بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: 351 ـ 360
(351)
الكتاب والسنّة ـ سوف يُعرّض نفسه ونفيسه للمهالك والمخاطر. وقد مر عليك كلام الرازي وجمال الدين القاسمي والمراغي الصريح في جواز هذا النوع من التقية ، فتخصيص التقية بالتقية من الكافر فحسب جمود على ظاهر الآية وسد لباب الفهم ، ورفض للملاك الذي شُرعت لأجله التقية ، واعدام لحكم العقل القاضي بحفظ الأهم إذا عارض المهم.
    والتاريخ بين أيدينا يحدثنا بوضوح عن لجوء جملة معروفة من كبار المسلمين إلى التقية في ظروف عصيبة أوشكت أن تؤدي بحياتهم وبما يملكون ، وخير مثال على ذلك ما أورده الطبري في تاريخه ( 7 / 195 ـ 206 ) عن محاولة المأمون دفع وجوه القضاة والمحدّثين في زمانه إلى الإقرار بخلق القرآن قسراً حتّى وإن استلزم ذلك قتل الجميع دون رحمة ، ولما أبصر أُولئك المحدثين حد السيف مشهراً عمدوا إلى مصانعة المأمون في دعواه وأسروا معتقدهم في صدورهم ، ولمّا عُوتبوا على ما ذهبوا إليه من موافقة المأمون برروا عملهم بعمل عمّار بن ياسر حين أُكره على الشرك وقلبه مطمئن بالإيمان ، والقصّة شهيرة وصريحة في جواز اللجوء إلى التقية التي دأب البعض على التشنيع فيها على الشيعة وكأنّهم هم الذين ابتدعوها من بنات أفكارهم دون أن تكون لها قواعد وأُصول إسلامية ثابتة ومعلومة.

    الظروف العصبية التي مرت بها الشيعة :
    الذي دفع بالشيعة إلى التقية بين اخوانهم وأبناء دينهم إنّما هو الخوف من السلطات الغاشمة فلو لم يكن هناك في غابر القرون ـ من عصر الأمويين ثمّ العباسيين والعثمانيين ـ أي ضغط على الشيعة ، ولم تكن بلادهم وعقر دارهم مخضّبة بدمائهم والتاريخ خير شاهد على ذلك ، كان من المعقول أن تنسى الشيعة كلمة التقية وأن تحذفها من ديوان حياتها ، ولكن ياللأسف إنّ كثيراً من اخوانهم كانوا أداة


(352)
طيّعة بيد الأمويين والعباسيين الذين كانوا يرون في مذهب الشيعة خطراً على مناصبهم ، فكانوا يؤلِّبون العامة من أهل السنّة على الشيعة يقتلونهم ويضطهدونهم وينكلون بهم ، ولذا ونتيجة لتلك الظروف الصعبة لم يكن للشيعة ، بل لكل من يملك شيئاً من العقل وسيلة إلاّ اللجوء إلى التقية أو رفع اليد عن المبادئ المقدسة التي هي أغلى عنده من نفسه وماله.
    والشواهد على ذلك أكثر من أن تُحصى أو أن تعد ، إلاّ أنّا سنستعرض جانباً مختصراً منها : فمن ذلك ما كتبه معاوية بن أبي سفيان باستباحة دماء الشيعة أينما كانوا كيفما كانوا ، وإليك نص ما ذكرته المصادر عن هذه الواقعة لتدرك محنة الشيعة :

    بيان معاوية إلى عماله :
    روى أبو الحسن علي بن محمّد بن أبي سيف المدائني في كتاب « الأحداث » قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته ، فقامت الخطباء في كل كورة ، وعلى كل منبر ، يلعنون علياً ويبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة ، لكثرة من بها من شيعة علي ( عليه السلام ) فاستعمل عليها زياد بن سمية ، وضم إليه البصرة ، فكان يتبع الشيعة وهو بهم عارف ، لأنّه كان منهم أيام علي ( عليه السلام ) ، فقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشرَّدهم عن العراق ، فلم يبق بها معروف منهم ، وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق : ألاّ يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة.
    ثمّ كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البيّنة


