بحوث في الملل والنحل ـ جلد السابع ::: 1 ـ 10
بحوث
في الملل والنحل
دراسة موضوعية مقارنة للمذاهب الاِسلامية
الجزء السابع
يتناول شخصية وحياة الاِمام الثائر زيد بن علي
وتاريخ الزيدية وعقائدهم
تأليف
جعفر السبحاني
دام ظله

(3)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه ربّ العالمين ، والصّلاة والسلام على نبيّه وصفيّه محمّد وآله الطيبين الطاهرين.
    أمّا بعد : فهذا هو الجزء السابع من موسوعتنا في الملل والنحل نقدّمه إلى القرّاء الكرام راجين منهم النقد والاِصلاح ، فإنّ العصمة للّه ولمن عصمه.
    ونخصّ هذا الجزء ببيان مذهب الزيدية المنتمية إلى الاِمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) ذلك الاِمام الثائر الّذي ضمَّ إلى ثورته العارمة بوجه الظلم والطغيان ، التجافيَ عن الدنيا ، والزهدَ في صفرها وبيضها ، والتهجّد آناء الليل وغياهبه بالصلاة وتلاوة القرآن ، وكان فقيهاً في الدين ، محدّثاً في الاِسلام ، مفسّـراً للقرآن ، ولم يكن له في الفقه منهج كما لم يكن له في مجال الاَُصول والعقائد مذهب خاص سوى ما عليه العترة الطاهرة ( عليهم السلام ) عامة ، من أُصول التوحيد والعدل وبطلان الجبر والتشبيه ، وقد نشرت منه آثار في الحديث والتفسير والفقه وسيوافيك تفصيلها.
    نعم تأثّر المذهب الزيدي الحاضر بمبادىَ الاعتزال كثيراً كما تأثّر بفقه ببعض المذاهب الاَربعة ، وأمّا ما هو السبب لتأثّره بآراء المعتزلة في العقائد ،


(4)
وتفتّحه مع مدرسة الرأي في الفقه ، فيحتاج إلى بسط في الكلام وسنوقفك على جليّة الحال في المستقبل.
    وبما أنّ لزيد الشهيد بين الاَُمة الاِسلامية ، وعند أئمة العترة الطاهرة مكانة خاصة ، ومنزلة كبيرة لم تكن لسائر أئمة الزيدية ، من الحسنيّين والحسينيّين الذين شايعوا زيداً في الخروج على الخلفاء ، ومارسوا خطّه في الجهاد ، ـ وكانت مساعي الجميع مشكورة ـ لم نجد بدّاً من فتح بابين ، يتكفّل أحدهما ، لبيان حياة زيد وآثاره وجهاده ونضاله ، ويختص الآخر ، ببيان حياة أئمة الزيدية والاِيعاز إلى الدول الّتي أسّسوها ، والاَُصول التي اختاروها في مجال العقيدة ، والمنهج الذي سلكوه في استنباط الاَحكام الشرعية إلى غير ذلك من مباحث جانبيّة ، تسلّط الضوء على الموضوع.
    ولاَجل إيضاح تاريخ زيد وأتباعه قسمنا الكتاب إلى قسمين :
    1ـ ما يرجع إلى زيد من ولادته إلى شهادته وذلك في ضمن أربعة عشر فصلاً.
    2ـ يتكفل ببيان السائرين على دربه وما يمت إليهم بصلة.
    وقبل أن ندخل في صلب الموضوع نشير إلى بعض الفرق التي خلقتها السياسة في أوساط الشيعة في عصر الاَئمة الثلاثة : السجّاد والباقر والصادق ( عليهم السلام ) بوجه موجز ، مع الاِشارة إلى الفرق الواقعية وإن كانت قليلة.
المؤلف
29 ربيع الثاني 1415




(5)
القسم الاَوّل :
    وإليك مجمل ما فيه من فصول :
    الفصل الاَوّل : فرق الشيعة بين الحقائق والاَوهام.
    الفصل الثاني : في حياة زيد في عصر الاَئمّة الثلاثة ( عليهم السلام ).
    الفصل الثالث : في خطبه ، وكلماته ، وأشعاره ، ومناظراته ، وعبادته.
    الفصل الرابع : في مشايخ زيد وتلاميذه في الحديث والتفسير.
    الفصل الخامـس : الآثار العلمية الباقية عن زيد.
    الفصل السادس : دراسة مسند الاِمام زيد سنداً ومضموناً.
    الفصل السابع : هل كان زيد معتزلي المبدأ والفكرة.
    الفصل الثامن : هل كان زيد أماماً في الاَُصول والعقائد ، والفروع والاَحكام.
    الفصل التاسع : هل دعا إلى نفسه أو دعا إلى الرضا من العترة.
    الفصل العاشــر : موقف أئمّة أهل البيت من خروج زيد وجهاده.
    الفصل الحادي عشر : الخط الثوري المدعَم من قبل أئمّة أهل البيت.
    الفصل الثاني عشر : موقف علماء الشيعة من زيد الشهيد.
    الفصل الثالث عشر : الثورات الناجمة عن ثورة الاِمام الحسين ( عليه السلام ).
    الفصل الرابع عشر : ثورة زيد كانت استمراراً لثورة الحسين ( عليه السلام ).


