الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

مع أبي بكر



(26)

وحُشِر الناس جميعاً « ليوم تشخص فيه الأبصار مُهِطِعين مقِنِعي رؤوسهم لا يرتدُّ إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء » (1) « يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا » (2) « وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلماً ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضما » (3) .
فلا يوم كمثل ذلك اليوم في هوله وشدته « يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد » (4) ونصبت الموازين بالحق « ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين » (5) .
وعُقِدت محكمة العدل الكبرى ، الذي لا يظلم فيها أحد و « إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيما » (6) .
وبينما الناس في غمرة وذهول ، قد شغلتهم المحنة الكبرى ، وطافت بهم الهواجس المريرة وإذا بهالة من النور أضاءت المحشر فتطلعت إليها الأبصار ، وتسأل عن ذلك فإخبروا بأن خاتم النبيين وسيد المرسلين قد أقبل .
وأطل النبي صلى الله عليه وآله على المحشر ، وقد حفّت به الأنبياء والأوصياء والملائكة
____________
1 ـ سورة ابراهيم : آية 42 ـ 43 .
2 ـ سورة طه : آية 109 .
3 ـ سورة طه : آية 11 ـ 12 .
4 ـ سورة الحج : آية 2 .
5 ـ سورة الأنبياء آية 46 .
6 ـ سورة النساء : آية 39 .

(27)

فانطلقت الحناجر بالتهليل والتكبير ، وغمرت الناس موجات وموجات من المسرات ، فنصب له منبر من نور وأحاطه الله بألطافه وتكريمه ليظهر عظيم منزلته وسمو مكانته أمام عباده ، واعتلى صلى الله عليه وآله ذروة المنبر ، وهو آخذ بيد وصيه وخليله أمير المؤمنين عليه السلام .
وتبدأ المحكمة ويُشرع في الحساب « ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى » (1) ويبتدأ النبي صلى الله عليه وآله بعرض ظلامة وصيه وباب مدينة علمه أمير المؤمنين ، وما جرى عليه من الضيم ، ويعدد ما حل به من الرزايا والنكبات .
ويسود صمت رهيب وحزن مرهق على أهل المحشر فيندفع رعيل من الناس ، قائلين :
يا رسول الله ، سل خلفاءك فهم الذين أستأثروا بالخلافة من بعدك ، ودفعوه عن مقامه الذي جعلته فيه .
ويلتفت إليهم النبي صلى الله عليه وآله وهم محدقون به قائلاً لهم :
ماهو المبرر لكم في تقمص الخلافة ، والإستبداد بالأمر ، ألم تبايعوا علياً يوم ( غدير خم ) ؟ .
ألم تسمعوا مني النصوص المضافرة في حق علي ؟ ما كان ظني بكم أنكم تستبدون بالخلافة ، وتحرمون امتي من التمتع بعدل علي ، ومساواته .

دفـاعـهـم :

وبعد ما فرغ النبي صلى الله عليه وآله من توبيخه للقوم ، وإقامته الأدلة الوافرة على حق علي ، وأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم انبرى القوم بإجماعهم إلى الدفاع عن نفوسهم قائلين :
« يا رسول الله : لقد اجتهدنا بآرائنا ، وتأولنا بعقولنا . . » ففسرنا قولك في علي : « من كنت مولاه فهذا علي مولاه » أنك تريد : من كنت صديقه أو ناصره
____________
1 ـ سورة النجم : 31 .
(28)

أو حبيبه فهذا علي كذلك (1) .
تأولنا قول الله تعالى : « اليوم أكملت لكم دينكم » بإكمال الأحكام من أصول الدين وفروعه .
وتأولنا ظاهر السنة . . وإنه ليرى الحاضر ما لا يراه الغائب .

