حتى أصبح من أعظم الولاة قوة ، ومن أكثرهم منعة ونفوذاً ، وقد عبّدت له الطريق ، وأتحت له الفرصة على منازعة من يأتي من بعدك .
ولم تلتفت أنت ولا صاحبك عمر من قبل الى ما يرتكبه معاوية من الموبقات والآثام ، وقد عمدت بصراحة الى مخالفة أمري وعصيان قولي فيه ، فقد قلت :
« إذا وجدتم معاوية على منبري فاقتلوه » .
وقد ارتكب هذا الوغد الأثيم من الموبقات والجرائم ما سود به وجه التاريخ الاسلامي فقد سم ريحانتي وولدي الأمام الحسن وقتل خيار الصحابة كحجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وغيرهم وفرض سب عترتي وأهل بيتي على المنابر والمآذن ، واستحل كل ما حرم الله .
فمن هو المسؤول عن جرائمه غيرك ، وغير صاحبك عمر الذي بالغ في تسديده ، وتأييده فقال فيه : « إنه كسرى العرب » .
هؤلاء بعض عمالك وولاتك ، وانك لم تستعملهم إلا محاباة واثرة وانقياداً الى عصبيتك القبلية ، وقد شذذت بذلك عن العدل وخنت الله ورسوله والمسلمين .

التنكيل بالصحابة :

عمدت إلى التنكيل بخيار صحابتي الذين أبلوا في الاسلام بلاء حسناً ، وساهموا في بناء الاسلام واقامة قواعده فقد اضطهدتهم ، وبالغت في ارهاقهم لأنهم عابوا عليك سياستك الرعناء ، وطلبوا منك أن تسير على المحجة البيضاء ، وتهتدي بسنّتي ، وتقتفي بأثري ، ولكنك لم تستجب لنصحهم ، ولم تثب لإرشادهم ، وأنزلت بهم سوط عذابك ، وبالغت باضطهادهم وارهاقهم وهم :

عمار بن ياسر :

إن عمار بن ياسر علم من أعلام الاسلام ، وقطب من أقطاب الدين ، صاحبي


(172)

وخليلي لقي في سبيل الاسلام أعظم الجهد ، وأقسى ألوان البلاء والخطوب عُذِّب مع أبويه أعنف التعذيب ، فقد صبّت عليهم قريش أواناً مريعة من العذاب الأليم فألهبت أبدانهم بمكاوي النار ، وضربتهم ضرباً موجعاً ، ووضعت على صدورهم الأحجار الثقيلة ، وصبّت عليهم قرباً من الماء وكنت اجتاز عليهم فأرى ما هم فيه من مزيد المحنة والعذاب فتذوب نفسي أسى وحزناً عليهم فقلت لهم :
« إصبروا آل ياسر موعدكم الجنة » (1) .
ودعوت لهم مرة فقلت :
« اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت » (2) .
وبقيت هذه الأسرة العظيمة مصرة على الايمان غير حافلة بعذاب قريش وهي تسخر بأوثانها وأصنامها فورم من ذلك أنف أبي جهل ، وانتفخ سحره ، وجلعت عيناه تقدحان شرراً وغيظاً فعمد الى سمية فطعنها في قلبها فماتت وهي أول شهيدة في الاسلام ، وعمد الأثيم بعد ذلك إلى ياسر فقتله .
وظل عمار يعاني آلام التعذيب قد مزق الحزن قلبه على فقد أبويه ، وأضناه التعذيب فعرضت عليه قريش سبي فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً ، فأخبرت أن عماراً قد كفر .
فقلت ( كلا ) : إن عماراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الايمان بدمه ولحمه .
وأقبل عمار عليّ وهو يبكي فجعلت أمسح عينيه وقلت له :
« إن عادوا لك فعد لهم بما قلت » .
وأنزل الله تعالى فيه « من كفر بالله بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان » (3) .
____________
1 ـ مجمع الزرائد 9 ـ 263 .
2 ـ مسند أحمد 1 ـ 62 .
3 ـ سورة النحل : آية 106 ، ذكر نزولها في عمار الواحدي في أسباب النزول ص 212 ، والطبري في تفسيره 14 ـ 122 ، وابن سعد في طبقاته 3 ـ 178 .

(173)

لقد ملئت نفس عمار بالايمان فكان الدين عنصراً مقوماً لمزاجه ، وذاتياً من ذاتياته ، وقد أنزل الله تعالى في حقه غير آية من كتابه كلها تمجيد له ، وثناء عليه فهو المعني بقوله تعالى : « أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة » (1) .
وقال تعالى فيه : « أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس » (2) .
ونزلت آية في الثناء عليه وفي ذم الوليد وهي قوله تعالى : « أفمن وعدناه وعداً حسناً فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين » (3) .
وقد اهتممت في شأنه ، وقدمته على غيره من صحابتي وذلك لما لمست فيه من عظيم الثقة والإيمان بالله ، فقلت في حقه : « من عادى عماراً عاداه الله ومن ابغض عماراً أبغضه الله » (4) .
وجرت بينه وبين شخص مشادة فنالَ من عمار ، فلما سمعت ذلك غضبت وقلت في حقه :
« ما لهم ولعمار ، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار ، إن عماراً جلدة ما بين عيني وأنفي فاذا بلغ ذلك من الرجل فاجتنبوه » (5) .
وقلتَ فيه :
____________
1 ـ سورة الزمر : آية 9 نص على نزولها في عمار القرطبي في تفسيره 3 / 43 ، وابن سعد في طبقاته 3 / 178 .
2 ـ سورة الانعام : آية 122 نص على نزولها في عمار السيوطي في تفسيره 3 / 43 ، وابن كثير في تفسيره 2 / 172 .
3 ـ سورة القصص : آية 61 نص على نزولها في عمار والوليد الواحدي في أسباب النزول ص 255 ، والزمخشري في تفسيره 2 / 386 .
4 ـ مسند أحمد 4 / 89 .
5 ـ سيرة ابن هشام 2 / 164 .

