بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: 241 ـ 250
(241)
عثمان بن عفان.
    فإن قال : فما تقولون في الحسن والحسين ابني علي؟ قلنا له : هما في منزلة البراءة ، فإن قال : من أين أوجبتم عليهما البراءة وهما ابنا فاطمة ابنة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) ؟! قلنا له : أوجبنا عليهما البراءة بتسليمهما الإمامة لمعاوية بن أبي سفيان وليس قرابتهما من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) تغني عنهما من الله ، لأنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) قال في بعض ما أوصى به قرابته : يا فاطمة بنت رسول الله ، ويا بني هاشم ، اعملوا لما بعد الموت ، فإنّي ليس أغني عنكم شيئاً ، أو نحو ذلك من الخطاب. فلو كانت القرابة من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) تغني عن العمل لم يقل ذلك لهم النبي. فهذا نقض لقول من يقول : إنّ القرابة من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) مغفور لها. وقد وجدنا الله يهدّد نبيه بقوله : ( وَ لِوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأقاوِيلِ* لاََخَذْنا مِنْهُ بِالَْيمينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الوَتِينَ * فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَد عَنْهُ حاجِزِينَ ) (1) . فقد بطل ما خاصمت به أيّها الخصم واحتججت به من قبل القرابة للنبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) (2) .
    إنّ الخوارج في مصطلح القوم مفهوم سياسي وفي الوقت نفسه مفهوم ديني ، فيراد من الأوّل خروجهم عن طاعة الإمام المفترض طاعته ، ويحكم عليهم بما يحكم على البغاة ، ويراد من الثاني خروجهم من الدين والملّة ، وصيرورتهم كفّاراً.
    وعلى كلا المفهومين ، فالمحكّمة الاُولى خوارج ، حيث خرجوا عن
    1 ـ الحاقة : 44 ـ 47.
    2 ـ السير والجوابات لبعض فقهاء الاباضية : تحقيق الاستاذة الدكتورة « سيدة إسماعيل كاشف ، استاذة التاريخ الاسلامي في كلية البنات جامعة عين شمس; القاهرة ط 1410 هـ ـ 1989 م ، ص 375 ـ 377.


(242)
طاعة الإمام وبقوا عليه في أثناء المعركة ، وخارجون عن الدين حيث أبغضوا من بغضه نفاق وكفر وحبّه دين وإيمان.
    وقال عمر أبوالنظر :
    وتعاليم الخوارج منذ ظهورهم مزيج من السياسة والدين ، فشعارهم « الحكم لله » شي يمتزج بالدين والسياسة معاً ، فلا يصحّ والحالة هذه أن يقال : إنّ دعوتَهم هذه كانت دينيّة محضة أو سياسية محضة ، وظلت دعوتهم بسيطة حتى خلافة عبدالملك بن مروان حيث خرجوا فيها كثيراً عن التعاليم الجديدة ، وذهبوا يتأوّلون الأحكام الدينية تأويلا فيه كثير من الاغراق و التعقيد ، فقالوا : إنّ العمل بأوامر الدين من الايمان ، فمن اعتقد التوحيد والرسالة وارتكب الكبائر فهو كافر (1) .
    هذا ما يرجع إلى المحكّمة الاُولى ومن جاء بعدهم من الأوائل المنتمين إلى الاباضية.
    وأمّا اباضية اليوم المنتشرة في عمان والمغرب العربي أعني ليبيا والجزائر وتونس وكذلك مصر ، فلم يظهر لنا من كتبهم المنتشرة اليوم إلاّ تخطئة التحكيم وتصويب المحكّمة الاُولى من دون نصب عداء للوصيّ أو بذاءة في اللسان بالنسبة إليه ـ إلا ما نقلناه أخيراً ـ فلايمكن الحكم في حقّهم إلاّ بالمقدار الذي ظهر لنا ولكن لايمكن الوثوق به لأنّ للقوم في الدين مسالك أربعة ، منها مسلك الكتمان كما سيوافيك توضيحه عند البحث عن التقّية ، فإنّ القوم من أصحابها ومجوّزيها والعاملين بها طيلة قرون ، وفي ظلّها عاشوا ومهّدت لهم الطريق ، وقامت لهم دول في عمان ، وفي أقصى المغرب العربي.
    1 ـ عمر أبو النضر : الخوارج في الإسلام 102.

