المحور الثاني
الدين فطرة إنسانية

ها نحن نصل إلى أصل المطلب وجوهره ، وهو إثبات النظرية الالهية في نشوء الدين التي تتمثل بكون الدين أمراً فطرياً كامناً في نفس الإنسان لا يختلف ولا يتخلّف ، كما يظهر جلياً من قول الله تبارك وتعالى : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) (1). فمفاد هذه الآية المباركة ، هو المحور الذي سوف يدور عليه موضوع بحثنا ، وإثبات النظرية الإسلامية الحقة ، بما يتلاءم مع آراء علماء النفس والانثروبولوجيا ، ويتلاءم مع واقع الطبيعة البشرية كذلك .
ولكن لا بد لنا أوّلاً أن نعرف معنى الفطرة ، ونثبت أصل وجودها ، لكي نستطيع أن نجعلها دليلاً وبرهاناً لنا.

المعنى اللغوي للفطرة
مادة ( فَطَرَ ) وردت كثيراً في القرآن ، وهي تعني في هذه المواضع الخلق والابداع أي الايجاد بغير سابقة .
إلاّ أنّ هذه المادة بهذه الصيغة ـ أي بوزن فِعلَة ـ لم ترد إلاّ في آية
____________
1) سورة الروم : 30|30 .

( 36 )

واحدة هي قوله تعالى : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) (1).
وفي اللغة العربية تدلّ صيغة « فِعلَة » على المصدر الدال على هيئة الفعل ونوعه ، وعليه فإن كلمة « فطرة » الّتي ترد بشأن الإنسان وعلاقته بالدين ( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) تعني تلك الهيئة الّتي خلق بها الإنسان .
أي إن الله قد خلق الإنسان بهيئة خاصة ، بما فيها تلك الخصائص التي أودعها فيه متميزاً عن خلقه ، وهي فطرته (2).
وقال الطبرسي في ( مجمع البيان ) : « فطرة الله : الملة ، وهي الدين والإسلام والتوحيد ، التي خُلق الناس عليها ولها وبها ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « كل مولد يولد على الفطرة ، حتّى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه ويمجّسانه » (3).
وجاء في ( تفسير الميزان ) : « قال الراغب : أصل الفطر الشق طولاً . يقال : فطر فلان كذا ، وأفطر هو فطوراً وانفطر انفطاراً . إلى أن قال : وفطر الله الخلق ، وهو إيجاد الشيء وإبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الأفعال. فقوله : ( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) إشارةٌ منه تعالى إلى ما فطر ،أي أبدع وركز فيه من قوته على معرفة الإيمان ، وهو المشار إليه بقوله : ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) (4).
____________
1) سورة الروم : 30|30 .
2) الفطرة | المطهري : 10 ـ 11 .
3) مجمع البيان | الطبرسي 8 : 59 .
4) الميزان | الطباطبائي 1 : 287 ، سورة الزخرف : |78 .

( 37 )

ومن هذا العرض يتبين لنا : أن الفطرة هي تلك القوة التي أودعها الله في الإنسان وأبدعه عليها ، وهي التي تدفعه نحو الله تعالى ، والقيم والأخلاق والسيرة الفاضلة .

الفرق بين الفطرة والطبيعة والغريزة
ولكي لا يختلط الامر بين الاصطلاحات الثلاثة نوضح كل منها وبشكل مختصر:
1 ـ الطبيعة : « وهي كلمة تطلق على الخصائص الذاتية للاَشياء ، وتستعمل عادةً بشأن الجمادات ، وقد تستعمل بشأن الأحياء كذلك ـ فعندما نريد أن نشير إلى طبيعة الأوكسجين مثلاً نقول : إنه قابل للاشتعال. أما الإنسان والحيوان فإن لهما طبيعة تمثل خصائصهما الذاتية ، كما للجماد كذلك » (1).
2 ـ الغريزة : « هذه الكلمة تستعمل في الأكثر بشأن الحيوانات ، وفي الأقل بشأن الإنسان ، ولا تستعمل بشأن الجماد والنبات » (2).
والغريزة عبارة عن محركات أولية للسلوك ، ومن الغرائز : غريزة التماس الطعام ، والغريزة الجنسية ، وغريزة الهروب من الأمر المخوف ، والغريزة الوالدية ، والتجمعية إلى آخره .
ومن الملاحظ أن بعض هذه الغرائز يستهدف إشباع حاجات داخلية للجسم ، كغريزة التماس الطعام ، وبعضها يوجد من أجل التعامل مع البيئة
____________
1) علم النفس التحليلي | د . بيكدلي : 29 ، علم النفس العام | د . عيسوي : 45.
2) كتاب الفطرة | المطهري : 21 .

