الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

مع القِعّـاد والمعتزلة



(196)

ونودي بحضور القِعّاد الذين تخلفوا عن بيعة الإمام أمير الؤمنين عليه السلام ، فأحضر كل من سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ، وحسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، ومسلمة بن مخلد ، وأبوسعيد الخدري ، ومحمد بن مسلمة ، والنعمان بن بشير ، وزيد بن ثابت ، ورافع بن خديج ، وفضالة بن عبيد ، وكعب بن عجرة ، وعبد الله بن سلام ، وصهيب بن سنان ، وأسامة بن زيد ، وقدامة بن مضعون ، والمغيرة بن شعبة ، فوجّه النبي صلى الله عليه وآله اليهم خطابه قائلاً :
لماذا لم تبايعوا علياً ؟
ما هو المبرر لتخلفكم عما أجمع المسلمون عليه ؟
لقد استقبل جمهور المسلمين بيعة أمير المؤمنين بالرضا والقبول وبمزيد من الابتهاج والسرور ، واتساع الأمل والرجاء ، فقد كانت بيعته شرعية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ، فلم تكن بيعته فلتة كبيعة أبي بكر ، ولا بتعيين شخص كبيعة عمر ، ولم تستند إلى تعيين جماعة كبيعة عثمان ، فلم يظفر أحد من الخلفاء بمثل بيعته في شمولها واتساعها ، وقد فرح بها المسلمون جميعاً وقد وصف سرورهم الإمام بقوله :
« وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير ، وهدج اليها الكبير ، وتحامل نحوها العليل ، وحسرت اليها الكعاب . . » .
وقد انثال الناس عليه ، وهم يهتفون أنه ليس لنا إمام غيرك يطأ بنا الطريق ، ويوصلنا إلى جادة العدل ، وطريق الرشاد وقد وصف بشدة إقبالهم وزحامهم عليه بقوله :


(197)

« فما راعني إلا والناس كعرف الضبع ينثالون عليَّ من كل جانب حتى لقد وطىء الحسنان ، وشق عطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم . . » .
فلما نهض بالأمر لإقامة العدل ، وإحياء السنّة ، وإماتة البدعة وإقبار الباطل نكصتم على أعقابكم وتخلفتم عن بيعته ، وأظهرتم الأحقاد ، وأعلنتم التمرد حتى ملئتم قلب ابن أبي طالب بالأسى والحزن ، والغيظ .
وأنت يا سعد لقد اعتزلت علياً ، وبررت اعتزالك بقولك :
« إني لا أقاتل حتى يأتوني بسيف مبصر ، عاقل ناطق ، ينبىء أن هذا مسلم ، وهذا كافر » .

أما سمعت مني غير مرة ما قلته في علي « علي مع الحق ، والحق مع علي » أما سمعت مني قولي فيه « علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي » ألم تسمع مني ما قلته فيه يوم غدير خم « اللهم وال من والاه ، وأنصر من نصره ، وأخذل من خذله » أليس في هذا ما يحملك على لزوم اتباعه ، وطاعته ، وأنت تعلم بقرارة نفسك باطل الأمويين ، وتعلم أنهم ليسوا على الحق ، فلماذا تخلفت عن بيعة علي ، واستقبلت خلافته بكثير من القلق والوجوم ، والاضطراب ؟
وأنت يا عبد الله بن عمر لماذا تخلفت عن بيعة أمير المؤمنين ، وأنت تعلم أن حكومته إنما هي امتداد لحكمي ، وإنها سوف تبسط العدل ، وتنشر الدعة والرفاهية بين الناس .
وقد ندمت في أواخر أيامك حينما ظهرت الفتن والبدع ، وعرفتم ما جلبتموه على هذه الأمة من الخطوب والويلات ، وتبين لكم سوء ما فرطتم في حق هذه الأمة ، وقد أعلنت ندمك ـ حيث لا ينفع ـ فقلت :
« إني لم أخرج من الدنيا ، وليس في قلبي حسرة إلا تخلفي عن علي » ، وقد انتقم الله منك في آخر حياتك فاراك الذل والهوان فقد جاء الحجاج ليأخذ منك البيعة إلى عبد الملك بن مروان فجئت تبايع آخر الناس لئلا يراك أحد فعرف الحجاج غايتك ، وقصدك فأحتقرك واهانك ، وقال لك :


(198)

« لمَ لم تبايع أبا تراب ؟ وجئت تبايع آخر الناس لعبد الملك ، أنت أحقر من أن أمد لك يدي ، دونك رجلي فبايع » .
ومد اليك رجله ، وفيها نعله فبايعتها ، حقاً هذا هو الخسران ، وهذا هو الذل والهوان .

لقد بايعت يزيد بن معاوية الفاسق الأثيم لأن معاوية قد أرشاك بمائة ألف دينار (1) فوقفت تسدد بيعته ، وتندد بالمتخلفين عنها ، وتدعو المسلمين الى الرضا بها ، وقد شجبت من بيعة علي ، وتخلفت عنها ، فهل يرضى لك أبوك بذلك ؟ !!
وأنت يا أسامة بن زيد يا من كنت أثيراً عندي ، فأمّرتك على الجيش، ولعنت المتخلفين عنك فقلت :
« نفّذوا جيش أسامة ، لعن الله من تخلف عن جيش أسامة » وقلت فيك لما استصغروك لهذا المنصب الخطير :
« أيها الناس ، ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة ؟ ولئن طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله وأيم الله إنه كان لخليقاً بالامارة ، وان ابنه من بعده لخليق بها . . » (2) .
وقد بايعت علياً من قبل غدير خم ، وعرفت منزلته مني ، وحبي وإيثاري له ، فلم تخلفت عنه ؟
أترضى أن يحكم المسلمون بنو أمية ، وآل أبي معيط ، فيذيقون الناس سوء العذاب ، وتتخلف العترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم في لزوم المودة والرعاية لها .
لقد أغدق عليك عثمان بالنعم والأموال ، ووهبك الثراء العريض فنسيت آخرتك وبعتها بدنياك .
لقد تخلفت عن البيعة حتى ترضى عنك بنو أمية ، وتنال ثقتهم فآثرت ذلك على سخط عترتي وأهل بيتي فلا حول ولا قوة إلا بالله .
____________
1 ـ فتح الباري 13 ـ 59 ، تاريخ ابن كثير 8 ـ 137 ، سنن البيهقي 8 ـ 159 .
2 ـ السيرة الحلبية 3 ـ 34 .