(174)

« ما خير عمار بين أمرين الا أختار ارشدهما »(1) .
إن منزلة عمار عندي لا تساويها منزلة أحد من أصحابي وذلك لأنه مع الحق ، والحق معه يدور الحق حيثما دار .
وقد نقم عليك عمار لما سلكت غير الجادة ، وشذذت عن طريق العدل وقد نكّلت به واعتديت عليه ولم تحفظ وصيتي فيه وحبي له لقد أنكر عليك في مواضع وهي كما يلي :
1 ـ ان اعلام الصحابة لما رفعوا اليك مذكرة سجلوا فيها أحداثك وبدعك رع إليك المذكرة فاندفعت إليه وأنت مغيظ محنق قائلا له :
أعليَّ تقدم نت بينهم ؟
ـ إني أنصحهم لك .
ـ كذبت يا ابن سمية .
ـ أنا والله ابن سمية ، وابن ياسر .
فأمرت غلمايك فمدوا بيديه ورجليه ، ثم ضربته برجليك في الخفين على مذاكيره فاصابه الفتق ، وكان ضعيفا فأغمى عليه (2) ولم ترعُ شيخوخته ، ولا عظيم بلائه ، وعنائه في الإسلام فاعتديت عليه وأهنته ، وهلا كانت هذه الاندفاعات منك على الأمويين الذين استباحوا ما حرم الله ، وانتهكوا الكرامات ، فلا حول ولا قوة الا بالله .
2 ـ لما نفيت الصحابي العظيم أبا ذر صاحبي وخليلي إلى الربذة وتوفى فيها غريبا بائسا ، وجاء نعيه إلى يثرب قلت أمام جماعة من الناس مستهزءاً به .
« رحمه الله » .
فقال عمار : « نعم رحمه الله من كل أنفسنا .. »
فورم أنفك ، وانتفخت أوداجك ، وقابلت عمار بافحش القول فقلت له :
____________
(1) مصابيح السنة 2 / 288 ، سنن ابن ماجة 1 / 66 .
(2) الانساب 5 / 49 ، العقد الفريد 2 / 272 .

( 175 )

« يا عاض إير أبيه اتراني ندمت على تسييره » .
يا ذا النورين ، يا من تستحي الملائكة منه ـ كما يقولون ـ أهكذا تفحش بالقول ؟
ان هذا المنطق لا ينبغي أن يصدر من خليفة المسلمين ، وأميرهم .
وأمرت غلمانك فدفعوا عماراً ، وأهانوه ، كما أمرت بنفيه إلى الربذة ليحل فيها محل صاحبي أبي ذر ، فلما تهيأ للخروج اقبلت بنو مخزوم الى أمير المؤمنين فسألوه أن يذاكرك في شأنه فانطلق إليك علي وهو مروع مذهول فقال لك :
« إتق الله ، فإنك سيرت رجلاً صالحاً من المسلمين فهلك في تسييرك ، ثم أنت الآن تريد أن تنفي نظيره » .
فثرت في وجهه ، وانطلقت تقول له بغير هدى ولا وعي .
« أنت أحق بالنفي منه » .
« إفعل إن شئت ذلك » .
واجتمع المهاجرون فعذلوك ولاموك فاستجبت لقولهم وعفوت عن عمار (1) .
3 ـ ولما استأثرت بالسفط ، ووهبته لبعض نسائك تتزين به ، أنكر عليك امير المؤمنين ، وأيد عمار معارضته فغضبت من عمار وقلت له : يا بن المتكاء (2) تجترئ عليَّ ؟ وأوعزت إلى شرطتك بأخذه ، فأخذوه ، وأدخلوه عليك فضربته حتى غشى عليه وحمل إلى منزل أم سلمة ، وهو مغمى عليه فلم يفق من شدة الضرب حتى فاتته صلاة الظهرين والمغرب ، فلما أفاق توضأ وصلى العشاء ، وقال بنبرات حزينة :
« الحمد لله ، ليس هذا أول يوم أوذينا فيه في الله . »
وغضبت عائشة من أجل ذلك فاخرجت شعراً من شعري ، وثوباً من ثيابي ،
____________
1 ـ تأريخ اليعقوبي 2 / 150 الانساب 5 / 54 .
2 ـ المتكأ العظيم البطن ، والتي لا تمسك البول ، فحيا الله عثمان على هذه الآداب ، وهذه الاخلاق .

(176)

ونعلا من نعالي ، ثم قالت : ما اسرع ما تركتم سنّة نبيكم ، وهذا شعره وثوبه ونعله لم يبل بعد (1) .
اهكذا تلاقي عمار بالاهانة والتحقير ، وهو جلدة ما بين عيني ، وانفي ، لأنه امرك بالعدل ، ونصحك الى الاقتداء بسنّتي .

أبو ذر:

أبو ذر : جُندب بن جُنادة الغفاري ، خامس خمسة في الاسلام ومن أكابر العلماء والزهاد ، وأول من نادى في البيت الحرام بأعلى صوته بكلمة التوحيد « أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله » وأول من حياني بتحية الاسلام ، وهو مبعوثي الشخصي إلى قبيلته ( غفار ) فأسلمت ، كما تسبب باسلام قبيلة ( أسلم ) فقلت فيهما :
« وغفار غفر الله لها . . واسلم سالمها الله » .
كان أبو ذر من أبرز الصحابة في علمه وتقواه ، وزهده وتحرّجه في الدين ، وقد قلت في حقه :
« ما أظلّت الخضراء ، ولا اقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر ، من سرّه أن ينظر الى زهد عيسى بن مريم فلينظر الى أبي ذر (2)» .
وكنت أئتمنه حيث لا ائمن احداً ، واسر إليه حيث لا اسر الى احد ، (3) وهو احد الثلاثة الذين احبهم الله ، وامرني بحبهم (4) كما انه احد الذين تشتاق لهم الجنة .
____________
1 ـ الانساب 5 ـ 48 .
2 ـ سنن ابن ماجة 1 ـ 68 .
3 ـ كنز العمال 8 ـ 15 .
4 ـ مجمع الزوائد 9 ـ 330 .