استـنكار النـبي :

ويقطع النبي صلى الله عليه وآله كلامهم ، وقد تميز فرقاً من الغيظ ، وساءه ما اعترفوا به من تأولهم لكتاب الله ، فرد عليهم قائلاً بنبرات ملاؤها الأسى والشجون : ويلكم أنا سيد الحكماء ، وخاتم الرسل والأنبياء ! ! أيجوز عليَّ أن أقف ذلك الموقف المشهود في « يوم غدير خم » فأوقف تلك الحشود الزاخرة من المسير ، واحبسهم بالهجير من دون أن أقصد أمراً خطيراً وهو تعيين لأمير المؤمنين خليفة من بعدي ؟ ؟
لأي شيء أحتّم على جميع الحجيج أن ينزلوا بذلك المكان الذي لا ماء فيه ، ولا كلاء ، وقد ألزمتهم جميعاً أن يبلغ الحاضر منهم الغائب بما قلته .
على مَ هذا الأهتمام ، وهذا البيان أفيجوز أني أريد أن علياً ناصري أو صديقي أو حبيبي ؟ ؟
____________
1 ـ للشيخ الطوسي تحقيق رائع في كلمة الولي في تلخيص الشافي 2 ـ 175 ـ 183 .
2 ـ سورة النجم : آية 3 ـ 4 .

(29)

أو لأبين لهم أن أحكام الله كاملة . . وهي مسطورة في كتاب الله يتلونه آناء الليل وأطراف النهار ؟ ؟
إنه لا يليق بي أن اريد ذلك ، ولا ينبغي أن أصنع غير الحكمة وفصل الخطاب « إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثمَّ أمين وما صاحبكم بمجنون » .
إن قصدي هو أسمى من ذلك وهو وقايتي للامة من الإنحارف وسلامتها من الفتن والأهواء ، وإنكم بالذات لتعلمون غايتي من تعييني لعلي ولياً لعهدي ، وقائماً مقامي من بعدي ، ليبين أحكام القرآن ، ويوضح لكم ناسخه من منسوخه ، وخاصه من عامه ومقيده من مطلقهِ ، مبُيًنه من مجُمله ، فمن يعرف منكم تأويل القرآن ؟
ويسود عليهم صمت رهيب ، وحزن رهيب ، ولا يجدون أي مجال للاعتذار .

النبي صلى الله عليه وآله مع أبي بكر :

ويلتفت النبي إلى الخليفة الأول فيخصه بالسؤال قائلا :
يا أبا بكر بمَ أستبحت هذا المقام السامي ؟ والذي هو دون النبوّة بمرقاة ، وليس أمره بيد أحد إنما أمره بيد الله يختار له من يشاء من عباده .
وهل من البر ، والوفاء ، وحسن المجاملة ، أن تسعى لطلب الخلافة كالمسعور ، وجثماني مسجى في حجرتي ، ولم أوار في ضريحي ، وأوسد في ملحودتي ؟
وهل من الانصاف أن تستبد في الامر وعلي وأهل بيتي قد فجعهم الحادث الجلل ، وأوهى قواهم المصاب الأليم ، فقد كان فقدي قارعة نزلت بهم فصاروا يفترشون القلق ، ويتوسدون الأرق ، وتساورهم الهموم ، ويسامرون النجوم ، ويعالجون البرجاء ، ويتجرعون الغصص .
وقد صار وزيرك وباني دولتك عمر بن الخطاب يوطد لك الأمور ، ويربك الناس ، ويبلبل أفكارهم بندائه القاسي الرهيب « إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد مات . وإنه والله ما مات ، ولكنه ذهب إلى ربه ،


(30)

كما ذهب موسى بن عمران . . والله ليرجعن رسول الله ، وليقطعن أيدي رجال زعموا أنه مات » .
كل ذلك ليشغلهم عن البيعة لوصي وخليفتي ، فهل أن عمر يؤمن بقرارة نفسه أني لم أذق الحِمام ، والله تعالى في كتابه يقول : « إنك ميت وإنهم ميتون » و قال تعالى : « كل نفس ذائقة الموت » ثم ما المسوغ له أن يرمي من قال بموتي بالنفاق والإرتداد ؟
أليس ذلك من خطوط المؤامرة الكبرى التي دبرتها أنت وحزبك على صرف الخلافة عن أهل بيتي :
لقد فعل عمر ذلك ليشغل المسلمين حتى تعود من بيتك بالسنح ، وعندما قفلت راجعاً دخلت داري ، فلم يستقر بك المجلس حتى توارت عليك الرسل من عمر ومن باقي حزبك وهم ينادونك :
« أُخرج لأمر عظيم »
فما هو ذلك الشيء العظيم الذي هتف به حزبك ؟ ؟
لقد تناسيتم موت منقذكم ، ولم يفجعكم الحادث الجلل ، انصرفتم إلى الخلافة والملك .
يا أبا بكر هل هناك شيء أعظم من موت نبي بعثه الله رحمة للعالمين ، فأنقذ الله له امة كانت تأكل القدَّ ، وتشرب الرنق قد خيم عليها الذل ، وساد فيها الجهل والخنوع ، فمنّ الله عليها فيّ فأنقذتها من جرف الهلكات ، وأورثتها ملك كسرى وقيصر .
لقد كانت بأقصى مكان من الذل والهوان ، فرفعت من أمرها ، وأنقذتها من محنتها وشقائها ، وأنرت لها الطريق ، وأقمت فيها موازين العدل ، فتناسيتم ألطافي عليكم ، ولم تشغلكم مصيبتي ، ولم تستعظموا موتي ، وإنما استعظمتم الإمرة والسلطان .
وخرجت مسرعاً ، لم تذهلك المحنة الكبرى بفقدي ، فرأيت الناس حيارى