(199)

وأنت يا حسان بن ثابت أيها الشاعر الموهوب الذي دافعت عن المسلمين بأدبك ، وببليغ شعرك لماذا انحرفت عن سنن الحق والعدل ؟
ألم تبايع علياً يوم غدير خم ؟
أولست أنت القائل في بيعته ؟
ينـاديهـم يـوم الغـديـر نبيهـم * بخـم واسمـع بـالرسـول منـاديـا
فقـال فمـن مـولاكـم ونـبيكـم * فقـالوا ولم يبـدوا هنـاك التعـاميـا
إلـهـك مـولانـا وأنـت نـبينـا * ولم تلق منـا في الـولاية عـاصيـا
فقال له : قـم يـا علـي فـإننـي * رضيتـك من بعـدي إماماً وهـاديـاً
فمـن كنـت مـولاه فهـذا وليـه * فكـونوا له أتبـاع صـدق مـواليـا
هنـاك دعـا اللـهـم وال ولـيـه * وكـن للذي عادى عليـاً معـاديـا (1)

ألم تقل هذا الشعر الرائع البليغ في بيعة علي ، فلماذا أحجمت عن بيعته ، وتخلفت عما دخل فيه المسلمون .
إن سبب ذلك هو ما أغدق عليك به عثمان من النعم والأموال فآثرت ذلك على رضا الله فلا حول ولا قوة إلا بالله وهو المستعان على ما تصفون .
وأنت يا أبا سعيد الخدري ما كان ظني بك أن تبلغ الى هذا القرار السحيق فتنحرف عن علي ، وقد علمت مكانته ، ومنزلته مني ، وأنه خير من خلفته في أمتي ، وقد رويت عني الشيء الكثير مما قلته في حقه ، أليس الواجب عليك أن تبادر الى بيعته ، وان تقوم بمساندته ، وتشد عضده ولكن يا للأسف تخلفت عن بيعته لتسدي بذلك يداً على بني أمية وعلى آل ابي معيط ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون والأمر لله وحده .
ويلتفت النبي صلى الله عليه وآله الى بقية القِعّاد فيقول لهم :
وماذا نفحتم من اخي ووصيي فلمَ لم تبايعوه ، فهل ظننتم إنّه يستأثر باموال
____________
1 ـ الغدير 2 ـ 34 .
(200)

المسلمين ، او يميز قوماً على آخرين في العطاء وغيره ، وانتم تعلمون من دون شك إنّه سيعيد بين المسلمين سيرتي ، ويسير فيهم بسياستي ، ويطبق احكام الله وعدله في الأرض ، وإنّه يحمل الناس على الطريق الواضح ، والمحجة البيضاء ، ولا يدع بأي حال مجالاً إلى الفقر والحرمان بين الناس .
وقد رايتم ايام حكمه كيف سار بين المسلمين ، وكيف اقتدى بي في جميع مجالات حكمه فلم يؤثر احداً عل احد ، ولم يتاجر بأموال الأمة ، ولم يشر ضياعاً ، ولا داراً ، ولم يتخذ لنفسه ثوباً ، او مسكناً .
فلماذا تخلفتم عن بيعته ، ومكّنتم الفرص الى القوى المنحرفة عن الاسلام والباغية عليه ان تستولي على زمام الحكم فتعبث في الأرض فساداً ، وتبغي على المسلمين .
ويسود عليهم وجوم مرهق . ولا يجدون جواباً يدافعون به عن نفوسهم .


(201)

الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

مع طلحة والزبير



(202)

وبعد ما انتهى دور القِعّاد والمعتزلين عن بيعة علي صدرت الأوامر من الحق باحضار طلحة والزبير ، فاحضرا ، ويوجه النبي صلى الله عليه وآله لهما السؤال قائلاً :
وأنت ياطلحة والزبير لماذا أتيتما بيعة علي مختارين ، ونكثتموها متنمرين ، فأثرتموها عليه حرباً شعواء توقدون جذوتها ، وتسعّر أمكم عائشة ، لهبها ، وهي تطوي البيداء وتقود الجيوش لمحاربة خليفتي ووصيي علي ، وقد أمرها الله أن تقر في بيتها . . وقد هتكتم بخروجها معكم حرمي ، وصنتم حلائلكم . . ونكثتما الأيمان المغلظة التي اقسمتموها لعلي عندما أردتما الخروج معتذرين بالعمرة ، وقد أضمرتما الغدرة تلبية لنداء الشيطان الذي وسوس في صدوركما ، والهب في نفسيكما نار الحسد لعلي فساقكما ، وامكما إلى ساحة الموت والدمار لم ترعيا حرمتي ، ولم تلحظا مقامي فأبرزتما حليلتي ، فجعلتموها قائدة الجيش ، تقود العساكر وتدفعهم إلى ميادين القتال :

