بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: 391 ـ 400
(391)
2 ـ حكم مرتكب الكبيرة من الجهات الثلاث
    إنّ أوّل مسألة ـ بعد الإمامة ـ أثارت ضجّة كبرى بين المسلمين وفرّقتهم إلى فرقتين بل إلى فرق : مسألة حكم مرتكب الكبيرة ، فقد وقع البحث فيها في جهات ثلاث :
    الجهة الاُولى : هل مرتكب الكبيرة مؤمن أو مشرك؟
    الجهة الثانية : هل مرتكب الكبيرة مؤمن أو كافر؟
    الجهة الثالثة : هل مرتكب الكبيرة محكوم بالخلود في النار أو لا؟
    و أساس المسألة هو أنّ العمل هل هو جزء من الإيمان أو لا؟ : فعلى الأوّل فإذا أخلَّ بحكم من أحكام الإسلام كما إذا ارتكب الحرام أو ترك الواجب لا جاحداً لحرمته أو وجوبه ، بل لغلبة هواه على عقله ، يخرج عن دائرة الإيمان ، و على الثاني يبقى مؤمناً و يوصف بالفسق و الخروج عن الطاعة ، ولأجل ايضاح المقام نشير إلى الآراء المختلفة في هذا الباب :
    ذهبت الأزارقة إلى أنّ مرتكب المعاصي مشرك فضلاً عن كونه كافراً من


(392)
غير فرق بين الكبيرة والصغيرة ، وذهبت النجدية إلى أنّ مرتكب الكبيرة مشرك ، وأمّا الصغائر فلا ، فهاتان الطائفتان من متطرّفة الخوارج ، تتّفقان في كون ارتكاب الكبائر موجباً للشرك و الكفر ، ويختلفان في الصغائر ، فتراها الأزارقة مثل الكبائر دون النجدية.
    و ذهبت الاباضية إلى كون الارتكاب كفراً لاشركاً ، و الكفر عندهم أعم ، من كفر الجحود و كفر النعم ، فمرتكبها من المؤمنين كافر كفر النعمة لاكفر الجحود.
    و ذهبت المعتزلة إلى أنّ مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر فضلاً عن كونه مشركاً. نعم اتّفقت المعتزلة و الخوارج على كونه مخلَّداً في النار إذا مات غير تائب ، وذهبت الإمامية والأشاعرة و أهل الحديث إلى كون مرتكب الكبيرة مؤمناً فاسقاً غير مخلّد في النار.
    هذه هي الأقوال و الاّراء البارزة في المقام ، ولنركّز البحث في الجهات الثلاثة ونجعل الجميع مسألة واحدة ، فإنّ كلّ واحدة ، وجه لعملة واحدة ، وإن كان للعملة الرائجة وجهان :

الجهة الاُولى ـ هل مرتكب المعاصي مشرك ؟
    قد عرفت أنّ الأزارقة ذهبت إلى أنّ المعاصي كلّها شرك و مرتكبها مشرك (1) ولأجل تحليل هذا القول نذكر ما هو حدّ الشرك و محقّقه ، فنقول : لو افترضنا أنّ مرتكب الكبيرة كافر ، لا يصحّ لنا توصيفه بالشرك ، فإنّ للشرك معنىً محدّداً لا ينطبق على مرتكب الكبيرة إلاّ في ظروف خاصّة و هي خارجة عن موضوع البحث ، وتوضيح ذلك بوجهين :
    1 ـ صالح أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : 252.