(6)

(7)
الفصل الاَوّل
فرق الشيعة
بين الحقائق والاَوهام
    إنّ من ثمرات وجود النبي المعصوم بين الاَُمّة هو رأب الصدع بعد ظهوره بينهم ، وفصل القول ، عند اندلاع النزاع ، والقضاء على الفتنة في مهدها ، وكان رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يلمّ الشمل ، ويُزيل الخلاف عند بروزه فلاَجل ذلك كان اختلاف الصحابة في عصره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) غير موَثر في تفرق الاَُمّة ، لاَنّه صلوات اللّه عليه وآله بحنكته ، واعتقاد الاَُمّة بعصمته ، كان يأخذ بزمام الاَُمور ، ويكسح أسباب الشقاق من جذوره.
    فعندما اعترض عليه ذو الخويصرة عند توزيع الغنائم بين المسلمين بقوله : إعدل يامحمّد فإنّك لم تعدل ، فقال عليه الصلاة والسلام : « إن لم أعدل ، فمن يعدل » ثم أعاد اللعين وقال : هذه قسمة ما أُريد بها وجه اللّه ، فعند ذاك لم يجد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بُدّاً من أن يعرّفه للاَُمّة الاِسلامية وقال : « سيخرج من ضئضىَ هذا الرجل قوم يمرقون من الدين ، كما يمرق السهم من الرمية » (1)
    1 ـ مضت اسناد الرواية في : 5/480 ـ 502 ، من هذه الموسوعة

(8)
    وليست قصة ذي الخويصرة وحيدة في بابها ، فقد حدثت حوادث وكوارث في زمانه كادت تفرّق الاَُمّة ولكنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قضى عليها بعلمه وحلمه وحكمته ، ولا يقصر حديث الاِفك (1) عن قصة ذي الخويصرة ، أو قعود بعض الصحابة عن الخروج مع رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في جيش العسرة ، أو ما حدث في أيّام مرضه ، حيث طلب دواة وقرطاساً حتى يكتب كتاباً لاتضل الاَُمّة بعده ، فخالف بعضهم ، ووافق البعض الآخر ، فقضى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على الاختلاف وقال : « قوموا عنّي ، لا ينبغي عندي التنازع » (2). إلى غير ذلك من حوادث مريرة في عصر الرسالة ، فقد استقبلها القائد الكبير برحابة صدر في غزواته وفي إقامته في المدينة.
    وقد كانت وحدة الاَُمّة الاِسلامية رهن قائد مطاع معصوم ، لا يخضع لموَثرات الهوى ، وتكون الاَُمّة مأمورة باتّباعه قال تعالى : « وَما كَانَ لِمُوَْمِنٍ وَلا مُوَْمِنَةٍ إذا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أمْراً أنْ تَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أمرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلالاً مُبِينا » (الاَحزاب ـ 36).
    ولئن تفرقت الاَُمّة إلى فرقتين أو أكثر فإنّما تفرّقوا بعد رحيله ، وسرُّ الاختلاف يكمن في تناسي الاَُمّة الاِمام المعصوم الذي نصبه النبي مرجعاً عند الخلاف ، غير أنّ المهتمّين بأمر الرسول ونصوصه تعلّقوا به تعلّقاً دينياً ولاَجل ذلك قلّ الاختلاف بينهم أو لم يتحقق إلى عصر الصادقين ( عليهما السلام ) وما يذكر من الفرق في عهدهما ، لا صلة لهم بالاِسلام فضلاً عن التشيّع وإنّما كان التفرّق آنذاك ارتداداً عن الاِسلام وخروجاً عن الدين كما سيتضح.
    1 ـ اقرأ تفصيل القصة وتشاجر الحيّين : الاَوس والخزرج في مسجد النبي بحضرته في صحيح البخاري : 5/ 119 باب غزوة بني المصطلق ، والسيرة النبوية : لابن هشام : 3/312. وذكرها الشهرستاني في الملل والنحل في فصل بدايات الخلاف : 1/21.
    2 ـ لاحظ صحيح البخاري : 1/22 ، كتاب العلم ، و2/14 ، والملل والنحل : للشهرستاني : 1/22 عند البحث في بدايات الخلاف.