(177)

يا عثمان لما استأثرت بالفيء ، وخصصت بني امية بأموال المسلمين ومنحتهم الثراء العريض ، فكنزوا لأنفسهم ، واكثروا من شراء الضياع والقصور اندفع هذا الصحابي العظيم إلى الإنكار عليك وإلى معارضتك ، فكان يقف على الذين منحتهم بأموال المسلمين فيتلو قوله تعالى : « الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم » ورفع مروان بن الحكم اليك أمره فنهيته عن ذلك فاندفع يقول :
« اينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله . فوالله لأن أرضي الله بسخط عثمان أحب إلي وخيرٌ لي من أن أسخط الله برضاه » .
وظل أبو ذر يقظ الضمير ، قد وقف لك بالمرصاد ينقد سياستك ويعيب أعمالك ، ويشجب عطاءك الوفير إلى بني أمية وإلى آل أبي معيط .
ولما ضاق بك أمره نفيته إلى الشام ، وأبعدته عن حرمي وأهل بيتي ، ولما صار إلى الشام رأى أحداث معاوية وموبقاته وإسرافه في بيت المال ، فأنكر عليه بناء الخفراء التي أنفق عليها الأموال الطائلة فكان يقول له :
« يا معاوية إن كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة ، وإن كانت من مالك فهذا الإسراف ؟ » .
وأخذ يوقض النفوس ، ويوجد الوعي الاسلامي ، ويبعث روح الثورة على حكم عميلك معاوية فكان يقول لأهل الشام :
« والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها . والله ما هي في كتاب الله ، ولا في سنّة نبيه ، والله إني لأرى حقاً يطفأ ، وباطلاً يحيى ، وصادقاً يكذب ، وإثرة بغير تُقى ، وصالحاً مستأثراً عليه .. (1)» .
وخاطبه معاوية يوماً بقوله :
« يا عدو الله ، وعدو رسوله » .
____________
1 ـ الانساب 5 / 52 .
(178)

فأجابه أبو ذر : « ما أنا بعدو الله . بل أنت وأبوك عدوان لله ولرسوله ، أظهرتما الاسلام ، وأبطنتما الكفر . وقد لعنك رسول الله ، ودعا عليك أن لا تشبع » .
وكان ينادي بأعلى صوته في الشام : « أيها الناس : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : « إذا بلغ بنو العاص ثلاثين رجلا اتخذوا دين الله دخلاً ، وعباد الله خولاً ، ومال الله دولاً » .
وثقل وجوده على معاوية فكتب اليك : « ان أبا ذر أعضل (1) بي ، وقد اجتمعت عليه الجموع ، ولا آمن أن يفسدهم عليك فإن كان لك بالقوم حاجة فأحمله اليك » .
فكتبت إليه أن يحمله لك على أخشن مركب ، فحمله على بعير عار ووكل به خمسة رجال من الصقالبة (2) يطوون به الطريق ليلاً ونهاراً حتى تسلخت بواطن أفخاذه ، وكاد أن يتلف ، ولم يتريثوا به حتى يستريح ، ولما بلغ يثرب مضى في دعوته إلى الله ، فكان ينكر على سياستك أشد الإنكار فكان يقول لك : « تستعمل الصبيان ، وتحمي الحمى (3) وتقرب أولاد الطلقاء . . »
والشيء الذي كان يزعجك به ، ينغّص عليك عيشك بيانه لفضائل أمير المؤمنين واظهاره لما سمعه مني في تكريمه والاشادة به فكان يقف على بئر زمزم في البيت الحرام ، وينادي أمام حجاج بيت الله الحرام :
« أيها الناس ، من عرفني ، فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا جُندب بن جُنادة أبو ذر الغفاري ، سمعت رسول الله بهاتين وإلا صمتا ، ورأيته بهاتين وإلا
____________
1 ـ اعضل : ضيّق وشدد .
2 ـ الصقالبة : تتاخم بلادهم بلاد الخزر .
3 ـ أشار بذلك الى منح عثمان المراعي التي حول المدينة الى بني أمية لترعى فيها أغنامهم ، وحمي مواشي المسلمين عنها ، وهو مناف للسنّة الاسلامية فانها قد جعلت المراعي التي لا مالك لها لجميع المسلمين ، وقد أثر عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : « الناس شركاء في الكلأ والماء والنار » .

(179)

فعميتا ، يقول : علي قائد البررة، وقاتل الكفرة ، منصور من نصره ، ومخذول من خذله » .
وكان يحدّث المسلمين بفضائل أبي الحسن فكان يروي عني ما قلته في حقه .
« علي أول من آمن بي ، وصدقني ، وهو أول من يصافحني يوم القيامة ، وهو الصديق الأكبر ، وهو فاروق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل . وهو يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الظالمين(1) . . » .
ورأيت ان تقضي عليه ، وتميته فتنفيه إلى بعض المجاهل والقرى فأرسلت خلفه فلما حضر بادرك بالكلام قائلاً :
ويحك يا عثمان ! ! أما رأيت رسول الله ، ورأيت أبا بكر وعمر ، هل رأيت هذا هديهم ؟ إنك لتبطش بي بطش الجبارين . .
فقطعت عليه كلامه ، ولم ترع مقامه ، وصحت به :
ـ أخرج عنا من بلادنا .
ـ أتخرجني من حرم رسول الله ؟
ـ نعم وأنفك راغم .
ـ أخرج إلى مكة ؟
ـ لا .
ـ إلى البصرة ؟
ـ لا .
ـ إلى الكوفة ؟
ـ لا .
ـ إلى أين أخرج ؟
ـ إلى الربذة حتى تموت فيها .
____________
1 ـ فيض القدير 4 / 358 ، كنز العمال 6 / 156 .
(180)