(393)
    1 ـ إنّه سبحانه قسّم الكافر إلى مشرك و غيره و قال : ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتابِ وَ المُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الَبَيِّنَةُ ) (1) وقال سبحانه : ( لَتَجِدَنَّ اَشَدَّ النّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُو اليَهُودَ وَالَّذِينَ اَشْرَكُوا ) (2) كلّ ذلك يدلّ على أنّ للمشرك معنىً محدداً لاينطبق على الكافرين من أهل الكتاب فضلاً على المسلم المعتقد بكل ما جاء به الرسول ، إذا ارتكب كبيرة لا لاستهانة بالدين بل لغلبة الهوى على العقل ، فكيف يمكن أن نعدّ كلّ كافر مشركاً ، فضلاً أن نعدّ المسلم المرتكب للكبيرة مشركاً؟
    ثمّ لو افترضنا صحّة كون أهل الكتاب مشركين في الحقيقة و في الواقع ، كما هو غير بعيد لقوله سبحانه : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالّوا إِنَّ اللهَ ثاِلثُ ثَلاثَة وَ ما مِنْ إِله إِلاّ إِلهٌ واحِدٌ ) (3) ولكنّه اصطلاح ثانوي لايكون منافياً لما جرى عليه القرآن من عدّ أهل الكتاب في مقابل المشركين.
    و يظهر ذلك من الروايات الواردة حول الرياء فإنّ المرائي ، قد وصف بالشرك ، ولكنّه شرك خفي لاصلة له بالشرك المصطلح في القرآن الكريم.
    روى علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبي جعفر الباقر قال : سئل رسول الله عن تفسير قوله الله عزّوجل : ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ اَحَدَاً ) (4) فقال من صلّى مراءاة الناس فهو مشرك ـ إلى أن قال ـ ومن عمل عملاً ممّا أمر الله به مراءاة الناس ، فهو مشرك ، ولا يقبل الله عمل مراء (5) .
    1 ـ البينة : 1.
    2 ـ المائدة : 82.
    3 ـ المائدة : 73.
    4 ـ الكهف : 110.
    5 ـ الحر العاملي : وسائل الشيعة 1 ، الباب الحادي عشر من أبواب مقدمات العبادات 13 ـ 50.


(394)
    ولكن ذلك مصطلح آخر ، أو استعارة له للمورد لتأكيد الأمر لما عرفت من أنّ المشرك في القرآن الكريم يطلق على غير المعتنقين لاحدى الشرائع السماوية ، من غير فرق بين اليهود والنصارى و غيرهم.
    2 ـ إنّ الشرك عبارة عن تصوّر ندٍّ وثان لله سبحانه في ذاته أو صفاته أو أفعاله ، قال سبحانه : ( فَلا تَجْعَلُوا لله اَنْدَاداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (1) وقال سبحانه : ( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله ) (2) وقال تعالى : ( وَ جَعَلُوا لله أنْدَاداً لِيُضلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ) (3) إلى غير ذلك من الآيات الّتي تشرح لنا حقيقة الشرك و خصوصياته (4) .
    ولأجل تصوّر الندِّ و المثل لله سبحانه في الذات أو الصفات أو الأفعال ، كانوا يعبدون الأصنام بحكم انّها أنداد لله تبارك و تعالى ، فكانوا يساوونها بالله تعالى في العقيدة و العبادة ، قال تعالى : ( تَالله إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالِ مُبِين * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العَالَمِينَ ) (5) .
    فعلى ضوء ذلك فلا يصحّ لنا توصيف إنسان بالشرك و عدّه من المشركين إلاّ إذا اعتقد بندٍّ لله تبارك و تعالى و لو في مرحلة من المراحل ، ولأجل هذه العقيدة كان المشركون يفرّون من كلمة ( لا إله إلاّ الله ) لكونها على جانب النقيض من عقيدتهم ، قال سبحانه : ( إنَّهُمْ كَانوا اِذا قيلَ لَهُمْ لاَ إِلهَ إلاَّ الله يَسْتَكْبْرُونَ * وَ يَقُولُونَ أئِنَا لَتارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِر مَجْنُون ) (6) .
    1 ـ البقرة : 22.
    2 ـ البقرة : 165.
    3 ـ إبراهيم : 30.
    4 ـ لاحظ : سورة سبأ / 33 ، الزمر / 8 ، فصلّت / 9.
    5 ـ الشعراء : 97 ـ 98.
    6 ـ الصافّات 35 ـ 36.


