الفصل الثاني
وجوب المعرفة والنظر

وجوب معرفة الله تعالى ومنشؤها
وجوب معرفة الله تعالى وأنها أساس الدين

ـ نهج البلاغة ج 1 ص 14
أول الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الاِخلاص له ، وكمال الاِخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة . . . .

ـ الهداية للصدوق ص 1
يجب أن يعتقد أن الله تعالى واحد ليس كمثله شيء لا يحد ولا يحس ولا يجس ، ولا يدرك بالاَوهام والاَبصار ، ولا تأخذه سنة ولا نوم ، شاهد كل نجوى ، ومحيط بكل شيء ، لا يوصف بجسم ولا صورة ولا جوهر ولا عرض ولا سكون ولا حركة
( 150 )
ولا صعود ولا هبوط ولا قيام ولا قعود ولا ثقل ولا خفة ولا جيئة ولا ذهاب ولا مكان ولا زمان ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا فوق ولا أسفل ولا يمين ولا شمال ولا وراء ولا أمام ، وأنه لم يزل ولا يزال سميعاً بصيراً حكيماً عليماً حياً قيوماً قدوساً عزيزاً أحداً فرداً صمداً لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، وأنه شيء ليس كمثله شيء وخارج من الحدين حد الاِبطال وحد التشبيه ، خالق كل شيء ، لا إله إلا هو ، لا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار ، وهو اللطيف الخبير .
وقال عليه السلام : من زعم أن الله تعالى من شيء أو في شيء أو على شيء فقد أشرك ، ثم قال عليه السلام : من زعم أن الله تعالى من شيء فقد جعله محدثاً ، ومن زعم أنه في شيء فقد زعم أنه محصور ومن زعم أنه على شيء فقد جعله محمولاً .
وقال في هامشه :
قال الصدوق في رسالة الاِعتقادات بعد أن ذكر نحواً مما ذكر ما نصه : من قال بالتشبيه فهو مشرك ، ومن نسب إلى الاِمامية غير ما وصف في التوحيد فهو كاذب ، وكل خبر يخالف ما ذكرت في التوحيد فهو موضوع مخترع ، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو باطل ، وإن وجد في كتب علمائنا فهو مدلس ، والاَخبار التي يتوسمها الجهال تشبيهاً لله تعالى بخلقه فمعانيها محمولة على ما في القرآن من نظائرها ....

ـ الاِقتصاد للشيخ الطوسي ص 4
الذي يلزم المكلف أمران : علم ، وعمل . فالعمل تابع للعلم ومبني عليه . والذي يلزم العلم به أمران : التوحيد ، والعدل .
فالعلم بالتوحيد لا يتكامل إلا بمعرفة خمسة أشياء : أحدها معرفة ما يتوصل به إلى معرفة الله تعالى ، والثاني معرفة الله على جميع صفاته ، والثالث معرفة كيفية استحقاقه لتلك الصفات ، الرابع معرفة ما يجوز عليه وما لا يجوز ، الخامس معرفته بأنه واحد لا ثاني له في القدم .

( 151 )
معرفة الله تعالى وتوحيده نصف الدين

ـ التوحيد للصدوق ص 68
حدثنا أبوعبدالله الحسين بن محمد الاَشناني الرازي العدل ببلخ ، قال : حدثنا علي بن مهرويه القزويني ، عن داود بن سليمان الفراء عن علي بن موسى الرضا ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن علي عليهم السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : التوحيد نصف الدين ، واستنزلوا الرزق بالصدقة . انتهى . ورواه في دعائم الاِسلام ج 1 ص 13

لا تتحقق العبادة إلا بالمعرفة

ـ علل الشرائع ج 1 ص 9
ـ حدثنا أبي رضي الله عنه قال : حدثنا أحمد بن إدريس ، عن الحسين بن عبيدالله ، عن الحسن بن علي بن أبي عثمان ، عن عبدالكريم بن عبدالله ، عن سلمة ابن عطاء ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : خرج الحسين بن علي عليهما السلام على أصحابه فقال : أيها الناس إن الله جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه ، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه . . . .

ـ علل الشرائع ج 1 ص 13
ــ حدثنا محمد بن الشيباني رضي الله عنه قال : حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي قال : حدثنا موسى بن عمران النخعي ، عن عمه الحسين بن يزيد النوفلي ، عن علي بن سالم ، عن أبيه بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل : وما خلقت الجن والاِنس إلا ليعبدون ، قال : خلقهم ليأمرهم بالعبادة ، قال : وسألته عن قول الله عز وجل : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ؟ قال : ليفعلوا ما يستوجبون به رحمته فيرحمهم .

ـ جواهر الكلام ج 29 ص 30
نعم ربما قيل بالتفصيل بين من كانت عبادته من الاَعمال فالتزويج أفضل منها ،
( 152 )
لاِطلاق ما دل على ذلك ، وبين من كانت عبادته تحصيل العلوم الدينية فهي أفضل منه ، لاَن كمال الاِنسان العلم الذي هو الغرض الاَصلي من خلقته ، قال الله تعالى : وما خلقت الجن والاِنس إلا ليعبدون ، والمراد بها كما في الحديث المعرفة .

ـ شرح الاَسماء الحسنى ج 2 ص 23
قوله عليه السلام : يا من دل على ذاته بذاته .
وهو مجمع عليه للعرفاء الشامخين والعقلاء والمتكلمين ، بل جميع إرسال الرسل وإنزال الكتب وإرشاد الكاملين المكملين إنما هو للاِيصال إلى هذه البغية العظمى والغبطة الكبرى ، كما قال تعالى وما خلقت الجن والاِنس إلا ليعبدون ، وفي القدسي : خلقت الخلق لكي أعرف . . . .
فانظر إلى جعلهم غاية العمل هي المعرفة والشهود ، ولذا فسر المفسرون ليعبدون بقولهم ليعرفون .

ـ شرح الاَسماء الحسنى ج 1 ص 189
. . . ولا يجوز للمؤمن إنكار ذلك الشهود لاَن انكاره إنكار الكتب السماوية والسنن النبوية والآثار الولوية ، بل هو غاية إرسال المرسلين وإرشاد الاَئمة الهادين وسير السائرين وسلوك السالكين ، ولولاه لم يكن سماء ولا أرض ولا بسيط ولا مركب ، كما قال تعالى : وما خلقت الجن والاِنس إلا ليعبدون أي ليعرفون . وفي الحديث القدسي فخلقت الخلق لاَعرف . . . .

ـ الرواشح السماوية ص 21
. . . لاَن المعرفة غاية وجودهم وغرض خلقهم كما في قوله تعالى : وما خلقت الجن والاِنس إلا ليعبدون ، أي ليعرفون ، ومعرفتهم بالله وباليوم الآخر لا تحصل إلا من طريق النبوة والرسالة لاَن عقولهم غير كافية فيها ، سيما ما يتعلق منها بأحوال المعاد وحشر العباد فيحتاجون إلى معلم بشري . . . .

