بحوث في الملل والنحل ـ جلد السابع ::: 281 ـ 290
(281)
ما أثر عنه من قول قبل الخروج وأوانه :
    إنّ دراسة ما نقل عنه من كلمة أو كلمات يوقفنا على مرماه من الثورة ، فإن الاِنسان بصير على نفسه ومهما اهتم على كتمان ما يضمره لكنه سيظهر على لمحات وجهه وفلتات لسانه ، ولكن الثائر أصحر بهدفه في غير واحد من المواضع حتى أنّ الحاكم الاَموي (هشام بن عبد الملك) اتّهمه بفكر الثورة والقيام على النظام ، وهذا يدلّ على أنّه كان يبوح بها آونة بعد أُخرى ، وإليك هذه الكلمات :
    1 ـ إنّما خرجت على الذين أغاروا على المدينة يوم الحرة ثم رموا بيت اللّه بحجر المنجنيق والنار (1).
    ويشير ثائرنا بكلامه هذا إلى ما ارتكبه الحجاج قائد الجيش الاَموي ـ يوم التجأ ابن الزبير إلى البيت ـ فحصّبـه بالحجارة مستعيناً بالمنجنيق الذي نصبه الجيش على جبل أبي قبيس ، المشرف على الكعبة. كما مر في ثورة عبد اللّه بن الزبير.
    2 ـ إنّما خرجت على الذين قاتلوا جدي الحسين ( عليه السلام ) (2).
    3 ـ روى عبد اللّه بن مسلم بن بابك ، قال : خرجنا مع زيد بن علي إلى مكة فلما كان نصف الليل واستوت الثريا فقال : يا بابكي ما ترى هذه الثريا؟ أترى أنّ أحداً ينالها؟ قلت : لا ، قال : واللّه لوددت أنّ يدي ملصقة بها فأقع إلى الاَرض ، أو حيث أقع ، فأتقطع قطعة قطعة وأن اللّه أصلح بين أُمّة محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (3).
    إنّ هذه الكلمة إشراقة من كلام الحسين ووصيته إلى أخيه محمد ابن الحنفية : « إنّي ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ، ولا ظالماً ، وإنّما خرجت لطلب الاِصلاح في أُمّة جدي ، وشيعة أبي علي بن أبي طالب فمن قبلني بقبول الحقّ فاللّه
    1 ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : 35 ـ 36.
    2 ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : 35 ـ 36.
    3 ـ أبو الفرج الاصفهاني : مقاتل الطالبيين : 87.


(282)
أولى بالحقّ ، ومن ردّ على هذا أصبر حتى يقضي اللّه بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين » (1).
    ترى أنّ بين الكلمتين تقارناً بل توافقاً ، وهذا ما يدفعنا إلى أنّ ثورته كانت امتداداً لثورة الحسين ( عليه السلام ).
    4 ـ أقام زيد الثائر بالكوفة وبايعه أصحابه وكانت بيعته التي يبايع عليها الناس : إنّا ندعوكم إلى كتاب اللّه وسنّة نبيه ، وجهاد الظالمين ، والدفع عن المستضعفين ، وإعطاء المحرومين وقسم هذا الفيء بين أهله بالسواء ، ورد المظالم ، وإقفال المجمر ، ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا ، وجهل حقنا. أتبايعون على ذلك فإذا قالوا نعم : وضع يده على يده ، ثم يقول : عليك عهد اللّه وميثاقه وذمته وذمّة رسوله لتفينّ ببيعتي ولتقاتلنّ عدوي ، ولتنصحنّ لي في السر والعلانية ، فإذا قال نعم : مسح يده على يده ، ثم قال : اللّهمّ اشهد (2).
    وفي كلامه هذا إلماع إلى كلام الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ألقاه بالبيضة عندما حبسه الحرّ بن يزيد الرياحي عن الحركة : فقال : « أيها الناس إنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : من رأى سلطاناً جائراً ، مستحلاً لحرم اللّه ، ناكثاً لعهد اللّه ، مخالفاً لسنّة رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، يعمل في عباد اللّه بالاِثم والعدوان. فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول ، كان حقّاً على اللّه أن يدخله مدخله ، ألا وإنّ هوَلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمان وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام اللّه وحرّموا حلاله وأنا أحقّ من غيّر » (3).
    5 ـ ومن كلامه : وإنّا ندعوكم إلى كتاب اللّه وسنّة نبيه ، وإلى السنن أن تحيى
    1 ـ المجلسي : بحار الاَنوار : 44/329.
    2 ـ الطبري : التاريخ : 5/492 ، ابن الاَثير : الكامل : 5/233 باختلاف في التعبير.
    3 ـ الطبري : التاريخ : 4/304.