وأوعزت إلى مروان بإخراجه فوراً إلى الربذة ، وقد حرمت على المسلمين مشايعته ، وتوديعه ، فلم يشايعه إلا أهل بيتي ، وبعض المؤمنين من صحابتي ، وبادر وزيرك مروان بن الحكم إلى سبطي الأول الإمام الحسن عليه السلام فقال له :
« إيه يا حسن !! الا تعلم أن عثمان قد نهى عن كلام هذا الرجل فإن كنت لا تعلم ذلك فاعلم » .
وحمل عليه امير المؤمنين ، وقد نخب الحزن قلبه فصاح به :
« تنح يا مروان نحاك الله إلى النار » .
فبادر اليك مروان أن يخبرك بالأمر ، فانتفخت أوداجك ، وورم أنفك ، تحاول الانتقام من علي .
ومضى علي ، وهو مثقل الخطا حزين النفس يلقي على أبي ذر نظرات الأسى والحزن فألقى عليه كلمات كانت للغريب المعذب سلوى في تلك الأرض الجرداء قال له :
« يا أبا ذر ، إنك غضبت لله فارج من غضبت له ، إن القوم خافوك على دنياهم ، وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ، ما خافوك عليه ، واهرب بما خفتهم عليه ، فما أحوجهم إلى ما منعتهم ، وما أغناك عما منعوك ، وستعلم من الرابح غداً والأكثر حسداً ؟ ولو أن السموات والأرض كانت على عبد رتقا ، ثم اتقى الله لجعل الله منهما مخرجاً ، لا يؤنسك إلا الحق ، ولا يوحشنك إلا الباطل ، فلو قبلت دنياهم لأحبوك ، ولو قرضت منها لآمنوك » .
يا لها من كلمات رائعة حددت موقف أبي ذر ، وموقفك يا عثمان فقد خافك أبو ذر على دينه لما رآك قد عمدت إلى أماتة الحق واقصاء سنتي ، فرأى أن السكوت على المنكر ما هو إلا اقرار له فثار عليك منكراً لسياستك ، وقد خفته على دنياك وسلطانك وملكك ، فعمدت إلى التنكيل به .
وبيّن علي في كلماته نفسية أبي ذر واتجاهه فإنّه لا يؤنسه إلا الحق ، ولا يوحشه إلا الباطل ، ولو انه انحرف عن اتجاهه فوادع القوم لأحبوه وأخلصوا له ، ولكنه أبى إلا أن يرضي ضميره ودينه ، فثار عليك وعلى أعوانك .


(181)

وبادر سبطي الأول وريحانتي الإمام الحسن إلى أبي ذر فصافحه وودعه ، وألقى عليه كلمات تنم عن قلب حزين على فراق عمه قائلاً له :
« يا عماه لولا أنه ينبغى للمودع أن يسكت ، وللمشيع أن ينصرف لقصر الكلام ، وإن طال الأسف ، وقد أتى القوم اليك ما ترى ، فضع عنك الدنيا بتذكر فراغها ، وشدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها ، واصبر حتى تلقى نبيك وهو عنك راض » .
والتفت الصحابي العظيم إلى أهل بيتي فألقى عليهم نظرة مقرونة بالتفجع والآلام ، ودموعه تتبلور على وجهه حزناً وموجدة على فراقهم قائلاً :
« رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة ، إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله صلى الله عليه وآله ، مالي بالمدينة سكن ولا شجن (1) غيركم ، إني ثقلت على عثمان بالحجاز ، كما ثقلت على معاوية بالشام ، وكره أن أجاور أخاه ، وابن خاله بالمصرين (2) » .
فأفسد الناس عليهما ، فسيرني إلى بلد ليس لي به ناصر ، ولا دافع إلى الله ، والله ما أريد إلا الله صاحباً ، وما أخشى مع الله وحشة . . »
وانصرف أبو ذر عن عاصمتي مفارقاً لمن يحبه ويهواه ، وخرج شريداً طريداً في خلوات الأرض يحوط به الذل والهوان .
لقد أقصيته عن حرمي إلى الربذة ليموت فيها جوعاً ، وفي يدك ذهب الأرض تصرفه بسخاء على بني أمية ، وآل أبي معيط ، وتبخل به على صاحبي ، وخليلي شبيه المسيح عيسى بن مريم في هديه ، وورعه وسمته .
ولما رجع أمير المؤمنين من توديع أبي ذر استقبلته جماعة من الناس فأخبروه بغضبك وموجدتك عليه لأنه خرج لتوديع أبي ذر . فقال عليه السلام : « غضب الخيل
____________
1 ـ السكن : الأهل ، الشجن : من يحبه ويهواه .
2 ـ المصرين : البصرة ومصر ، كان والي البصرة عبد الله بن عامر ابن خال عثمان : ووالي مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخو عثمان من الرضاعة .

(182)

فقال عليه السلام : « غضب الخيل على اللجم » (1) وبادرت اليه وأنت مغيظ محنق فقلت له :
ـ ما حملك على رد رسولي ؟
ـ أما مروان فقد استقبلني يردني ، فرددته عن ردي ، وأما أمرك فلم أرده .
ـ أولم يبلغك أني قد نهيت الناس عن تشييع أبي ذر ؟
ـ أو كل ما أمرتنا به من شيء يُرى طاعة الله ، والحق في خلافه اتبعنا فيه أمرك ؟ !!
ـ أقد مروان ؟
ـ وما أقيده ؟
ـ ضربت بين أذني راحلته .
ـ أما راحلتي فهي تلك ، فإن أراد أن يضربها كما ضربت راحلته فليفعل ، وأما أنا فوالله لئن شتمني لأشتمنك أنت بمثلها بما لا أكذب فيه ، ولا أقول إلا حقاً .
ـ ولم لا يشتمك إذ شتمته ، فوالله ما أنت عندي بأفضل منه .
هكذا تقول لعلي ، وهو مني بمنزلة هارون من موسى اتعدل بينه وبين الوزغ الأثيم الذي لعنته ولعنت أباه .
علي ليس بأفضل من مروان عندك ، فهل من الدين والإيمان هذا القول ؟ !
والأمر لله وحده وهو الحاكم الفصل فيما أحدثت من هذه الأمور النكراء .
والتفت علي اليك ، وقد التاع من كلامك فقال لك :
« إلي تقول هذا القول ؟ وبمروان تعدلني ؟ ! فأنا والله أفضل منك ، وأبي أفضل من أبيك ، وأمي أفضل من أمك ، وهذه نبلي قد نثلتها . . »
وخرج علي ونفسه مترعة بالحزن والأسى لأنك لم ترع مقامه ، ولم تلحظ جانبه ، كما تألم أشد الألم وأقساه على فراق صاحبي وخليلي أبي ذر .
____________
1 ـ يضرب مثلا لمن يغضب غضباً لا ينتفع به .
(183)

