمراً وجماعات ، تتلقّاهم ملائكة العذاب :
____________
1) نهج البلاغة / صبحي الصالح : 235 ـ الخطبة (164).
2) نهج البلاغة / صبحي الصالح : 316 ـ الخطبة (199) والآية من سورة المدّثر : 74 / 42.
3) الاعتقادات / الصدوق : 77.
4) التوحيد / الصدوق : 407/6. جماعة المدرسين ـ قم.

( 146 )

أدخلوا أبواب جهنم خالدين فيها ، فبئس مثوى المتكبرين ، هذا والنار تنتظرهم من مكانٍ بعيد ، فإذا رأتهم تغيّظت وزفرت وزأرت كالأسد إذا رأى فريسته على بُعد.
فتُفتح لهم الأبواب ، ويُدعّون فيها دعّاً مع الشياطين وما كانوا يعبدون من دون الله ، فيكونون حصب جنهم ووقود السعير ، وإذا اُلقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور ، فتكاد تميّز من الغيط ، وتتأجّج نارها ، ويتّقد أوارها ، ويتطاير شررها ، ويتعالى لهيبها ، وهم غرقى فيها ، طعامهم منها ، وشرابهم منها ، ولباسهم منها ، وهي مهادهم وسقفهم ، يلتحفون حممها ، ويفترشون لظاها ، ويتقلقلون بين أطباقها ، فيغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، في مقطّعات النيران وسرابيل القطران ، فتكوي جباههم ، وتلفح وجوههم وتتقلّب في النار ، فتسودّ وجوههم ، وينتزع الشَّوى من رؤوسهم.
وهم خالدون في عذابٍ مقيم ، ويأتيهم الموت من كل مكان وما هم بميتين ، فلا يُقضى عليهم فيموتوا ، ولا يخفّف عنهم من عذابها ، ولا هم يُنْظَرون ، وكلّما نضجت جلودهم بُدّلت باُخرى ليتجدّد عذابهم ، وكلّما أرادوا أن يخرجوا منها من غمّ اُعيدوا فيها ، وقيل لهم : ذوقوا عذاب الحريق.
هذا وهم مقرّنون بالأغلال والسلاسل في الأعناق ، مصفّدون في مكان ضيق ، ثم يُسحبون في الحميم على وجوههم ، ويُؤخَذون بالنواصي والأقدام ، ثمّ في النار يُسجرون ، وتهشّم جباههم بمقامع الحديد ، وينتظرهم عذاب السّموم وشجر الزقّوم والحميم الذي يُصبّ من فوق رؤوسهم ، فيصهر ما في بطونهم والجلود.


( 147 )

وإن استغاثوا من شدة العطش ، يُغاثوا بماءٍ صديدٍ يتجرعونه ولا يكادون يستسيغونه ، أو بماء الحميم فيقطّع أمعاءهم ، أو بماءٍ كالمهل يشوي الوجوه ويغلي في البطون كغلي الحميم ، فلا يذوقون برداً ولا شراباً إلاّ حميماً وغسّاقاً ، وهم مع ذلك يشربون منهما شُرب الهيم.
وإن استطعموا من شدّة الجوع ، اُطعموا غذاءً ذا غصّة من الغسلين والزّقوم ، وهي شجرة تخرج في أصل الجحيم ، طلعها كأنه رؤوس الشياطين ، وهم مع ذلك لآكلون منها ، فمالئون منها البطون ، فشاربون عليه من الحميم.
ولهم من هول العذاب اصطراخ بين أطباقها ، وهي تغلي بهم غلي المراجل ، فيتعالى زفيرهم وبكاؤهم وعويلهم وتخاصمهم ، وهتافهم بالويل والثبور ، ولكن لا يُسمعون(1).
____________
1) راجع : سورة البقرة : 2/90 و104 و114 و162 ، سورة النساء : 4/56 ، سورة الأنعام : 6/70 ، سورة الأعراف : 7/41 ، سورة إبراهيم : 14/16 ـ 17 و49 ـ 50 ، سورة الكهف : 18/29 ، سورة طه : 20/74 ، سورة الأنبياء : 21/98 ـ 100 ، سورة الحج : 22/19 ـ 22 ، سورة المؤمنون : 23/104 ، سورة الفرقان : 25/12 ـ 14 ، سورة العنكبوت : 29/54 ـ 55 ، سورة الأحزاب : 33/64 ـ 68 ، سورة فاطر : 35/36 ـ 37 ، سورة الصافات : 37/62 ـ 68 ، سورة ص : 38/55 ـ 64 ، سورة الزمر : 39/71 ، سورة غافر : 40/70 ـ 76 ، سورة الدخان : 44/43 ـ 50 ، سورة محمد : 47/15 ، سورة الطور : 52/13 ـ 16 ، سورة القمر : 54/47 ـ 48 ، سورة الرحمن : 55/41 ـ 44 ، سورة الواقعة : 56/41 ـ 44 و51 ـ 56 ، سورة الملك : 67/5 ـ 11 ، سورة الحاقة : 69/31 ـ 37 ، سورة المزمل : 73/12 ـ 13 ، سورة الدهر : 76/4 ، سورة المرسلات 77/30 ـ 33 ، سورة النبأ : 78/21 ـ 30 ، سورة الليل : 92/14 ـ 16 ، سورة الهمزة : 104/4 ـ 9.

