بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: 21 ـ 30
(21)
اجتماع المهاجرين والأنصار على بيعة علي :
    قتل الخليفة بمرأى و مشهد من الصحابة ، وتركت جنازته في بيته ، واجتمع المهاجرون والأنصار في بيت علىّ ، وطلبوا منه بإصرار بالغ قبول الخلافة ، إذ لم يكن يوم ذاك رجل يوازيه ويدانيه في السبق الى الاسلام ، والزهد في الدنيا ، والقرابة من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ، والعلم الوافر بالقرآن والسنّة ، والامام يصف اجتماعهم في بيته ويقول : « فتداكوا علىّ تداكّ الابل الهيم ، يوم وردها ، وقد أرسلها راعيها وخلعت مثانيها ، حتى ظننت أنّهم قاتلي أو بعضهم قاتل بعض لدي » (1) .
    وفي كلمة اُخرى له ( عليه السَّلام ) يقول واصفاً هجوم المهاجرين والأنصار على بيته لبيعته : « وبسطتم يدي فكففتها ، ومدد تموها فقبضتها ، ثم تداككتم عليّ تداك الهيم على حياضها يوم وِرْدها حتى انقطعت النعل ، وسقط الرداء ، ووطىء الضعيف ، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم ايّاي ، أن ابتهج بها الصغير ، وهدج إليها الكبير ، وتحامل نحوها العليل ، وحسرت اليها الكعاب » (2) .
    فلمّا عرضوا عليه مسألة الخلافة و القيادة الاسلامية أجابهم بجدَ وحماس : « دعوني فالتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان ، لاتقوم له القلوب ، ولا تثبت له العقول » (3) .
    فلمّا أحسّ منهم الإلحاح و الإصرار المؤكّد وانّه لابدّ من البيعة ورفع علم الخلافة قال ( عليه السَّلام ) : إذا كان لابدّ من البيعة فلنخرج إلى المسجد حتى تكون بمرأى ومسمع من المهاجرين والأنصار ، وجاء الى المسجد فبايعه
    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 54.
    2 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 229.
    3 ـ الطبري : التاريخ 3/156.


(22)
المهاجرون والأنصار وفي مقّدمتهم الزبير بن العوام و طلحة بن عبيدالله ولم يتخلّف من البيعة إلاّ قليل لايتجاوز عدد الأنامل كاُسامة بن زيد ، و عبدالله بن عمر ، وسعد بن أبيوقاص ونظائرهم (1) .
    وقد عرفه التاريخ بأنّه كان رجلا زاهداً غير راغب في الدنيا ولامقبلا على الرئاسة وانّما قبل البيعة لأنّه تمّت الحجّة عليه وكان المسلمون يومذاك بحاجة الى قيادته وخلافته وهو يصف أمره : « والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ، ولا في الولاية إربة ، ولكنّكم دعوتموني اليها وحملتموني عليها » (2) .
    كلّ ذلك صار سبباً لقيام علي بالزعامة والخلافة وتدبير الأمور ، ولم يكن هدف المبايعين إلاّ ارجاع الاُمّة الى عصر الرسول ، ليقضي على الترف والبذخ ، ويرفع راية العدل والقسط ، ويهدم التفاضل المفروض على الاُمّة بالقهر والغلبة ، وينجي المضطهدين والمقهورين من الفقر المدقع ، ولمّا تمّت البيعة خطبهم في اليوم التالي وبين الخطوط العريضة للسياسة التي ينوي الالتزام بها طيلة ممارسته للخلافة فعلى الصعيد المالي قال في قطايع عثمان التي قطعها الخليفة لأقربائه وحاشيته : « والله لو وجدته قد تزّوج به النساء و ملك به الاماء لرددته فانّ في العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق » (3) .
    قال الكلبي : ثم أمر علي ( عليه السَّلام ) بكل سلاح وجد لعثمان في داره ممّا تقّوى به على المسلمين ، فقبض وأمر بقبض نجائب كانت في داره من ابل الصدقة فقبضت ، وأمر بقبض سيفه ودرعه ، وأمر ألاّ يعرض لسلاح وجد له لم يقاتل به المسلمين ، وبالكف عن جميع أمواله التي وجدت في داره وفي غير
    1 ـ الطبري : التاريخ 3/156.
    2 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 205.
    3 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 15.