عبد الله بن مسعود :

وعبد الله بن مسعود الفقيه الخبير أشبه الناس هدياً وسمتاً بي (1) ، وقلت فيه : « من سرّه أن يقرأ القرآن غضاً أو رطباً كما أنزل قليقرأه على قراءة ابن أم عبد (2) وقد هاجر الهجرتين إلى الحبشة ، والمدينة ، وشهد بدراً وما بعدها .
وقد نزلت فيه الآية الكريمة « استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم » (3) ونزلت الآية الكريمة « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شئ فتطردهم فتكون من الظالمين (4) » .
وقد أخذته بعد اسلامه ، واختصصت به فكان يلج علي ، ويلبسني نعلي ، ويمشي معي ، ويسترني إذا اغتسلت ، وقد عرف أبو بكر وعمر مقامه ، فقد سيره عمر في عهده إلى الكوفة مع عمار بن ياسر ، وكتب لأهلها كتاباً جاء فيه :
« إني قد بعثت عمار بن ياسر أميراً ، وعبد الله بن مسعود معلماً ووزيراً وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، من أهل بدر فاقتدوا بهما ، واطيعوا ، واسمعوا قولهما ، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي (5) . . »
فكان ابن مسعود يعلمهم القرآن ، ويفقههم في الدين ، وكان أميناً على بيت المال .
ولما آل الأمر اليك بعثت الوليد والياً على الكوفة فجرت بينهما مشادة وخصومة ، أوجبت أن يستقيل ابن مسعود من منصبه ، وبقي في الكوفة ثم غادرها متجهاً إلى عاصمتي ن فشيعه الكوفيون ، وحزنوا أشد الحزن على فراقه وقالوا له عند وداعه :
____________
1 ـ كنز العمال 7 ـ 55 ، حلية الأولياء 1 ـ 126 ، مسند أحمد 5 ـ 389 .
2 ـ سنن ابن ماجة 1 ـ 63 ، صفة الصفوة 1 ـ 156 .
3 ـ سورة آل عمران : آية 172 نص على نزولها فيه ، ابن سعد في طبقاته 3 ـ 108 .
4 ـ سورة الانعام : آية 52 نص على نزولها فيه الطبري في تفسير 7 ـ 128 .
5 ـ أسد الغابة 3 ـ 258 .

(184)

« جُزيت خيراً فلقد علمت جاهلنا ، وثبت عالمنا ، وأقرأتنا القرآن ، وفقهتنا في الدين ، فنعم أخو الاسلام أنت ، ونعم الخليل . . » .
وانصرف ابن مسعود يواصل المسير حتى انتهى الى يثرب فاتجه الى الجامع فوجدك على منبري تخطب فلما رأيته قلت للمسلمين :
« ألا أنه قدمت عليكم دويبة سوء ، من يمشي على طعامه يقئ ويسلح . . » . أبمثل هذا الكلام القاسي تخاطب هذا الصحابي العظيم ألك نُبل كنُبله ، أم مواقف كمواقفه .
أتقابله بهذه الجفوة من أجل الوليد الذي خان الله ، ونهب أموال المسلمين .
والتاع ابن مسعود من كلامك فردّ عليك : « لست كذلك ، ولكني صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر ، ويوم بيعة الرضوان » .
وقد أثر كلامك سخط عائشة فاندفعت إلى الإنكار عليك قائلة :
« أي عثمان ، أتقول هذا لصاحب رسول الله ؟ » .
وأمرت جلاوزتك فأخرجوا الصحابي العظيم إخراجاً عنيفاً ، وقام اليه عبد الله بن زمعة فضرب به الأرض ، فدق ضلعه ، وأمرت بقطع رزقه ، وانطلق إليك علي وهو ثائر غضبان فقال لك :
« يا عثمان ، أتفعل هذا بصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله بقول الوليد بن عقبة ؟ » .
فقلت له : ( ما بقول الوليد فعلت هذا ؟ ولكن وجهت زيد بن الصلت الكندي ، فقال له ابن مسعود : إن دم عثمان حلال ) .
ولما كان اعتذارك على غير وجه مشروع رد عليك أمير المؤمنين بقوله :
« أصلت عن زيد على غير ثقة » (1) .
وحمله أمير المؤمنين الى منزله فقام برعايته ، وتعاهده حتى أبّل من مرضه ، فقاطعته ، وهجرته ، ولم تأذن له في الخروج من يثرب ، ولم يرجعك الى رشد
____________
1 ـ الانساب 5 ـ 36 .
(185)

تقواه ، وورعه ، وانقطاعه الى الله ، ولما مرض مرضه الذي توفي فيه دخلت عليه عائداً فقلت له :
ـ ما تشتكي ؟
ـ ذنوبي .
ـ فما تشتهي ؟
ـ رحمة ربي .
ألا أدعو لك طبيباً ؟
ـ الطبيب أمرضني .
ـ آمر لك بعطائك .
ـ منعتنيه ، وأنا محتاج اليه ، وتعطينيه ، وأنا مستغن عنه .
ـ يكون لولدك .
ـ رزقهم على الله .
ـ أستغفر لي يا أبا عبد الرحمن .
أسأل الله أن يأخذ لي منك بحقي .
وانصرفت وأنت لم تظفر برضائه ، ولما ثقل حاله أوصى أن لا تصلي عليه ، وإنما يصلي عليه صاحبه عمار بن ياسر ، ولما انتقل الى دار الحق انبرت الصفوة الصالحة من أصحابه فدفنوه في البقيع ، ولم يخبروك به ، فلما علمت بالأمر ورم أنفك ، وقلت سبقتموني ، فرد عليك الطيب ابن الطيب عمار بن ياسر قائلاً :
« إنه أوصى أن لا تصلي عليه » .
وقال لك ابن الزبير :