صنتـم حـلائـلكـم ، وقدتـم أمكـم * هـذا لعمـرك قلـة الانصـاف
أُمـرت بجـر ذيـولهـا فـي بيتهـا * فهـوت تشـق البيـد بالايجـاف
غـرضـا يقاتـل دونهـا أبنـاؤهـا * بـالنبـل والخطَّـيَّ والاسيـاف
هتكـت بطلحـة والـزبير ستورهـا * هـذا المخبر عنهـم والكـافـي

لمَ تمردتما يا طلحة والزبير على علي ؟ وأنتما تعرفان مقامه ، وتعلمان بحقيقته للخلافة وذلك لما يتمتع به من المثل الكريمة فقد توليت تربيته منذ نعومة أظفاره ، وأفضت عليه بعلمي ومعارفي وقد وصف تربيتي له بقوله :
« وضعني في حجره ، وأنا ولد يضمني إلى صدره ، ويكنفني إلى فراشه ،


(203)

ويمسني جسده ، ويشمني عرفه ، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه ، والله كنت أتبعه اتباع الفصيل إثر أمه ، يرفع لي كل يوم من أخلاقه علماً ، ويأمرني بالإقتداء به ، ولقد كان يجاور في كل سنة بغار حراء فأراه ولا يراه غيري . . » .
وقد صار بتربيته المثل الأعلى للانسانية الكريمة ، وطهرت نفسه من جميع افانين الباطل وصفت ذاته من جميع رواتب الشرك ، وأحقاد الجاهلية ، فلماذا أعلنتما التمرد والعصيان على حكومته .
يازبير لقد كنت من أقرب الناس إلى علي ، ومن أعطفهم عليه ، وأعرفهم لحقه ، وقد وقفت إلى جانبه حينما تقمص الخلافة أبو بكر فأعلنت استنكارك عليه ، ولزمت جانب علي ، وبعد مقتل عثمان خطبت الناس في المسجد فقلت ممثلاً نفسك وصاحبك طلحة .
« أيها الناس ، إن الله قد رضي لكم الشورى . فاذهب بها الهوى ، وقد تشاورنا فرضينا علياً فبايعوه . . »
فكنت تدعو الناس ، وتعمل جميع الوسائل لارجاع الحق الغصيب إلى علي ، وقد اجتمعت ومعك طلحة ، وعمار بن ياسر ، وأبو الهيثم ، وأبو رفاعة ، ومالك ابن عجلان ، والكثيرون من المهاجرين والأنصار ، والوفود من أهل الأمصار ، وأهل البوادي حتى ضاق المسجد بالجمع فتذاكرتم بشأن الخلافة فلم تروا أحداً أحق ولا أولى بها من علي ، وقد خطب ابن الاسلام عمار بن ياسر فقال :
« أيها الأنصار . لقد سار فيكم عثمان بالأمس بما رأيتموه ، وأنتم اليوم على شرف من الوقوع في مثله إن لم تنظروا لأنفسكم . . وإن علياً أولى الناس بهذا الأمر لفضله وسابقته » .
فعلت الأصوات من رحبات المسجد مجمعة على الرضا به ، وعلى انتخابه للخلافة ، والتفت عمار إلى الحشود الزاخرة فقال :
« أيها الناس ، إنا لم نولكم إلا خيراً ، وأنفسنا إن شاء الله . وإن علياً من قد عرفتم . وما نعرف مكان أحد أهلاً لهذا الأمر ، ولا أولى به . . » .
فهتف الجميع « قد رضينا . . وهو عندنا كما ذكرت وأفضل » .


(204)

وانطلق الجمع من أهل يثرب وأهل الأمصار ، وفي طليعتهم انت وطلحة ، إلى علي المعتزل في داره فأخرجتموه منها ، وهو كاره مرغم ، والجميع ينادون :
« يا أبا الحسن إن هذا الرجل قد قُتل ولا بد للناس من إمام ، ولا نجد اليوم أحق بهذا الأمر منك . لا أقدم سابقة ، ولا أقرب من رسول الله . . » .
فأجابهم بالرفض والامتناع قائلاً :
« لا تفعلوا ، ولا أفعل . فإني أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً » .
فهتف الناس قائلين : « انت لنا امير »
وأصر علي على الامتناع قائلاً :
« لا حاجة لي في أمركم ، أيها الناس أنا معكم فمن اخترتم فقد رضيت به » .
وألح عليه الجميع وأعادوا الطلب فأصر على عدم قبول خلافتكم التي سوف تجر له المحن والخطوب ، وأخبر الجميع عن الأحداث الرهيبة التي تحل بالمسلمين من جراء الحزبية السائدة التي أوجدها أنصار الحكم الأموي وسائر المنتفعين قائلاً :
« دعوني والتمسوا غيري ، أيها الناس إنا مستقبلون أمراً له وجوه ، وله ألوان . لا تثبت له العقول ، ولا تقوم له القلوب » .
وراح ابن الاسلام البار الجندي المتحمس لعقيدته ودينه مالك الأشتر يتوسل بالإمام ، وينشده باسم الإسلام وباسم الأمة ، أن يقبل هذا الأمر ، ويجيب القوم إلى ما أرادوه قائلاً :
« ننشدك الله ، ألا ترى ما نرى . ألا ترى ماحدث في الاسلام ؟ ألا تخاف الفتنة ؟ ألا تخاف الله » .
وبعد روية وتفكير من علي يجيبهم أنه إن تولى أمرهم حملهم على كتاب الله ، وسنّتي قائلاً :
« إني إن أجبتكم ركبت فيكم ما أعلم ، وإن تركتموني فانما أنا كأحدكم ، بل أنا من أسمعكم ، وأطوعكم لمن وليتموه أمركم . . »
فصاحوا هاتفين :