(23)
داره ، وأمر أن ترتجع الأموال التي أجاز بها عثمان حيث اُصيبت أو اُصيب أصحابها.
    فبلغ ذلك عمروبن العاص ، وكان بـ « ايلة » في أرض الشام ، أتاها حيث وثب الناس على عثمان ، فنزلها فكتب الى معاوية : ما كنت صانعاً فاصنع اذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه كما تُقشر عن العصا لحاها (1) .
    ما مارسه الامام لتحقيق المساواة من خلال ردّ قطائع عثمان كان جرس الانذار في أسماع عبَدة الدنيا وأصحاب الأموال المكدّسة ، أيّام خلافة الخليفة الثالث ، فوقفوا على انّ علياً لايساومهم بالباطل ، على الباطل ولايتنازل عن الحق لصالح خلافته.
    وعند ذلك بدأوا يتآمرون على خلافته الفتية في نفس المدينة المنورة وفي مكة المكرمة والشامات ، وقد كان هؤلاء متفرّقين في تلك البلاد.
    وهذا هوالموضوع الذي نطرحه في الفصل التالي ، وستعرف أنّ ظهور الخوارج في الساحة الاسلامية من مخلّفات هذا التآمر الذي رفع راياته الناكثون والقاسطون.
    1 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 1/270.

(24)

(25)
الفصل الثاني
حوادث وطوارئ مريرة في عصر الخلافة العلوية


(26)

(27)
    نهض الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بالأمر ، بعد قتل الخليفة عثمان ، وقد عمّت الفتن والتمزّق والاضطراب الاُمّة الإسلامية ، وحاق بهم البلاء ، وصاروا شيعاً ، المعنّيون منهم ذوو أهواء وميول.
    فمن مسلم واع يرى بنور الإيمان خروج القياده الإسلامية عن الجادّة المستقيمة ، وليس لها جمالها الموجود في العهد النبوي ، ولا بعده إلى وفاة الشيخين ، وهم الذين ثاروا على السلطة ، وقتلوا الخليفة ، ولمّ يدفنوه ، حتى راحوا إلى رجل ليقوم بالأمر ويقيم الاود ، ويصلح ما فسد ، ولم يكن هذا الرجل إلاّ الإمام المعروف بالورع والّتقى ، وقوّة القلب ، ورباطة الجأش.
    إلى متوغّل في لذائذ الدنيا وزخارفها ، ادّخر من غنائمها وفراً ، وجمع من بيضائها وصفرائها ثروة طائلة ، واقتنى ضياعاً عامرة ، ودوراً فخمة ، وقصوراً شاهقة ، يخضمون مال الله خضم الابل نبتة الربيع ، كأنّ الدنيا خلقت لأجلهم ، فهؤلاء ـ بعد قتل الخليفة ـ لايرضون خروج الأمر من أيديهم ووقوعه في يد رجل لاتأخذه في الله لومة لائم والاُمّة الإسلاميّة عنده سواسية.


(28)
    إلى انتهازىّ لايهمّه شيء سوى طعمته في الملك والمال ، كالبهيمة المربوطة همّها علفها ، أو المرسلة شغلها تقمّمها.
    فقام الإمام بالأمر ، وهذا وصف مجتمعه ، وهم إلى الشدة والقسوة أقرب إلى الصلاح والفلاح. وأوّل من جهر بالخلاف وألَّب المخالفين على علىّ ، هو معاوية بن أبي سفيان فقد كان واقفاً على أنّ عليّاً لايساومه بأيّة قيمة ولايبقيه في مقامه الذي كان عليه من عصر الخليفة الثاني إلى يوم بويع علىّ بالخلافة ، فقام بتأليب بعض الصحابة على الامام وإغرائهم على الخلاف ، بحجّة أنّه أخذ البيعة لهم من أهل الشام ، وهذا نص رسالته إلى الزبير بن العوام وقد وقف على أنّه بايع عليّاً بملأ من الناس ، وفيها : « بسم الله الرحمن الرحيم ، فانّي قد بايعت لك أهل الشام فأجابوا واستوسقوا كما يستوسق الجلب ، فدونك الكوفة والبصرة لايسبقك إليها ابن أبي طالب ، فإنّه لاشيء بعد هذين المصرين ، وقد بايعتُ لطلحة بن عبيدالله من بعدك فاظهر الطلب بدم عثمان ، وادعوا الناس إلى ذلك ، وليكن منكما الجدّ والتشمير ، أظفركما الله ، وخذل مناوئكما ».
    ولّما وصل هذا الكتاب إلى الزبير ، أعلم به طلحة فلم يشكّا في انّ معاوية ناصح لهما واجمعا عند ذلك على خلاف عليّ ( عليه السَّلام ) (1) .
    كانت الغاية الوحيدة من أخذ البيعة من رعاع الناس في الشام للزبير وطلحة وإعلامهما لذلك ، هو تشجيعهما على مخالفة الإمام ( عليه السَّلام ) بحجّة أنّهما خليفتان مترتبان ، وأنّه يجب على علىّ أن يترك الخلافة جانباً ، وبذلك أراد أن يحدث صدعاً في صفّ الذين بايعوا الإمام ، ويفتح باب الخلاف ونكث البيعة ، أمام الآخرين.
    1 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 1/231.

