إلى أن يقول :
اين هذا من راقـد في فراش المـ * صطـفى يـسمع الـعدى ويراها
فـاستـدارت به عتـاة قـريـش * حـيث دارت بها رحـى بغضاها
وأرادت بـه مـكـائـد ســوء * فـشـفـى اللّـه داءها بـدواهـا
ورأت قسوراً لـو اعترضـته الإ * نـس والـجن في وغـما أفـناها

ويعلو التكبير والتهليل من جميع جنبات القيامة ، وترفع الأيدي بالدعاء له ، ويمنح الشاعر الكبير ، وسام الشرف لمواهبه الفذة التي صرفها في خدمة أهل البيت عليهم السلام .

علـمه :

ومما أمتاز به الامام أمير المؤمنين على بقية الصحابة سعة علمه ، ووفور فقهه ، ودرايته باحكام التنزيل ، وأحاطته باسرار التشريع ، فهو وارث علمي وقد فتق أبواب العلوم ، ودلل على قواعدها وأصولها بعد ما كان الناس يجهلون منها كل شيء .
ويلتفت النبي صلى الله عليه وآله الى المجموعة الهائلة من الناس فيقول لها : لقد خلّفت علياً في أمتي ليوضح لها معالم الدين , ويبني لها أحكام التنزيل ، ولو ثنيت له الوسادة من بعدي لأفتى أهل الإنجيل بانجيلهم ، واهل الزبور بزبورهم ، واهل الفرقان بفرقانهم .
وساد العلم ، وانتشرت آفاق المعرفة ، ولكن الصدر الأول من امتي حرموا أنفسهم ، وحرموا الاجيال الصاعدة من بعدهم من الانتهال من غدير علمه ، والاستفادة من مكنونات فضائله التي حباه الله بها .
وقد أعلنت لجميع المسلمين ، وقلت لهم : « أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فمن أراد المدينة فليأت الباب . » (1) .
____________
1 ـ مستدرك الصحيحين 3 / 126 ، تأريخ الخطيب 4 ـ 348 ، تهذيب التهذيب 6 ـ 320 ، فيض القدير 3 ـ 46 ، مجمع الزوائد 9 ـ 114 .
(45)

وأشدت بمواهبه وفضائله فقلت في حقه « أنا دار الحكمة وعلي بابها . » (1) .
وقد عهدت إليه أن يبين لأمتي ما اختلفت فيه من بعدي فقلت له : « أنت تبين لأمتي ما اختلفوا فيه بعدي . . . » (2) .
وهو أعلم أمتي بشؤون القضاء وأحكامه ، وأدرى منهم بغوامضه ، وقد قلت فيه : « علي أقضى أمتي » (3) .
وقد رجع إليه أبو بكر في كثير من المسائل التي لا دراية له بها (4) .
وكذلك رجع إليه عمر حتى قال : « لولا علي لهلك عمر » (5) وقال : ( اللهم لا تنزل بي شدة إلا وأبو الحسن إلى جنبي ) (6) . وكذلك رجع إليه عثمان فيما خفي عليه من أمور القضاء وغيره (7) .
ومع توفر علمه ، وإحاطته بشؤون الدين ، وأحكام الله ، فهل يصح لي أن أرشح غيره لمنصب الخلافة والإمامة ، والله تعالى يقول : « هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون » .

زهـده :

وعلي أمير المؤمنين أزهد أمتي ، وأكثرهم إعراضاً عن مباهج الحياة وملاذّها وفتنها ، فإنّه حينما آل إليه أمر المسلمين لم يستأثر شيء من أموالهم ، ولم يضع
____________
1 ـ صحيح الترمذي 2 ـ 96 ، الحلية 1 ـ 64 ، كنز العمال 6 ـ 401 ، تأريخ الخطيب 11 ـ 204 .
2 ـ مستدرك الصحيحين 3 ـ 122 ، كنوز الحقائق ص 188 ، الحلية 1 ـ 63 .
3 ـ الاستيعاب 1 ـ 28 ، الرياض النضرة 2 ـ 88 .
4 ـ الرياض النضرة 2 ـ 224 ، كنز العمال 3 ـ 301 .
5 ـ فيض القدير 4 ـ 356 .
6 ـ كنز العمال 3 ـ 53 ، الرياض النضرة 2 ـ 194 .
7 ـ موطأ الإمام مالك ص 36 ، سنن البهيقي 7 ـ 419 .