(283)
وإلى البدع أن تدفع ، فإن أنتم أجبتمونا سعدتم ، وإن أنتم أبيتم فلست عليكم بوكيل (1).
    6 ـ ومن كلامه لهشام بن عبد الملك : أنه لم يكره قوم قط حدّ السيف إلاّ ذلّوا (2).
    وهذه الكلمة من هشام تعرب عن أنّه تجاهر بالثورة في ظروف مناسبة حتى وُشِـيَ به إلى هشام.
    7 ـ روى ابن عساكر أنّ زيداً دخل على هشام فقال له : يازيد بلغني أنّ نفسك لتسمو بك إلى الاِمامة ، والاِمامة لاتصلح لاَولاد الاِماء ـ فأجابه زيد بما مر عليك في الفصل الثالث المعقود لحياته فقال هشام : يازيد إنّ اللّه لايجمع النبوة والملك لاَحد ، فقال زيد : قال اللّه تعالى : : « أم يَحْسُدُونَ الناسَ على ما آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آل إبراهِيمَ الكِتابَ والحِكْمَةَ واتَينْاهُم مُلكاً عظِيماً » (3).
    8 ـ روى المسعودي أنّه لما قامت الحرب بين أصحاب زيد وجيش يوسف ابن عمر الثقفي انهزم أصحاب زيد وبقي في جماعة يسيرة فقاتلهم أشد قتال وهو يقول متمثلاً :
أذل الحياة وعزّ الممات فإن كان لابد من واحد وكلاً أراه طعاماً وبيلا فسيري إلى الموت سيراً جميلاً (4)

    1 ـ الطبري : التاريخ : 5/498 ، ابن الاَثير : الكامل : 5/243.
    2 ـ المفيد : الاِرشاد : 269.
    3 ـ ابن عساكر : تاريخ مدينة دمشق ، كما في زيد الشهيد للسيد العاملي : 91.
    4 ـ المسعودي : مروج الذهب : 3/207.


(284)
    وما أنشأه زيد الثائر من الشعر نفس ما أنشده الاِمام الحسين ( عليه السلام ) :
سأمضي وما بالموت عار على الفتى إذا في سبيل اللّه يمضي ويقتل (1)
    9 ـ روى المسعودي أنّه دخل زيد على هشام بالرصافة ، فقال له : ليس أحد يكبر عن تقوى اللّه ولا يصغر دون تقوى اللّه ، فقال هشام : اسكت لا أُمّ لك أنت الذي تنازعك نفسك في الخلافة وأنت ابن أمة ، ثم نقل جواب زيد وقال : وقام زيد عن المجلس وهو يقول :
شرَّدَهُ الخوف وأزرى به منخرق الكفين يشكو الجوى قد كان في الموت له راحة إن يُحدث اللّه له دولــة كذاك من يكره حرَّ الجلاد تنكثه أطراف مَرْوٍ حداد والموت حتم في رقاب العباد يترك آثار العدا كالرماد (2)
    10 ـ إنّ رسالة زيد إلى علماء الاَُمّة أوان خروجه تدل بوضوح على أنّ دافعه إلى الخروج هو الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد مر نصّها في الفصل الثالث.