( 38 )

الخارجية ، مثل غريزة السيطرة ، وللغريزة أياً كان نوعها مظهران : مظهر جسمي ، ومظهر نفسي . وإن كان هذان المظهران متكاملين وليسا منفصلين ، فالمظهر النفسي يتمثل بالأنفعال ، والمظهر الجسمي في النزوع أو السلوك (1) .
ومن هذا البيان يظهر أن الغريزة يشترك فيها الإنسان والحيوان على حدٍّ سواء ، إلاّ أن الإنسان مضافاً إلى وجود الغريزة فيه ، فقد منحه الله تعالى الفطرة والعقل ، الذي فيهما يستطيع أن يتكامل ، ويحكم الأرض ويسيطر عليها ، ويسخر ثرواتها من أجل خدمته وراحته وسعادته ، بينما يبقى الحيوان تسيّره الغريزة بلا وعي أو إدراك .
3 ـ الفطرة : وهي تلك الحالة الواعية في شخصية الإنسان التي من خلالها يهتدي إلى الاشياء ، ويحبّ الخير والعدل والاحسان ، والإيمان بالله تعالى ، فهي مجموعة من الأمور كانت ولا تزال تعرف باسم الإنسانية ، أي إنّها أصيلة في الإنسان وليست مكتسبة ، وهي أقرب إلى الوعي ، فالإنسان يستطيع أن يعرف الشيء الذي يعرفه من خلال الفطرة التي تتعلق بأُمور نطلق عليها : الأُمور الإنسانية ، باعتبارها أُموراً تتجاوز شؤون الحيوان (2) .
والنتيجة المستخلصة هي : « أنّ الفطرة في الإنسان هي خلقته بكيفية معينة ، تنطوي على مجموعة من الميول والمعارف ، وهذه الميول والمعارف رُكّبت وركّزت في أعماق الإنسان ، بمقتضى خلقته ، فتكون الفطرة هي
____________
1) علم النفس العام | د . عيسوي : 48 .
2) الفطرة | المطهري : 23 ـ 24 .

( 39 )

مقتضى الخلقة ، والأُمور الفطرية هي ما تقتضيه خلقة الإنسان ، بما هو إنسان ، لو خُلِّي وطبعه » (1).
يقول الامام الخميني : « اعلم أنّ المقصود من « فطرة الله » التي فطر الناس عليها هو الحال ، أو الكيفية الّتي خلق الناس وهم متصفون بها ، والتي تعدّ من لوازم وجودهم ، ولذلك « تخمّرت » طينتهم بها في أصل الخلق .
والفطرة الإلهية من الألطاف التي خصّ الله تعالى بها الإنسان من بين جميع المخلوقات ، إذ إن الموجودات الأُخرى ـ غير الإنسان ـ إما أنّها لا تملك مثل هذه الفطرة المذكورة ، وإمّا أن لها حظاً ضئيلاً منها » (2).