(46)

لبنة على لبنة ، ولم يعد لبالي ثوبه اهتماماً ، قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعامه بقرصيه ، وهو في جميع أدوار حياته على سمت واحد في الاستقامة والزهد وقد خاطب دنياه بقوله :
« إليكِ عني يا دنيا فحبلك على غاربك ، قد انسللت من مخالبك وأفلت من حبائلك ، وأجتنبت الذهاب في مداحضك » .
وقد صمم على أن لا ينقاد لدواعي الهوى والغرور فقال :
« وأيم الله يميناً استثنى فيها ـ بمشيئة الله ـ لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً ، وتقنع بالملح مأدوماً ، ولأدعن مقلتي كعين ماء نَضبَ معينها مستفرغة دموعها . . . » (1)
لقد عاش أمير المؤمنين عيشة الفقراء البائسين مقتدياً بهداي ومستناً بسنتي لم يتحل من دنياه بطائل إلا بغمر الناهل (2) وروعة سورة الساغب (3) فهل من العدل أن أُرشح غيره لمنصب الخلافة ؟
وهل من المنطق أن يؤتمن على دماء المسلمين ، وأموالهم وسائر إمكانياتهم غير الاعفِاء المتحرجين في دينهم الزاهدين في دنياهم ؟
وقد علم المسلمون ما حل بهم من الأحداث والخطوب من جراء ما آل اليه أمر الخلافة إلى اللصوص والسفاكين من ملوك بني أمية وبني العباس .
لقد احتطت لأمتي ، ووضعت لها المنهاج السليم الذي يقيها من الفتن والإنحراف ، ويحميها من الإنقلاب والزيغ فجعلت عترتي ولاة الأمر من بعدي ، ودللت عليهم فقلت :
« إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم لن تضلّوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا
____________
1 ـ نهج البلاغة محمد عبده 3 ـ 82 ـ 83 .
2 ـ غمرة الناهل : أي ري الظمآن .
3 ـ روعة سورة الساغب : كسر شدة الجوع .

(47)

حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما » (1) وقلت فيهم :
« إنما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ، وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حِطة في بني اسرائيل من دخله غفر له . . » (2) .
وقلت : « من سرّه أن يحيا حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنة عدن غرسها ربي فليوالي علياً من بعدي ، وليوال وليه ، وليقتد بأهل بيتي من بعدي فإنّهم عترتي ، خلقوا من طينتي ، ورزقوا فهمي وعلمي فويل للمكذبين بفضلهم من أمتي ، القاطعين فيهم صلتي لا أنالهم الله شفاعتي » (3) .
وقلت أكثر من ذلك في حقهم ، ولكن القوم قد أعاروا قولي أُذناً صماء ، فقد خدعتهم الدنيا إلى قهر أهل بيتي وظلمهم .

عـدلـه :

والإمام أمير المؤمنين من أروع مظاهر العدل ، فهو أول حاكم في المسلمين صمد في وجه الأعاصير لم تخدعه السلطة ، ولم يغره السلطان عن تطبيق العدل حتى قال كلمته الخالدة :
« ولا تزيدني كثرة الناس حولي عزّة ، ولا تفرقهم عنّي وحشة ، وما أكره الموت على الحق » .
لقد طبّق العدل ، ورفع مناره في أيام حكمه ومن مظاهر عدله أن أخاه عقيل قد جائه من يثرب تحف به صبيته ، قد كساهم الفقر بروداً من ألبسته البغيضة فتركتهم أشباحاً علاهم الأسى والذبول كأنما سودت وجوههم بالعظلم ، قد
____________
1 ـ صحيح الترمذي 2 ـ 308 ، أسد الغابة 2 ـ 12 .
2 ـ مجمع الزوائد 9 ـ 168 ، مستدرك الحاكم .
3 ـ كنز العمال 6 ـ 217 .

(48)

قادوا أباهم وقد أحاطت به الهواجس وألّمت به الشجون ، وقل ظن أن امير المؤمنين سوف ينفق عليه من اموال المسلمين ويملأ جيوبه بالأموال ويزخر له بالعطاء ، فما كان من ابن ابي طالب رائد العدالة الكبرى الا ان احمى له حديدة جعلته يئن من ألمها ويضجر من حدها ، فخار تحتها كما يخور الثور تحت جازره ، وهرب عقيل تاركاً أخاه يفتش عن مغنم يحوز به الثراء .
لقد تنكر امير المؤمنين لجميع العواطف والأهواء التي يخضع لها الناس في سبيل إقامة العدل ، وتشييد صروحه ، وقد قصده عبد الله بن جعفر ختنه على زينب ابنة فاطمة الزهراء حبيبتي وبضعتي قاصداً من يثرب لأجل ان يوفر له في العطاء ، ويمنحه الأموال فزجره ، ولم يعن به .
إن امير المؤمنين ينبوع العدل ، ومفجر طاقاته ، وليس في تأريخ الإسلام حاكم مثله في عدله ومساواته ، وقد اراد ان ينعش القلوب البائسة الحزينة بمساواته ، وينصف المظلومين بعدله ، ويقيم حكم الله في ارضه .
لم يكن يبغي السلطة لذاتها ولا لاطماعها ، واندفاعتها ، وإنما كان يرومها ليؤسس معالم العدل ، ويقيم معاهد التربية الصالحة للانسان .
إن ابن ابي طالب صديق المحرومين والبائسين ، وملجأ المظلومين والمضطهدين ، ورفيق المثكولين ، وحميم المعذبين ، وملاذ المنكوبين .
يقول النبي صلى الله عليه وآله : وقد نصبته على امتي خليفة من بعدي لتزدهر به حياة المسلمين ، ويأمن المظلومون ، وتقام به حدود الله على المعتدين .
وليس في امتي شخص احرص من ابن ابي طالب على إقامة العدل وتوطيد اركان المساواة ، ورفع مستوى الأمة في جميع مجالاتها .