توطين النفس على الشهادة :
    خرج زيد موطناً نفسه على القتل والشهادة ، مقدّماً المنيّة على الدنيا الدنية ، وقتل العز على عيش الذل ، كيف وهو الذي كان يترنّم بقوله :
فأجبتها أنّ المنية منهل لابدّ أن أُسقى بذاك المنهل
    
    1 ـ الخوارزمي : مقتل الحسين ( عليه السلام ) : 2/33.
    2 ـ المسعودي : مروج الذهب : 3/206.


(285)
    ومن كان هذا كلامه ويترنّم بما ماثله أيضاً ، لا يخرج لطلب الملك والاِمارة وكسب الجاه والمقام وهو مشرف على القتل ، وطلب الجاه من شوَون من يريد البقاء والالتذاذ بلذائذ الدنيا لا من يريد ركوب الرماح والاَسنّة.
    ومن أراد اتهام زيد بطلب الاِمارة والخلافة فلم يعرف نفسيته ولا بيئته وظروفه المحدقة به فإنّها كانت تُحتِّم عليه الموت وهو كان يرى الشهادة أمامه.
    والذي وطّن نفسه على القتل هو الاَُمور التالية :
    1 ـ كان كلام جده وآبائه رنين سمعه وأنّه يخرج من ولده رجل يقال له زيد ويقتل بالكوفة ... وقد سمع عن والده عليّ بن الحسين ( عليهما السلام ) وهو صغير : « أُعيذك باللّه أن تكون زيداً المصلوب بالكناسة » كما سمع نظيره عن ابن أخيه الاِمام الصادق ( عليه السلام ) الذي أطبق المسلمون على صدقه ، ومع هذه الاَخبار المتضافرة كيف لا يوطّن نفسه على الشهادة ، ويخرج لطلب الملك والجاه والمقام دون إباء الضيم ، والاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعريف الاَُمّة بواجبهم تجاه الطغمة الغاشمة.
    2 ـ إنّ الذين بايعوه ودعوه إلى النضال والكفاح كانوا ـ وللاَسف ـ معروفين بالنفاق ، وعدم الثبات والصمود في مسيرة الدعوة وطريق البيعة ، فكانوا يبرمون أمراً وينقضونه من فوره ، وأهل الكوفة وإن لم يكن كلّهم كذلك وكان فيهم أبطال صامدون ولكن الاَكثرية الساحقة كانوا بهذه الخصيصة وقد عرّفهم الاِمام عليّ ( عليه السلام ) في غير واحد من خطبه نقتطف منها ما يلي :
    1 ـ يا أشباه الرجال ولا رجال حلوم الاَطفال ، وعقول ربّات الحجال ، لوددت أنّي لم أركم ، ولم أعرفكم معرفة ـ واللّه ـ ... قاتلكم اللّه لقد ملاَتم قلبي قيحاً ، وشحنتم صدري غيظاً (1).
    1 ـ نهج البلاغة : الخطبة : 27.