(353)
أنّه يحبّ علياً وأهل بيته ، فامحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه ، وشفع ذلك بنسخة أُخرى : من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم ، فنكّلوا به ، واهدموا داره. فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق ، ولا سيّما بالكوفة حتّى أنّ الرجل من شيعة علي ( عليه السلام ) ليأتيه من يثق به ، فيدخل بيته ، فيُلقي إليه سره ، ويخاف من خادمه ومملوكه ، ويحدّثه حتّى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ، ليكتمن عليه.
    وأضاف ابن أبي الحديد : فلم يزل الأمر كذلك حتّى مات الحسن بن علي ( عليهما السلام ) فازداد البلاء والفتنة ، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلاّ وهو خائف على دمه ، أو طريد في الأرض.
    ثمّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسين ( عليه السلام ) ، وولي عبدالملك بن مروان ، فاشتد على الشيعة ، وولى عليهم الحجاج بن يوسف ، فتقرَّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه ، وموالاة من يدعي من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه ، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم ، وأكثروا من البغض من علي ( عليه السلام ) وعيبه ، والطعن فيه ، والشنآن له ، حتّى إنّ إنساناً وقف للحجاج ـ ويقال إنّه جد الأصمعي عبدالملك بن قريب ـ فصاح به : أيّها الأمير ، إنّ أهلي عقّوني فسموني علياً ، وإنّي فقير وبائس ، وأنا إلى صلة الأمير محتاج ، فتضاحك له الحجاج ، وقال : للطف ما توسلتَ به ، قد وليتك موضع كذا (1).
    ونتيجة لذلك شهدت أوساط الشيعة مجازر بشعة على يد السلطات الغاشمة ، فقتل الآلاف منهم ، وأمّا من بقي منهم على قيد الحياة فقد تعرض إلى شتى صنوف التنكيل والارهاب والتخويف ، والحق يقال إنّ من الأُمور العجيبة أن يبقي لهذه الطائفة باقية رغم كل ذلك الظلم الكبير والقتل الذريع ، بل العجب العجاب أن
1 ـ شرح نهج البلاغة 11 / 44 ـ 46.

(354)
تجد هذه الطائفة قد ازدادت قوة وعدة ، وأقامت دولاً وشيدت حضارات وبرز منها الكثير من العلماء والمفكرين.
    فلو كان الأخ السنّي يرى التقية أمراً محرّماً فليعمل على رفع الضغط عن أخيه الشيعي ، وأن لا يضيق عليه في الحرية التي سمح بها الإسلام لأبنائه ، وليعذره في عقيدته وعمله كما هو عذر أُناساً كثيراً خالفوا الكتاب والسنّة وأراقوا الدماء ونهبوا الدور فكيف بطائفة تدين بدينه وتتفق معه في كثير من معتقداته ، وإذا كان معاوية وأبناء بيته والعباسيون كلّهم عنده مجتهدين في بطشهم وإراقة دماء مخالفيهم فماذا يمنعه عن إعذار الشيعة باعتبارهم مجتهدين.
    وإذا كانوا يقولون ـ وذاك هو العجيب ـ أنّ الخروج على الإمام علي ( عليه السلام ) غير مضر بعدالة الخارجين والثائرين عليه ، وفي مقدمتهم طلحة والزبير وأُمّ المؤمنين عائشة ، وإنّ إثارة الفتن في صفّين ـ التي انتهت إلى قتل كثير من الصحابة والتابعين وإراقة دماء الآلاف من العراقيين والشاميين ـ لا تنقص شيئاً من ورع المحاربين وهم بعد ذلك مجتهدون معذورون لهم ثواب من اجتهد وأخطأ فلم لا يتعامل مع الشيعة ضمن هذا الفهم ويذهب إلى أنّهم معذورين ومثابين!!
    نعم كانت التقية بين الشيعة تزداد تارة وتتضائل أُخرى ، حسب قوّة الضغط وضآلته ، فشتان بين عصر المأمون الذي يجيز مادحي أهل البيت ، ويكرم العلويين ، وبين عصر المتوكل الذي يقطع لسان ذاكرهم بفضيلة.
    فهذا ابن السكيت أحد أعلام الأدب في زمن المتوكل ، وقد اختاره معلماً لوالديه فسأله يوماً : أيّهما أحبُّ إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين ؟ قال ابن السكيت : واللّه إنّ قنبر خادم علي ( عليه السلام ) خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكل : سلّوا لسانه من قفاه ، ففعلوا ذلك به فمات. وذلك في ليلة الاثنين لخمس خلون من رجب سنة أربع