(243)
نظرية اُخرى في مفهوم الخوارج :
    المتبادر من الخوارج لدى المسلمين هو المحكّمة الاُولى الذين ثاروا على عليّ في ثنايا حرب صفّين وخرجوا عن الطاعة بوجه وعن الدين بوجه آخر ، غير أنّ بعض الاباضيين في العصر الحاضر يفسّره بالخروج عن الدين ويصّر على أنّ المراد منه هو أصحاب الردّة بعد وفاة رسول الله أو الثورات الاُخرى التي وقعت إلى انتهاء خلافة الإمام علي ( عليه السَّلام ) (1) .
    قال علي يحيى معمر :
    « كان الأمويّون والشيعة يحاولون بكل ما استطاعوا أن يلصقوا هذا اللقب لقب الخوارج ـ بعد أن فسّر بالخروج من الدين ـ بهؤلاء الثائرين الذين ينادون في اصرار وشدّة بالمبادىء العادلة في الخلافة ، وكان الشيعة يحاولون بما اُوتوا من براعة أن يحصروها في بيت علي ، كما كان غير هم من الطامعين فيها ، يشترط لها الهاشمية أو القرشية أو العروبة ، حسب المصلحة السياسية لأصحاب الآراء في ذلك الحين ، وكلّ هذه الاّتجاهات تجتمع على محاربة الاّتجاه الذي اتجه إليه أتباع عبدالله بن وهب الراسبي. ذلك الاّتجاه العادل الذي يرى أن ّ المسلمين متساوون في الحقوق والواجبات. ( إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقاكُم ). « لا فضل لِعربيّ على أعجميّ إلاّ بالتقوى ».
    يلاحظ عليه :
    أنّ النبيّ الأكرم لم يتكلّم عن الخوارج بوصف كلّي وإنّما عيّن إمامهم وأشار إلى قائدهم ، وقد رواه المحدّثون في صحاحهم ومسانيدهم وأطبق على نقله الفريقان ، فلا يمكن لمحدّث واع انكاره ، ولا التشكيك في صحّة أسانيده ، فما ظنّك بحديث رواه البخاري ومسلم وابن ماجة وأحمد بن حنبل وغيرهم ،
    1 ـ علي يحيى معمر : الاباضية في موكب التاريخ ، الحلقة الاُولى 27.

(244)
ولأجل ايقاف القارىء على نصّ الرواية نذكرها عن تلك المصادر ونشير إلى محلّها :
    1 ـ روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال : بينا النبي يقسّم ذات يوم قسماً ، فقال ذو الخويصرة ـ رجل من بني تميم ـ : يا رسول الله أعدل. قال : ويلك! من يعدل إذا لم أعدل؟ فقال عمر : إئذن لي فلأضرب عنقه؟ قال : لا إنّ له أصحاباً يحقّر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم. يمرقون من الدين كمروق السهم من الرميّة ينظر إلى نصله (1) فلايوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى نضيّه (2) فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى قذذه (3) فلا يوجد فيه شيء سبق الفرث والدم ، يخرجون على حين فرقة من الناس آيتهم رجل إحدى يديه مثل ثدي المرأة ، أو مثل البضعة تدردر (4) . قال أبو سعيد : أشهد لسمعته عن النبي وأشهد أنّي كنت مع عليّ حين قاتلهم فالتمس في القتلى فأتى به على النعت الذي نعت النبي (5) .
    ورواه بنصّه بلا تفاوت مسلم في صحيحه (6) .
    2 ـ روى ابن ماجة عن جابر بن عبدالله ، قال : كان رسول الله بالجعرانه ، وهو يقسّم التبر و الغنائم ، وهو في حجر بلال ، فقال رجل : أعدل يا محمّد ، فإنّك لم تعدل ، فقال : ويلك ومن يعدل بعدي إذا لم اعدل؟ فقال عمر : دعني يا رسول الله حتى أضرب عنق هذا المنافق؟ فقال رسول الله : إنّ هذا في
    1 ـ هي عصية تلوى فوق مدخل النصل.
    2 ـ هو القدح في عود السهم.
    3 ـ جمع القُذّة وهي ريش السهم.
    4 ـ تضطرب وتتحرك.
    5 ـ البخاري : الصحيح 8/70 رقم الحديث 186 من باب ما جاء في قول الرجل ويلك.
    6 ـ مسلم : الصحيح 3/112 طبعة محمّد على صبيح.


(245)
أصحاب أو اصيحاب له يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة (1) .
    والرسول وإن لم يسمّ الرجل أو لم يجيء اسمه في الرواية ، ولكن علم المقصود منه بفضل الروايتين السابقتين.
    3 ـ روى أحمد بن حنبل في مسنده بالنصّ الذي رواه البخاري ومسلم بتفاوت طفيف في آخره ، حيث جاء فيه : رجل أسود في إحدى يديه أو قال إحدى ثدييه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر ، يخرجون على حين فترة من الناس فنزلت فيهم : ( وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ... ) ثم نقل ما ذكره أبوسعيد من سماعه عن رسول الله و مشاهدته في عصر عليّ (2) .
    كيف يفسّر حديث ذي الخويصرة بأصحاب الردّة ، فقد أشار النبيّ الأكرم إليه ، وقال : « سيخرج من ضئضىء هذا الرجل قوم يمرقون من الدين ... » ولم يكن هو من أصحاب الردّة ، بل كان من المحكّمة الاُولى. كيف يفسرّ هذا المفهوم بالثورات التي وقعت إلى انتهاء خلافة الإمام عليّ ( عليه السَّلام ) مع أنّ النبي الأكرم قال : أنت يا علي قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، ولم يقاتل الإمام بعد أصحاب الجمل (الناكثين) وأصحاب معاوية (القاسطين) إلاّ المحكّمة الاُولى.
    أظنّ انّ هذه الاستدلالات الواهية أشبه بتمسّك الغريق بالطحلب ، فالأولى على علماء الاباضية المفكّرين ، والعائشين في عصر ظهرت البواطن ، وطلعت الحقائق ، وانقشع غمام الجهل عن سماء المعرفة ، أن يعرضوا عقائدهم على الكتاب والسنّة ، وعلى المقاييس الصحيحة من الاجماع و
    1 ـ أبو عبدالله بن ماجة (207 ـ 275 هـ) : السنن 1/171 الباب 12 ، باب في ذكر الخوارج.
    2 ـ أحمد بن حنبل : المسند 3/56. وسيوافيك مجموع ما رواه اهل السنّة عن النبي والصحابة والتابعين في آخر الكتاب فانتظر.