(395)
    وقال تعالى : ( وَ اِذَا ذُكِر الله وَحْدَهْ اشْمَأزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤمِنُونَ بالآخِرَةِ وَ اِذَا ذُكِرَ الَّذينَ مِنَ دُوِنِهِ اِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) (1) وقال تعالى : ( ذلِكُمْ بِأنَّهُ اِذَا دُعِىَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤمِنوا فَالحُكْمُ للهِ العَلِىِّ الكَبِير ) (2) .
    فهذه الآيات تحدّد حقيقة الشرك و تُعرِّف المشرك بمضامينها ، فهل يمكن توصيف المسلم المؤمن الموحّد ، بالشرك مع أنّه لم يتّخذ أي ندٍّ و مثل في مجال الذات و الصفات و الأفعال ، ولم يعبد غيره ، وإنّما وحّده في الذات ، والصفات ، والأفعال ، و في مقام القيام بوظائف العبوديّة لم يعبد إلاّ الله سبحانه. نعم غلبت عليه ـ أحياناً ـ شقوته ، وسيطرت عليه نفسه الأمّارة فركب الحرام مع وجل و خوف.
    وبذلك ظهر أنّ الكفر أعم من الشرك ، فمن لم يتّخذ ندّاً و مثلاً لله سبحانه ، و لكنّه كفر برسله و كتبه و ما نزّل الله سبحانه ، فهو كافر لامشرك ، و أوضح منه من آمن بالله ولم يكفر بشيء ممّا أنزله و أرسله غير أنّه صار مقهوراً فارتكب شيئاً حرّمه الله أو ترك فريضة أوجبها الله سبحانه.
    فاتضح بذلك بطلان قول الأزارقة من أنّ المعاصي كلّها شرك كبطلان قول النجدية بأنّ الكبائر كلّها شرك وأمّا الصغائر فلا ، إذ لاينطبق معيار الشرك على مجرّد ارتكاب المعصية ، صغيرة كانت أو كبيرة.

أدلّة الأزارقة على أنّ المعاصي شرك :
    استدلّت الأزارقة على أنّ المعاصي كلّها شرك بآيات و المهم فيها آيتان وإليك البيان :
    1 ـ الزمر : 45.
    2 ـ غافر : 12.


(396)
    1 ـ ( وَ مَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ظَلّ ضَلالاًبَعِيداً ) (1) .
    يلاحظ عليه : أنّ ظاهر الاّية انّ المشرك ممّن « ضلّ ضلالاً بعيداً » ، فلو فرضنا أنّ مرتكب الكبيرة من مصاديق تلك الضبابطة فلا تدلّ الآية على أنّه مشرك لأنّ ظاهر الآية أنّ المشرك من مصاديق « فَقَدْ ضل ضَلالاً بعيداً » لا أنّ « كلّ من ضلّ ضلالاً بعيداً فهو مشرك » إذ من المحتمل أن تكون الضابطة أعم من الشرك ، فمثل الآية مثل قولنا : « كل جوز مدوّر لا أنَّ كل مدوّر جوز ».
    أضف إلى ذلك : انّ مرتكب الكبيرة إذا كان موحّداً مؤمناً بما أنزل الله تعالى ، ليس من جزئيات قوله : « ضلّ ضلالاً بعيداً » لأنّ القرآن إنّما يستعمله في المشرك والكافر الجاحد ، لا المؤمن المعتقد الّذي غلبه هواه ، و يعلم ذلك بالتتبع في موارد وروده في الذكر الحكيم.
    قال سبحانه ( وَ وَيْلٌ للْكافِرِينَ مِنْ عَذَاب شَديد * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الحَيَاةَ الدُّنْيا عَلَى الاّخِرَةِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجَاً اُولئكَ فِي ضَلال بَعِيد ) (2) .
    وقال سبحانه : ( مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمَاد اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْم عَاصِف لاَيَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْء ذَلكَ هُوَ الضَّلاَلُ البَعِيدُ ) (3) .
    وقال تعالى : ( يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَالا يَضُرُّهُ وَ مَالاَ يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ البَعِيدُ ) (4)
    وقال تعالى : ( بَلِ الَّذينَ لايُؤْمِنُونَ بالآخِرِة فِي العَذَابِ و الضَّلال البَعِيدِ ) (5) .
    1 ـ النساء : 116.
    2 ـ إبراهيم : 2 ـ 3.
    3 ـ إبراهيم : 18.
    4 ـ الحج : 12.
    5 ـ سبأ : 8.