(31)

قد اذهلهم الخطب ، وأخرسهم الحادث الجلل فرفعت عقيرتك مندداً بهم قائلاً :
« أيها الناس من كان منكم يعبد محمداً فان محمداً قد مات ، ومن كان منكم يعبد الله فان الله حي لا يموت » .
فهل أحد من المسلمين يا أبا بكر كان يعبدني من دون الله ؟ ، وهل أُثِر عن أحد منهم أنه اتخذني الهاً ؟
ألم يُجمِع المسلمون أني عبد الله ورسوله اصطفاني لرسالته واختصني بوحيه .
لعلك تريد أن دور محمد قد أنتهى ، وجاء دور جديد ، وتركت الناس حيارى من دون أن تخفف عنهم لوعة المصاب وانصرفت ومعك عمر بن الخطاب وأبو عبيدة الجراح مهرولين إلى سقيفة بني ساعدة ، بعد أن علمت باجتماع الانصار فيها ، لقد انطلقتم جميعاً مسعورين مخافة أن يفوت الأمر منكم ، وكانوا يتداولون الرأي في مصيرهم ، وفيما يؤل إليه أمرهم ، فهل سيخرج سلطان الاسلام من يثرب ، دار هجرة النبي صلى الله عليه وآله إلى مكة بلدته وبلدة ذويه أو انه يبقى ماكثاً سلطانه فيهم .
ويتساءلون فيما بينهم هل ان المهاجرين يظفرون بالحكم ؟ وانهم سيؤلونهم الخير الذي أوصيت به إليهم .
إنهم ليذكرون كيف اختصصتهم ، وكيف شِدتَ بذكرهم ، وكيف قلت عنهم : ( إنهم بيعتي ، وانهم لجاي ، واني السالك دائماً شعب الأنصار ، وإن سلك الناس شعباً سواه ) كل هذا قد وضعوه على مائدة البحث .
وكلهم كانوا يؤمنون ايماناً لا يخامره شك أن تراثي لن يترك داري ، ولن يخرج عن أحب الخلق إلي ، وكان المهاجرون يشاركون الأنصار في هذا الرأي ، ولكن سرعان ما أختلف الفريقان فبدت بوادر من الشكوك والظنون ، اُدّت إلى قلب الأوضاع واختلاف الكلمة ، وتشعب الرأي وصدع الشمل فقد قال قائل منهم :
« منا أمير ومن قريش امير »


(32)

وجلس سعد بن عبادة ، شيخ الخزرج يدعو الأنصار أن يوحدوا كلمتهم لئلا يخرج الأمر من أيديهم ، ولا يذهب عنهم بالفضل من تخلف عنهم بالفضل ، وكان سعد مريضاً لا يسمع صوته إلا همساً ، فوقف إلى جواره أبنه قيس يبلغ عنه ما يقول :
وكادت الانصار أن تستجيب للدعوة ، وهمت أن تبايع شيخ الخزرج لسابقته في الدين ولفضله وسخائه ، وكان ذلك صاعقة على حزبك الذي تشكل في أيام حياتي ، ومن اعضائه عويم بن ساعدة الاوسي ، ومعن بن عدي حليف الأنصار ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وخالد بن الوليد ، وقنفذ بي عمير ، وانضم إلى هؤلاء المنشقون من الانصار والحاقدون على سعد أمثال بشير بن سعد بن ثعلبة الخزرجي ابن عم سعد ، وأسيد بن الحضير سيد الأوس وقد دفعتهم الانانية والحسد لسعد أن ينال الزعامة على المسلمين ، فبعثوا اليك بالحضور . فاقتحمت أنت وصاحباك عمر وأبو عبيدة ندوة الانصار وكبست عليهم سقيفتهم .
وقمت بتنفيذ مخططك خوفاً أن يرجع إلى الانصار والمهاجرين رشدهم ، فاوسعت رقعة الخلاف ، وأضريت نار الفتنة ، وأثار أصحابك وحزبك اللجاج والنزاع مبادرين في تعجيل الأمر مخافة أن يحضر أهل بيتي فتظهر حجتهم ويفوزوا في الأمر ، واغتنمتم انشغالهم برزيتي وانصرافهم إلى تجهيزي .
وقدمت المهاجرين على الأنصار ورشحتهم للخلافة مستدلاً على ذلك قريشاً اولى بالنبي فهم بيضته التي تفقأت عنه .
لقد حججت الانصار بأنكم شجرة النبي ، وتغافلت عن أهل بيتي وعترتي