مواقفـه المشرفـة :

ووقف الإمام أمير المؤمنين يدافع عن الاسلام ، ويحمي جانبي وليس في عموم اصحابي مثله في اندفاعه ، وانطلاقه في ميادين الجهاد ، فقد قذف نفسه في


(49)

لهوات الحروب ، وخوض الغمرات لرفع كلمة الله ، فما من راية رُفِعَت للجاهلية إلا حطّمها علي بسيفه ، وما من جيش انبرى ليطفىء نور الإسلام إلا انبرى إليه أمير المؤمنين ففل عروشه ، وجندل أبطاله ، ويتلو النبي صلى الله عليه وآله المواقف الرائعة التي وقفها الإمام في الذب عن حياض الاسلام وهي :

واقعـة بـدر :

وكان للإمام أمير المؤمنين عليه السلام في وقعة بدر القدح المعلى ، والنصيب الأوفى ، وكان لي نصيراً ، وللاسلام عزّاً وللمسلمين وقاية وجُنًة ، فكان الفتح على يده وكانت أكثرية القتلى بسيفه .
لقد أظهر أمير المؤمنين في واقعة بدر من البطولة والجلد ، ما يبهر الألباب ، فقد أذل قريشاً ، وأعز الاسلام ، وأبلى بلاء حسناً فكان المسلمون في هذه المعركة ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، ومعهم فرسان ، وسبعون بعيراً ، وكان المشركون تسعمائة وخمسين مقاتلا يقودون معهم مائتي فرس وسبعمائة بعير .
فجندل على أصحاب الألوية ، وقتل من المشركين خمسة وثلاثين وشارك المسلمين وأعانهم على قتل من قتلوه ، وقد قتل من الأمويين حنظلة بن أبي سفيان ، والعاص بن سعيد بن العاص بن أمية ، والوليد بن عتبة صهرهم أخي هند زوج أبي سفيان ، وعقبة بن أبي معيط أبي الوليد أخي عثمان لأمه ، وقتل من بني مخزوم سيدهم وزعيمهم أبا جهل الحكم بن هشام .
يقول النبي صلى الله عليه وآله : وقد أبصرت جماعة من مشركي قريش فقلت له : احمل عليهم فحمل عليهم ففرق جمعهم ، وقتل عمرو بن عبد الله الجهمي ، وأبصرت جماعة آخرين من مشركي قريش فقلت له : احمل عليهم فحمل عليهم وفرقهم وقتل شيبة بن مالك ، فقال جبرائيل مبتهراً : « يا رسول الله إن هذه المواساة »
فقلت له : « إنه مني ، وأنا منه » .
فقال جبرائيل : ( وأنا منكما ) .


(50)

ونادى ملك في السماء « لا سيف إلا ذو الفقار ، ولا فتى إلا علي » (1) .
لقد نازل علي أقوى قرومهم ، وثل عروشهم ، وحطم جبروتهم ، وأنصرفوا يجرون رداء الخيبة والخسران منهزمين قد عراهم الذل ، وعلاهم الخزي والأنكسار .
ويقوم الازري فيتلو على أهل المحشر مقطوعته الرائعة التي يصف بها بطولة الأمام ودفاعه المشرف عن الاسلام في هذه المعركة الحاسمة من تاريخه ، فيقول :
وبـه استفـتح الـهدى يوم بـدر * مـن طغـاة أبت سـوى طغواهـا
صب صوب الـردى عليهم هُمام * لـيس يخشى عُقبى الـتي سواهـا
يوم جاءت وفـي الـقلوب غليل * فسقـاهـا حسـامه مـا سقـاهـا
جـاء بالـسيف هـادياً للبرايـا * حـيث لـم يـثنها الهـدى فهداهـا
مـن تلـقي يـد الـوليد بضرب * حيـدري بـرى الـيـراع براهـا

ويدعو الجميع للشاعر العظيم ، ويقابل بالإكبار والتقدير ويمنح وسام الحب لآل البيت عليهم السلام .