(205)

« ما نحن بمفارقيك حتى نبايعك » .
فرقَّ لهم علي ، وخاف من حدوث الفتنة والإنشقاق بين صفوف المسلمين فأجابهم إلى ذلك ، وقال لهم :
« إن كان لا بد من ذلك ففي المسجد ، فإن بيعتي لا تكون خفية . ولا تكون إلا عن رضى المسلمين ، وفي ملأ جماعتهم . . » .
لقد أراد علي أن يكون انتخابه حراً وعاماً ، يستوء فيه جميع المسلمين ، ولا يكون بالقهر والغلبة ولا بشهر السيوف والحروب كما كانت بيعة غيره .
ولما كان الغد تزاحم المسلمون على باب داره ، وتداكو عليه تداك الإبل الهيم على وردها حتى كاد بعضهم يسحق بعضاً وانطلقوا مهللين ومكبرين إلى المسجد فاعتلى علي أعواد المنبر فخطب الناس ، فقال في خطابه :
« أيها الناس عن ملأ وأذن ، إن هذا أمركم . ليس لأحد فيه حق إلا من أمّرتم ، وقد افترقنا بالأمس على أمر . فإن شئتم قعدت لكم وإلا فلا أجد على أحد . . »
فجاء الجواب إجماعياً :
« نعم على ما فارقناك عليه بالأمس . . »
ويعيد عليهم القول حتى لا يدّعي أحد أنه قسر المسلمين أو أكرههم على مبايعته ، بل إنما كانت بمحض ارادتهم ، وحديثهم واختيارهم ، وانطلق يقول :
« إني كنت كارهاً لأمركم ، فأبيتم إلا أن أكون عليكم . . رضيتم بذلك . . »
( نعم . . نعم ) .
« اللهم آشهد عليهم » .
وتدافعوا عليه كالموج ، وفي طليعتهم كبار المهاجرين والأنصار فأول يد مُدت إلى بيعته يدك يا طلحة تلك اليد الشلاّء التي سرعان ما نكثت بها عهد الله (1) وجاء الزبير فبايع ، وبايعه جمهور المسلمين عن رضى ، ومحبة وسرور ،
____________
1 ـ كانت يد طلحة شلاّء فتطيّر منها الامام ، وقال : ما أخلقه أن ينكث ، فكان ما قال : جاء ذلك في العقد الفريد 3 / 93 .
(206)

وعمّت الأفراح الجميع فقد أطلت عليهم حكومة الحق ، وحكومة العدل ، وتقلّد الخلافة أبو الفقراء وناصر المظلومين .
فلا أستغلال ، ولا مواربة ، ولا استبداد ، ولا انقياد للنزعات والعواطف .

التأييد الشامل :

وأجمع المسلمون على الرضا ببيعة علي فقد انبرى أعلام الاسلام وكبار الصحابة ، إلى اعلان تأييدهم لبيعة الإمام ، وحثوا المسلمين على تدعيمها وهم :

1 ـ خزيمة بن ثابت :

وانطلق الصحابي العظيم خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين فخاطب علياً قائلاً له :
« ما أصبنا لأمرنا هذا غيرك ، ولا كان المنقلب إلا اليك ، ولئن صدقنا أنفسنا فيك لأنت أقدم الناس إيماناً ، وأعلم الناس بالله ، وأولى المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وآله لك ما لهم وليس لهم ما لك . . »
وجرت على لسانه أبيات خاطب بها الجماهير قائلاً :

إذا نحـن بـايـعنـا عـليـاً فـحسـبنـا * أبـو حسـن ممـا نخـاف مـن الـفتـن
وجـدنـاه أولـى النـاس بـالنـاس أنـّه * أطـب قـريـش بالـكتاب وبـالـسنـن
وإن قـريـشـاً مــا تـشـق غـبـاره * إذا ما جـرى يومـاً على الغمـر البـدن
وفيـه الـذي فيهـم مـن الخـيـر كلـه * ومـا فيهم كـل الـذي فيـه من حسن (1)

____________
1 ـ مستدرك الحاكم 3 / 115 ، وذكر السيد المرتضى في الفصول المختارة 2 / 67 زيادة على هذه الأبيات وهي :
وصـي رسـول الله مـن دون أهلـه * وفارسـه قـد كـان فـي سالف الزمنِ
وأول من صلّـى مـن النـاس كلهـم * سـوى خيـرة النسوان والله ذو المننِ
وصاحب كبش القـوم في كـل وقعـة * يكون لهـا نفس الشجاع لـدى الذقـنِ
فذاك الـذي ثنـى الخنـاصر باسمـه * أمـامـهـمُ حتـى أغيّب في الــكفنِ

(207)

2 ـ صعصعة بن صوحان :

وقام الطيب الصحابي الجليل صعصعة بن صوحان فخاطب الإمام قائلاً له :
« والله يا أمير المؤمنين لقد زيّنت الخلافة ، ومازانتك ، ورفعتها وما رفعتك ، ولهي اليك أحوج منك اليها (1) . . »

3 ـ ثابت بن قيس :

وانبرى ثابت ين قيس خطيب الأنصار فخاطب الإمام :
« والله يا أمير المؤمنين ، لئن كان قد تقدموك في الولاية فما تقدموك في الدين ، ولئن كانوا سبقوك أمس لقد لحقتهم اليوم ، ولقد كانوا وكنت لا يخفى موضعك ولا يجهل مكانك يحتاجون اليك فيما لا يعلمون ، وما احتجت إلى أحد مع علمك » .