(33)

فهم أغصان تلك الشجرة ، وعلي ثمرتها ، وهو مني بمنزلة الرأس من الجسد بل تمنزلة العينين من الرأس ، وان له البيعة في عنقك يوم ( غدير خم ) وكنت بالذات من السابقين لمبايعته ، وقد قال له صاحبك عمر : « بخ بخ لك يابن أبي طالب اصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ، ومؤمنة » .
نسيت ذلك كله ، فلم تذكر علياً بقليل ولا بكثير ، وأثرت كوامن الغيظ في نفوس الأنصار حتى كادت الفتنة أن تقع بينكم وبينهم ، ولما خفت من تطور الأمر قابلت الانصار بلين القول ومعسول الكلام ، وذبت تصنعاً أمامهم فاعترفت لهم بالجميل ، واخذت تعدد فضائلهم ومواقفهم المشرفة ، فرشحتهم للوزارة ، واخذت مكيدة منك بضبعي عمر ، وأبي عبيدة ، فرشحتهما للخلافة ، وأمرت المسلمين بمبايعة أيهما شاؤوا ، ويمتنع صاحباك أن يتقدما عليك ، مكيدة منهما ، وتضليلاً للرأي العام ، وعملاً بالمخطط المرسوم لهما ، فتسابقا لمبايعتك ، وتبارى حزبك الى بيعتك وأشتدوا على حمل الناس بالقوة والقسر الى بيعتك ، فقام أمرك بالقسر والعنف ، ولم يستند إلى الرضا والاختيار .
واشتد الزحام حول سعد بن عبادة ، وكانت كلماته تلهب العواطف ، وتثير الحماس ، وقد ملكت دعوته اهتمامهم ، واستغرقت حواسهم ، وكانوا يتلقفون همساته كمثل تلقفهم لخطرات الأنام ، فقد هان لديهم ـ بعد ما أثرت نار الفتنة ـ حتى كادوا يقتلونه وهم لا يشعرون .
وأرتفع صوت محذر من أنصار شيخ الخزرج .
« يا قوم اتقوا سعداً لا تطأوه » .
فما اتمها حتى رنت كرجع الصدى كلمات جافيات غضاب .
« اقتلوه قتله الله فإنه صاحب فتنة » (1) . وتمت بيعتك مشفوعة بالإرهاب والتهديد ، وقد حف بك حزبك يزفونك
____________
1 ـ العقد الفريد 3 ـ 63 .
(34)

إلى مسجدي زفاف العروس (1) وأنا ملقى على فراش الموت ، قد انشغل أمير المؤمنين بتجهيزي ، ولما بلغه أحتجاجك على الأنصار بأنك من قريش وهي أولى بالنبي لأنها أسرته اندفع إلى الرد عليك قائلاً :

فان كنت بالقربى حججت خصيمهم * فـغـيرك أولى بالـنبي وأقـرب
وإن كنت بالشورى ملكت أمورهم * فكيف بهذا والـمشيرون غـُيـّبُ

ولما حملته على البيعة قسراً اندفع إلى محاججتك وهو رابط الجأش ثابت الجنان قائلاً لك :
« أنا أحق بالأمر منكم ، لا أبايعكم ، وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار ، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي صلى الله عليه وآله وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً ، الستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر لما كان محمد منكم فاعطوكم القيادة ، وسلموا إليكم الامارة ، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار نحن أولى برسول الله حياً وميتاً فانصفونا إن كنتم تؤمنون والا فبوؤا بالظلم وانتم تعلمون » .
فلم تصغ لاحتجاجه ، ولم تذعن لدليل ، ومضيت مزهواً لتقمصك بالخلافة واستبدادك بالأمر ، وكان ذلك في أعظم الكوارث والخطوب التي حلت بأمتي ، وقد اندفع عتبة بن أبي لهب وهو يذرف الدموع ، ويقول :