( 153 )
فضل معرفة الله تعالى

ـ الكافي ج 8 ص 247
محمد بن سالم بن أبي سلمة ، عن أحمد بن الريان ، عن أبيه عن جميل بن دراج، عن عبدالله عليه السلام قال : لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله عز وجل ما مدوا أعينهم إلى ما متع الله به الاَعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها ، وكانت دنياهم أقل عندهم مما يطوونه بأرجلهم ، ولنعموا بمعرفة الله عز وجل وتلذذوا بها تلذذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله .
إن معرفة الله عز وجل أنس من كل وحشة ، وصاحب من كل وحدة ، ونور من كل ظلمة ، وقوة من كل ضعف ، وشفاء من كل سقم .
ثم قال عليه السلام : وقد كان قبلكم قوم يقتلون ويحرقون وينشرون بالمناشير وتضيق عليهم الاَرض برحبها ، فما يردهم عما هم عليه شيء مما هم فيه ، من غير ترة وتروا من فعل ذلك بهم ولا أذى ، بل ما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ، فاسألوا ربكم درجاتهم واصبروا على نوائب دهركم تدركوا سعيهم .

ـ مستدرك الوسائل ج 11 ص 236
وقال عليه السلام : أكثر الناس معرفة أخوفهم لربه .

الحث على مجالسة أهل المعرفة

ـ مستدرك الوسائل ج 8 ص 328
الكشي في الرجال : روى علي بن جعفر عن أبيه ، عن جده ، عن علي بن الحسين عليهم السلام أنه كان يقول لبنيه : جالسوا أهل الدين والمعرفة ، فإن لم تقدروا عليهم فالوحدة آنس وأسلم ، فإن أبيتم مجالسة الناس ، فجالسوا أهل المروات ، فإنهم لا يرفثون في مجالسهم . انتهى . ورواه في مسائل علي بن جعفر ص 338

( 154 )
فضل من مات على المعرفة

ـ نهج البلاغة ج 2 ص 133
. . . ولا تستعجلوا بما لم يعجله الله لكم . فإنه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حق ربه وحق رسوله وأهل بيته ، مات شهيداً ووقع أجره على الله ، واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله . وقامت النية مقام إصلاته لسيفه . وإن لكل شيء مدة وأجلاً .
نعمة معرفة حمد الله وشكره

ـ الصحيفة السجادية ج 1 ص 22
والحمد لله الذي لو حبس عن عباده معرفة حمده على ماأبلاهم من مننه المتتابعة ، وأسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة ، لتصرفوا في مننه فلم يحمدوه ، وتوسعوا في رزقه فلم يشكروه ، ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الاِنسانية إلى حد البهيمة ، فكانوا كما وصف في محكم كتابه : إن هم إلا كالاَنعام بل هم أضل سبيلا . والحمد لله على ما عرَّفنا من نفسه .

ـ الكافي ج 8 ص 394
علي بن محمد ، عن بعض أصحابه رفعه قال : كان علي بن الحسين عليه السلام إذا قرأ هذه الآية : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، يقول : سبحان من لم يجعل في أحد من معرفه نعمه إلا المعرفة بالتقصير عن معرفتها ، كما لم يجعل في أحد من معرفة إدراكه أكثر من العلم أنه لا يدركه ، فشكر عز وجل معرفة العارفين بالتقصير عن معرفة شكره، فجعل معرفتهم بالتقصير شكراً ، كما جعل علم العالمين أنهم لا يدركونه إيماناً . علماً منه أنه قدر وسع العباد فلا يجاوزون ذلك .

نعمة معرفة كرم الله وآلائه

ـ الصحيفة السجادية ج 2 ص 407
وإن أنامتني الغفلة عن الاِستعداد للقائك ، فقد نبهتني المعرفة بكرمك وآلائك ،
( 155 )
وإن أوحش ما بيني وبينك فرط العصيان والطغيان ، فقد آنسني بشرى الغفران والرضوان .

ـ الصحيفة السجادية ج 2 ص 225
فوعزتك لو انتهرتني ما برحت عن بابك ، ولا كففت عن تملقك ، لما أُلهم قلبي من المعرفة بكرمك ، وسعة رحمتك ، إلى من يذهب العبد إلا إلى مولاه ، وإلى من يلتجيء المخلوق إلا إلى خالقه .

معرفة الله لا تكون إلا بالله ومن الله

ـ مصباح المتهجد ص 582
روى أبوحمزة الثمالي قال: كان علي بن الحسين سيدالعابدين صلوات الله عليهما يصلي عامة الليل في شهر رمضان ، فإذا كان السحر دعا بهذا الدعاء : إلَهي لا تؤدبني بعقوبتك ولا تمكر بي في حيلتك ، من أين لي الخير يا رب ولا يوجد إلا من عندك ، ومن أين لي النجاة ولا تستطاع إلا بك ، لا الذي أحسن استغنى عن عونك ورحمتك، ولا الذي أساء واجترأ عليك ولم يرضك خرج عن قدرتك ، يا رب يا رب يا رب ، بك عرفتك وأنت دللتني عليك ودعوتني إليك ، ولولا أنت لم أدر ما أنت . . . . إلخ .

ـ الكافي ج 1 ص 851
علي بن محمد ، عمن ذكره ، عن أحمد بن عيسى ، عن محمد بن حمران ، عن الفضل بن السكن ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : إعرفوا الله بالله ، والرسول بالرسالة ، وأولي الاَمر بالمعروف والعدل والاِحسان .
ومعنى قوله عليه السلام : إعرفوا الله بالله ، يعني أن الله خلق الاَشخاص والاَنوار والجواهر والاَعيان ، فالاَعيان الاَبدان ، والجواهر الاَرواح ، وهو عز وجل لا يشبه جسماً ولا روحاً ، وليس لاَحد في خلق الروح الحساس الدراك أمر ولا سبب ، هو المتفرد بخلق الاَرواح والاَجسام فإذا نفى عنه الشبهين : شبه الاَبدان وشبه الاَرواح فقد عرف الله بالله ، وإذا شبهه بالروح أو البدن أو النور ، فلم يعرف الله بالله .

( 156 )
لا يفوز الاِنسان بالمعرفة إلا بإذن الله تعالى

ـ أمالي المرتضى ج 1 ص 30
إن قال قائل ما تأويل قوله تعالى : وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون .
. . . فأما ظن السائل دخول الاِرادة في محتمل اللفظ فباطل ، لاَن الاِذن لا يحتمل الاِرادة في اللغة ، ولو احتملها أيضاً لم يجب ما توهمه لاَنه إذا قال إن الاِيمان لا يقع إلا وأنا مريد له لم ينف أن يكون مريداً لما لم يقع ، وليس في صريح الكلام ولا دلالته شيء من ذلك .
وأما قوله تعالى : ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ، فلم يعن بذلك الناقصي العقول ، وإنما أراد الذين لم يعقلوا ولم يعلموا ما وجب عليهم علمه من معرفة الله خالقهم ، والاِعتراف بنبوة رسله والاِنقياد إلى طاعتهم . ووصفهم تعالى بأنهم لا يعقلون تشبيهاً ، كما قال تعالى صمٌٌّ بكمٌ عميٌ ، وكما يصف أحدنا من لم يفطن لبعض الاَمور أو لم يعلم ما هو مأمور بعمله بالجنون وفقد العقل .