4 ـ مالك الأشتر :

واندفع المؤمن الثائر على الظلم والطغيان مالك الأشتر فخاطب الناس معرّفاً لهم بحقيقة علي قائلاً :
« أيها الناس هذا وصي الأوصياء ، ووارث علم الأنبياء ، العظيم البلاء ، الحسن العناء ، الذي شهد له كتاب الله بالإيمان ورسوله بجنة الرضوان ، من كملت فيه الفضائل ، ولم يشك في سابقته وعلمه وفضله الأواخر ولا الأوائل . . »

5 ـ عقبة بن عمرو :

وانبرى عقبة بن عمرو فأخذ يتلو فضائل أبي الحسن قائلا :
« من له يوم كيوم العقبة ، وبيعة كبيعة الرضوان ، والإمام الأهدى الذي لا يخاف جوره ، والعالم الذي لا يخاف جهله (2) . . » .
وتتابعت الخطب من كبار الصحابة وهم يشيدون بفضائل ابي الحسن ، ويذكرون مناقبه ومآثره ، ويدعون المسلمين إلى الالتفاف حوله .
____________
1 ـ بهذا المضمون قال احمد بن حنبل في علي « ان الخلافة لم تزّين علياً بل علي زانها » ذكر ابن الجوزي في مناقب احمد ص 163 .
2 ـ تأريخ اليعقوبي 2 ـ 155 .

(208)

ولم يظفر أحد بمثل هذه البيعة في شمولها ورضا المسلمين بها فلماذا أعلنتما التمرد والعصيان بعد بيعتكما له ؟
لقد حقق ابن أبي طالب في دور حكومته أهم ما يتطلبه الاسلام من أهداف ، فقد قضى على الغبن الاجتماعي ، والظلم الاجتماعي وحقق للمسلمين أهم ما يصبون اليه من العدالة والمساواة ، وفيما يلي عرض لبعض منجزاته الاصلاحية .

مصادرة الأموال المنهوبة :

وكانت فاتحة الأعمال التي قام بها أن أصدر قراره الحاسم برد القطائع التي استأثر بها عثمان بن عفان ، وبرد الأموال المنهوبة التي منحها لبني أمية وآل أبي معيط لأنها جميعاً قد أخذت بغير وجه مشروع ، وقد صودرت أموال عثمان حتى سيفه ودرعه ، وقد استقبل النفعيون هذا القرار وبكثير من الوجوم والاضطراب وأنت يا طلحة والزبير فقد خفتما على ما في أيديكم من الأموال التي استوليتم عليها بغير وجه مشروع ، فأظهرتما بوادر البغي والشقاق ، وأعلنتما التمرد على حكومته .
وقد تتبع علي كل دور بذل في غير وجهه ، ولغير مستحقه فأعاده إلى بيت المال ، وبذلك فقد حقق سنّتي الداعية إلى إقامة الحق والعدل .
وقد أعلن أمام المسلمين عن خطة دستوره تجاه الأموال الضخمة التي وهبها عثمان فقال :
« إن كل قطيعة أقتطعها عثمان ، وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال . . فان الحق لا يبطله شيء ولو وجدته قد تزُوِجَ به النساء ، ومُلِكَ به الاماء وفُرِقَ في البلدان لرددته . . فإنّ في العدل سعة ، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق .
أيها الناس : ألا لا يقولن رجال منكم غداً قد غمرتهم الدنيا فامتلكوا العقار ، وفجروا الأنهار ، وركبوا الخيل ، واتخذوا الوصائف المرققة .


(209)

إذا منعتهم ما كانوا يخوضون فيه ، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون : « حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا » .
ألا أيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يرى أن له الفضل على سواه لصحبته ، فإن الفضل عند الله . وأيما رجل استجاب لله ولرسوله فصدق ملتنا ، ودخل ديننا ، واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده .
وقد أثارت هذه السياسة التي انتهجها أحقادكم وسخطكم فأنتم تريدون ابن أبي طالب لدنياكم ، وهو يريدكم للآخرة .
لقد نهج الإمام سيرتي ، واقتدى بهداي وسلوكي فإنّي ما جئت لأوجد الثراء والنعيم عند الوجهاء وذوي النفوذ ، وإنما جئت لأبسط العدل ، والحق ، وأقضي على جميع الفوارق الإجتماعية ، وقد ثارت عليه قريش وسخطت كما ثارت عليَّ .
إن الإمام أراد بسط العدل ، وتحقيق الرفاهية بين المسلمين ، وقد وقفتم دون تحقيقها ، ووضعتم الحواجز عليها وملئتم الدنيا عليه ضجيجاً فإنّا لله وإنّا إليه راجعون .

اعلان المساواة :

وانطلق علي رائد العدالة الإجتماعية فأعلن المساواة العادلة بين جميع المسلمين ، وهدم الحواجز التي خلقها من تقدمه من الخلفاء فأول عمل قام به ان أمر خازن بيت المال عبد الله بن أبي رافع فوزع الأموال تحت اشرافه فأخذ كل واحد من المسلمين نصيبه كاملاً كبيرهم وصغيرهم ، سوقتهم وخاصتهم فوزعه على شرعة الله .
فكان نصيب كل واحد من السادة والعبيد ثلاثة دنانير سواء بسواء ، ومشت إليه جماعة من الانتهازيين تبلغه استنكارها ، وطالبته بالعدول عن خطته فأجابهم :
« أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وُليت عليه ، والله ما أطور به ما سمر سمير ، وما أمَّ نجم في السماء نجماً ، لو كان المال لي لسويت بينهم ، فكيف

(210)