معركـة أحـد :

وواجه الاسلام بعد معركة بدر قوى قريش الحاقدة على الاسلام فقد خفت لتثأر لقتلاها في يوم بدر ، وتمحو عنها عار الهزيمة التي أصابتها ، ويقص النبي صلى الله عليه وآله صورة موجزة عن تلك الواقعة الرهيبة ، فيقول لهم : كنت نزلت يوم أحد بأصحابي وهم سبعمائة في عدوة الوادي وجعلت ظهري الى الجبل ، وكان المشركون ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دارع ، ومائتا فارس ، وكان معهم خمسة عشر أمرأة ، وفي المسلمين مائتا دارع وفارسان .
____________
1 ـ تاريخ الطبري 2 ـ 197 ، الرياض النضرة 2 ـ 190 .
(51)

وقبل أن يتهيأ الجيشان للقتال صنعت خطة حكيمة فيها النصر للمسلمين والهزيمة للقوى الغادرة ، فقد تركت أحداً خلف ظهري ، وجعلت ورائي الرماة وهم خمسون رامياً ، وقلت لهم : انضخوا عنا الخيل بالنبل لا يأتونا من خلفنا . واثبتوا مكانكم ، إن كانت لنا أو كانت علينا فإنا إنما نؤتى من هذا الشعب .
وخرج صاحب لواء المشركين ينادي : يا أصحاب محمد إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار ، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فلم يجيبه أحد من المسلمين سوى علي فانبرى إليه ، فضربه فقطع رجله ، وانكشفت عورته ، فناشده الله ، فتركه ، فصار يخور بدمه ، حتى هلك ، ولما رأيت ذلك كبّرت وقلت : ( كبش الكتيبة ) وكبّرالمسلمون بتكبيري وقلت لعلي :
ـ ما منعك أن تجهز عليه ؟
ـ ناشدني الله والرحم فاستحييت منه .
واندفع شجعان المشركين حاملين اللواء فأبادهم علي واحداً بعد واحد ، وبقي اللواء مطروحاً لا يدنو منه أحد فانطلقت إليه امرأة حارثية فرفعته ، فاجتمعت قريش حوله ، وأخذه عبد لبني عبد الدار كان من أشد الناس قوة ، وفتكاً ، فبرز إليه علي فضربه ضربة تركه يعالج مصرعه ومنيته .
واقتتل الناس قتالاً شديداً ، وقد أبلى علي وعمي حمزة ، وأبو دجانة الأنصاري بلاء حسناً ، وأنزل الله نصره على المسلمين ، وكانت الهزيمة الساحقة للمشركين ، وانعطف عليهم المسلمون ينهبون أمتعتهم ، فلما نظر إليهم إخوانهم المجاهدون الذين أقمتهم في الجبل وألزمتهم أن لا يريحوا عنه ، آثروا النهب على البقاء ، ونسوا ما أمرتهم به .
وحينما رأى خالد بن الوليد قلة من بقي من الرماة حمل عليهم فقتلهم ، وشد بمن معه على أصحابي من خلفهم ، وتبادر المنهزمون من المشركين بنشاط بالغ مستأنفين للقتال يحاولون أن يمحوا عنهم عار الهزيمة ، فحملوا على المسلمين فقتلوا


(52)

سيداً من أبطالهم وهو أسد الله وأسد رسوله عمي حمزة بن عبد المطلب ، وانهزم المسلمون شر هزيمة ، ولم أجد بداً من ان أقاتل بنفسي فرميتُ بالنبل حتى فني ، وانكسرت سجنة قوسي ، وانقطع وتره ، واصبت بجرح في وجنتي ، وآخر في جبهتي ، وكسرت رباعيتي السفلى ، وشقت شفتي ، وعلاني ابن قمئة بالسيف ، وكنت ادعو المسلمين إلى الثبات وعدم الفرار قائلاً لهم : « من كرَ فله الجنة » ولكنهم لا يلوون على احد وكان من المنهزمين عثمان بن عفان ، وجاشت نفس عمر من الوجل والرعب ، ومعه طلحة ، فرغبا ان يأتيهم عبد الله بن ابي سلول بأمان من ابي سفيان قبل ان يقتلوهم فقال لهم انس بن النضر ، وهو من خِيار أصحابي :
« يا قوم إن كان محمد قد قتل ، فإن رب محمد لم يقتل ، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد ، اللهم إني اعتذر إليك مما يقول هؤلاء . »
ثم قاتل حتى استشهد ، ومضى القتال حامياً عنيداً ، وقد أحيط بي ، فانبرى علي ومعه خمسة من خيار الأنصار يذبون عني ، وقد استشهدوا ، وتترسني أبو دجانة بنفسه ، وجعل نفسه وقاية دوني فكان يقع النبل على ظهره وهو منحني عليَّ ، وقاتل دوني مصعب بن عمير فاستشهد ، قتله ابن قمئة الليثي ، هو يظنه إياي فرجع إلى قريش رافعاً عقيرته ، وهو يقول :
قُتل محمد . . . قُتل محمد .
فلما سمع المسلمون أوغلو في الهرب على غير هدى ورشد ، وكان أول من عرفني كعب بن مالك فنادى بأعلى صوته « يا معشر المسلمين : هذا رسول الله حي لم يقتل » .
فأشرت إليه بالسكوت مخافة أن يسمع العدو فيهجم عليَّ ونهض سليل هاشم وفتى الاسلام علي ، ومعه جماعة حتى خلصوا بي إلى الشعب ، فتحصنت به ، وهم يحيطون بي ، ويدافعون عني .
وأبصرت وأنا في الشعب جماعة من المشركين يترقبون الوقيعة بي فقلت :