لأعـرفنـك بعـد المـوت تنـدبنـي * وفـي حيـاتـي مـا زودتـنـي زادي (1)

هذه هي سيرتك تجاه الأخيار والمتحرّجين في دينهم فقد نكّلت بهم ، وأرهقتهم إلى حد بعيد .
____________
1 ـ تاريخ ابن كثير 7 ـ 163 ، مستدرك الحاكم 3 ـ 13 .
(186)

تقرّب الأمويين ، وتهب لهم الأموال ، وتمنحهم الثراء العريض ، وتخصهم بالوظائف المهمة ، وتقابل خيار صحابتي بالنفي والتعذيب والتوهين ، والحاكم في هذه الأحداث هو الله فله الأمر وله الحكم .

خفاء الأحكام الشرعية :

والأدهى من ذلك جهلك بالأحكام الشرعية ، وعدم معرفتك بها ، أو أنك قد اجتهدت في قبال النص ، ونسوق اليك بعض ما صدر منك .

1 ـ اتمام الصلاة في السفر :

وجرت سنّتي من لزوم القصر في السفر ، وعدم اتمام الصلاة الرباعية عملاً بقوله تعالى : « وإذ ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ان خفتم أن يفتنكم الذين كفروا » (1) وكنت لا أزيد في السفر على الركعتين (2) وكذلك صلى من بعدي أبو بكر وعمر ، وأنت شطراً من خلافتك ، ولكنك في السنة السادسة من خلافتك اتممت الصلاة في منى ، واتخذت ذلك سنّة معتذراً بأن الناس قد كثروا في عامهم فصليت أربعاً لتعلمهم أن الصلاة أربع (3) وهو اعتذار مهلهل فإنّه ليس لك من سلطان على تغيير أحكام الله وتبديل السنّة ، وقد كان بامكانك أن توعز الى الخطباء بتعريف الجمهور بفريضة الصلاة لا بأن تتلاعب بها .
فهل أخبرتك الملائكة التي تستحي منك بأن لك الحق في نسخ الأحكام ، وتبديل مناهجها ، وتغييرها عما أنزلت عليه ؟
2 ـ النداء الثالث :
____________
1 ـ سورة النساء : آية 101 .
2 ـ سنن ابن ماجة 1 ـ 330 ، أحكام القرآن للجصاص 2 ـ 310 ، مسند احمد 2 ـ 45 .
3 ـ سنن أبي داود 1 ـ 308 ، سنن البيهقي 2 ـ 144 ، نيل الأوطار 2 ـ 260 .

(187)

ومما أحدثته الزيادة بالأذان وذلك في النداء الثالث يوم الجمعة وهو النداء ( على الزوراء ) وقد عاب الناس عليك وقالوا انها بدعة (1) .
فأي مصلحة لك في التدخل باحكام الله ، والتلاعب بفرائضه ، وأحكامه ؟

3 ـ زكاة الخيل :

والزكاة انما شرعت في الغلات الأربع ، وفي الانعام ، وفي الذهب والفضة ، ولم تشرع في غير ذلك ، ولكنك لما آل اليك الأمر جعلت الزكاة في الخيل (2) وقد أعلنْتُ غير مرة أنها لا تجب فيها (3) فكيف سانح لك أن تتعمد على ترك سنتي ، واحكام الله .

4 ـ تقديم الخطبة على الصلاة :

والسنّة التي جريت عليها في صلاة العيدين ان اصلي بالناس اولاً ثم اخطب فيهم (4) ولكنك قد جافيت ذلك فخطبت اولاً ثم صليت بالناس (5) وقد تركت عن عمد سنتي ، واهملت احكام الله وبدّلت فرائضه .

5 ـ الجمع بين الأختين :

ومن غريب احكامك ، وعجيب فتاواك أنّك اجزت الجمع بين الاختين في النكاح فيما اذا كانا ملكي يمين (6) وقد دلت الآية بصراحة على الحرمة في جميع انواع النكاح المشروع قال تعالى : « وان تجمعوا بين الاختين الا ما قد سلف » (7)
ان الرجل اذا وطىء احدى الأختين حرمت عليه الأخرى سواء اكان بعقد
____________
1 ـ انساب الاشراف 5 ـ 39 .
2 ـ المحلى 5 ـ 227 .
3 ـ صحيح الترمذي 1 ـ 80 ، مسند احمد 1 ـ 62 ، موطأ مالك 1 ـ 206 ، الام للشافعي 2 ـ 22 .
4 ـ صحيح مسلم 1 ـ 326 ، سنن ابن ماجة 1 ـ 387 .
5 ـ تاريخ الخلفاء ص 111 .
6 ـ الموطأ 2 ـ 210 ، المحلى لابن حزم 9 ـ 522 ، تفسير القرطبي 5 ـ 117 .
7 ـ سورة النساء : آية 23 .

(188)

ام بملك ، وقد قلتُ : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمعن ماءه في رحم أختين (1) » .
ما هو المسوغ لك في التصرف بأحكام الله ، وتبديل مناهج شريعته ؟ والأمر لله تعالى فهو الحاكم في ذلك .

6 ـ عدة المختلعة :

ودلت الآية الكريمة على أن عدة المطلقة أن تربص ثلاثة قروء قال تعالى : « المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » ولا فرق في ذلك بين أقسام الطلاق سواء أكان الطلاق رجعياً أم خلعياً ، ولكنك لم تعن بذلك فقد جاءك معاذ بن عفراء فقال لك : إن ابنة معوذ اختلعت من زوجها اليوم أتنتقل ؟
فقالت له : تنتقل ولا ميراث بينهما ، ولا عدة عليها إلا أنها لا تنكح حتى حيضة خشية أن تكون بها حبل (2) ماهو المبرر لك في هذه الفتيا والتلاعب بأحكام الله !!