وانما المال مال الله .
ألا وان إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف ، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ، ويضعه في الآخرة ويكرمه في الناس ويهينه عند الله . . » (1) .
وجئت يا طلحة ويا زبير لابسين الأراقم تظهران النصح ، وتبطنان الخلاف ، فنصحتماه بالعدول عن المساواة إلى التمييز الطبقي ، لتستتب الدعوة في الدولة ، ويتوطد الحكم في البلاد ، ويسير بين الناس بسياسة عمر المالية .
فإجابكما علي بمنطق الحق والايمان قائلاً :
« أما ما ذكرتما من أمر الأسوة يا أخوتاه فإن ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي ، ولا وليته هوى مني ، بل وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسول الله قد فرغ منه ، فلم احتج إليكما فيما فرغ من قسمه ، وأمضى فيه حكمه . . . فليس لكما والله ولا لغيركما عندي في هذا عتبى . . » .
ورجا لكما النصح ، وأمركما بالانصياع الى الحق ، وسلوك جادة العدل قائلاً :
« ألا رحم الله امرأً رأى حقاً فأعان عليه ، أو رأى جوراً فردّه ، وكان عوناً بالحق على صاحبه . . » .
فلم تتأثرا بالنصيحة ، وأردتما منه أن يفسد أمر آخرته لدنياكم وهيهات أن يستجيب لذلك ابن أبي طالب ، وهو رائد الحق والعدالة .
لقد سار في حكمه على هدي الكتاب العزيز فلم يميز قوماً على آخرين ، ولم يوارب ، ولم يصانع ، قد صمد في وجه الأعاصير وقد أعرب عن خطته وسياسته بقوله :
« يوجد الضعيف الذليل عندي قوياً حتى آخذ له بحقه ، والقوي العزيز عندي ضعيفاً ذليلاً حتى آخذ منه الحق ، القريب والبعيد عندي في ذلك سواء » .
____________
1 ـ نهج البلاغة محمد عبده 2 ـ 10 .
(211)

لا محاباة عنده لقوي ، ولا اجحاف بضعيف ، وإنما كان يبغي الحق ويلتمس وجه الله ، ورضاءه في جميع تصرفاته .

عزل ولاة عثمان :

وعمد علي في أول خلافته إلى عزل ولاة عثمان ، واقصائهم عن وظائفهم لأنهم مجموعة من الخونة المستحلين لأموال الناس ، وأخذها بغير حق ، وقد أشار عليه عبد الله بن عباس ، والمغيرة بن شعبة بابقائهم ريثما يتم له الحكم ، وتشب له الأمور ، فردّهم رداً صارماً فقال :
« والله لو كانت ساعة من نهار لأجتهدت فيها برأيي ، ولا وليت هؤلاء » .
وهذا منطق العدل كيف يسوغ له أن يبقي اللصوص والخونة على كراسي الحكم فإنه لو أبقاهم لكان ذلك إقراراً منه لهم على الظلم والجور والخيانة .
وبادره المغيرة فقال له :
« إنزع من شئت ، واقرر معاوية . . فإنّ لمعاوية جرأة ، وهو في أهل الشام يسمع منه . وأن لك حجة في اثباته . إذ كان عمر بن الخطاب قد ولاه .. »
ويصر علي على عزله ، واتباع سنّة الحق قائلاً :
« لا والله لا أستعمل معاوية أبداً . . » .
ويتبع على موازين العدل ، وإن جرت له المتاعب والمصاعب ، وأعقبت له الاخفاق في الميادين السياسية فإنّه لم يكن بأي حال يتطلب السلطة والحكم بما أنهما وسيلتان للإثرة والاستغلال والتفوق على الناس ، وإنما كان هدفه إقامة الحق ، وبسط العدل ، ونشر الأمن والدعة بين الناس .

عماله وولاته :

وعهد علي إلى خيار المسلمين وصلحائهم في ولاية شؤون الأمصار والأقاليم


(212)

الإسلامية ، ولم يمنح أحداً من عماله وولاته محاباة أو اثرة ، وإنما كان يتحرى ذوو الكفاءة والقابلية وحسن السيرة ، والأصلاح بين الناس .
وولاته أمثال محمد بن أبي حذيفة ، وقيس بن سعد بن عبادة ، ومحمد بن أبي بكر ، ومالك الأشتر ، وعثمان بن حنيف الأنصاري ، وأخوه سهل بن حنيف ، وعبد الله بن العباس وأخوه عبيد الله ، وأمثال هؤلاء من المؤمنين والمتحرجين في دينهم .
وقد عهد إلى جميع عماله أن يقوموا بالاصلاح الشامل بين الناس وأن يتعهدوا أمورهم ، وأن لا يرهقوا أحداً ، وأن يسيروا بين الناس سيرة قوامها العدل الخالص ، والحق المحض ومن وصاياه المكررة لهم :
« وانصفوا الناس من أنفسكم ، واصبروا لحوائجهم ، فانكم خزان الرعية ، ولا تحسموا أحداً عن حاجته ، وتحبسوه عن طلبته ، ولا تبيعن للناس في الخراج كسوة شتاء ، ولا صيف ، ولا دابة يعملون عليها ، ولا عبداً ، ولا تضربن أحداً سوطاً لمكان درهم . . » .
لقد بلغ علي قمة العدل في وصيته هذه فقد حاول أن يمحي شبح الفقر ويقضي على ظل البؤس ، وعلى سائر ألوان الغبن والظلم ، فلماذا كرهتم هذه السيرة ؟ وحاربتم هذه السياسة العادلة التي تنشد كرامة الإنسان وحقهم في الحياة .
أما دستوره في توظيف الولاة والعمال فخلاصته ما كتب به إلى الأشتر النخعي وهو يمثل مدى عمق الإمام ونظره الصائب إلى اصلاح المجتمع في ميادين الإدارة والحكم يقول في عهده :
« انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ، ولا تولهم محاباة واثرة فإنهم جماع من شعب الجور والخيانة ، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة ، والقِدم في الاسلام فإنّهم أكثر أخلاقاً ، وأصح أعراضاً ، وأقل في المطامع اسرافاً ، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً . . ثم إسبغ عليهم الأرزاق . فإنّ ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم ، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم . . وحجّة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك . ثم تفقد