الهداية والاِضلال من الله تعالى لكن الاِضلال باستحقاق العبد

ـ الكافي ج 1 ص 162
محمد بن يحيى وغيره ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن أبي عمير، عن محمد بن حكيم قال : قلت لاَبي عبدالله عليه السلام : المعرفة من صنع من هي ؟ قال : من صنع الله ، ليس للعباد فيها صنع .
ـ محمد بن أبي عبدالله ، عن سهل بن زياد ، عن علي بن إسباط ، عن الحسين بن زيد ، عن درست بن أبي منصور ، عمن حدثه ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : ستة أشياء ليس للعباد فيها صنع : المعرفة والجهل والرضا والغضب والنوم واليقظة .

( 157 )
ـ الكافي ج 1 ص 165
باب الهداية أنها من الله عز وجل : عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن إسماعيل ، عن إسماعيل السراج ، عن ابن مسكان ، عن ثابت بن سعيد قال : قال أبوعبدالله : يا ثابت ما لكم وللناس ، كفوا عن الناس ولا تدعوا أحداً إلى أمركم ، فوالله لو أن أهل السماوات وأهل الاَرضين اجتمعوا على أن يهدوا عبداً يريد الله ضلالته ما استطاعوا أن يهدوه ، ولو أن أهل السماوات وأهل الاَرضين اجتمعوا على أن يضلوا عبداً يريد الله هدايته ما استطاعوا أن يضلوه ، كفوا عن الناس ولا يقول أحد : عمي وأخي وابن عمي وجاري ، فإن الله إذا أراد بعبد خيراً طيب روحه فلا يسمع معروفاً إلا عرفه ولا منكراً إلا أنكره ، ثم يقذف الله في قلبه كلمة يجمع بها أمره .
ـ علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن محمد بن حمران ، عن سليمان بن خالد ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : قال : إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيراً نكت في قلبه نكتة من نور وفتح مسامع قلبه ووكل به ملكاً يسدده ، وإذا أراد بعبد سوءاً نكت في قلبه نكتة سوداء وسد مسامع قلبه ووكل به شيطاناً يضله ، ثم تلا هذه الآية : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاِسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء .

ـ دعائم الاِسلام ج 1 ص 13
وروينا عن أمير المؤمنين علي بن أبى طالب صلوات الله عليه أنه سئل ما الاِيمان وما الاِسلام ؟
فقال : الاِسلام الاِقرار والاِيمان الاِقرار والمعرفة فمن عرفه الله نفسه ونبيه وإمامه ثم أقر بذلك فهو مؤمن .
قيل له : فالمعرفة من الله والاِقرار من العبد ؟

( 158 )
قال : المعرفة من الله حجة ومنة ونعمة والاِقرار من يمن الله به على من يشاء ، والمعرفة صنع الله في القلب والاِقرار فعل القلب بمن من الله وعصمه ورحمه ، فمن لم يجعله الله عارفاً فلا حجة عليه وعليه أن يقف ويكف عما لا يعلم ، ولا يعذبه الله على جهله ويثيبه على عمله بالطاعة ويعذبه على عمله بالمعصية ، ولا يكون شيء من ذلك إلا بقضاء الله وقدره وبعلمه وبكتابه بغير جبر ، لاَنهم لو كانوا مجبورين لكانوا معذورين وغير محمودين ، ومن جهل فعليه أن يرد إلينا ما أشكل عليه ، قال الله عز وجل : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون . انتهى .
وقد عقد البخاري باباً في ج 1 ص 10 تحت عنوان ( باب قول النبي صلى الله عليه وسلم أنا أعلمكم بالله وإن المعرفة فعل القلب لقول الله تعالى ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) ولكنه لم يرو حديثاً على أن المعرفة فعل القلب ، ومثل هذه الظاهرة متكررة في البخاري ، حيث تجد عنواناً ولا معنون له .

دعاء طلب المعرفة من الله تعالى

ـ مصباح المتهجد ص 411
وما روى عن أبي عمرو بن سعيد العمري رضي الله عنه قال : أخبرنا جماعة ، عن محمد بن هرون بن موسى التلعكبري أن أبا علي محمد بن همام أخبره بهذا الدعاء ، وذكر أن الشيخ أبا عمرو العمري قدس الله روحه أملاه عليه وأمره أن يدعو به ، وهو الدعاء في غيبة القائم من آل محمد عليه وعليهم السلام :
اللهم عرفني نفسك ، فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف رسولك .
اللهم عرفني رسولك ، فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك .
اللهم عرفني حجتك ، فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني .

ـ الكافي ج 1 ص 337
علي بن إبراهيم ، عن الحسن بن موسى الخشاب ، عن عبدالله بن موسى عن
( 159 )
عبدالله بن بكير ، عن زرارة قال : سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول : إن للغلام غيبة قبل أن يقوم ، قال : قلت ولم ؟ قال : يخاف ــ وأومأ بيده إلى بطنه ــ ثم قال : يا زرارة وهو المنتظر ، وهو الذي يشك في ولادته ، منهم من يقول مات أبوه بلا خلف ، ومنهم من يقول حمل ومنهم من يقول إنه ولد قبل موت أبيه بسنتين ، وهو المنتظر غير أن الله عز وجل يحب أن يمتحن الشيعة ، فعند ذلك يرتاب المبطلون يا زرارة .
قال قلت : جعلت فداك إن أدركت ذلك الزمان أي شيء أعمل ؟ قال : يا زرارة إذا أدركت هذا الزمان فادع بهذا الدعاء :
اللهم عرفني نفسك ، فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك ، اللهم عرفني رسولك ، فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك ، اللهم عرفني حجتك ، فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني .
ثم قال : يا زرارة لابد من قتل غلام بالمدينة ، قلت : جعلت فداك أليس يقتله جيش السفياني ؟ قال : لا ولكن يقتله جيش آل بني فلان ، يجيء حتى يدخل المدينة فيأخذ الغلام فيقتله ، فإذا قتله بغياً وعدواناً وظلماً لا يمهلون ، فعند ذلك توقع الفرج إن شاء الله .

وسائل معرفة الله

أداة معرفة الله تعالى : العقل

ـ الكافي ج 1 ص 48
عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن نوح بن شعيب النيسابوري ، عن عبيد الله بن عبدالله الدهقان ، عن درست بن أبي منصور ، عن عروة بن أخي شعيب العقرقوفي عن شعيب ، عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول : كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول : يا طالب العلم إن العلم ذو فضائل كثيرة : فرأسه التواضع ، وعينه
( 160 )
البراءة من الحسد ، وأذنه الفهم ، ولسانه الصدق ، وحفظه الفحص ، وقلبه حسن النية وعقله معرفة الاَشياء والاَمور ، ويده الرحمة ، ورجله زيارة العلماء .