(9)
    يقول أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي صاحب كتاب الزينة : « كانت طائفة من (1) الشيعة قبل ظهور زيد بن علي مجتمعين على أمر واحد ، فلمّا قتل زيد انحازت منهم طائفة إلى جعفر بن محمّد وقالوا بإمامته » (2).
    إنّ الشيعة هم الذين شايعوا علياً وولديه الحسن والحسين ( عليهم السلام ) وكانوا متمسّكين بإمامتهم وقيادتهم ولم يبرز أيُّ اختلاف ديني بينهم إلى زمن الاِمام الصادق ( عليه السلام ) ، لاَنّ الاعتقاد بوجود المعصوم ، كان يدفعهم إلى سوَاله ورفع الاِبهام عن الملابسات في وجوه المسألة ، وأمّا تاريخ الكيسانية الناجمة في عصر الاِمام السجاد ( عليه السلام ) فسندرسها حسب التاريخ وكلمات أصحاب المقالات.
    هذا ما يلمسه الاِنسان من قراءة تاريخ الشيعة ، ولكن نرى أنّ أصحاب المقالات يذكرون للشيعة فرقاً كثيرة ، وهم بين غلاة وغيرها.
    قال الشهرستاني تبعاً لعبد القاهر البغدادي (3) : والشيعة خمس فرق : كيسانية ، وزيدية ، وإمامية ، وغلاةوإسماعيلية (4). ثم ذكر لكل فرقة طوائف كثيرة ولعل الغاية من إكثار الفرق تطبيق حديث الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في انقسام أُمّته إلى ثلاث وسبعين فرقة ، عليهم.
    ونحن نقف أمام هذا التقسيم وقفة غير طويلة ، فنذكر أمرين :
    الاَوّل : إنّ الغلاة ليسوا من الشيعة ، ولا من المسلمين ، وإنّ عدهم من الطوائف الاِسلامية جناية على المسلمين والشيعة ، وعلى فرض كونهم فرقاً ، فلم يكن لهم أتباع ولم يكتب لهم البقاء إلاّ أياماً قلائل.
    1 ـ كذا في النسخة ، ولعل لفظة « من » زائدة أو بيانيّة.
    2 ـ أبو حاتم الرازي : كتاب الزينة : 207.
    3 ـ عبد القاهر البغدادي : الفرق بين الفرق : 21. تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد.
    4 ـ الشهرستاني : الملل والنحل : 1/147.


(10)
    الثاني : إنّ الكيسانية لم تكن فرقة نجمت بين الشيعة ، وإنّما خلقتها أعداء أئمة أهل البيت ، ليستغلّوها ويقضوا بها على تماسك الشيعة ووحدتهم ، وأكثر ما يمكن أن يقال في المقام : إنّه كانت هناك شكوك وأوهام عرت بعض البسطاء ثم أُزيلت ، فتجلى الصبح لذي عينين ، وإليك الكلام في كلا المقامين :

الغلاة ليسوا من المسلمين :
    قد ذكر أصحاب الفرق فرقاً للشيعة باسم الغلاة ومع أنّهم يصرّحون بأنّهم ليسوا من فرق المسلمين ولكن يذكرونها فرقاً للشيعة ويحملون أوزار الغلاة على الشيعة. والشيعة طائفة من المسلمين فكيف يصح عدّ الغلاة منهم !!.
    قال البغدادي : « فأمّا غلاتهم الذين قالوا بإلهية الاَئمة وأباحوا محرّمات الشريعة وأسقطوا وجوب فرائض الشريعة كالبيانية ، والمغيرية ، والجناحية ، والمنصورية ، والخطابية ، والحلولية ، ومن جرى مجراهم فماهم من فرق الاِسلام وإن كانوا منتسبين إليه » (1).
    وقال أيضاً : الكلام في ذلك (الفرق الاِسلامية) يدور على اختلاف المتكلمين فيمن يعد من أُمّة الاِسلام وملّته ـ إلى أن قال : ـ فإن كان على بدعة الباطنية ، أو البيانية ، أو المغيرية ، أو المنصورية ، أو الجناحية ، أو السبئية ، أو الخطابية من الرافضة ، أو كان على دين الحلولية أو على دين أصحاب التناسخ أو على دين الميمونية ، أو اليزيدية من الخوارج أو على دين الخابطية ، أو الحمارية من
    1 ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : 23 ـ 24.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد السابع ::: فهرس