الدين والتدين من الأُمور الفطرية
إلى هنا وصل بنا المقام لبيان وإثبات أنّ مصدر الدين والتدين عند الإنسان هو فطرته ، التي تدفعه نحو الإيمان بالله . ففي فطرة كلّ إنسان نزوع نحو التوجّه إلى الله بالعبادة والدعاء والصلاة . وذلك بسبب كون الإنسان ذا طموح لا حدّ له في نيل الكمال والسعادة ، الذي هو من أقوى الدوافع الفطرية عنده ، لذلك نجد أنّ كل أعمال الإنسان تنصبّ في هذا الاتجاه .
إذن فكل إنسان يبحث عن كماله وسعادته ، ويسلك الطرق التي تؤدي إلى ذلك الكمال ، ولكن ربما يخطأ في تشخيص الطريق الموصل إلى ذلك الكمال ، أو يظنّ أن شيئاً آخر هو الهدف ، وهو الغاية التي يبحث عنها .
____________
1) الفطرة | المطهري : 128 .
2) الاربعون حديثاً | الامام الخميني : 170 .

( 40 )

أننا نرى أن أُناساً هدفهم في الحياة هو جمع المال فيعيشون لذلك الهدف ، وآخرين هدفهم هو الوصول إلى المقامات الاجتماعية والسياسية بل والعلمية إلى غير ذلك . والمدهش حقاً أن هؤلاء رغم كونهم قد يصلون إلى ما يطمحون إليه إلاّ أنّهم يبقون يتلهفون إلى عالم أسمى ، لاَن الإنسان وإن حقق حلمه وهدفه في هذه الدنيا وفي محيطها ، إلاّ أنّه يدرك بعد ذلك أنّه كان على خطأ ، وأن السعادة والغاية ليست هذه الدنيا التي حصل عليها ، لذلك نجد أنّ الذين يسعون جاهدين لتحقيق مثل هكذا أهداف ، بمجرد أن ينالوها فإنهم يملّون منها بسرعة ويبدأون بحثاً جديداً ، ومشواراً آخر ، وسبب ذلك أنهم لم يجدوا الكمال الذي تطلبه نفوسهم في تلك الأشياء التي حققوها .
هذا من جهة ، ومن جهة أُخرى ، فإن الإنسان بما أتاه الله تعالى من قدرات وفكر ، يرى أنّ عمره قصير ومتعته محدودة ، وأهدافه الكثيرة لا يمكن أن يحققها في هذه النشأة ، فلا بد ـ بمقتضى فطرته ـ أن يبحث عن حياة أُخرى ، وعالم آخر مختلف عن هذا العالم ، يكون فيه سعيداً ، أو على الأقلّ لا ينتاب حياته الألم ، ولا تعكّر صفو وجوده الصدمات وفقد الأعزة والأحبة ، فيه يأخذ المظلوم حقه من الظالم ، وتتحقق العدالة الّتي لا يمكن أن تتحقق في هذا العالم الذي تحكمه النفوس الشريرة ، كل ذلك دفعه بقوة إلى ذلك العالم الغيبي ، فيدرك أن تلك القدرة التي أوجدته من العدم ، هي وحدها التي تستطيع أن تحقّق له ذلك الكمال المنشود .
ثمّ إنّه لعلّ البراهين العقلية التي يقضي بها العقل من الأمور الفطرية ، لذا صح أن نقول أن كل ما قضى به العقل قضت به الفطرة أيضاً ، وبما أن


( 41 )

العقل يقطع بوجود الخالق ، من خلال البراهين العديدة ، فالفطرة تدين لذلك الخالق ، وتتوجه اليه بالعبادة ، بمقتضى هذا العنصر في وجوده .
وهكذا نستطيع أن نقول أيضاً : إن الإنسان لا يستطيع أن يعيش في هذه الدنيا ، بلا عقيدة تشدّه إلى ذلك العالم ، وحتى وإن أنكر ذلك ظاهراً في بعض الاحيان إلاّ أنّه قطعاً يعترف بوجودها في أعماق نفسه ، ولا يمكن أن يتجرّد عنها في يوم من الأيام ، لذا نرى أنّ القرآن الكريم يورد صفة هؤلاء المنكرين وحالهم من خلال قوله : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالاََْرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) (1).
فهؤلاء لو تُرِكوا وفطرتهم لقالوا : إنَّ الخالق لا يمكن أن يكون مادة عمياء ، والخلق لا يمكن أن يكون صدفةً أبداً ، ولكنهم طمسوا هذه الفطرة ، من خلال الظلم والعلوّ ، كما يصور ذلك القرآن بأجمل تعبير بقوله : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ) (2).
وكدليل على أنّ الدين أمر فطري ، أنّ البشرية ما انفكت يوماً عن اعتناق الدين ، أو عاشت بدونه على مرّ الدهور ، ومنذ أن كان الإنسان يعيش في الكهوف ، إلى أن بلغ درجة التحضّر والتمدّن والرُّقي ، وإلى أن تقوم الساعة .
نعم ، هناك مظاهر متعددة من التدين ، أي إن هناك أديان متعددة ، وذلك ناتج من اختلاف الناس ، وعدم دقّة تشخيصهم للخالق الحقيقي ، وهذا لا يضرّ بأصل فكرة الدين والتدين ، وإنما يضرّ في توجيه هذه الفكرة
____________
1) سورة العنكبوت : 61 .
2) سورة النمل : | 14