ـ الكافي ج 1 ص 13
أبوعبدالله الاَشعري ، عن بعض أصحابنا ، رفعه عن هشام بن الحكم قال : قال لي أبوالحسن موسى بن جعفر عليهما السلام : يا هشام إن الله تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه فقال : فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الاَلباب .
يا هشام ، إن الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول ، ونصر النبيين بالبيان، ودلهم على ربوبيته بالاَدلة فقال : وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم . إن في خلق السموات والاَرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الاَرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والاَرض ، لآيات لقوم يعقلون .
يا هشام ، قد جعل الله ذلك دليلاً على معرفته بأن لهم مدبراً فقال : وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون . وقال : هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلاً مسمى ولعلكم تعقلون . وقال : إن في إختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الاَرض بعد موتها وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والاَرض لآيات لقوم يعقلون . وقال : يحيي الاَرض بعد موتها ، قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون .
وقال : وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الاَكل ، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون .

( 161 )
وقال : ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً وينزل من السماء ماء فيحيي به الاَرض بعد موتها ، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون .
وقال : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ، نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون .
وقال : هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ، كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون .
يا هشام ، ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله ، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة ، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلاً ، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة .
يا هشام ، إن لله على الناس حجتين : حجة ظاهرة وحجة باطنة ، فأما الظاهرة فالرسل والاَنبياء والاَئمة عليهم السلام وأما الباطنة فالعقول .
يا هشام ، إن العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره ، ولا يغلب الحرام صبره .
يا هشام ، الصبر على الوحدة علامة قوة العقل ، فمن عقل عن الله اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها ، ورغب فيما عند الله ، وكان الله أنسه في الوحشة ، وصاحبه في الوحدة ، وغناه في العيلة ، ومعزه من غير عشيرة .
يا هشام ، إن الله حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ، حين علموا أن القلوب تزيغ وتعود إلى عماها ورداها . إنه لم يخف الله من لم يعقل عن الله ، ومن لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها ويجد حقيقتها في قلبه ، ولا يكون أحد كذلك إلا من كان قوله لفعله مصدقاً ، وسره لعلانيته موافقاً ، لاَن الله تبارك اسمه لم يدل على الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه وناطق عنه .

( 162 )
ـ رسائل الشريف المرتضى ج 1 ص 127
المسألة التاسعة قد سئل رحمه الله عن الطريق إلى معرفة الله بمجرد العقل أو من طريق السمع .
الجواب : إن الطريق إلى معرفة الله تعالى هو العقل ، ولا يجوز أن يكون السمع ، لاَن السمع لا يكون دليلاً على الشيء إلا بعد معرفة الله وحكمته ، وإنه لا يفعل القبيح ولا يصدق الكذابين ، فكيف يدل السمع على المعرفة . ووجه دلالته مبني على حصول المعارف بالله حتى يصح أن يوجب عليه النظر . ورددنا على من يذهب من أصحابنا إلى أن معرفة الله تستفاد من قول الاِمام ، لاَن معرفة كون الاِمام إماماً مبنية على المعرفة بالله تعالى . . . .
وبينا أن العاقل إذا نشأ بين الناس ، وسمع اختلافهم في الديانات ، وقول كثير منهم أن للعالم صانعاً خلق العقلاء ليعرفوه ، ويستحقوا الثواب على طاعاتهم وأن من فرط في المعرفة استحق العقاب : لابد من كونه خائفاً من ترك النظر وإهماله ، لاَن خوف الضرر وجهه على وجوب كل نظر في دين أو دنيا ، وأنه متى خاف الضرر وجب عليه النظر وقبح منه إهماله والاِخلال به .

ـ الرسالة السعدية للعلامة الحلي ص 54
وخامسها : أن معرفة الله تعالى واجبة ، وليس مدرك الوجوب السمع ، لاَن معرفة الاِيمان يتوقف على معرفة الموجب ، فيستحيل معرفة الاِيجاب قبل معرفة الموجب ، فلو أسندت معرفة الموجب به ، دار .

ـ نهج الحق للعلامة الحلي ص 51
الحق أن وجوب معرفة الله تعالى مستفاد من العقل وإن كان السمع قد دل عليه بقوله : فاعلم أنه لا إله إلا الله ، لاَن شكر المنعم واجب بالضرورة وآثار النعمة علينا ظاهرة ، فيجب أن نشكر فاعلها ، وإنما يحصل بمعرفته ، ولاَن معرفة الله تعالى واقعة للخوف الحاصل من الاِختلاف ، ودفع الخوف واجب بالضرورة .

( 163 )
وقالت الاَشعرية : إن معرفة الله تعالى واجبة بالسمع لا بالعقل فلزمهم ارتكاب الدور المعلوم بالضرورة بطلانه ، لاَن معرفة الاِيجاب تتوقف على معرفة الموجب فإن من لا نعرفه بشيء من الاِعتبارات البتة نعلم بالضرورة أنا لا نعرف أنه أوجب ، فلو استفيدت معرفة الموجب من معرفة الاِيجاب لزم الدور المحال !
وأيضاً لو كانت المعرفة إنما تجب بالاَمر لكان الاَمر بها إما أن يتوجه إلى العارف بالله تعالى أو إلى غير العارف والقسمان باطلان ، فتعليل الاِيجاب بالاَمر محال . أما بطلان الاَول فلاَنه يلزم منه تحصيل الحاصل وهو محال . وأما بطلان الثاني : فلاَن غير العارف بالله تعالى يستحيل أن يعرف أن الله قد أمره وأن امتثال أمره واجب ، وإذا استحال أن يعرف أن الله تعالى قد أمره وأن امتثال أمره واجب استحال أمره وإلا لزم تكليف ما لا يطاق . وسيأتي بطلانه إن شاء الله تعالى .