(286)
    2 ـ ويقول في خطبة أُخرى : « يا أهل الكوفة منيت بكم بثلاث واثنتين ، صمّ ذو أسماع ، وبكم ذو كلام ، وعمي ذو أبصار ، لا أحرار صدقٍ عند اللقاء ، ولا إخوان ثقة عند البلاء ... لوددت واللّه أنّ معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم ، فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم » (1).
    فإذا كان المبايعون هوَلاء الذين وصفهم جدّه بعدم الثبات والصدق عند اللقاء ، فكيف يصح له أن يعتمد على بيعتهم ويطلب الاِمارة؟! والكوفة وإن انجبت أبطالاً شهاماً كتبوا على جبين الدهر بطولاتهم وصدق مواقفهم في ميادين الحرب ، ولكن كانت الكوفة تحتضن موالي أتوا من هنا وهناك وتوطّنوا فيها ، وكان العرب المتوطِّنون فيها وافدين من نقاط شتّى وقبائل مختلفة لا تجمعهم فكرة واحدة وثقافة فريدة ، وقد مصّرت الكوفة أيام عمر بن الخطاب ولم تكن قبل ذلك حاضرة ، وهي بخلاف الشام فقد ضربت فيها حضارة عريقة بجرانها قبل قرون ، وكانت تسوسهم الوحدة الحضارية والعنصرية والتربية المدنية والدينية قبل الاِسلام ، فاستغلال هذه المنطقة بمالها من المواصفات أسهل من استغلال هوَلاء الذين لا يربطهم سوى شيء واحد وهو التوطّن في أرض الكوفة وما والاها.
    وإن كنت في شكّ ممّا ذكرنا من هوَلاء فقارن عدد المبايعين لزيد وعدد الحاضرين في ساحة المعركة ، فقد أقام زيد بالكوفة خمسة أشهر وبالبصرة شهرين ، فأخذ الناس يبايعونه من الشيعة والمحكِّمة وبلغ ديوانه خمسة وعشرين ألفاً أو أزيد كما سيوافيك ، ولكن لم يحضر منهم في ميدان القتال إلاّ مائتان وثمانية عشر رجلاً ، ولمّا وقف زيد على قلّة المجيبين ، قال : سبحانه اللّه أين الناس؟ فقيل : إنّهم محصورون في المسجد ، فقال زيد : سبحان اللّه ما هذا عذر لمن بايعنا.
    كل ذلك يدلنا على أنّ زيداً قام بالاَمر وهو موطن نفسه على الشهادة وإراقة
    1 ـ نهج البلاغة : الخطبة : 97.

(287)
دمه في طريق هدفه ، ألا وهو إيقاظ الاَُمّة وتوجيههم نحو واجبهم.
    3 ـ إنّ زيداً الشهيد كان يواجه دولة كبيرة أُموية ضربت بجرانها أقطار الاَرض شرقها وغربها وبيدها مفاتيح الخير والشر وهو لا يملك من العدة إلاّ شيئاً قليلاً ، أفيصح أن يرمى مثل زيد بأنّه خرج لطلب السلطة والاِمامة لا للشهادة والفداء؟!

حول الاَحداث الجزئية الدافعة إلى الخروج :
    قد تعرفت على الدافع الواقعي لثورته غير أنّ الموَرخين ذكروا أسباباً أُخرى لخروجه لو صحت فإنّما يعتبر كونها معدات للثورة ، وأسباباً لتفجّرها وتقدّمها لا أنّها كوّنت فكرة الثورة في نفسه ، وفي غضون ما نذكره من الاَسباب دلالة واضحة على أنّ الفكرة تكوّنت قبل وقوع هذه الاَسباب وإليك بيانها :

1 ـ اتهامه بأخذ الجائزة من خالد القسري :
    كان خالد بن عبد اللّه القسري عامل هشام على العراق فعزله ونصب يوسف بن عمر مكانه ، وتتبع الوالي الثاني مزالق أقدام خالد ، العامل الاَوّل وكتب إلى هشام :
    إنّ خالداً ابتاع من زيد ، أرضاً بالمدينة بعشرة آلاف دينار ، ثم ردّ الاَرض عليه ، فكتب هشام إلى عامل المدينة أن يسيّرهم إليه ، ففعل ، فسألهم هشام عن ذلك فأقرّوا بالجائزة وأنكروا ما سوى ذلك وحلفوا ، فصدّقهم وأمرهم بالمسير إلى العراق ليقابلوا خالداً ، فساروا على كره وقابلوا خالداً ، فصدّقهم ، فعادوا نحو المدينة. فلمّا نزلوا القادسية راسل أهل الكوفة زيداً فعاد إليهم.
    وقيل : بل ادّعى خالد بن عبد اللّه القسري أنّه أودع زيداً وداود بن علي ونفراً من قريش مالاً ، فكتب يوسف بذلك إلى هشام ، فأحضرهم هشام من