( 148 )

وقال أمير المؤمنين عليه السلام فيوصف عذابها : « أما أهل المعصية فأنزلهم شرّ دار ، وغلّ الأيدي إلى الأعناق ، وقرن النواصي بالأقدام ، وألبسهم سرابيل القطران ، ومقطّعات النيران ، في عذابٍ قد اشتدّ حرّه ، وبابٍ قد اُطبق على أهله ، في نارٍ لها كَلَبٌ ولَجَبٌ ، ولهبٌ ساطع ، وقصيف هائل ، لا يظعن مقيمها ، ولا يُفادى أسيرها ، ولا تُفصَم كبولها ، لا مُدّة للدار فتفنى ، ولا أجل للقوم فيُقضى »(1).
عذابها الروحي : وله صور عديدة يعرضها القرآن الكريم ، منها الشعور بالخسران والندامة والخزي والخوف والرهبة ، فينادي الظالمون بالحسرة ، حسرة فوت الجنة ونعيمها ، وفوت لقاء الله ورضوانه ، وينتابهم اليأس من الرحمة والمغفرة ، ويصيبهم الذلّ والصغار حين يعرضون على النار خاشعين من الذلّ ينظرون من طرف خفيّ(2).
____________
1) نهج البلاغة / صبحي الصالح : 162 ـ الخطبة (109).
2) راجع : سورة البقرة : 2/161 و166 ـ 167 ، سورة الأنعام : 6/27 ـ 31 و124 ، سورة الأعراف : 7/53 ، سورة إبراهيم : 14/44 ، سورة الإسراء : 17/18 و39 ، سورة المؤمنون : 23/103 ـ 108 ، سورة الشعراء : 26/95 ـ 102 ، سورة العنكبوت : 29/23 ، سورة الأحزاب : 33/66 ـ 68 ، سورة سبأ : 34/33 ، سورة فاطر : 35/36 ـ 37 ، سورة الزمر : 39/71 ، سورة غافر : 40/73 ـ 76 ، سورة الشورى : 42/45 ، سورة الزخرف : 43/77 ، سورة الملك : 67/15 ، سورة المطففين : 83/15 ـ 17.

( 149 )

وحينما يُعرَضون على النار ويرون عذابها تتقطّع أنفسهم حسرات من شدة الندم ، فيظهرون البراءة من كبرائهم وساداتهم ، وتتوارد عليهم الأماني ، فيقولون : ( يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولأ ) (1) ، وكلّ منهم يقول : ( يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ) (2)و( يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلأناً خَلِيلاً )(3) وأنّى لهم الندم وهم في محضر اليوم العسير؟!
ويضجّون حسرّة على ما فرّطوا في الدنيا ، فيطلبون العودة إليها ، ليعملوا صالحاً ويكونوا من المؤمنين ، ويتعالى هتافهم : ( فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (4)ويصرخون : ( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) (5).
وتلك الأماني لا تعدو كونها سراباً بقيعة ، لأنّهم في عالم الجزاء ، عالم لا تنفع فيه الطاعة والانابة وإظهار الندم ، ولو كانوا صادقين لأنابوا وتابوا وهم في دار التكليف والعمل ( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) (6).
ومن هنا يأتيهم الجواب : ( فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) (7)
____________
1) سورة الأحزاب : 33/66.
2) سورة الفجر : 89/24.
3) سورة الفرقان : 25/28.
4) سورة الشعراء : 26/102 .
5) سورة فاطر : 35/37.
6) سورة الأنعام : 6/28.
7) سورة الأنعام : 6/30.

( 150 )

ويقال لهم : ( اخْسَئُوا فِيهَا وَلأ تُكَلِّمُونِ ) (1)وهو مما يزيد من حسرة نفوسهم وشعورهم بالخذلان والخيبة واليأس من الرحمة والمغفرة ، فيُصلَون جهنم مذمومين مدحورين ملومين.
وممّا يحزّ في نفوسهم هو تبكيت الملائكة وتقريعهم لهم بمجرد أن يدخلوا النار ، قال تعالى : ( كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ) وهم يجيبون بالإقرار والاعتراف : ( بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِن شَيءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلألٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لإََصْحَابِ السَّعِيرِ ) (2).
وحينما يستسلمون لليأس يقولون لخازن النار : ( يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ) فيقول لهم : ( إِنَّكُم مَّاكِثُونَ ) (3).
أعاذنا الله جميعاً من شرّ الجحيم ومن أهوال يوم القيامة ، ورزقنا رحمته التي وسعت كل شيء وشفاعة نبيه المصطفى وآله الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين.
____________
1) سورة المؤمنون : 23/108.
2) سورة التحريم : 67/8 ـ 11.
3) سورة الزخرف : 43/77. بالنظر لكون أغلب مضامين المبحث الأخير المتعلق بوصف الجنة والنار ، قد استوحيناها من القرآن الكريم ، لذا نحيل إلى مصادر الحديث لمن أراد الإطلاع على مضامينه التي توسعت في وصف نعيم الجنة وعذاب النار ، فراجع : بحار الأنوار / المجلسي 8 : 116 ـ 222 ، و380 ـ 329 ، إحياء علوم الدين / الغزالي 5 : 385 ـ 392 و374 ـ 381.