لا يحاسب الله الناس إلا على قدر معرفتهم ، وما بيَّن لهم ، وما آتاهم

ـ الكافي ج 1 ص 162 ـ 164
عن أبي عبدالله عليه السلام قال : إن الله لم ينعم على عبد نعمة إلا وقد ألزمه فيها الحجة من الله ، فمن منَّ الله عليه فجعله قوياً فحجته عليه القيام بما كلفه ، واحتمال من هو دونه ممن هو أضعف منه ، فمن منَّ الله عليه فجعله موسعاً عليه فحجته عليه ماله ، ثم تعاهده الفقراء بعد بنوافله ، ومن منَّ الله عليه فجعله شريفاً في بيته ، جميلاً في صورته ، فحجته عليه أن يحمد الله تعالى على ذلك وأن لا يتطاول على غيره ، فيمنع حقوق الضعفاء لحال شرفه وجماله .
ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحجال ، عن ثعلبة بن ميمون ، عن عبدالاَعلى بن أعين قال : سألت أبا عبدالله عليه السلام من لم يعرف شيئاً هل عليه شيء ؟ قال : لا .
ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن فضال ، عن داود بن
( 164 )
فرقد عن أبي الحسن زكريا بن يحيى ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : ما حجب الله عن العباد فهو موضوع عنهم .
ـ محمد بن يحيى وغيره ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير ، عن جميل بن دراج ، عن ابن الطيار ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : إن الله احتج على الناس بما آتاهم وعرفهم .
ـ وبهذا الاِسناد ، عن يونس ، عن حماد ، عن عبدالاَعلى قال : قلت لاَبي عبدالله عليه السلام : أصلحك الله هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة ؟ قال : فقال: لا، قلت : فهل كلفوا المعرفة ؟ قال : لا ، على الله البيان : لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، ولا يكلف الله نفساً ما آتاها ، قال : وسألته عن قوله : وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ، قال : حتى يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه .
ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن ابن فضال ، عن ثعلبة بن ميمون ، عن حمزة بن محمد الطيار ، عن أبي عبدالله عليه السلام في قول الله عز وجل : وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون . قال : حتى يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه . وقال : فألهمها فجورها وتقويها ، قال : بين لها ما تأتي وما تترك ، وقال : إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً ، قال : عرفناه ، إما آخذ وإما تارك . وعن قوله : وإما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ، قال : عرفناهم فاستحبوا العمى على الهدى وهم يعرفون ؟ وفي رواية : بينا لهم .
ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن علي بن الحكم ، عن أبان الاَحمر عن حمزة بن الطيار ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : أكتب فأملى علي : إن من قولنا أن الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم ، ثم أرسل إليهم رسولاً وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى ، أمر فيه بالصلاة والصيام فنام رسول الله صلى الله عليه وآله عن الصلاة فقال : أنا أنيمك وأنا أوقظك فإذا قمت فصل ليعلموا إذا أصابهم ذلك كيف يصنعون ، ليس كما يقولون إذا نام عنها هلك ، وكذلك الصيام أنا أمرضك وأنا أصحك ، فإذا شفيتك فأقضه .

( 165 )
ثم قال أبو عبد الله عليه السلام : وكذلك إذا نظرت في جميع الاَشياء لم تجد أحداً في ضيق ، ولم تجد أحداً إلا ولله عليه الحجة ولله فيه المشيئة ، ولا أقول : إنهم ما شاؤوا صنعوا ، ثم قال : إن الله يهدي ويضل ، وقال : وما أمروا إلا بدون سعتهم ، وكل شيء أمر الناس به فهم يسعون له ، وكل شيء لا يسعون له فهو موضوع عنهم ، ولكن الناس لا خير فيهم ، ثم تلا عليه السلام : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج ــ فوضع عنهم ــ ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم . ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ــ قال : فوضع عنهم لاَنهم لا يجدون .

ـ الاِعتقادات للصدوق ص 168
قال الشيخ أبوجعفر رحمه الله : إعتقادنا في ذلك أن الله تعالى فطر جميع الخلق على التوحيد وذلك قوله عز وجل : فطرة الله التي فطر الناس عليها . وقال الصادق عليه السلام في قوله تعالى : وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون . وقال عليه السلام : حتى يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه .
وقال في قوله تعالى : فألهمها فجورها وتقويها ، قال : بين لها ما تأتي وما تترك من المعاصي .
وقال في قوله تعالى : إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً ، قال : عرفناه إما آخذاً وإما تاركاً .
وفي قوله تعالى : وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ، قال : وهم يعرفون .
وسئل عن قول الله عز وجل : وهديناه النجدين ، قال : نجد الخير ونجد الشر .
وقال عليه السلام : ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم .
وقال عليه السلام : إن الله تعالى احتج على الناس بما آتاهم وعرفهم .


( 166 )
من أسباب المعرفة وآثارها

ما يورث المعرفة

ـ مستدرك الوسائل ج 7 ص 500
الحسن بن أبي الحسن الديلمي في إرشاد القلوب : عن أمير المؤمنين عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال في ليلة المعراج :
يا رب ما أول العبادة ؟ قال : أول العبادة الصمت والصوم ، قال : يا رب وما ميراث الصوم ؟ قال : يورث الحكمة ، والحكمة تورث المعرفة ، والمعرفة تورث اليقين ، فإذا استيقن العبد لا يبالي كيف أصبح بعسر أم بيسر .

ما تورثه المعرفة

ـ مستدرك الوسائل ج 11 ص 185
. . . قال رسول الله صلى الله عليه وآله : فكر ساعة خير من عبادة سنة ، ولا ينال منزلة التفكر إلا من خصه الله بنور المعرفة والتوحيد .

ما يفسد المعرفة ويطفيء نورها

ـ مستدرك الوسائل ج 16 ص 218
الحسن بن فضل الطبرسي في مكارم الاَخلاق : عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال : لا تشبعوا فيطفأ نور المعرفة من قلوبكم .

ـ مستدرك الوسائل ج 16 ص 213
القطب الراوندي في لب اللباب : عن جعفر بن محمد عليهما السلام أنه قال : فساد الجسد في كثرة الطعام ، وفساد الزرع في كسب الاَثام ، وفساد المعرفة في ترك الصلاة على خير الاَنام .

( 167 )
خطر ضلال الاَمم بعد المعرفة

كان نبينا يخاف على أمته الضلال بعد المعرفة

ـ الكافي ج 2 ص 79
قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ثلاث أخافهن على أمتي من بعدي : الضلالة بعد المعرفة ، ومضلات الفتن ، وشهوة البطن والفرج . انتهى . ورواه في وسائل الشيعة ج 11 ص 198 وفي مستدرك الوسائل ج 11 ص 276 وفي مسند الاِمام زيد ص 494

ـ أمالي المفيد ص 111
قال : أخبرني أبوحفص عمر بن محمد الصيرفي قال : حدثنا علي بن مهرويه القزويني قال : حدثنا داود بن سليمان الغاري قال : حدثنا الرضا علي بن موسى قال : حدثني موسى بن جعفر قال : حدثني أبي جعفر بن محمد قال : حدثني أبي محمد بن علي قال : حدثني علي بن الحسين قال : حدثني أبي الحسين بن علي قال : حدثني أبي أمير المؤمنين علي بن طالب عليهم السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ثلاثة أخافهن على أمتي : الضلالة بعد المعرفة ، ومضلات الفتن ، وشهوة الفرج والبطن .
وقد روت هذا المعنى مصادر إخواننا السنة ، ففي مسند أحمد ج 4 ص 420
عن أبي برزة الاَسلمي قال أبو الاَشهب لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الفتن . وفي رواية ومضلات الهوى . انتهى . ورواه في مجمع الزوائد ج 7 ص 305 وقال : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح . ورواه في كنز العمال ج 16 ص 45

وضع المعرفة في بني اسرائيل بعد موسى

ـ العهد القديم ج 2 ص 282
الاِصحاح الرابع 1 إسمعوا قول الرب يا بني اسرائيل . إن للرب محاكمة مع سكان
( 168 )
الاَرض لاَنه لا أمانة ولا إحسان ولا معرفة الله في الاَرض . 2 لعنٌ وكذبٌ وقتل وسرقة وفسق . يعتنفون ودماء تلحق دماء . . . .
قد هلك شعبي من عدم المعرفة . لاَنك أنت رفضت المعرفة أرفضك أنا حتى لاتكهن لي . ولاَنك نسيت شريعة إلهك أنسى أنا أيضاً بنيك .