(53)

لعلي احمل عليهم فحمل عليهم ، وفرقهم ، وقتل منهم جماعة ، وأبصرت جماعة أخرى تريد الوقيعة بي فقلت لعلي اكفنيهم فحمل عليهم فانهزموا ، وقتل منهم جماعة ، وبهر جبرائيل بهذه المواساة الهائلة التي أبداها بطل الإسلام ، فقال :
« يا رسول الله هذه المواساة ! ! »
فقلت له :
« إنه مني ، وأنا منه . . » .
فقال جبرائيل : وأنا منكما ، وسمع صوت يهتف : « لا سيف إلا ذو الفقار ، ولا فتى إلا علي » .
وقد أصابت علياً في تلك الوقعة ست عشرة ضربة كل ضربة تلزمه إلى الأرض فما كان يرفعه إلا جبرائيل ، وبعد ما وضعت الحرب أوزارها تقدمت النساء المسلمات يداوين الجرحى ، فاحطن به يداوين جراحاته الصعبة ، وقلن لي :
« يا رسول الله لا نعالج منه جرحاً إلا انفتق جرح آخر » .
فاقتربت منه فرأيت جراحاته تشخب دما، فقلت فيه :
« إن رجلا لقي هذا كله في سبيل الله لقد أبلى وأعذر » .
لقد وقف علي في موقعة أُحد بجأش ثابت ، وبنفس جياشة لم يدخله خوف ولا رعب ، مشمراً كادحاً ، قد وهب حياته لله ، ولنصرة هذا الدين .
ولما انتهت الحرب فتشت عن عمي حمزة ، فأخبرت بأنه قد استشهد ، فهرعت إليه فرأيته ، وقد مثلت به هند فأخذت من أذنيه ، وأنفه ، وأصابع يديه ، ورجليه ، ومذاكيره فجعلتها قلائد ، ومعاضد ، وبقرت كبده فلاكتها إلا أنها لم تسغها ، وكذلك فعلن صويحباتها مع الشهداء ، وقد أظهر أبو سفيان خبث سريرته ، فقد طعن أسد الله وهو ميت .
ويعم البكاء والأسى جميع أهل المحشر ، وتعلو الصرخة على ما لاقاه سيد الشهداء من التمثيل والتنكيل .
وينطلق الأزري ، وهو رافع عقيرته ليتلو على أهل المحشر رائعته التي يصف بها جهاد أمير المؤمنين ، وعظيم بلائه في موقعة أُحد فيقول :


(54)

وبـأحد كم فـل آحـاد شـوس * كـلمـا أوقـدوا الـوغى أطفاهـا
يـوم دارت بـلا ثـوابـت إلا * أسـد الله كـان قـطب رحـاهـا
كـيف لـلأرض بالـتمكن لولا * أنـه قـابض عـلـى أرجـاهـا
ربّ سمر القنا وبيض المواضي * سبَّـحت بـاسم بـأسه هيجـاهـا
يوم خـانت نبالة الـقوم عهداً * لـنبي الـهدى فخـاب رجـاهـا
وتراءت لـهم غنـائـم شتـى * فـاقـتفى الأكـثرون إثر ثراهـا
وجدت أنجـم الـسعود عـليه * دائـرات ومـا دَرَت عـقبـاهـا
فئة ما لوت من الـرعب جيداً * إذ دعـاهـا الـرسول في اخرهـا
وأحـاطت به مذاكي الأعـادي * بعدمـا أشـرفت علـى استيلاهـا
فترى ذلك الـنفير كـما تخبـ * ـط في ظلـمة الـدجى عشواهـا
يتمنى الـفتى ورود الـمنايـا * والـمنايا لـو تشترى لا شتراهـا
قد أرتها في ذلك الـيوم ضربا * لـو رأته الـشبان شـابت لحاهـا
وكساها الـعار الـذميم بطعن * مـن حلى الـكبرياء قـد أعراهـا
يوم سالت سيل الـرمال ولكن * هـب فـيهـا نسيمـه فـذراهـا
ذاك يـوم جبريـل أنشد فيـه * مـدحـاً ذو الـعلى لـه أثنـاهـا
لا فتى في الـوجود إلا عـلي * ذاك شـخص بمثلـه الله بـاهـا
لا ترم وصفـه ففيـه معـان * لـم يـصفهـا إلا الـذي سوّهـا


وتعلو عاصفة من التهليل ، وترفع الأكف بالدعاء إلى الشاعر الكبير ، وتضاف إلى أوسمته وسام آخر .