(213)

أعمالهم ، وابعث العيون من أهل الصدق عليهم . فإنّ تعاهدك في السر لأمورهم حدوه لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية . . »
وهذا الدستور الخالد قد حوى جميع مقومات النهوض والإرتقاء للأمة وجعل السلطة الحاكمة معنية بشؤون المسلمين والرفق بهم .
وقد جاء في هذا الدستور النهي عن كشف معائب الناس ، وتتبع عوراتهم يقول :
« وليكن أبعد رعيتك منك ، وأشقأهم عندك أطلبهم لمعائب الناس . . فإنّ في الناس عيوباً الوالي أحق من سترها . . فلا تشكفن عما غاب عنك منها ، فإنّماعليك تطهير ما ظهر منها . . »
وقد مثل ذلك عدالة الاسلام ورحمته ، ورفقه الشامل بالناس .
وكان ينهى ولاته عن بطانة السوء التي تتمسك بجميع الوسائل لكسب المنافع المادية لها يقول عليه السلام :
« لا تُدخِلنّ في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ، ويعدك الفقر ، ولا جباناً يضعفك عن الأمور ، ولا حريصاً يزن لك الشره بالجور . . فإنّ البخل والجبن والحرص غرائز شيء يجمعها سوء الظن بالله . . »
ونهى عليه السلام عن اتخاذ الظلمة والأشرار وزراءً يقول عليه السلام :
« إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً ، ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة ، فإنهم أعوان الأئمة واخوان الظلمة ، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم . . »
إن وصايا علي للعمال والولاة قد احتوت على جميع برامج العدل ، وأصول الحق ، والحكم الصالح الذي ينعش الشعوب ، ويبعث في النفوس الرضا والطمأنينة .

زهـده :

وسجل التأريخ على شاشة الحياة صوراً رائعة من زهد علي يهتدي بها المتقون


(214)

والصالحون فمن ذلك ما حدث به عقبة بن علقمة قال :
دخلت على علي فإذا بين يديه لبن حامض آذتني حموضته ، وكسراً يابسة ، فقلت له :
ـ يا أمير المؤمنين أتأكل مثل هذا ؟
ـ يا أبا الجندب . . كان رسول الله صلى الله عليه وآله يأكل أيبس من هذا ويلبس أخشن من هذا فإن لم أكن آخذ به خفت أن لا ألحق به .

ولو أراد علي أن يتنعم في دنياه لكان له ذلك ، وباستطاعته فقد كانت خزائن الدولة بيده وتحت تصرفه ولكنه أبى إلا أن يطلق لذائذ العيش ورغائب الحياة فلم يبن لبنة على لبنة ولم يتخذ لبالي ثوبه طمراً إلى أن لحق بالرفيق الأعلى ولم يترك صفراء ولا بيضاء سوى سبعمائة درهم اتخذها من عطائه ليشتري بها خادماً لأهله يستعينون به على حوائجهم وشؤونهم فماذا نقمتم من ابن أبي طالب ؟ فهل استأثر بأموال المسلمين ؟
وهل خص ذويه وأبنائه بأموال الدولة ، وهل وظف أحداً من أقربائه وأسرته ، فالأمر لله وحده وهو الحاكم المطلق الذي لا يظلم أحداً بحكمه .

دفاع طلحة والزبير :

وينبري طلحة والزبير للدفاع عن نفسيهما قائلين :
يا نبي الله . بايعنا علياً مخافة أن يتخطفنا الناس باسيافهم وكنا نعتقد أنه سيسرع بالقصاص من قتلة عثمان فقد قتل مظلوماً وكان عليه يقتص من قتلته .
وكنا نطمع أن يشركنا بالأمر كمستشارين أو ولاة لأننا من سادات المهاجرين ، ومن السابقين للأسلام، ومن المحاربين القدماء البارزين في المجتمع حسباً وشجاعة وسياسة ، وقد جعلنا عمر نظيرين له بالترشيح للخلافة .
فبادرنا لمبايعته يقينا منا أنه سيرفعنا مكاناً علياً ، ويؤثرنا بالمال والسلطة على


(215)

سائر المسلمين ، فإذا به يجبهنا عن كل مطلب سعينا به إليه ، وساوى بيننا وبين الدهماء ، والغوغاء ، والمغمورين ، والاخلاط من العجم والموالي ، أفهل أن ذلك من العدل والانصاف .

جواب النبي صلى الله عليه وآله :

ويفند صلى الله عليه وآله مزاعمهما ، وأساطيرهما فيقول لهما :
أما تهمة علي بدم عثمان فأمر لا واقع له ، وأنتما تعلمان ببرائته من دمه فقد دافع عنه الثوار مراراً ، وتكراراً ، وكان يخرج إلى مضاربهم خارج المدينة متوسلاً إليهم أن يرجعوا إلى أمصارهم .
وقد أسدى علي النصح لعثمان غير مرة بأن يعدل في الحكم ، ويجنب الأمة ما يحدثه قتله من أزمات وشرور .
وقد استرق علي عواطف الثوار حينما حاصروا عثمان ومنعوا عنه الماء فقد قال لهم :
« أيها الناس أن الذي تصنعون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين لا تقطعوا عن الرجل الماء . فإن الروم وفارس لتؤسر فتطعم وتسقي ، فما تعرضكم لهذا الرجل ؟ ففيم تستحلون حصره وقتله » ؟ .
وبعد هذا فهل يمكن أن يتهم علي بدمه أو بالتآمر عليه ؟ ولو إنصاع لارشاد علي ونصحه لما قتل وما انتهكت كرامته .
وأما القصاص من قتلة عثمان فهل يمكن أن يقيم علي الحد عليهم والثوار سيوفهم على عواتقهم ، وكيف له بمعرفة قتلته ، وقد اشترك في قتله وفود مصر والكوفة والبصرة وأهل البوادي وأهل المدينة ، فكيف يسوغ له أن يقيم الحد على هؤلاء باسرهم .
وأنت يا طلحة والزبير قد اشتركتما في قتل عثمان ، فقد رفعتما راية التمرد ،