ما كنت أحسب أن الأمر منصرف * عن هـاشم ثـم منها عن أبي حسن
عن أول الـناس إيـماناً وسابقـة * وأعـلم الـناس بالـقرآن والـسنن
وآخـر الـناس عهداً بالـنبي ومن * جبريل عون له في الغسل والـكفن
من فـيه مـا فـيهم لا يمترون به * وليس في القوم ما فيه من الحسن(2)

وانطلق اليك ولدي الحسن وأنت على منبري موجه إليك لاذع النقد قائلاً لك :
____________
1 ـ نهج البلاغة لابن ابي الحديد 2 / 8 .
2 ـ تأريخ أبي الفداء 1 ـ 156 .

(35)

« أنزل . . أنزل عن منبر أبي وأذهب إلى منبر أبيك » .
فبُهتَ وتحيرت ، وخاطبته بناعم القول قائلاً ؟
« صدقت والله إنه لمنبر أبيك لا منبر أبي » (1) .
ومع اعترافك بأنه منبر أبيه لا منبر أبيك فكيف احتللته واستبحت مقامه ؟
واحتج عليك صاحبي ، وصديقي ، ومن الحقته بأسرتي وهو سلمان الفارسي فقد قال لك أمام جمع حاشد من المهجارين والأنصار :
« يا أبا بكر . . إلى من تسند أمرك إذا نزل بك ما لا تعرفه ؟ ! وإلى من تفزع إذا سئلت عما لا تعلمه ؟ وما عذرك في تقدم من هو أعلم منك ، وأقرب الى رسول الله صلى الله عليه وآله وأعلم بتأويل كتاب الله عزّ وجلّ ، وسنّة نبيه ، ومن قدّمه النبي في حياته ، وأوصاكم به عند وفاته ، فنبذتم قوله ، وتناسيتم وصيته ، وأخلفتم الوعد ، ونقضتم العهد ، وحللتم العقد الذي كان عقده عليكم من النفوذ تحت راية أسامة بن زيد » (2) .
وانطلق الطيب ابن الطيب عمار بن ياسر وهو يحتج عليك وعلى من قدّمك لهذا المنصب الخطير قائلاً :
« يا معاشر قريش ، ويا معاشر المسلمين ، إن كنتم علمتم وإلا فاعلموا أن أهل بيت نبيكم أولى وأحق بإرثه ، وأقوم بامور الدين ، وآمن على المؤمنين ، وأحفظ لملته ، وانصح لأمته ، فمِروا صاحبكم فليرد الحق إلى أهله قبل أن يضطرب حبلكم ، ويضعف أمركم ، ويظهر شقاقكم ، وتعظم الفتنة بكم ، وتختلفون فيما بينكم ، ويطمع فيكم عدوكم ، فقد علمتم أن بني هاشم أولى بهذا الأمر منكم ، وعلي أقرب الى نبيكم ، وهو من بينهم وليكم بعهد الله ورسوله ، وفرق ظاهر قد عرفتموه في حال بعد حال عند سد النبي صلى الله عليه وآله
____________
1 ـ الرياض النضرة 1 ـ 139 ، شرح النهج لابن ابي الحديد 2 ـ 17 .
2 ـ احتجاج الطبرسي ص 42 ـ 43 .

(36)

أبوابكم التي كانت إلى المسجد كلها غير بابه ، وإيثاره إياه بكريمته فاطمة ورد من خطبها إليه منكم ، وقوله صلى الله عليه وآله « أنا مدينة العلم وعلي بابها ، ومن أراد الحكمة فليأتها من بابها » وإنكم جمعياً مضطرون فيما أشكل عليكم من أمور دينكم إليه وهو مستغن عن كل أحد منكم إلى ما له من السوابق التي ليست لافضلكم عند نفسه ، فما بالكم تحيدون عنه ، وتبتزون علياً على حقه ، وتؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، بئس للظالمين بدلاً اعطوه ما جعله الله ، ولا تولوا عنه مدبرين ، ولا ترتدوا على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين » (1) .
واحتج عليك غيرهم من اعلام الصحابة من الذين سبقوا الى الاسلام ولكنك أعرت حديثهم أُذناً صمّاء ، وأخذت تلتمس المعاذير الى استبدادك بالأمر .
____________
1 ـ احتجاج الطبرسي ص 43 .
(37)