واقعـة الخندق :

لقد خرجت قريش بعد واقعة أُحد وهي ظافرة منتصرة ، وقد طمعت في محاربة المسلمين حرب إبادة وقضاء لتقلع جذور العار الذي لاحقها يوم بدر ،


(55)

وتضيف إلى انتصارها إنتصاراً آخر . وقد صممت على قلع جذور الاسلام ومحو سطوره ، فقد تجمعت أحزاب قريش وأحابيشها ، وانضم إليها أحلافها من يهود يثرب فكان عدد الجميع أربعاً وعشرين ألفاً تحت قيادة أبي سفيان ، وحينما علمت بتوجههم إلى يثرب جمعت أصحابي وعرضت عليهم الخطر المحدق بنا فأشار سلمان الفارسي وهو من خيرة أصحابي ورعاً وتقوى ، واصالة رأي وعمق في التفكير فأشار عليَّ بحفر الخندق ، ولم تكن هذه الوسيلة معروفة في الجزيرة العربية ، فشرع أصحابي في حفر الخندق ، وقد أنجزوا هذا العمل المجهد الشاق في ستة أيام ، وكان علي من أكثرهم عناء وجهداً في هذا العمل العظيم .
ولما انتهى المسلمون من عملهم أقبلت قريش بأحلافها وأحزابها ، فنزلت بمجتمع الأسيال ، ونزلت غطفان ومن تَبِعهم من أهل نجد في جانب أحد ، وكان الخندق أمامهم ، وقد استحال عليهم عبور الخندق ، وقد نقض اليهود عهدهم معي ، وقد حوصرت المدينة ، وطال الحصار ، وقد ضاق بعض فرسان المشركين طوال البقاء فانبرت طائفة من شجعانهم لعبور الخندق ، ومناجزة المسلمين ، وكان أول من عبر الخندق عمرو بن عبد ود فارس المشركين ، وبطلهم المعُلّم ، ومعه عكرمة بن أبي جهل ، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة ، وهبيرة بن أبي وهب ، ومنية بن عثمان ، وضرار بن الخطاب الفهري ، وقد اختاروا من الخندق موضعاً ضيقاً فأكرهوا خيولهم على اقتحامه فلما صاروا إلى ساحة المعركة . أخذوا يجولون فيها وينادون :
« يا أصحاب محمد هل من مبارز ؟ ؟ »
وكان من أشدهم حماساً واندفاعاً إلى الحرب عمرو بن ود ، فقد ملأ الفضاء بصوته يطلب المبارزة من المسلمين فكانت كلماته كنداء الموت فما سمعها أحد إلا رجف قلبه وانهارت قواه ، ولم يلبّ نداءه إلا ربيب الوحي ، والسابق للاسلام الأمام أمير المؤمنين ، وكان حدث السن في غضارة الشباب ، ولما برز إليه علي قلت :
« برز الإيمان كله إلى الشرك كله » .


(56)

وانطلق إليه علي فقال له : قد كنت تعاهد الله لقريش أن لا يدعوك رجل إلى خصلتين إلا قبلت أحدهما .
فأجابه عمرو : أجل .
فأجابه أمير المؤمنين إني أدعوك إلى الله عزّ وجلّ ، وإلى رسوله ، وإلى الاسلام .
فأخذته العزّة بالاثم فرد على أمير المؤمنين قائلا : ولا حاجة لي في ذلك » .
فطلب منه علي الخصلة الثانية فقال له : وتصاول أسد الله وربيب الوحي مع بطل الجزيرة ، فضرب عمرو علياً فأتقاها بدرقته فضرب الدرقة ففلقها وأثبت فيها وأصاب رأسه فشجه ، وضربه علي على حبل العاتق فأرداه صريعاً يخور بدمه ، وعلا صوت علي بالتكبير والتهليل وتلاه هتاف آلاف من معسكر المسلمين .
وقلت في تلك المبارزة الخالدة التي كُتِبت فيها الهزيمة لجيش المشركين ، واندحار قواهم :
« لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن ود يوم الخندق أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة . . » (1)
وعندئذ فرَّ المشركون ناكصين لم يلووا على شيء متلفعين بعار الهزيمة والخزي ، ويقوم الأزري فيتلو على المجتمع ما نظمه في هذه المناسبة الخالدة يقول :
____________
1 ـ مستدرك الحاكم 3 / 32 . تاريخ الخطيب 13 ـ 19 .
(57)