( 42 )

التوجيه الصحيح ، فمن الناس من يعبد الله تعالى ويعتقد بأنّه الخالق وحده ، ولا شريك له في الوجود ، وهو ربّ العالمين ، ومالك يوم الدين ، وهو دين التوحيد والإسلام ، وقد فسّرت بعض أحاديث أهل البيت عليهم السلام الفطرة بهذا المعنى .
فقد ورد في ( أُصول الكافي ) عن زرارة ، قال : سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله عزَّ وجلَّ : ( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) . قال : « فطرهم جميعاً على التوحيد » (1).
إلاّ أنه قد وردت أيضاً أحاديث تؤكّد مصداقاً أعمّ وهو الإسلام ، الذي يدخل تحته التوحيد قطعاً ، قال الإمام الخميني تعليقا على الحديث المتقدّم: « وهنا لا بدَّ من معرفة أن الفطرة ، وإنْ فُسِّرتْ في هذا الحديث الشريف وغيره من الأحاديث بالتوحيد ، إلاّ أن هذا هو من قبيل المصداق ، أو التفسير بأشرف أجزاء الشيء ، كأكثر التفاسير الواردة من أهل بيت العصمة عليهم السلام ، وكلّ مرّة تفسّر بمصداق جديد ، بحسب مقتضى المناسبة ، فيحسب الجاهل أنّ هناك تعارضاً ، والدليل على أن المقام كذلك هو أنّ الآية الشريفة تعتبر « الدين » هو « فطرة الله » مع أنّ الدين يشمل التوحيد والمبادئ الأُخرى .
وفي صحيحة عبدالله بن سنان فُسّرت الفطرة على أنّها تعني « الإسلام » . وفي حسنة زرارة فُسّرت « بالمعرفة » . وفي الحديث المعروف : « كل مولود يولد على الفطرة » جاءت في قبال « التهوّد » و« التنصّر » و« التمجّس » كما أن الإمام الباقر عليه السلام في حسنة زرارة المذكورة فسّرها
____________
1) أُصول الكافي 2 : |3 كتاب الإيمان والكفر ـ باب فطرة الخلق على التوحيد .
( 43 )