7 ـ صيد الحرم :

ويحرم على المحرم أن يأكل لحم الصيد عملاً بقوله تعالى : « وحرم عليكم صيد البرَّ ما دمتم حرماً » وقد جيء إلي بلحم وحش فرددته وقلت :
« إنا حرم لا نأكل الصيد »(3) .
هذه هي شريعة الله في تحريم لحم الصيد على المحرم سواء أكان صاده بنفسه أم صاده غيره ، ولكنك لم تمعن بذلك فقد أكلته وأنت محرم (4) افعلى عمد تركت السنّة أم أنك لا تدري بالحكم ؟ وكيف يسوغ لإمام المسلمين أن لا تكون له دراية بمثل هذه الأحكام ، فلا حول ولا قوة إلا بالله وهو المستعان على ما تصفون .

8 ـ غسل الجنابة

وأوجبت غسل الجنابة على من جامع زوجته سواء أنزل المني أم لم ينزل ،
____________
1 ـ البحر الرائق 3 ـ 95 ، بدايع الصنايع 2 ـ 264 .
2 ـ تفسير ابن كثير 1 ـ 276 ، سنن ابن ماجة 1 ـ 634 ، كنز العمال 3 ـ 423 .
3 ـ سنن الدارمي 2 / 39 ، تيسير الوصول 1 / 272 ، سنن النسائي 5 ـ 184 .
4 ـ المحلى لابن حزم 8 ـ 254 ، كنز العمال 3 ـ 53 ، مسند احمد 1 ـ 100 ، سنن أبي داود 1 ـ 291 ، سنن البيهقي 5 ـ 194 .

(189)

وهو من الأمور التي لا يجهلها أحد من أصحابي لأنها مما تعم بها البلوى ، ولكنك أفتيت بعكس ذلك فقد سألك زيد بن خالد الجهني فقال لك : أرأيت إذا جامع الرجل امراته ولم يمن ؟ فقلت له : يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ، ويغسل ذكره ، وقلت إني سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله (1) .
أفهل خصصتك وحدك بهذا الحكم ؟ وأخفيته على عموم المسلمين ، والقرآن الكريم قد أعلن وجوب الغسل على الجنب قال تعالى : « لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا (2) » .
ما هو المبرر لك على مجافاة سنتي وعلى الإفتراء عليَّ بأنَّي قد قلت لك ؟ فوا أسفي على أمتي إذ وليتها انت وفيها باب مدينة علمي ومن هو مني بمنزلة هارون من موسى ، العالم بجميع ما تحتاج إليه الأمة .

9 ـ تعطيل القصاص :

واستقبلت خلافتك بتعطيل القصاص ، وذلك بعفوك عن عبيد الله بن عمر الذي ثار لمقتل أبيه فقتل بغير حق الهرمزان وجفينة ، وبنت أبي لؤلؤة ، وأراد قتل كل صبي في المدينة فانتهى أمره إلى سعد بن أبي وقاص فساوره وقابله بناعم القول حتى انتزع منه سيفه ، وأودعه في السجن حتى تنظر في أمره ، ولما تمت البيعة لك اعتليت أعواد المنبر ، وعرضت قصته على المسلمين فقلت لهم : « إن الهرمزان من المسلمين ، ولا وارث إلا المسلمون عامة ، وأنا إمامكم ، وقد عفوت أفتعفون ؟ » وأنكر عليك أمير المؤمنين ، ولم يرضى بقضائك فقال لك :
« أقِد هذا الفاسق فإنه أتى عظيماً ، قتل مسلماً بلا ذنب » .
وثار في وجه عبيد الله فقال له :
« لئن ظفرت بك لأقتلنك بالهرمزان (3) » .
____________
1 ـ صحيح مسلم 1 ـ 142 .
2 ـ سورة النساء : آية 43 .
3 ـ انساب الأشراف 5 / 24 .

(190)

واندفع المقداد بن عمر فردّ عليك حكمك في هذا الفاسق فقال :
« إن الهرمزان مولى لله ولرسوله ، وليس لك أن تهب ما كان لله ولرسوله (1) » . وقد أنكر عليك خيار المسلمين وصلحاؤهم هذا العفو لأنه كان تعطيلاً لحدود الله ، وكان زياد بن لبيد إذا لقي عبيد الله قال له :

ألا يـا عبيـد الله مـالـك مهـرب * ولا ملجـأ مـن ابـن أروى ولا خفـر
أصبـت دمـاً والله فـي غير حلّـه * حرامـاً وقتـل الهـرمـزان له خطـر
على غير شـيء غير أن قال قائـل * أتتـهمـون الهـرمـزان علـى عمـر
فقـال سـفيـه والحـوادث جمـة * نعـم اتـهمـه قـد أشـار وقـد أمـر
وكان سلاح العبـد في جوف بيتـه * يـقـلّبـه والأمـر بـالأمـر يعـتبـر

وشكاه عبيد الله اليك فدعوت زياداً ونهيته عن ذلك فلم ينته ، وقد تناولك بالنقد فقال فيك :

أبـا عمـرو عبيـد الله رهـن * ـ فـلا تشـكك ـ بقتـل الهـرمـزان
فـإنك إن غفـرت الجرم عنـه * وأسـبـاب الـخطـا فـرسـا رهـان
أتعفـو إذ عفـوت بغيـر حـق * فـمـالـك بـالـذي تـحكي بـدان (2)
وغضبت على زياد ، وزجرته حتى انتهى ، وأخرجت عبيد الله من يثرب إلى الكوفة ، وأنزلته داراً فنسب الموضع اليها فقيل ركوينة ابن عمر (3) » .
وقد خالفت بذلك حكم الله فإنّه قد ألزم الولاة بإقامة الحدود وعدم التسامح فيها ، وذلك لصيانة النفوس ، وحفظ النظام ، وليس للحاكم أن يقف موقفاً مائعاً مع المعتدي مهما كان شأنه ، فقد سألت أن أعفو عن سارقة لعظم شأن أسرتها فأجبت :
« إنما هلك من كان قبلكم لأنهم كانوا إذا أذنب الضعيف فيهم عاقبوه ،
____________
1 ـ تاريخ اليعقوبي 2 / 141 .
2 ـ تأريخ الطبري 5 ـ 41 .
3 ـ تأريخ الطبري 5 ـ 41 .