يوم غصت بجيش عمرو بن ود * لـهوات الـفلا وضـاق فضاهـا
وتـخطى إلـى الـمدينة فـرداً * بـسـرايـا عـزائـم سـاراهـا
فدعـاهم وهـم ألـوف ولـكن * ينظرون الـذي يـشـب لـظاهـا
أي أنـتم عـن قسور عـامري * تتقـي الأسـد بأسـه في شراهـا
فابتدى الـمصطفى يُحدّث عمـا * يؤجـر الـصابرون فـي أخرهـا
قـائـلا إن للجـلـيـل جنانـاً * لـيس غـير الـمجاهديـن يراهـا
أين من نفسه تتوق إلى الـجنات * أو يـورد الـجـحـيـم عـداهـا
من لعمرو وقـد ضمنت على الله * لـه مـن جـنـانـه أعـلاهــا
فـالـتووا عـن جوابه كـسوام * لا تراهـا مجيبـة مـن دعـاهـا
وإذا هـم بـفـارس قـرشـي * تـرجف الأرض خيفـة إذ يطاهـا
قـائلا مـا لهـا سواي كـفيـل * هـذه ذمـة عـلـى وفــاهــا
ومـشى يطلب الـصفوف كـما * تمشي خماص الحشى إلى مرعاهـا
فـانتضـي مشرفيـه فتـلـقى * سـاق عمـرو بضـربة فبـراهـا
وإلى الحشر رنة الـسيف منـه * يمـلأ الـخافقيـن رجـع صداهـا
يا لها ضربة حـوت مكرمـات * لـم يزن ثـقل أجرهـا ثـقلاهـا
هذه من علاهـا إحدى المعالـي * وعـلى هـذه فقـس مـا سواهـا

وتقابل هذه الرائعة بكثير من الاستحسان ، ويدعو له الجميع بالمغفرة والرضوان .

غزوة خيـبر :

وتجمع اليهود بعد الهزمات التي لاحقتهم في حصن خيبر ، وهو من أقوى حصونهم ، وأمنعها ، ففيه البساتين ، والزروع ، وفيه الأبطال والأفراس ، وأخذوا يكيدون للمسلمين ، وينفقون الأموال سراً للمشركين على مناهضة


(58)

الاسلام ، فهبط الوحي عليَّ بدك هذا الحصن ، وبغزو اليهود . حتى تفلل هذه القاعدة التي هي من أخطر القواعد العسكرية على الإسلام .
ويأخذ الرسول صلى الله عليه وآله يتلو على أهل المحشر كيفية فتح هذا الحصن على يد بطل الاسلام ، وأسد الله الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فيقول : لقد بعثت أبا بكر ومعه الجند لفتح هذا الحصن فلم يلو أن رجع منهزماً لم يستطع أن يثلم في أسواره ثلمة ، ورجع ملىء إهابه الخوف والفزع ، فندبت في اليوم الثاني عمر بن الخطاب ، وعقدت له لواء الحرب ، فرجع منهزماً قد استولى عليه الذهول والفزع ، ولم يُصب من الحصن شيئا ، فقلت للجيوش الحافلة من المسلمين .
« لأُعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه . . »
فتطلع المسلمون إلى أي فتى أو بطل تعطى الراية ، ولم يدُر في خلَدِهم أني سأعطيها إلى علي لأنه كان أرمد العين .
ولما أصبح الصبح هرع المسلمون يتطلعون إلى معرفة ذلك البطل الذي أمنحه الراية ، ويكون الفتح على يده ، وبعد أن تم عدد الجيش واستوت صفوفهم قلت : وانطلق علي نحو الحصن تحف به جنود المسلمين ، فلما رأته اليهود دخلوا الحصن ، وأغلقوه باحكام ، وقد تركوا خارج الحصن أبطالهم وحماتهم يحمونه ، وفي طليعتهم مرحب فارسهم المعُلّم فشدَّ عليهم علي ، وصار ينثر الموت بينهم ، وهم يهوون صرعى بين يديه ، ورأى علي أن لا درع معه ، فاندفع نحو باب الحصن ، وكانت من حجر الرحى يغلقها ويفتحها أربع وأربعون فاقتلعها ، وجعلها ترساً له .


(59)

وقد قتل مرحباً ، وقتل الحارث من قبل ، وقد جعل باب خيبر جسراً يعبر عليه المسلمون ، وقد تم الفتح على يديه ، وجعل الله النصر بقيادته ، وقد انكسرت شوكة الكفر ، وانحسرت روح الوثنية بفتح هذا الحصن ، ودخل الرعب والفزع على جميع المشركين ، وكان من أقوى الأسباب لدخول المسلمين غازين وفاتحين لملكه .
وانطلق الشاعر الموهوب الازري ، وكان قريباً من النبي فطلب منه الاذن ليتلو رائعته التي وصف بها هذا الحادث الخطير .