مواهـب علـي وملـكاته



(38)

وبعد ما عرض النبي صلى الله عليه وآله سجلاً من الأحداث الرهيبة التي رافقت بيعة أبي بكر أخذ يشيد في مواهب علي ، وعبقرياته ، ويبين لأهل المحشر ما امتاز به وصيه من الملكات ، والنزعات ، وما قام به من الأعمال الرفيعة في خدمة الاسلام ، قائلا :
لقد رافقت الفضائل علياً من حين ولادته ، وكان في جميع أدوار حياته مثالاً للعدل ، والورع ، والشجاعة ، والعبادة ومعدناً للحكمة والعلم ، وأخذ صلى الله عليه وآله يعد بعض فضائله ومزاياه .

ولادة علي :

وتميز علي عن سائر البشر بمولده ، فقد ولد في أشرف بقعة على الأرض وهي الكعبة التي جعلها الله قبلة للأنام (1) ولم يختص أحد بهذا الفضل سواه ، فقد ولد مسلماً ، مركز الايمان ، قد فتح عينيه على الاسلام فلم يعرف قط عبادة الأصنام ، والأوثان ، فياله من مولود مبارك محظوظ ، فقد ولد في بيت الايمان والعبادة والهدى .

نشـأتـه :

ونشأ علي في بيتي ، متغذياً بعلمي ، ومرتوياً بفضائلي ، أرسم له في كل يوم أمثلة للهدى والصلاح ، وكان يشاهد صلاتي ويسمع مناجاتي لربي .
لقد استأذنت عمي أبا طالب أن يترك لي علياً ليعيش معي فأذن لي بذلك (2) فتأدب عل يدي ، وتأثر بهديي ، وارتسمت في أعماق نفسه ودخائل ذاته جميع نزعاتي ، ولم يعرف في طفولته لهو الأطفال ولا صبوة الشباب وهفواتهم ،
____________
1 ـ جاء في مستدرك الصحيحين 3 ـ 483 أنه قد تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في جوف الكعبة .
2 ـ مستدرك الصحيحين 3 / 576 .

(39)

فقد قضى بواكير حياته النضرة يبهرها نوري وعلمي وهداي وتقاي ، ألا بوركت تلك النشأة التي ليس لها نظير .

سبقه الى الاسلام :

وعلي أول من أجاب دعوتي وآمن برسلاتي (1) فهو « أول الناس إسلاماً وأسبقهم إيماناً » فكان اللبنة الأولى في بناء صرح الاسلام ، كما كان المنجد الأول لي والمشاطر الوحيد لي بالشدائد والأخطار لقد سبق إلى الاسلام وآمن بالأهداف والمثل التي جاء هذا الدين ليقيمها ، وقد سمع آيات القرآن ، وتعاليم السماء ، وهي مشرقة متألقة ، فوعاها قلبه ، ووقف على أسرارها ، وهو القائل :
« سلوني عن كتاب الله ما شئتم ، فوالله ما من آية من آياته إلا وأنا أعلم أنها نزلت في ليل ، أم في نهار » .
هذا هو علي التلميذ الأول للقرآن ، والسابق الأول للاسلام .

نسبه الوضّاء :

نسب وضّاء ، ومجد تليد فاق جميع بيوتات قريش ، إنه ابن أبي طالب مؤمن قريش ، وأوسعهم أفقاً ، وأذكاهم قلباً ، وأوفرهم إيماناً ناصر الإسلام في أيام محنته وغربته ، وثبت ثباتاً باهراً أمام الزعزاع والعواصف .
وينطلق الرسول صلى الله عليه وآله في بيان فضائل عمه ، وما أسداه عليه من الاحسان والتاريخ، والحماية ، لقد قال عمي لقريش بصلابة وإيمان :

ولـقد عـلمت بـأن ديـن مـحمد * مـن خـير أديـان الـبرية دينـا
واللّـه لـن يصلوا إلـيك بجمعهم * حـتى أوسـد في الـتراب دفينـا