(397)
    و قال تعالى : ( إنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلال بَعِيد ) (1) .
    و قال ( الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إلهاً آخر ... وَلكِن كَانَ فِي ضَلال بَعيِد ) (2) .
    فظهر من ذلك أنّ الضلال البعيد مفهوم ينطبق على الجاحد مشركاً كان أم كافراً غير مشرك ، ولا ينطبق على المؤمن بكل ما أنزل الله غير أنَّه غلب عليه هواه فركب الكبيرة.
    2 ـ قال سبحانه : ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَ إنَّهُ لَفِسْقٌ وَ إنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَ إنْ أَطَعْتُمُوهَمْ إنَّكُمْ لمُشْرِكُونَ ) (3) .
    قالوا : إنّ معنى الآية انّكم إن أطعتموهم بأكل الميتة فأنتم أيضاً مشركون.
    يلاحظ عليه : أنّ المراد هو الإطاعة في استحلال الميتة لا في أكلها ، ولا شك انّ المستحلّ لما حرّم الله مشرك و ذلك لما قرّرنا في محلّه انّ التقنين والتشريع من فعله سبحانه و ليس في عالم التشريع مشرّع سواه ، فالمستحلُّ للميتة يصوّر ندّاً لله سبحانه ، لا في الذات و الصفات بل في الأفعال و يشرك الغير معه في اعطاء فعله لغيره.
    ويوضحه قوله سبحانه : ( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أرْباباً مِن دُون اللهِ وَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ) (4) فقد ورد في تفسيره انّهم ما صلّوا ولا صاموا للأحبار والرهبان ، بل أطاعوهم في تحليلهم الحرام وتحريمهم الحلال (5) .
    1 ـ الشورى : 18.
    2 ـ ق : 26 ـ 27.
    3 ـ الأنعام : 121.
    4 ـ التوبة : 31.
    5 ـ الطبرسي : مجمع البيان 3 / 23.


(398)
الجهة الثانية ـ هل مرتكب المعاصي مؤمن أو كافر؟ :
    قد عرفت أنّ الأزارقة و النجدية قالوا إنّ المعاصي شرك ، و خالفهم الاباضية ، فوصفوها بالكفر ، و مرتكبها بالكافر ، و يقع الكلام في الجهة الثانية في هذا الجانب ، و قبل الخوض في تحليل دلائلهم نذكر ما هو حقيقة الإيمان و الكفر ، فنقول :
    إنّ حقيقة الإيمان هو التصديق القلبي ، والقلب هو مرتكز لوائه ، و أمّا العمل فهو من مظاهره لامن مقوّماته و يظهر ذلك من غير واحد من الآيات. قال سبحانه : ( أُولِئِك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمانَ ) (1) ، و قال سبحانه : ( وَلمّا يَدْخُلِ الإيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (2) ، و قال تعالى : ( وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمانِ ) (3) .
    وتؤكّد آيات الطبع و الختم على أنّ محلّ الإيمان هو القلب ، قال سبحانه : ( اُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أبْصَارِهِمْ وَ أُلئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ ) (4) ، وقال سبحانه ( وَ خَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلَى بَصَرِهَ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ أفَلاَ تَذَكَّرُونَ ) (5) والختم على السمع و البصر لكونهما من أدوات المعرفة الّتي يستخدمها القلب.
    نعم كون القلب مركزاً للإيمان و خروج العمل عن كونه عنصراً مقوّماً للإيمان ، لايعني أنّ التصديق القلبي يكفي في نجاة الإنسان في الحياة الأُخروية بل يعني أنّه يكفي في خروج الإنسان عن زمرة الكافرين ـ الذين لهم خصائص
    1 ـ المجادلة : 22.
    2 ـ الحجرات : 14.
    3 ـ النحل : 106.
    4 ـ النحل : 108.
    5 ـ الجاثية : 23.