(29)
    كانت تلك الرسالة تحمل شروراً إلى الاُمّة الإسلامية وقد اغتر الشيخان بكلام ابن أبي سفيان فتآمرا على الخلاف ونكث البيعة على وجه يأتي شرحه.
    ولم يكن نكث البيعة منهما نهاية الخلاف ، بل كانت فاتحة لشرّ ثان وهو تجرّؤ معاوية على عليّ وبغيه على الإمام المفترض طاعته ، بالحرب الطاحنة ، وكان الإمام على أعتاب النصر و الظفر حتى نجم شرّ ثالت وهو خروج طائفة من أصحاب الامام عليه بحجة واهية تحكي عن سذاجة القوم وقلّة وعيهم : وهي مسألة التحكيم ، وبذلك خاض الإمام في خلافته القصيرة التي لاتتجاوز عن خمسة أعوام ، حروباً دامية ، يحارب الناكثين تارة ، والقاسطين اُخرى ، والمارقين ثالثة ، وفي ذلك يقول الإمام : « فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ، ومرقت اُخرى ، وقسط آخرون ، كأنَّهم لم يسمعوا كلام الله سبحانه يقول : ( تِلْكَ الدارُ الآخرِة نَجْعَلُها لِلّذِينَ لايُريدونَ عِلُوّاً فِي الأرْضِ ولافَساداً وَ العاقِبَةُ للمتّقين ) بلى والله لقد سمعوها ووعوها ولكنّهم حَلِيَت الدنيا في أعينهم ، وراقهم زبرجها (1) .
    قام الإمام بفقأ عين الفتنة بعد انتهاء حرب صفّين ـ وياللأسف ـ ولم يمض زمن إلى أن اُغْتِيل بيد أشقى الأوّلين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود (2) ـ حسب تعبير النبي الأكرم ـ ، وبذلك طويت صحيفة عمره ولقى الله تعالى بنفس مطمئنة ، وقلب سليم ، وقد تنبّأ النبي الأكرم بحروبه الثلاثة ، وأنّه سيقاتل طوائف ثلاثة وهم بين ناكث وقاسط ومارق من الدين.
    روت اُمّ سلمة أنّ علياً ( عليه السَّلام ) دخل على النبي الأكرم في بيتها فقال النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) مشيراً إلى علي : هذا والله قاتل الناكثين
    1 ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة 3.
    2 ـ الصدوق : عيون أخبار الرضا 297.


(30)
والقاسطين والمارقين من بعدي (1) .
    وروى علي ( عليه السَّلام ) ، عن النبي الأكرم : أمرني رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين (2) .
    هذا مجمل تلك الحوادث المريرة في خلافته ، وكانت فتنة الخوارج نتيجة الحربين الطاحنتين : الجمل وصفّين ، فلأجل اجلاء الحقيقة ورفع السترعن وجهها نعرضهما على القارىء ، على وجه خاطف ، والتفصيل على عاتق التاريخ.
    1 ـ ابن كثير الشامي : البداية والنهاية 7/305 ، وقد جمع أسانيد الحديث ومتونه.
    2 ـ الخطيب البغدادي : تاريخ بغداد 4/340.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: فهرس