ولـه يـوم خـيـبـر فتـكـات * كـبـرت منظـراً علـى مـن رآهـا
يـوم قـال الـنـبـي لأعـطـي * رايـتـي لـيثهـا وحـامي حمـاهـا
فـاستطـالـت أعنـاق كل فريق * لـيـروا أي مـاجـد يـعـطـاهــا
فدعا أيـن وارث العلـم والحلـم * مـجـيـر الأيـام مـن بـأسـاهــا
أين ذو الـنجدة الـذي لـودعتـه * فـي الـثـريـا مـروعـة لـبـاهـا
فـأتـاه الـوصي أرمـد عـيـن * فـسـقـاه مـن ريـقـه فـشفـاهـا
ومضى يطلب الـصفوف فـولّت * عـنـه عـلـمـاً بـأنـه أمضـاهـا
ويـرى مرحبـاً بكـف اقـتـدار * أقـويـاء الأقـدار مـن ضعـفـاهـا
ودحـا بـابـهـا بـقـوة بـأس * لـو حمتهـا الأفـلاك منـه دحـاهـا

غزوة بني قريظة :

لقد استطاع الإسلام بعد واقعة الخندق أن يسير إلى الأمام قد دخل الرعب والفزع في جميع نفوس الحاقدين عليه من اليهود والمشركين .
لقد كانت بنو قريظة قد نقضت العهد الذي كان بينها وبيني وذلك لتحريض من « حي بن أخطب » ، وأخذ النبي صلى الله عليه وآله يتلو بايجاز تفصيل هذه الغزوة فيقول :


(60)

لما انتهت معركة الخندق ، وعاد المشركون قد أذلهم الله وأخزاهم ، ولما رجعت إلى يثرب أوحي إلي أن أسير إلى بني قريظة ، أمرت أن ينادي المنادي بين المسلمين « من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة » .
فسرت إليهم بجميع من كان معي ، وكان عددهم ثلاثة آلاف ، وقد عقدت الراية لعلي ، والمسلمون يتوسمون خطاه في أفواجهم الزاخرة ، فلما بلغ حصونهم سمع منهم سباً ، وقذفاً لي ، فبادر علي إلي وطلب مني أن أعسكر بعيداً عن السور إشفاقاً عليّ من سماع سبّهم وهجائهم لي .
وحاصرهم علي خمسة عشر يوماً فأجهدهم الحصار ففتحوا الأبواب ، وأستولى عليهم الإمام ، ورجع وهو منتصر ظافر ، وقدأرجَعتُ أمر بني قريظة إلى سعد بن معاذ فحكم بقتل رجالهم ، وتقسيم ذراريهم ونسائهم ، وأن تكون ديارهم للمهاجرين دون الأنصار ، فأمرت علياً أن يضرب أعناقهم ، فأخرج اليهود زمراً فقتلهم ، وفيهم كعب بن أسد رئيس بني قريظة ، وحي بن أخطب رئيس بني النضير ، وقد أبادهم علي ببتاره فكانوا ستمائة شخص .
وهكذا كان أمير المؤمنين سيفاً من سيوف الله ، قد استقام به أمر الاسلام ، وبنيت قواعده ، وأسست أركانه فإنه لم يصمد أحد في تلك المعارك الرهيبة غيره ، ولم يبل احد بمثل ما ابلى به ، فقد كان دفاعه عن الاسلام مشفوعاً بروح الايمان والاخلاص لله .

فتـح مكـة :

وفي السنة الثامنة من الهجرة اتجهت إلى فتح مكة ، وقد كتمت الخبر عن جميع افراد الجيش ، لأفاجيء اهل مكة وهم على غير اهبة واستعداد محافظة على حرمة البيت وقدسيته من ان تراق فيه الدماء .
وسارت الجيوش تطوي البيداء ، فلما اشرفت على مكة خرج عمي العباس وعلي في غلس الليل فبينما يسيران إذ سمع عمي العباس صوت ابي سفيان ، ولم


(61)

يكن على علم بتوجه المسلمين إلى فتح مكة ، وكان يناجي بديل بن ورقاء وهو يقول له : ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً فقال له بديل : هذه والله خزاعة حمستها الحرب ، فرد عليه ابو سفيان خزاعة أذل وأقل من تكون هذه نيرانها وعسكرها .
فرد عليه عمي العباس ، فقال له : يا أبا حنظلة ، فجفل وفزع من كلامه ، فقال له : فأجابه العباس : والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك ، فاركب في عجز هذه البغلة ، حتى أتي بك رسول الله فاستأمنه لك ، فركب خلف عمي العباس فجاء به ، وكلما مر بنار من نار المسلمين قالوا : من هذا ؟ فإذا رأوا بغلتي وعليها عمي العباس ، قالوا : عم رسول الله صلى الله عليه وآله على بغلته ، فلما جاء به أراد عمر بن الخطاب قتله ، فنهرته ، وأمرت عمي العباس أن يغدو به صباحاً ، فلما أسفر وجه الصبح جاء عمي العباس ومعه أبو سفيان فقلت له :
ـ ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله ؟ ! !
قال أبو سفيان : ما أحلمك ، وأكرمك ، وأوصلك ، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئاً بعد !!
فقلت له : ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟!!
فأظهر أبو سفيان جاهليته ، وشركه ، وعدم إيمانه بالرغم من كونه أسيراً فقال :
« بأبي أنت وأمي ، ما أحلمك ، وأوصلك !! أما هذه والله فان في النفس منها حتى الآن شيئاً !! »
فردَّ عليه عمي العباس ، محافظاً عليه من أن يهراق دمه قائلاً له :


(62)