(399)
وأحكام ـ التصديق القلبي ، فيحرم دمه وماله و تحلّ ذبيحته و تصحّ مناكحته إلى غير ذلك من الأحكام الّتي تترتّب على التصديق القلبي إذا أظهره بلسانه أو وقف عليه الغير بطريق من الطرق ، و أمّا كون ذلك موجباً للنجاة يوم الحساب فلا ، فإنّ للنجاة في الحياة الاُخروية شرائط اُخرى تكفّل ببيانها الذكر الحكيم و السنّة الكريمة.
    وبذلك يفترق عن قول المرجئة الذين اكتفوا بالتصديق القلبي أو اللساني واستغنوا عن العمل ، وبعبارة اُخرى قدَّموا الإيمان و أخَّروا العمل ، فهذه الطائفة من أكثر الطوائف خطراً على الإسلام و أهله ، لأنّهم بإذاعة هذا التفكير بين الشباب ، يدعونهم إلى الإباحية و التجرّد عن الأخلاق و المثل الاسلامية ، ويعتقدون أنّ الوعيد خاص بالكفّار دون المؤمنين ، فالجحيم و نارها و لهيبها لهم دون المسلمين ، ومعنى هذا أنّه يكفي في النجاة الإيمان المجرّد عن العمل ، وأيّ خطر أعظم من ذلك؟
    و على ضوء ذلك يظهر المراد ممّا رواه البخاري عن عبد الله بن عمر ، قال : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : بُني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله ، و اقامة الصلاة و ايتاء الزكاة والحج و صوم رمضان (1) فإنّ المراد من الإسلام ، ليس هو الإسلام المقابل للإيمان في قوله سبحانه : ( قَألتِ الأعرابُ آمَنَّا قُل لَمْ تَؤْمِنوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَ لَمَّا يَدْخُل الإيمانّ فِي قُلُوبِكُمْ ) (2) ولا الإسلام و الإيمان بأقل درجاتهما الّذي له أحكام خاصّة ، بل الإيمان المنجي لصاحبه من العذاب الأليم. وهذا لايضر بما قلنا من أنّ مقوّم الإيمان ، هو العقيدة القلبية. وإليه ينظر ما روي عن الإمام الصادق من
    1 ـ البخاري : الصحيح 1 / 14 كتاب الإيمان.
    2 ـ الحجرات : 14.


(400)
أنّ الإسلام يحقن به الدم و تؤدّى به الأمانة ، و يستحلّ به الفرج ، والثواب على الإيمان (1) .
    و بالجملة انّ كون التصديق القلبي مقياساً للإيمان غير القول بأنَ التصديق القولي أو القلبي المجرّدين عن العمل كاف للنجاة ، ولأجل ذلك تركّز الآيات على العمل بعد الإيمان و تقول : ( إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ اُولئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ ) (2) وقال تعالى : ( وَ مَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَ هُوَ مُؤمِنٌ ) (3) و قال تعالى : ( يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (4) فلو كان العمل عنصراً مقوّماً لحقيقة الإيمان فما معنى الامر بالتقوى بعد فرض الإيمان لأنّه يكون أشبه بطلب الأمر الموجود و تحصيل الحاصل.

أدلّة الخوارج على أنّ ارتكاب المعاصي كفر :
    هناك آيات تتمسّك بها الخوارج على أنّ العمل عنصر مقوّم لحقيقة الإيمان حّتى المرتبة الضعيفة ، نشير إلى بعضها :
    1 ـ ( وَ لِلّهِ عَلَى النَّاسِ حجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ ) (5) فسمّى سبحانه تارك الحج كافراً.
    يلاحظ عليه : أنّ المراد كفر النعمة ، حيث إنّ ترك فريضة الحج مع الاستطاعة كفران لنعمته سبحانه وقد استعمل الكفر في مقابل شكر النعم إذ قال
    1 ـ البرقي : المحاسن 1 / 285.
    2 ـ البيّنة : 7.
    3 ـ طه : 112.
    4 ـ التوبة : 119.
    5 ـ آل عمران : 97.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: فهرس