(355)
وأربعين ومائتين ، وقيل ثلاث وأربعين ، وكان عمره ثمانية وخمسين سنة. ولما مات سيَّر المتوكل لولده يوسف عشرة آلاف درهم وقال : هذه دية والدك!! (1).
    وهذا ابن الرومي الشاعر العبقري يقول في قصيدته التي يرثي بها يحيى بن عمر ابن الحسين بن زيد بن علي :
اكلّ أوان للنبيّ محمّد بني المصطفى كم يأكل الناس شلوكم أبعد المكنّى بالحسين شهيدكم قتيل زكيّ بالدماء مضرّج لبلواكم عمّا قليل مفرّجُ تضيء مصابيح السماء فتسرّجُ (2)
    فإذا كان هذا هو حال أبناء الرسول ، فما هو حال شيعتهم ومقتفي آثارهم ؟!
    قال العلاّمة الشهرستاني : إنّ التقية شعار كلّ ضعيف مسلوب الحرية. إنّ الشيعة قد اشتهرت بالتقية أكثر من غيرها لأنّها منيت باستمرار الضغط عليها أكثر من أية أُمّة أُخرى ، فكانت مسلوبة الحرية في عهد الدولة الأموية كلّه ، وفي عهد العباسيين على طوله ، وفي أكثر أيام الدولة العثمانية ، ولأجله استشعروا بشعار التقية أكثر من أي قوم ، ولما كانت الشيعة ، تختلف عن الطوائف المخالفة لها في قسم مهم من الاعتقادات في أُصول الدين وفي كثير من الأحكام الفقهيّة ، والمخالفة تستجلب بالطبع رقابة وتصدقه التجارب ، لذلك أضحت شيعة الأئمة من آل البيت مضطرة في أكثر الأحيان إلى كتمان ماتختص به من عادة أو عقيدة أو فتوى أو كتاب أو غير ذلك ،
1 ـ ابن خلكان : وفيات الأعيان 3 / 33. الذهبي : سير أعلام النبلاء 12 / 16.
2 ـ ديوان ابن الرومي 2 / 243.


(356)
تبتغي بهذا الكتمان صيانة النفس والنفيس ، والمحافظة على الوداد والاخوة مع سائر اخوانهم المسلمين ، لئلا تنشق عصا الطاعة ، ولكي لا يحس الكفار بوجود اختلاف ما في المجتمع الإسلامي فيوسع الخلاف بين الأُمّة المحمدية.
    لهذه الغايات النزيهة كانت الشيعة تستعمل التقية وتحافظ على وفاقها في الظواهر مع الطوائف الأُخرى ، متبعة في ذلك سيرة الأئمة من آل محمد وأحكامهم الصارمة حول وجوب التقية من قبيل : « التقية ديني ودين آبائي » ، إذ أنّ دين اللّه يمشي على سنّة التقية لمسلوبي الحرية ، دلّت على ذلك آيات من القرآن العظيم (1).
    روي عن صادق آل البيت ( عليهم السلام ) في الأثر الصحيح :
    « التقية ديني ودين آبائي » و : « من لا تقية له لا دين له » وكذلك هي.
    لقد كانت التقية شعاراً لآل البيت ( عليهم السلام ) دفعاً للضرر عنهم ، وعن أتباعهم ، وحقناً لدمائهم ، واستصلاحاً لحال المسلمين ، وجمعاً لكلمتهم ، ولماً لشعثهم ، وما زالت سمة تُعرف بها الإمامية دون غيرها من الطوائف والأُمم. وكل انسان إذا أحسّ بالخطر على نفسه ، أو ماله بسبب نشر معتقده ، أو التظاهر به لا بد أن يتكتم ويتقي مواضع الخطر. وهذا أمر تقتضيه فطرة العقول.
    من المعلوم أنّ الإمامية وأئمتهم لاقوا من ضروب المحن ، وصنوف الضيق على حرياتهم في جميع العهود ما لم تلاقه أية طائفة ، أو أُمّة أُخرى ، فاضطروا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقية في تعاملهم مع المخالفين لهم ، وترك مظاهرتهم ، وستر عقائدهم ، وأعمالهم المختصة بهم عنهم ، لما كان يعقب ذلك من الضرر في الدنيا.
    ولهذا السبب امتازوا بالتقية وعرفوا بها دون سواهم.
    وللتقية أحكام من حيث وجوبها وعدم وجوبها ، بحسب اختلاف مواقع خوف
1 ـ غافر / 28 ، النحل / 106.

(357)
الضرر ، مذكورة في أبوابها في كتب العلماء الفقهيّة (1).