بالمعرفة . وعليه ، فالفطرة ليست مقصورة على التوحيد ، بل إن جميع المبادىَ الحقّة هي من الأُمور الّتي فطر الله تعالى الإنسان عليها » (1).
وربما يتصوّر أنّ التوجّه إلى تلك القوة الغيبية ، من قبيل التوجه إلى الوهم والخيال ، ولكننا نقول : إنّه لا يمكن أن يكون توجّه الخلائق كلّها نحو تلك القوة الغيبية وليد الوهم والخيال ، وأنّ جميع البشر قد أخطأوا في هذا الأمر الواضح؛ لاَنّ الوهم والاشتباه لا يمكن أن يتصوّر في كلّ الإنسانية . ولماذا يكون الدين فقط من الوهم والخيال والاشتباه ، لماذا لا يكون الحبّ أيضاً وهماً وخيالأ ؟! . ولماذا لا تكون القيم والمبادىَ والعدالة أيضاً وهماً وخيالأ.
لقد برهنا سابقاً على بطلان تلك النظريات الوضعية واخفاقها في تفسير ظاهرة التدين.
وما أجمل تلك القصة الّتي أوردها الله تعالى في القرآن ، لاِثبات أنّ الدين أمر فطري ، وهي قصة تصور رحلة الإيمان التي خاضها إبراهيم الخليل عليه السلام ، ليُعرِّف قومه أنّ التوجّه إلى الله أمر فطري .
يذكر الشهيد المطهري في كتابه ( الفطرة ) هذه القصة قائلاً : إن قصة إبراهيم في القرآن تشير إلى هذه الطريقة في الاستدلال ، وإنّ من جوانب إعجاز القرآن أنّه اختار قصة إبراهيم هذه ، فإبراهيم عليه السلام كان من أقدم الأنبياء ، قبل المسيحية واليهودية ، والقصة قصة إبراهيم نفسه .
شاب يرى نجماً منيراً فيقول : « هذا ربي » ، وقد يقولها بلهجة استفهام ،أو تقرير ، ثمّ يرى أنّه أفل ، فيدرك أن ما يجده في نفسه من
____________
1) الأربعون حديثاً | الإمام الخميني : 176 .
( 44 )

الربوبية والمقهورية ، وأنّه مسخّر ، هو موجود ـ نفسه ـ في ذلك النجم الذي ظنّه الله ! ثمّ يرى القمر أكبر حجماً ، وأسطع نوراً ، فيقول : « هذا ربي » وإذا به يرى بعد ذلك في القمر ما رآه في النجم ، وفي نفسه يرفضه كربّ. ثمّ يرى الشمس فيقول : « هذا ربي هذا أكبر » . ولكن هذا أيضاً أفل . فغسل يده من كلّ هذه الأُمور ، واستنتج استنتاجاً بسيطاً ، وهو أن كلّ هذا الذي أراه متحرك ، ومسخّر ، وفي حالة دوران ، أي إنّ هناك من يحركه ويُسخّره ، فرأى العالم كلاً مربوباً واحداً .
يبين القرآن أنّ تفكير الإنسان الأوّل ، قادرٌ على الوصول إلى أنّ كل ما يراهُ حُكِمَ بحكم المربوبية ، وأنّ الربّ هو الذي لا يتّصف بما تتّصف به أشياء العالم ، عندئذ يقول : ( وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض ) (1) » .
وهكذا نرى إبراهيم عليه السلام يسبح في فكرٍ صافٍ ، مدفوعاً من قبل نفسه وفطرته ، باحثاً عن مصدر وجوده في هذا الكون الرحيب . لأن روح البحث ، والتطلع إلى ذلك الخالق الأزلي ، قد جُبلَ عليها الإنسان وعجنت بفطرته.
ولكن لا بدّ من التنويه بأن إبراهيم عليه السلام إنما كان يحاجج قومه من خلال هذا الاستدلال وينزل نفسه منزلة المستفهم حتى ينبّه عقول قومه إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّه لا يوجد ربّ مدبّر لهذا العالم إلاّ الله تعالى الخالق لكلّ ما في الكون ، ويريد بهذه الطريقة إبطال ما كانوا يعتقدون من تأثير الكواكب في حياة الإنسان من خلال التدبير ، فلا تكون حينئذ
____________
1) الفطرة | المطهري : 150 .

( 45 )