____________
1 ـ صحيح الترمذي 2 / 301 ، أسد الغابة 4 / 17 مسند الإمام أحمد بن حنبل 4 / 368 ، تأريخ الطبري 2 / 55 ، مستدرك الصحيحين 3 / 465 وجاء فيه أن علياً أول من أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وآله ، ثم قال : هذا حديث صحيح الأسناد ، وذكره الهيتمى في مجمع الزوائد 9 ـ 102 .
(40)

ولقد ظل يناصرني ، ويحمي جانبي ، ويرد عني الإعتداء فما أعظم ألطافه ، علي ، ولما حضرته الوفاة ، وجّه بوصيته إلى بني هاشم قائلا لهم : « وأنتم يا معشر بني هاشم ، أجيبوا محمداً وصدّقوه ، تفلحوا وترشدوا » .
وبعد وفاته فقدت الناصر والمحامي ، فاشتدت وطأة المشركين عليَّ ، وعظمت محنتي ، وكثر بلائي ، فقلت « ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب » ويلتفت النبي صلى الله عليه وآله إلى أهل المحشر فيقول لهم :
إن هذا العملاق العظيم الذي أُتُرعت نفسه بالإيمان والتقوى ، ونصر الاسلام ووقف كالطود في حمايتي ، انظروا أن قوماً من أمتي يزعمون أنه مات مشركاً ، انه في ضحضاح من نار ويعلو الضحك من الجميع ، وتسود السخرية والاستهزاء من هؤلاء الذين لا رشد لهم .
ويستمر النبي صلى الله عليه وآله في تعداد فضائل عمه ثم يقول :
إن علياً ابن هذا الفذ العظيم ، وقد ورث فضائله الأصلية ، وورث إيمانه العميق .
وعلي هو حفيد لعظيم آخر من عظماء الانسانية وأبطالها ذلك هو عبد المطلب « شيبة الحمد » وقد وصفوه فقالوا : « إنه كان يطعم الناس في السهل والوحوش في الجبال » وهو صاحب الايمان الوثيق الذي لم تؤثر فيه الروح الوثنية السائدة في عصره وبلاده .
وقد ورث عبد المطلب المكارم والمآثر من أبيه عمروالعلا هاشم الذي أطعم الناس في أيام سغبهم وجوعهم .
وهو ابن عبد مناف أعف الناس لساناً ، وأعلاهم بياناً ، وأقواهم جناناً .
وهو ابن قصي صاحب البيت ، واللواء ، وسادن الحرم ، ومعزّ الجوار .
وقد ورث علي فضائل آبائه ، ومكرماتهم ، وورث عنهم قوة الايمان ، والسخاء ، والشجاعة ، والعزم ، وقد ظهرت بوادر هذه الصفات في باكورة حياته بما فاق أقرانه .


(41)

بـطولـته :

إنها طاقات جبارة من البطولة تمثلت في ابن أبي طالب فبلغ بها القمة ، وتجاوز إلى أعلى مسئولياتها في نبل واستقامة وشرف .
لقد كان مكين البنيان في شبابه وكهولته ، وشيخوخته ، قد تساوت في ذلك جميع أدوار حياته ، كان يقدم مهرولاً للحرب لا يلوي على شيء . . . وقد مكنته قوته الجسدية البالغة في المكانة والصلابة من رفع الفارس ، وجلّهِ الأرض به غير جاهد ولا حافل ، وبلغ من عظيم قوته أنه كان يزحزح الحجر الذي لا يزحزحه إلا رجال .
إن بطولة علي من البطولات النادرة فلم يتهيب من مبارزة أحد مهما بلغ من الشجاعة ، وذيوع الأسم فقد بارز عمرو بن ود فارس الجزيرة والذي يُعد بألف فارس ، وطرحه أرضاً يتخبط بدمه .
وازدانت بطولته بالاستقامة ، والعدالة ، والشرف والنبل والورع عن البغي ، والمروءة مع الخصم قوياً كان أو ضعيفا ، وسلامة نفس من البغي والحقد ، فلم يبدأ أحداً بقتال ، ولا مندوحة عنه ، وقد أوصى ولده الحسن فقال له :
« لا تدعو إلى مبارزة ، فإن دُعيت إليها فأجب ، فإن الداع إليها باغ ، والباغي مصروع » .
إن بطولة الامام لم تكن مشفوعة بدافع الأغراض المادية ، ولم تمثل عدواناً على أي إنسان ، وإنما كانت بدافع الحق ونصرة القيم العليا التي جاء بها الاسلام .
ومن شهامته التي تحكي عن مدى رحمته أنه أوصى أصحابه في حرب الجمل أن لا يقتلوا مُدبراً ، أو يجهزوا على جريح ، أو يكشفوا ستراً ، أو يأخذوا مالاً .
إنها بطولة يقودها العقل ، وليس للعاطفة فيها أي مجال ، إنه الشرف الذي تحلّى به سليل هاشم .
ومن أروع صور البطولة إعراضه عن عمرو بن العاص عدوه اللدود حينما كشف عن سوءته فغض بصره عنه ، وأرجع سيفه إلى غمده ، وتركه ينجو بحياته ، وهو