    حدّها :
    قد تعرّفت على مفهوم التقية وغايتها ، ودليلها ، بقي الكلام في تبيين حدودها ، فنقول :
    عرفت الشيعة بالتقية وأنّهم يتقون في أقوالهم وأفعالهم ، فصار ذلك مبدأ لوهم عالق بأذهان بعض السطحيين والمغالطين ، فقالوا : بما أنّ التقية من مبادئ التشيّع فلا يصح الاعتماد على كلّ ما يقولون ويكتبون وينشرون ، إذ من المحتمل جداً أن تكون هذه الكتب دعاياتٍ والواقع عندهم غيرها. هذا ما نسمعه منهم مرّة بعد مرّة ، ويكرره الكاتب الباكستاني « إحسان إلهي ظهير » في كتبه السقيمة التي يتحامل بها على الشيعة.
    ولكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ مجال التقية إنّما هو في حدود القضايا الشخصية الجزئية عند وجود الخوف على النفس والنفيس ، فإذا دلّت القرائن على أنّ في إظهار العقيدة أو تطبيق العمل على مذهب أهل البيت ـ يحتمل أن يدفع بالمؤمن إلى الضرر يصبح هذا المورد من مواردها ، ويحكم العقل والشرع بلزوم الاتقاء حتّى يصون بذلك نفسه ونفيسه عن الخطر. وأمّا الأُمور الكلّية الخارجة عن إطار الخوف فلا تتصور فيها التقية ، والكتب المنتشرة من جانب الشيعة داخلة في هذا النوع الأخير ، إذ لا خوف هناك حتّى يكتب خلاف ما يعتقد ، حيث ليس هناك لزوم للكتابة أصلا في هذه الحال فله أن يسكت ولا يكتب شيئاً.
    فما يدعيه هؤلاء أنّ هذه الكتب دعايات لا واقعيات ناشئ عن عدم معرفتهم بحقيقة التقية عند الشيعة. والحاصل : أنّ الشيعة إنّما كانت تتقي في عصر لم تكن لهم
1 ـ مجلة المرشد 3 / 252 ، 253 ، ولاحظ : تعليقة أوائل المقالات ص 96.

(358)
دولة تحميهم ، ولا قدرة ولا منعة تدفع عنهم الأخطار. وأمّا هذه الأعصار فلا مسوّغ ولا مبرر للتقية إلاّ في موارد خاصة.
    إنّ الشيعة وكما ذكرنا لم تلجأ إلى التقية إلاّ بعد أن اضطرّت إلى ذلك ، وهو حق لا أعتقد أن يخالفها فيه أحد ينظر إلى الأُمور بلبّه لا بعواطفه ، إلاّ أنّ من الثوابت الصحيحة بقاء هذه التقية ـ إلاّ في حدود ضيقة ـ تنحصر في مستوى الفتاوى ، ولم تترجم إلاّ قليلاً على المستوى العملي ، بل كانوا عملياً من أكثر الناس تضحية ، وبوسع كل باحث أن يرجع إلى مواقف رجال الشيعة مع معاوية وغيره من الحكام الأمويين ، والحكام العباسيين ، أمثال حجر بن عدي ، وميثم التمار ، ورشيد الهجري ، وكميل بن زياد ، ومئات من غيرهم ، وكمواقف العلويين على امتداد التاريخ وثوارتهم المتتالية.

    التقية المحرّمة :
    إنّ التقية تنقسم حسب الأحكام الخمسة ، فكما أنّها تجب لحفظ النفوس والأعراض والأموال ، فإنّها تحرم إذا ترتّب عليها مفسدة أعظم ، كهدم الدين وخفاء الحقيقة على الأجيال الآتية ، وتسلّط الأعداء على شؤون المسلمين وحرماتهم ومعابدهم ، ولأجل ذلك ترى أنّ كثيراً من أكابر الشيعة رفضوا التقية في بعض الأحيان وقدّموا أنفسهم وأرواحهم أضاحي من أجل الدين ، فللتقية مواضع معينة ، كما أنّ للقسم المحرم منها مواضع خاصة أيضاً.
    إنّ التقية في جوهرها كتم ما يحذر من إظهاره حتّى يزول الخطر ، فهي أفضل السبل للخلاص من البطش ، ولكن ذلك لا يعني أنّ الشيعي جبان خائر العزيمة ، خائف متردد الخطوات يملأ حناياه الذل ، كلاّ إنّ للتقية حدوداً لا تتعداها ، فكما هي واجبة في حين ، هي حرام في حين آخر ، فالتقية أمام الحاكم الجائر كيزيد بن معاوية