(288)
المدينة وسيّرهم إلى يوسف ليجمع بينهم وبين خالد فقدموا عليه ، فقال يوسف لزيد : إنّ خالداً زعم أنّه أودعك مالاً. قال : كيف يودعني وهو يشتم آبائي على منبره؟! فأرسل إلى خالد فأحضره في عباءة ، فقال : هذا زيد قد أنكر أنّك قد أودعته شيئاً. فنظر خالد إليه وإلى داود بن علي وقال ليوسف : أتريد أن تجمع مع إثمك فيّ إثماً في هذا؟ كيف أودعه وأنا أشتمه وأشتم آباءه على المنبر! فقالوا لخالد : ما دعاك إلى ما صنعت؟ قال : شدّدَ عليّ العذاب فادّعيت ذلك وأمَّلت أن يأتي اللّه بفرج قبل قدومكم. فرجعوا وأقام زيد وداود بالكوفة.
    وقيل : إنّ يزيد بن خالد القسري هو الذي ادّعى المال وديعة عند زيد.
    فلمّا أمرهم هشام بالمسير إلى العراق إلى يوسف استقالوه خوفاً من شر يوسف وظلمه ، فقال : أنا أكتب إليه بالكفّ عنكم ، وألزمه بذلك ، فساروا على كره.
    وجمع يوسف بينهم وبين يزيد ، فقال يزيد : [ما] لي عندهم قليل ولا كثير. قال يوسف : أبيَ تهزأ أم بأمير الموَمنين؟ فعذبه يومئذ عذاباً كاد يهلكه ، ثم أمر بالفرّاشين فضُـربوا وترك زيداً. ثم استحلفهم وأطلقهم ، فلحقوا بالمدينة ، وأقام زيد بالكوفة ، وكان زيد قد قال لهشام لما أمره بالمسير إلى يوسف : ما آمن إن بعثتني إليه أن لا نجتمع أنا وأنت حيّين أبداً. قال : لابد من المسير إليه ، فساروا إليه (1).
    لا شك أنّ هذا الحديث مهما كان صحيحاً ، لا يكون مبرراً للثورة ، لو لم يكن هناك عنصر قوي دفعه إليها. وأظن أنّ الوالي المتتبع لعثرات الوالي الاَوّل اتّهمه بأنّه ابتاع من زيد أرضاً بالمدينة بعشرة آلاف دينار ثم ردّ الاَرض عليه ولم يكن هناك أي بيع وشراء ، خصوصاً ، البائع يقطن المدينة والمشتري والى العراق ، والاَرض المشتراة في المدينة ، ومن أين لزيد مثل هذه الاَرض بهذه القيمة العالية؟
    1 ـ ابن الاَثير الجزري : 5/229 ـ 230.

(289)
    وأمّا ما نقل عن خالد ، من أنّه اعترف على زيد بأنّه أودع عنده ، فلعله ذكره ليرفع العذاب عن نفسه ولم يكن عنده ولا عند غيره شيء فلذلك لما جمعهم يوسف ابن عمر تكلم بالحقيقة ، وقال : كيف أودعه وأنا أشتمه وأشتم آبائه؟! وعلى كل تقدير فهذا الحدث وإن كان ثقيلاً على مثل زيد لكن لا يكوّن الثورة في نفسه بل يعرب عن تكوّنه قبل هذا الحدث ولاَجل ذلك قال لهشام : ما آمن إن بعثتني إليه أن لا نجتمع أنا وأنت حيين أبداً.