مستحقة للعبادة ، ولذا نرى أن الله تعالى بعد أن ذكر بأن إبراهيم وصل الى رؤية ملكوت السموات والأرض من خلال قوله ( وَكَذلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) (1). وبعد أن حذّر قومه من خلال مخاطبة عمه آزر الذي كان على عقيدة قومه من عبادة الأصنام والكواكب كما في قوله سبحانه : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ) (2) وبعد هذا التحذير والبيان أراد إبراهيم عليه السلام أن يثبت لهؤلاء أن عبادة غير الله ليست صحيحة ، لاَن كلّ ما عداه آفل زائل لا يملك لنفسه الثبوت والوجود ، فكيف يثبت لغيره ذلك ، فضلاً عن التدبير ومقام الربوبية ؟!
وهكذا اتخذ إبراهيم عليه السلام هذا الاسلوب البليغ لايصال الناس إلى التوحيد ، وهي تشبه طريقته في كسر الأصنام وإبقاء صنم واحد ، وإرجاع قومه اليه ، كما ورد في قوله تعالى : ( قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماوَاتِ وَالأرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذلِكُم مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ *
قَالُوا مَن فَعَلَ هذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ *
قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمَ *
قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبيرُهُمْ هذَا فَسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ *
فرجعوا إلى أنفسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى
____________
1) سورة الأنعام : 6|75 .
2) سوره الأنعام : 6|74 .

( 46 )

رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمَتَ مَا هؤُلاَءِ يَنطِقُونَ *
قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَالا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) (1) ، وكذلك محاججته لنمرود المعبّر عنها في قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِيْ وَيُمِيتُ .
قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ .
قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ .
فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (2).

علّة توجّه البشر إلى الله
هل إنّ ما ذكرناه كافٍ في إثبات علّة توجّه البشر نحو الله ؟ أم لا يزال السؤال قائماً عن هذا التوجّه ، لاَيّ سبب كان ، ولماذا يتّخذ الإنسان ديناً وعبادةً وطقوساً ؟
وفي معرض الجواب على مثل هذا السؤال ، الذي يتطلب الكثير من الكلام ، وصياغة براهين عقلية ونفسية معمّقة ومتعددة ، إلاّ أننا سوف نقتصر على اليسير منه طلباً للاختصار . وعليه نقول :
إن ذلك ناتج بسبب قانونين أساسيين في الفكر البشري ، أحدهما قانون السببية ، والآخر قانون الغائية .
أولاً ـ قانون السببية : ويتلخّص هذا القانون في أنّه لا يوجد شيء من
____________
1) سورة الأنبياء : 21|56 ـ 67 .
2) سورة البقرة : 2|258 .

( 47 )

الممكنات من دون علّة أوجدته ، بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً ، وذلك ناشيء من كون الممكن ( أي الشيء الموجود ) لا يحمل السبب الكافي لوجوده ، وكذا لا يستقلّ بإحداث شيء ، فكما أن الممكن لا يستطيع إيجاد نفسه ، فبطريق أولى لا يستطيع أن يوجد غيره ، بحسب القاعدة التي تقول: « فاقد الشيء لا يعطيه » . لذلك لا بد أن يقضي العقل الإنساني بوجود سبب وعلّة لوجوده .
وهذه العلّة لا بد أن تكون حكيمة ، ـ خلافاً لنظرية الصدفة ـ لما نرى من الاتساق والتنظيم الذي يكتنف الوجود برمّته ، من الذرّة إلى المجرّة ، فهذا الوجود المتناسق لا يمكن إيعاز علّته إلى أساس فوضوي عشوائي .
وكذا يقطع العقل البشرى ، أنّ هذه العلّة ذات حياة ، وعلم ، وقدرة ، وإرادة . ولو تخلّف ذلك ـ بمقتضى قاعدة العلية ـ لا نقطع الوجود وأصبح عدماً.
إذن فمدبّر هذا الوجود ، والمسيطر عليه والمؤثّر فيه ، هو الله تعالى ،لذلك لا بدّ للاِنسان أن يدين بالاعتراف به ، والخضوع إلى أوامره ،التي جاءتنا عن طريق أنبيائه ، وهذا هو الدين .
سئل أمير المؤمنين عليه السلام عن إثبات الصانع . فقال : « البعرة تدلُ على البعير ، والروثة تدلّ على الحمير ، وآثار القدم تدلّ على المسير ، فهيكل علوي بهذه اللطافة ، ومركز سفلي بهذه الكثافة ، لا يدلاّن على اللطيف الخبير ؟! » (1) .
وقيل للرضا عليه السلام : ما الدليل على حدوث العالم ؟ فقال : « أنت لم تكن
____________
1) نوادر الأخبار | الفيض الكاشاني : 65 .