(359)
مثلا محرّمة ، إذ فيها الذل والهوان ونسيان المثل والرجوع إلى الوراء ، فليست التقية في جوازها ومنعها تابعة للقوّة والضعف ، وإنّما تحددها جوازاً ومنعاً مصالح الإسلام والمسلمين.
    إنّ للإمام الخميني ـ قدس سره ـ كلاماً في المقام ننقله بنصه حتّى يقف القارئ على أنّ للتقية أحكاماً خاصة وربّما تحرم لمصالح عالية. قال ـ قدس سره ـ :
    تحرم التقية في بعض المحرمات والواجبات التي تمثل في نظر الشارع والمتشرعة مكانة بالغة ، مثل هدم الكعبة ، والمشاهد المشرفة ، والرد على الإسلام والقرآن والتفسير بما يفسر المذهب ويطابق الالحاد وغيرها من عظائم المحرمات ، ولا تعمها أدلة التقية ولا الاضطررار ولا الاكراه.
    وتدل على ذلك معتبرة مسعدة بن صدقة وفيها : « فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنّه جائز » (1).
    ومن هذا الباب ما إذا كان المتقي ممن له شأن وأهمية في نظر الخلق ، بحيث يكون ارتكابه لبعض المحرمات تقية أو تركه لبعض الواجبات كذلك مما يعد موهناً للمذهب وهاتكاً لحرمته ، كما لو أُكره على شرب المسكر والزنا مثلاً ، فإنّ جواز التقية في مثله ، تمسّكاً بحكومة دليل الرفع (2) وأدلّة التقية مشكل بل ممنوع ، وأولى من ذلك كلّه في عدم جواز التقية وفيه ما لو كان أصل من أُصول الإسلام أو المذهب أو ضروري من ضروريات الدين في معرض الزوال والهدم والتغيير ، كما لو أراد المنحرفون الطغاة تغيير أحكام الارث والطلاق والصلاة والحج وغيرها من أُصول الأحكام فضلاً عن أُصول الدين أو المذهب ، فإنّ التقية في مثلها غير جائزة ، ضرورة أنّ تشريعها
1 ـ الوسائل كتاب الأمر بالمعروف الباب 25 الحديث رقم 6.
2 ـ قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : « رفع عن أُمّتي ما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه ».


(360)
لبقاء المذهب وحفظ الأُصول وجمع شتات المسلمين لإقامة الدين وأُصوله ، فإذا بلغ الأمر إلى هدمها فلا تجوز التقية ، وهو مع وضوحه يظهر من الموثقة المتقدمة (1).
    وهكذا فقد بيّنا للجميع الأبعاد الحقيقة والواقعية للتقية ، وخرجنا بالنتائج التالية :
    1 ـ إنّ التقية أصل قرآني مدعم بالسنّة النبوية ، وقد استعملها في عصر الرسالة من ابتلي بها من الصحابة لصيانة نفسه فلم يعارضه الرسول بل أيده بالنص القرآني كما في قضية عمّار بن ياسر ، حيث أمره ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) بالعودة إذا عادوا.
    2 ـ إنّ التقية بمعنى تشكيل جماعات سرية لغاية التخريب والهدم ، مرفوضة عند المسلمين عامة والشيعة خاصة ، وهو لا يمت للتقية المتبناة من قبل الشيعة بصلة.
    3 ـ إنّ المفسرين في كتبهم التفسيرية عندما تعرضوا لتفسير الآيات الواردة في التقية اتفقوا على ما ذهبت إليه الشيعة من إباحتها للتقية.
    4 ـ إنّ التقية لا تختص بالاتقاء من الكافر ، بل تعم الاتقاء من المسلم المخالف ، الذي يريد السوء والبطش بأخيه.
    5 ـ إنّ التقية تنقسم حسب انقسام الأحكام إلى أقسام خمسة ، فبينما هي واجبة في موضع فهي محرمة في موضع آخر.
    6 ـ إنّ مجال التقية لا يتجاوز القضايا الشخصية ، وهي فيما إذا كان الخوف قائماً ، وأمّا إذا ارتفع الخوف والضغط ، فلا موضوع للتقية لغاية الصيانة.
1 ـ الإمام الخميني : الرسائل : 171 ـ 178.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء السادس ::: فهرس