(42)

أخطر عليه من جيش مجهز . إن شرف هذه البطولة من أخلاق علي الذي لا ينشد إلا النصر الشريف .
لقد كانت ظاهرة البطولة من الخصائص الذاتية لابن أبي طالب وقد عُرف بها منذ نعومة أظفاره فقد كان عمره الشريف عشر سنين ، فتحدى جبابرة قريش وطغاتها عندما بلغتهم أمر ربي وطلبت منهم العون والنجدة لينصرونني على أداء رسالة الله ، فاستهزأوا بي ، وسخروا مني ، فهب علي غير مكترث بهم قائلا: « أنا نصيرك » .
إنها البطولة الرائعة التي ليس لها نظير .

مبيته على فراش الرسول :

وتضحية فذّة قام بها ربيب الوصي ، في رباطة جائش ، وإيمان وثيق وذلك في مبيته على فراشي ليُعمّيَ على قريش خروجي من مكة .
لقد قدم علي على هذه التضحية الرائعة ، وجعل نفسه قرباناً للوصي ، فأي فداء عظيم يكون مثل هذا الفداء ؟ !!
وينبري الرسول صلى الله عليه وآله فيتلو على أهل المحشر ما قام به وصيه في تلك اللحظة الحاسمة من التضحية في سبيله يقول صلى الله عليه وآله :
لقد طلبت منه المبيت على فراشي حينما تجمعت قوى الشرك والإلحاد لوءدت ، فاستبشر فرحاً ، ونظر إليّ نظرة عطف وحب فقال لي : وبات مثلوج الفؤاد ، مبتهج النفس ، مرتاح الضمير ، قرير العين ، غير خائف ولا وجِل ، مع أن مصيره بحسب العادة هو القتل ، إذ لا ينجو من الوحوش الكاسرة التي صممت على قتلي .


(43)

ويبهر هذه البطولات الرائعة جميع أهل المحشر فينبري شاعر موهوب قد استولى عليه الإعجاب والإكبار فيستأذن من النبي ليتلوا ما نظمه في هذه المناسبة فيأذن له فاندفع مخاطباً للإمام :

وعـلى الـفراش مبيت لـيلك والعدى * تُهـدي إلـيك بـوارقـاً ورعـودا
فـرقـدت مثـلوج الـفؤاد كـأنمـا * تُهـدي الـقراع لـسمعك الـتغريدا

فيقابله الرسول بابتسامته الفياضة ، ويدعو له الجميع بالمغفرة والرضوان .

اعتراض أبي بكر :

وينبري أبو بكر فيقول : يا رسول الله ـ ألم أصاحبك حينما هاجرت من مكة وآويت معك إلى الغار حينما صممت قوى قريش ، وقد فديتك بنفسي ، فلماذا شِدتَ بابن أبي طالب وأهملت مقامي ودفاعي عنك ؟
وينبري إليه الرسول قائلا :
« وأنت يا أبا بكر عندما صحبتني إلى الغار بلغ بك الخوف إلى قرار سحيق ، وقد بذلت جميع جهودي لمحو الخوف عن نفسك ، وقد ضمنت لك السلامة وعدم إصابتك بأي شيء ، مما تخاف منه فلم يؤثر ذلك فيك حتى نزل فيك قول الله سبحانه « ألا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا هي السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم » .
فخصّني اليه بسكينته ، وبقيت انت بحزنك ووجلك وخوفك .
ويسكت أبو بكر ، ويسود وجم رهيب على الجميع فينبري الأزري يشق الصفوف ، فيستأذن من النبي لينشد قصيدته الغراء فأذن له ، فيقول :

أو مـا يـنـظرون مـاذا دهـتهـم * قـصة الـغار مـن مـساوي دهـاهـا
يـوم طـافت طوائف الـحزن حـتى * أوهـنت مـن جـني عـتيـق قـواهـا