2 ـ التخاصم في الاَوقاف :
    كان للنبي الاَكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وفاطمة وعلي ( عليهما السلام ) أوقافاً يتوّلاها بنو الحسن وبنو الحسين وربما جرت بينهما مشاجرات وقد نقله غير واحد من الموَرخين نأتي بنص الجزري حيث قال :
    كان السبب في ذلك أنّ زيداً كان يخاصم ابن عمه جعفر بن الحسن بن الحسن بن علي في [ولايةج وقوف علي ( عليه السلام ) ، [وكان] زيد يخاصم عن بني الحسين ( عليه السلام ) ، وجعفر يخاصم عن بني الحسن ( عليه السلام ) ، فكانا يتبالغان [بين يدي الوالي إلىج كل غاية ويقومان فلا يعيدان مما كان بينهما حرفاً.
    فلمّا مات جعفر نازعه عبد اللّه بن الحسن بن الحسن ، فتنازعا يوماً بين يدي خالد بن عبد الملك بن الحارث بالمدينة ، فأغلظ عبد اللّه لزيد وقال : يابن السندية! فضحك زيد وقال : قد كان إسماعيل لاَمة ومع ذلك فقد صبرت بعد وفاة سيدها إذ لم يصبر غيرها ، يعني فاطمة ابنة الحسين أُم عبد اللّه ، فإنّها تزوجت بعد أبيه الحسن بن الحسن ، ثم ندم زيد واستحيا من فاطمة ، وهي عمته ، فلم يدخل عليها زماناً ، فأرسلت إليه : يابن أخي إنّي لاَعلم أنّ أُمّك عندك كأُمّ عبد اللّه عنده. وقالت لعبد اللّه : بئس ما قلت لاَُم زيد ! أما واللّه لنعم دخيلة القوم كانت! قال : فذكر أنّ خالداً قال لهما : أُغدوا علينا غداً فلست لعبد الملك إن لم أفصل


(290)
بينكما. فباتت المدينة تغلي كالمرجل ، يقول قائل : قال زيد كذا ، ويقول قائل : قال عبد اللّه كذا.
    فلما كان الغد جلس خالد في المسجد واجتمع الناس فمن بين شامت ومهموم ، فدعا بهما خالد وهو يحب أن يتشاتما ، فذهب عبد اللّه يتكلم ، فقال زيد : لاتعجل يا أبا محمد ، أعْتَقَ زَيد ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبداً. ثم أقبل على خالد فقال : جمعت ذرية رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لاَمرٍ ما كان يجمعهم عليه أبو بكر ولا عمر! فقال خالد : أما لهذا السفيه أحد؟ فتكلم رجل من الاَنصار من آل عمرو بن حزم فقال : يا ابن أبي تراب وابن حسين السفيه! أما ترى للوالي عليك حقاً ولا طاعة؟ فقال زيد : اسكت أيّها القحطاني فإنّا لا نجيب مثلك. قال : ولِـمَ ترغب عني؟ فو اللّه إنّي لخير منك ، وأبي خير من أبيك ، وأُمي خير من أُمّك. فتضاحك زيد وقال : يامعشر قريش هذا الدين قد ذهب فذهبت الاَحساب ، فواللّه ليذهب دين القوم وما تذهب أحسابهم. فتكلم عبد اللّه بن واقد بن عبد اللّه بن عمر بن الخطاب ، فقال : كذبت واللّه أيّها القحطاني! فواللّه لهو خير منك نفساً وأُماً وأباً ومحتداً. وتناوله بكلام كثير ، وأخذ كفاً من حصباء وضرب بها الاَرض ثم قال : إنّه واللّه ما لنا على هذا من صبر.
    وشخص (1) زيد إلى هشام بن عبد الملك ، فجعل هشام لا يأذن له ، فيرفع إليه القصص ، فكلّما رفع قصة يكتب هشام في أسفلها : أرجع إلى أميرك ، فيقول زيد : واللّه لا أرجع إلى خالد أبداً. ثم أذن له يوماً بعد طول حبس ورَقِيَ (2) عليّة طويلة ، وأمر خادماً أن يتبعه بحيث لا يراه زيد ويسمع ما يقول ، فصعد زيد ، وكان
    1 ـ سياق العبارة : أنّ شخوصه إلى هشام كان لحل عقدة تولية الاَوقاف : ولكنه غير صحيح لما سيوافيك في تعليقنا للقصة.
    2 ـ أي هشام بن عبد الملك.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد السابع ::: فهرس