(191)

وإذا أذنب الشريف تركوه ، والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها (1) » .
وجلدت أصحاب الافك وفيهم مسطح بن أثاثة ، وهو من أهل بدر (2) هذا ما يقتضيه العدل الإسلامي الذي لا يفرق بين الضعيف ، والقوي ، وبين الرئيس والمرؤوس ، ولكنك جافيت ذلك فلم تقِد عبيد الله لأنه ابن عمر ، ولأنه فتى من فتيان قريش فآثرت رضا آل الخطاب ، ورضا قريش فعفوت عنه ، وأبعدته إلى الكوفة خوفاً عليه من بطش الأخيار والصلحاء ، ومنحته داراً يسكن فيها ، وبذلك فتحت باب الفوضى والفساد ، ومكنت ذوي النفوذ والأقوياء أن ينكّلوا بالضعفاء الذين ليس لهم ركن يأوون اليه .
وقد الغيت رأي أمير المؤمنين عليه السلام الذي ألزمك بالقَود ، وهو أعلم منك وأدرى بحدود الله ، وأحكامه ، وقد استجبت لرأي ابن العاص الذي أشار عليك بترك الحد ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، وهو المستعان على ما تصفون .

10 ـ رجم من ولدت ستة أشهر :

ومن غريب أحكامك قضاؤك بالرجم على امرأة ولدت لستة أشهر حينما رفع اليك زوجها الأمر فبلغ علي ذلك فبادى اليك مسرعاً فقال لك :
« ما تصنع ليس ذلك عليها ؟ قال الله تبارك وتعالى : « وحمله وفصاله ثلاثون شهراً » (3) وقال : « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين » (4) فالرضاعة أربعة وعشرون شهراً ، والحمل ستة أشهر » .
فبهت ، وقلت معتذراً :
« ما فطنت لهذا ؟ » .
وأمرت بردها ، فوجدتها قد رُجمت ، وقد كانت المرأة طاهرة الذيل ، نقية الثوب ذات صلاح وعفة ، وقد خاطبت أختها وهي مروعة قائلة :
____________
1 ـ النظام السياسي في الاسلام ص 227 نقله عن الخراج لأبي يوسف ص 50 .
2 ـ أسد الغابة .
3 ـ سورة الاحقاف : آية 15 .
4 ـ سورة البقرة : آية 233 .

(192)

« يا أُخيه لا تحزني ، فوالله ما كشف فرجي أحد قط غيره » .
ولما شب الطفل كانت ملامحه تشبه ملامح أبيه فاعترف أبوه به (1) فكيف تحكم بين المسلمين ، وأنت لا دراية لك بأحكام الله ، ولا معرفة لك بحدوده ! !
وما أصيبت أمتي بفتنة ولا بكارثة أعظم من أن يتولى أمرها وشؤونها الجهال والأغبياء ، وفيهم ذوو الكفاءة والعلم والدراية بأحكام الله وشرائعه .
هذه بعض أحكامك التي خالفت بها كتاب الله وسنّتي .
ليس الذنب عليك إنما الذنب على من أهلك لإمامة المسلمين والبسك هذا الثوب الذي لست أهلاً له ، والحاكم هو الله تعالى بين عباده ، فهو الذي يتولى الجزاء بينهم .

اعتراف عثمان باخطائه :

ويعترف عثمان باخطائه ، فيقول : بلى يا رسول الله « قد مسني الكبر ووهن العظم مني ، واشتعل الرأس شيباً » وقد وهت جميع قواي ، وكنت رقيق القلب ، أحب أسرتي ، فاخترت مروان بن الحكم مستشاراً ووزيراً ، وتناسيت قولك فيه عندما دخلنا عليك ، فقلت فيه : « الوزغ ابن الوزغ ، الملعون بن الملعون » نسيت ذلك ففوضت إليه أمر الدولة ، وأنطت به جميع شؤوني ، كما وليت على أقطار المسلمين أبناء أسرتي فأثار عليَّ ذلك حفيظة المسلمين ، فتوافدوا على يثرب من مختلف الأقطار مطالبين بالاصلاح الديني ، والاجتماعي ، واقصاء ولاتهم الذين أفسدوا أمور المسلمين وأشاعوا في ربوعهم الفساد والجور ، فلم أستجب لقوتهم ، ولم أعبأ بهم ، وقد جاءني علي مرشداً وناصحاً فأمرني باقامة العدل ، والاستجابة إلى مطاليبهم فلم أذعن له ، ولم أخضع لنصيحته .
وأما مخالفاتي للسنّة فقد كان اجتهاداً مني في مقابل النص كما أجتهد قبلي أبو بكر وعمر في كثير من الأحكام المنصوصة عليها فعلى ضوئهما سرت في ذلك .
____________
1 ـ الغدير 8 ـ 97 .
(193)

وقد أثارت عليَّ الأحداث التي أرتكبتها سخط المسلمين فانفجر بركان الثورة في نفوسهم ، وهجموا على داري ، وقتلوني فيها أشر قتلة . . . ودفنوني خارج البقيع في حشر كوكب الذي كانت اليهود تدفن موتاهم فيه وقد اتخذ المضللون من أسرتي قميصي فتيلاً لنار الحرب . استنار معاوية بشعاعه ، وأحترق الناس بلهبه ، فقد ألبس معاوية ثوبي منبر الشام فكان ستون الف شيخ يبكون تحته ، وقد أثار الأحقاد والأضغان على أخيك ووصيك وباب مدينة علمك الإمام أمير المؤمنين ، فقد مكّنه قتلي من منازعته ، والتمرد على حكمه ، وقد تسبب بقتلي حرب الجمل وصفين والنهروان ، وتفتحت أبواب الفتن على المسلمين وشاعت بينكم الموجِدة والعداء وانتشر القتل وسفك الدماء .
وقد وقع كل ذلك ، والأمر لله وحده وأطلب منك العفو والغفران ومن الله الرضا .