ـ العهد القديم ص 254
الاِصحاح الخامس والعشرون 1 وأقام إسرائيل في شطيم وابتدأ الشعب يزنون مع بنات موآب . 2 فدعون الشعب إلى ذبائح آلهتهن فأكل الشعب وسجدوا لآلهتهن . 3 وتعلق إسرائيل ببعل فغور . فحمي غضب الرب على إسرائيل .

ـ العهد القديم ص 296
الاِصحاح الحادي عشر 1 فأحبب الرب إلَهك واحفظ حقوقه وفرائضه وأحكامه ووصاياه كل الاَيام . 2 واعلموا اليوم أني لست أريد بنيكم الذين لم يعرفوا ولا رأوا تأديب الرب إلَهكم عظمته ويده الشديدة وذراعه الرفيعة . 3 وآياته وصنائعه التي عملها في مصر بفرعون ملك مصر وبكل أرضه . 4 والتي عملها بجيش مصر بخيلهم ومراكبهم حيث أطاف مياه بحر سوف على وجوههم حين سعوا وراءكم فأبادهم الرب إلى هذا اليوم . 5 والتي عملها لكم في البرية حتى جئتم إلى هذا المكان . 6 والتي عملها بداثان وأبيرام ابني الياب ابن راوبين اللذين فتحت الاَرض فاها وابتلعتهما مع بيوتهما وخيامهما وكل الموجودات التابعة لهما في وسط كل إسرائيل . . . . 27 البركة إذا سمعتم لوصايا الرب إلهكم التي أنا أوصيكم بها اليوم . 28 واللعنة إذا لم تسمعوا لوصايا الرب إلهكم وزغتم عن الطريق التي أنا أوصيكم بها اليوم ، لتذهبوا وراء آلهة أخرى لم تعرفوها .

ـ العهد القديم ص 300
الاِصحاح الثالث عشر 1 إذا قام في وسطك نبي أو حالم حلماً وأعطاك آية أو
( 169 )
أعجوبة 2 ولو حدثت الآية أو الاَعجوبة التي كلمك عنها قائلاً لنذهب وراء آلهة أخرى لم نعرفها ونعبدها 3 فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم ، لاَن الرب إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم . . . .
وإذا أغواك سراً أخوك ابن أمك أو ابنك أو ابنتك أو امرأة حضنك أو صاحبك الذي مثل نفسك قائلاً : نذهب ونعبد آلهة أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك 7 من آلهة الشعوب الذين حولك القريبين منك أو البعيدين عنك من أقصاء الاَرض إلى أقصائها 8 فلا ترض منه ولا تسمع لا ولا تشفق عينك عليه ولا ترق له ولا تستره . . . .
قد خرج أناس بنو لئيم من وسطك وطوحوا سكان مدينتهم قائلين : نذهب ونعبد آلهة أخرى لم تعرفوها .

ـ العهد القديم ص 196
وقال الرب من أجل أن بنات صهيون يتشامخن ويمشين ممدودات الاَعناق وغامزات بعيونهن وخاطرات في مشيهن ويخشخشن بأرجلهن . 17 يصلع السيد هامة بنات صهيون ويعرى الرب عورتهن . 18 ينزع السيد في ذلك اليوم زينة الخلاخيل والضفائر والاَهلة . 19 والحلق والاَساور والبراقع . 20 والعصائب والسلاسل والمناطق وحناجر الشمامات والاَحراز . 21 والخواتم وخزائم الاَنف . 22 والثياب المزخرفة والعطف والاَردية والاَكياس . 23 والمرائي والقمصان والعمائم والاَزر . 24 فيكون عوض الطيب عفونة ، وعوض المنطقة حبل ، وعوض الجدائل قرعة ، وعوض الديباج زنار مسح ، وعوض الجمال كي .

إتهامهم نبيهم موسى بأنه لم يعرف الله تعالى

ـ العهد القديم 142
وقال موسى للرب أنظر ، أنت قائل لي أصعد هذا الشعب ، وأنت لم تعرفني من
( 170 )
ترسل معي ، وأنت قد قلت عرفتك باسمك ، ووجدت أيضاً نعمة في عيني ، 13 فالآن إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فعلمني طريقك حتى أعرفك لكي أجد نعمة في عينيك .

بولس يصف فساد الناس في عصره وبعدهم عن المعرفة

ـ العهد الجديد ص 246
الاِصحاح الاَول 21 لاَنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإلَه بل حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي . 22 وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء . 23 وأبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الاِنسان الذي يفنى والطيور والدواب والزحافات . . . .
وكذلك الذكور أيضاً تاركين استعمال الاَنثى الطبيعي اشتعلوا بشهوتهم بعضهم لبعض فاعلين الفحشاء ذكوراً بذكور ونائلين في أنفسهم جزاء ضلالهم المحق . 28 وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق . 29 مملوئين من كل إثم وزناً وشر وطمع وخبث ، مشحونين حسداً وقتلاً وخصاماً ومكراً وسوءاً . 30 نمامين مفترين مبغضين لله ، ثالبين متعظمين مدعين مبتدعين شروراً ، غير طائعين للوالدين . 31 بلا فهم ولا عهد ولا حنو ولا رضى ولا رحمة . 32 الذين إذ عرفوا حكم الله أن الذين يعملون مثل هذه يستوجبون الموت لا يفعلونها فقط ، بل أيضاً يسرون بالذين يعملون .

المعرفة التي دعا إليها بولس الذي نَصَّر النصارى

ـ العهد الجديد ص 381
رسالة بطرس الرسول الثانية الاِصحاح الاَول . 1 سمعان بطرس عبد يسوع المسيح ورسوله إلى الذين نالوا معنا إيماناً ثميناً مساوياً لنا ببر إلَهنا والمخلص يسوع المسيح . 2 لتكثر لكم النعمة والسلام بمعرفة الله ويسوع ربنا . 3 كما أن قدرته الاِلَهية
( 171 )
قد وهبت لنا كل ما هو للحياة والتقوى بمعرفة الذي دعانا بالمجد والفضيلة . 4 اللذين بهما قد وهب لنا المواعيد العظمى والثمينة ، لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الاِلَهية هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة . . . . لاَن هذه إذا كانت فيكم وكثرت تُصَيِّركم لا متكاسلين ولا غير مثمرين لمعرفة ربنا يسوع المسيح . . . .