( 48 )

ثمّ كنت ، وقد علمت أنك لم تكوّن نفسك ، ولا كوّنك من هو مثلك » (1).
ثانياً ـ قانون الغائية : وموجبه أنّ كلّ نظام مركّب متناسق مستقرّ ، لا يمكن أن يحدث من غير قصد ، وأن كلّ قصد لا بدّ أن يهدف إلى غاية ، وأنّ هذه الغاية إذا لم تحقّق إلاّ مطلباً جزئياً إضافياً منقطعاً ، تشوّقت النفس من ورائها إلى غاية أُخرى ، حتّى تنتهي إلى غاية كلية ثابتة ، هي غاية الغايات ، وذلك لاَنّ الإنسان ما انفكّ يوماً عن السؤال عن ثلاثة أشياء ، أرّقت مضجعه ، وحيّرت عقله ،وجعلته في فكر دائم وهي : إنّه من أين أتى ؟ وإلى أين هو قاصد ؟ ولماذا خُلِق ؟
أترى أن هذا الإنسان يعيش في هذه الحياة بلا غاية ولا هدف يسير نحوه وإليه ؟ أتراه قائماً على وجه يتخبّط في سير حياته ، لا يدري إلى أين يريد ، ولماذا وجد ، ولماذا يموت ؟!
إنّ من السخف أن يفكر الإنسان بأنّ وجوده عبث؛ لاَنّه بذلك يسلب إنسانيته وفكره وحضارته ، وكلّ نتاج بشري في جميع الأصعدة ، فلا تستقيم حكمة الوجود إلاّ بضرورة وجود غاية لهذا الوجود ، وهنا يبحث هذا الإنسان عن الغاية .
ولكن ربما أخطأ الإنسان في معرفة تلك الغاية ، فتصوّر أن الخالق هو ذلك الصنم الذي يرمز إلى قوة خفية ، أو أن الخالق هو الشمس أو القمر أو النجوم أو غيرها ، ولكن الذي ينبغي قوله : إن الإنسان لا يصل إلى هذه المراحل الخسيسة إلاّ بعد أن يعجز ـ بحكم أشياء عديدة ـ عن الوصول إلى الحقيقة ، لذلك نراه يتعلق بهذه الأشياء ليسدّ هذا الفراغ والحاجة النفسية
____________
1) نوادر الأخبار | الفيض الكاشاني : 67 .

( 49 )
والفكرية لديه.
أما الإنسان الحرّ والمتفتّح على الوجود بكل كيانه ، والذي تدبّر بعقله هذا الصنع العظيم ـ كما أوردنا قصة إبراهيم عليه السلام ـ فإنّه يقطع أن الغاية لا بدّ أن تكون متناسقة مع هذا الوجود العجيب ، وهذه الحكمة الكبيرة ، قال تعالى : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ... ) (1) .
وقال تعالى : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) (2).
فلا يمكن أن يكون هذا الخالق صنماً يصنعه الإنسان بيديه ، أو يكون شيئاً من الأفلاك والنجوم ، أو الأشخاص ، أو المظاهر الطبيعية وغيرها؛ لاَنّ كل أُولئك محدود وموجود ومخلوق وناقص ، ولاَن من الأُمور الفطرية التي فطِر الناس عليها هو النفور من النقص ، والاتجاه نحو الكمال ، لذلك فإنّ الإنسان ينفر من كلّ نقص وعيب .
فمبدأ الغائية هو من ثمار التوحيد ، ولا يمكن أن يستقيم إلاّ من خلاله ، وأنى لهذه المعبودات الناقصة من تحقيق الكمال لنفسها ، فضلاً عن إعطائه لغيرها ، على قاعدة : « أنّ فاقد الشيء لا يعطيه » ، وصدق الله تعالى إذْ يقول : ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) (3) .
____________
1) سورة فصلت : 41|53 .
2) سورة المؤمنون : 23|115 ـ 116 .
3) سورة الحج : 22|73 .