(216)

والعصيان وأبّيتما شيعتكما من البصريين والكوفيين على قتله .
وأنت يا طلحة قد منعت وصول الماء إليه وباشرتَ حصار داره ، وأعنت الثوار على قتله ، وكنت تمجّد فيهم روح الثورة والنضال في نفوس الثوار للاطاحة بحكومته .
وقد نهاك علي عن منع الماء عن عثمان فكتب إليك وهو خارج المدينة يأمرك بأن تمكنّه من الماء ، وهذا نص ما كتبه إليك :
« دع الرجل يشرب من مائه ، وبئره ولا تقتلوه من العطش » وقد مر بك مجمع بن جارية الأنصاري فسألته :
ـ ما فعل صاحبك ؟
ـ أظنكم والله قاتليه .
ـ فإن قُتل فلا ملك مقرب ، ولا نبي مرسل .
وكان عثمان يعلم بتحريضك عليه ، وباثارتك الأحقاد ، والضغائن ضده ، فكان يكثر من الدعاء عليك ، وكان يقول في دعائه :
« اللهم قَني طلحة بن عبيد الله ، فإنّه حمّلهم عليَّ ، والبسهم » .
« والله إني لأرجو أن يكون منها صفراً . وأن يسفك دمه ، إنه انتهك مني ما لا يحل له . . »
وقد باشرت الحصار عليه في داره ، فكنت مُقنعاً بثوب متستراً عن أعين الناس ترمي داره بالسهام .
ولما امتنع على الذين حصروه الدخول عليه من باب الدار حملتهم الى دار عمر ابن حزم الواقعة الى جانب دار عثمان فتسوروا منها .
وكنت خلال مدة الحصار أربعين يوماً تصلي بالناس ، مرشحاً نفسك للخلافة وعثمان بعد حي لم يقتل .
أعلي هو المتهم بقتل عثمان أم أنت ؟
وأين كنت يا طلحة ويا زبير عن الدفاع عن عثمان عندما كتب من في المدينة إلى من بالآفاق يستجيرون بهم إلى إنقاذ المسلمين من جور عثمان وظلم ولاته ، فقد كتبوا إليهم .
« إنكم إنما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عزّ وجلّ ، تطلبون دين


(217)

محمد صلى الله عليه وآله ، فإنّ دين محمد قد أفسده خليفتكم فاقيموه » (1) وأرسل الصحابة الى أهل مصر مذكرة هذا نصها :
« من المهاجرين الأولين وبقية الشورى الى من بمصر من الصحابة والتابعين ، أما بعد : أن تعالوا الينا ، وتدراكوا خلافة رسول الله قبل أن يسلبها أهلها ، فإنّ كتاب الله قد بُدل ، وسنة رسوله قد غُيرت ، وأحكام الخليفتين قد بدلت فننشد الله من قرأ كتابنا من بقية أصحاب رسول الله ، والتابعين باحسان إلا أقبل الينا ، وأخذ الحق لنا ، وأعطاناه ، فأقبلوا إلينا إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، وأقيموا الحق على المنهاج الواضح الذي فارقتم عليه نبيكم ، وفارقكم عليه الخلفاء ، غلبنا على حقنا ، واستولى على فيئنا ، وحيل بيننا وبين أمرنا وكانت الخلافة بعد نبينا خلافة نبوّة ورحمة ، وهي اليوم ملك عضوض ، من غلب على شيء أكله . . » (2) .
فأين أنتما عن هذه الرسائل التي ألهبت نار الثورة على عثمان ؟ حتى أحاط به الثوار وأردوه قتيلاً يتخبط بدمائه ، فلم يكن دم عثمان هو الذي دفعكما إلى الثورة على علي وإنما أطماعكم في الولاية والامرة وحبكما للثراء العريض هو الذي دفعكما الى اعلان التمرد والعصيان على علي .
واما تميزكما على سائر المسلمين واشراكه لكما في الحكم ، فإنه لم يكن له ان ينهج غير سنّتي وسياستي ، وقد عرفتم أني هدمت الحواجز بين الناس ، والغيت التمايز عملاً بقوله تعالى : « ان اكرمكم عند الله اتقاكم » وقد سار علي على نهجي في سياسته المالية والاجتماعية ، وقد عرفتماه شاباً وكهلاً لا يؤثر رضاء الناس على رضاء الله كما لم يؤثر على رضاء غيره .
فالله هو الحاكم الفصل بيننا وبينكم ، فأنتما مسؤلان عما حدث في المسلمين من النكبات والويلات ، فلولا تمردكما لما وجد معاوية الى اعلان العصيان سبيلا .
وقد اغرقتما البلاد بالفتن والخطوب والويلات واشعتم الحزن والحداد بين المسلمين ، وفرّقتما الكلمة ، وافسدتما امر الأمة .
____________
1 ـ حياة الامام الحسن 1 ـ 273 .
2 ـ الامامة والسياسة 1 ـ 35 .