ـ العهد الجديد ص 389
الاِصحاح الرابع 1 أيها الاَحباء لا تصدقوا كل روح بل امتحنوا الاَرواح هل هي من الله لاَن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم . 2 بهذا تعرفون روح الله . كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من الله . 3 وكل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فليس من الله . . . . نحن من الله فمن يعرف الله يسمع لنا ومن ليس من الله لا يسمع لنا . من هذا نعرف روح الحق وروح الضلال .
ونحن قد عرفنا وصدقنا المحبة التي لله فينا . الله محبة ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه .

ـ العهد الجديد ص 390
الاِصحاح الخامس 1 كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد ولد من الله ، وكل من يحب الوالد يحب المولود منه أيضاً . 2 بهذا نعرف إننا نحب أولاد الله إذا أحببنا الله وحفظنا وصاياه . . . . ونعلم أن ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق ، ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح ، هذا هو الاِلَه الحق والحياة الاَبدية . 21 أيها الاَولاد إحفظوا أنفسكم من الاَصنام .

متى اخترع المسيحيون التثليث بعد التوحيد

ـ قاموس الكتاب المقدس ص 232
الثالوث الاَقدس ( تثليث ) عرف قانون الاِيمان هذه العقيدة بالقول ( نؤمن بإلَه واحد الاَب والاِبن والروح القدس إلَه واحد جوهر واحد متساوين في القدرة والمجد ) .
( 172 )
في طبيعة هذا الاِلَه الواحد تظهر ثلاثة خواص أزلية ، يعلنها الكتاب في صورة شخصيات ( أقانيم ) متساوية . ومعرفتنا بهذه الشخصية المثلثة الاَقانيم ليست إلا حقاً سماوياً أعلنه لنا الكتاب في العهد القديم بصورة غير واضحة المعالم ، لكنه قدمه في العهد الجديد واضحاً ، ويمكن أن نلخص العقيدة في هذه النقاط الست التالية :
1 ـ الكتاب المقدس يقدم لنا ثلاث شخصيات يعتبرهم شخص الله .
2 ـ هؤلاء الثلاثة يصفهم الكتاب بطريقة تجعلهم شخصيات متميزة الواحدة عن الاَخرى .
3 ـ هذا التثليث في طبيعة الله ليس موقتاً أو ظاهرياً بل أبدي وحقيقي .
4 ـ هذا التثليث لا يعني ثلاثة آلهة بل إن هذه الشخصيات الثلاث جوهر واحد .
5 ـ الشخصيات الثلاث الاَب والاِبن والروح القدس متساوون .
6 ـ ولا يوجد تناقض في هذه العقيدة ، بل بالاَحرى أنها تقدم لنا المفتاح لفهم باقي العقائد المسيحية . ولقد كانت هذه الحقيقة متضمنة في تعليم المسيح ( يو : 9 ـ 141 : 1 ويو 14 : 26 ويو 15 : 26 ).
وقد تمسكت الكنيسة بما جاء واضحاً في مت 28 : 19 ، وتحدث الرسل مقدمين هذه الحقيقة في 2 كو 13 : 14 و 1 بط 1 : 2 و 1 يو 5 : 7
ولا نستطيع أن نغفل منظر معمودية المسيح وفيه يسمع صوت الاَب واضحاً موجهاً إلى المسيح ، ويستقر الروح القدس على رأس المسيح الاِبن في شكل حمامة ( مت 3 : 16 و 17 ومر 1 : 10 و 11 ولو 3 : 21 و 22 ويو 1 : 32 و 33 ) .
ولقد كان يقين الكنيسة وإيمانها بلاهوت المسيح هو الدافع الحتمي لها لتصوغ حقيقة التثليث في قالب يجعلها المحور الذي تدور حوله كل معرفة المسيحيين بالله في تلك البيئة اليهودية أو الوثنية وتقوم عليه .
والكلمة نفسها ( التثليث أو الثالوث ) لم ترد في الكتاب المقدس ، ويظن أن أول
( 173 )
من صاغها واخترعها واستعملها هو ترتليان في القرن الثاني للميلاد . ثم ظهر سبيليوس ببدعته في منتصف القرن الثالث وحاول أن يفسر العقيدة بالقول : إن التثليث ليس أمراً حقيقياً لله لكنه مجرد إعلان خارجي ، فهو حادث موقت وليس أبدياً . ثم ظهرت بدعة إريوس الذي نادى بأن الاَب وحده هو الاَزلي بينما الاِبن والروح القدس مخلوقان متميزان عن سائر الخليقة .
وأخيراً ظهر إثناسيوس داحضاً هذه النظريات وواضعاً أساس العقيدة السليمة التي قبلها واعتمدها مجمع نيقية في عام 325 ميلادية .
ولقد تبلور قانون الاِيمان الاِثناسيوسي على يد اغسطينوس في القرن الخامس ، وصار القانون عقيدة الكنيسة الفعلية من ذلك التاريخ إلى يومنا هذا .

متى تجب المعرفة على الاِنسان

في أي سن يجب التفكير والمعرفة

ـ رسائل الشهيد الثاني ج 2 ص 135
إعلم أن المتكلمين حددوا وقت التكليف بالمعرفة بالتمكن من العلم بالمسائل الاَصولية ، حيث قالوا في باب التكليف أن المكلف يشترط كونه قادراً على ما كلف به مميزاً بينه وبين غيره مما لم يكلف به متمكناً من العلم بما كلف به ، إذ التكليف بدون ذلك محال . وظاهر أن هذا لا يتوقف على تحقق البلوغ الشرعي بإحدى العلامات المذكورة في كتب الفروع ، بل قد يكون قبل ذلك بسنتين أو بعده كذلك ، بحسب مراتب الاِدراك قوة وضعفاً . وذكر بعض فقهائنا أن وقت التكليف بالمعارف الاِلَهية هو وقت التكليف بالاَعمال الشرعية ، إلا أنه يجب أولاً بعد تحقق البلوغ والعقل المسارعة إلى تحصيل المعارف قبل الاِتيان بالاَعمال .