(246)
العقل ، فلربّما عادوا إلى الطريق المهيع ، وتنكّبوا عن سبيل الغواية ، فلهم أن يعملوا بما وصل إليهم من الكتاب والسنّة في ضوء الاجتهاد الصحيح ، ويجدّدوا النظر في مسألة التحكيم كما لهم أن يجدّدوا النظر في حق المحكّمة ، وربّما اختاروا طريقاً واضحاً لاتعصّب فيه ولا تساهل.
( وَ لَوْ أنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ واَشدٌّ تثبيتاً )


(247)
الفصل العاشر
عقائد الاباضية واُصولهم الثمانية


(248)

(249)
    إنّ الاباضية تشترك مع سائر فرق الخوارج في أمرين بلاشك ولاشبهة ، ولا يمكن لأحد منهم انكاره.
    1 ـ تخطئة التحكيم.
    2 ـ عدم اشتراط القرشية في الإمام.
    وفي ظل الأصل الأوّل يوالون المحكِّمة الاُولى كعبدالله بن وهب الراسبي وحرقوص بن زهير السعدي وغيرهما ، ولأجل الأصل الثاني ، اعترفوا بإمامة عبدالله بن وهب الراسبي ومن جاء بعده من المحكِّمة.
    ثمّ إنّ لهم اُصولا خاصّة يتميّزون بها عن أهل السنّة (الأشاعرة) وإن كانوا يلتقون فيها مع غيرهم ، فتجب علينا دراسة تلك الاُصول التي يعتقدون بها ، وربّما يكون بعضها أصلا لامعاً ورصيناً يدعمه الكتاب والعقل.

1 ـ صفات الله ليست زائدة على ذاته :
    إذا كانت الأشاعرة قائلة بأنّ صفات الله تعالى غير ذاته ، وكان المنسوب إلى الماتريدية من أهل السنّة انّ الصفات ليست شيئاً غير الذات ، فهي ليست


(250)
صفات قائمة بذاتها ولا منفكّة عن الذات فليس لها كينونة مستقلّة عن الذات ، فهذا هو ما يقوله الاباضية في الصفات أيضاً ، وربّما يلتقي الاباضية والماتريدية في هذه المسألة حتى في التعبير واختيار الكلمات (1) .
    إنّ البحث عن الصفات من أهم المسائل الكلامية ، فقد طال النقاش فيها قروناً ، وأوّل من أصحر بالحقيقة ، وصوّر التوحيد بأعلى مظاهره هو الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) فنفى زيادة صفاته على ذاته ، وإنّه عين ذاته ، لا بمعنى نفي صفاته ، تعالى عنه علوّاً كبيراً ، بل بمعنى أنّ الذات بلغت من الكمال والعلو مرتبة صارت نفس العلم ، والقدرة ، والحياة ، وليس هناك صفات قديمة وراء الذات حتى يناقض التوحيد ويكون هناك قدماء كثيرة وراء الذات ، وكون العلم والقدرة والحياة فينا اُموراً قائمة بالمادة أو بالموضوع ، لايكون دليلا على كونها كذلك في جميع المراتب ، إذكما أنّ من العلم ممكناً ، فكذا منه واجباً ، فلولم يكن الممكن قائماً بالذات ، فلايكون دليلا على كونه كذلك عند ما كان واجباً ، والحكم بالتوحيد وانّه لاواجب سواه ، يجرّنا إلى القول بعينية صفاته مع ذاته ، وقد أوضحنا الحال فيها في الجزء الثالث من هذه الموسوعة عند البحث عن عقائد المعتزلة ، ولايبعد أن يتأثّر الخوارج في هذه المسألة بالمعتزلة كما أنّ المعتزلة اخذت هذا الأصل من خطب الإمام أميرالمؤمنين وكلماته ، بل لايبعد أن يكون الجميع قد أخذوا من الإمام أميرالمؤمنين ( عليه السَّلام ).
    والعجب انّ هذه النقطة من النقاط الوضّاءة في عقائد الاباضية ، مع أنّهم لايركّزون على ذلك الأصل خوفاً من مخالفة الأشاعرة ، وطفقوا يبحثون بين الكتب الإسلامية حتى يجدوا موافقاً لهم من أهل السنّة حتى استبان لهم أنّ الماتريدية من أهل السنّة يوافقونهم.
    1 ـ علي يحيى معمر : الاباضية بين الفرق الإسلامية 1/295.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: فهرس