( 174 )
أقول : هذا غير جيد ، لاَنه يلزم منه أن يكون الاِناث أكمل من الذكور ، لاَن الاَنثى تخاطب بالعبادات عند كمال التسع إذا كانت عاقلة ، فتخاطب بالمعرفة أيضاً عند ذلك، والصبي لا يبلغ عند كمال التسع بالاِحتلام ولابالاِنبات على ما جرت به العادة، فلا يخاطب بالمعرفة وإن كان مميزاً عاقلاً لعدم خطابه بالعبادات ، فتكون أكمل منه استعداداً للمعارف ، وهو بعيد عن مدارك العقل والنقل . ومن ثم ذهب بعض العلماء إلى وجوب المعرفة على من بلغ عشراً عاقلاً ، ونسب ذلك إلى الشيخ أبي جعفر الطوسي قدس سره وأيضاً هذا لا يوافق ما هو الحق من أن معرفة الله تعالى واجبة عقلاً لا سمعاً ، لاَنا لو قلنا إن المعرفة لا تجب إلا بعد تحقق البلوغ الشرعي الذي هو مناط وجوب العبادات الشرعية ، لكنا قد أوجبنا المعرفة بالشرع لا بالعقل ، لاَن البلوغ المذكور إنما علم من الشرع ، وليس في العقل ما يدل على أن وجوب المعرفة إنما يكون عند البلوغ المذكور ، فلو وجبت عنده لكان الوجوب معلوماً من الشرع ، لا من العقل .
لا يقال : العقل إنما دل على وجوب المعرفة في الجملة دون تحديد وقته ، والشرع إنما دل على تحديد وقت الوجوب وهو غير الوجوب ، فلا يلزم كون الوجوب شرعياً .
لاَنا نقول : لا نسلم أن في الشرع ما يدل على تحديد وقت وجوب المعرفة أيضاً ، بل إنما دل على تحديد وقت العبادات فقط ، نعم دل الشرع على تقدم المعرفة على العبادات في الجملة ، وهو أعم من تعيين وقت التقدم ، فلا يدل عليه .
وأيضاً لامعنى لكون العقل يدل على وجوب المعرفة في الجملة من دون اطلاعه على وقت الوجوب ، إذ لا ريب أنه يلزم من الحكم بوجوبها كونها واجبة في وقت الحكم .
والحاصل : أنه لا يمكن العلم بوجوبها إلا بعد العلم بوقت وجوبها ، فالوقت كما أنه ظرف لها فهو ظرف للوجوب أيضاً . وتوضيحه : أن العبد متى لاحظ هذه النعم عليه وعلم أن هناك منعماً أنعم بها عليه ، أوجب على نفسه شكره عليها في ذلك الوقت ، خوفاً من أن يسلبه إياها لو لم يشكره ، وحيث أنه لم يعرفه بعد يوجب على
( 175 )
نفسه النظر في معرفته في ذلك الوقت ليمكنه شكره ، فقد علم أنه يلزم من وجوب المعرفة بالعقل معرفة وقتها أيضاً .
نعم ما ذكروه إنما يتم على مذهب الاَشاعرة ، حيث أن وجوب المعرفة عندهم سمعي .
فإن قلت : قوله صلى الله عليه وآله : رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ ، فيه دلالة على تحديد وقت وجوب المعرفة بالبلوغ الشرعي ، لاَن رفع القلم كناية عن رفع التكليف وعدم جريانه عليه إلى الغاية المذكورة ، فقبلها لا يكون مكلفاً بشيء ، سواء كان قد عقل أم لا .
قلت : لا نسلم دلالته على ذلك ، بل إن دل فإنما يدل على أن البلوغ الشرعي غاية لرفع التكليف مطلقاً . وإن كان عقلياً ، فيبقى الدليل الدال على كون التكليف بالمعرفة عقلياً سالماً عن المعارض ، فإنه يستلزم تحديد وقت وجوب المعرفة بكمال العقل ، كما تقدمت الاِشارة إليه .
والحاصل : أن عموم رفع القلم مخصص بالدليل العقلي ، وقد عرف العقل الذي هو مناط التكاليف الشرعية بأنه قوة للنفس بها تستعد للعلوم والاِدراكات ، وهو المعني بقولهم غريزة يتبعها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات ، وهذا التفسير اختاره المحقق الطوسي رحمه الله وجماعة .

ـ مجمع الفائدة والبرهان ج 10 ص 409
المراهق إذا أسلم حكم بإسلامه ، فإن ارتد بعد ذلك يحكم بارتداده وإن لم يتب قتل . . . .
وقال أبو حنيفة : يصح إسلامه وهو مكلف بالاِسلام ، وإليه ذهب بعض أصحابنا ، لاَنه يمكنه معرفة التوحيد بالنظر والاِستدلال ، فصح منه كالبالغ ، ونقل الشيخ عن أصحابه أنهم حكموا بإسلام علي عليه السلام وهو غير بالغ وحكم بإسلامه بالاِجماع . والاِستدلال بالرواية مشكل ، لعدم ظهور الصحة والدلالة على هذا المطلب ، وما نقل عن أمير المؤمنين عليه السلام مما لا يقاس عليه غيره ، فإن النبي صلى الله عليه وآله والاَئمة عليهم السلام ليسوا
( 176 )
من قبيل سائر الناس ، ولهذا حكموا بكون الحجة صلوات الله وسلامه عليه إماماً مع كونه ابن خمس سنين .
نعم الحكم بإسلام المراهق غير بعيد لعموم من قال : لا إلَه إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وآله فهو مسلم ، وقاتلوهم حتى يقولوا لا إلَه إلا الله ، وأمثاله كثيرة . ولاَنهم إذا قدروا على الاِستدلال وفهموا أدلة وجود الواجب والتوحيد وما يتوقف عليه ، ووجوب المعرفة والنظر في المعرفة ، يمكن أن يجب عليهم ذلك ، لاَن دليل وجوب المعرفة عقلي ، فكل من يعرف ذلك يدخل تحته ، ولا خصوصية له بالبالغ ، ولا استثناء في الاَدلة العقلية ، فلا يبعد تكليفهم ، بل يمكن أن يجب ذلك ، فإذا أوجب عليهم يجب أن يصح منهم ، بل يلزم من الحكم بالصحة وجوبه أيضاً ، ويترتب عليه الاَحكام . . . . وقد أجمعوا على عدم وجوب الفروع عليهم وعدم تكليفهم بها ، ولهذا صرح بعض العلماء بأن الواجبات الاَصولية العقلية تجب على الصغير قبل بلوغه دون الفرعية . والظاهر أن ضابطة القدرة على الفهم والاَخذ والاِستدلال على وجه مقنع ، ففي كل من وجب فيه ذلك يصح ويمكن أن يجب عليه ذلك المقدار ، ومن لم يوجد فيه ذلك لم يجب . وقال في الدروس ، وهو لما قاله الشيخ قريب ولا شك أنه أحوط ، وما استدل به الشيخ مؤيد فقوله قريب .
قال في التذكرة : غير المميز والمجنون لا يصح إسلامهما مباشرة إجماعاً ولا يحكم بإسلامهما إلا بالتبعية لغيره . فيريد بهما من لا قدرة له على الاِستدلال ، ولا يفهم وجوب المعرفة ونحوه ، وجنون المجنون أخرجه عن الفهم والقدرة على الاِستفهام والاِستدلال مثل غير المميز ، وأما إذا كان لهم فهم مستقل لا يبعد اعتباره حينئذ وإجراء الاَحكام في حقه عليه ، فتأمل .

حكم الاِنسان في مرحلة التفكير والبحث

ـ رسائل الشهيد الثاني ج 2 ص 133
المبحث الثالث في أن الاِنسان في زمان مهلة النظر . . . . هل هو كافر أو مؤمن ؟
( 177 )
جزم السيد الشريف المرتضى رضي الله عنه بكفره ، واستشكل بعضهم . والظاهر أن محل النزاع في من لم يسبق منه اعتقاد ما يوجب الكفر ، فإنه في زمان طلب الحق بالنظر فيه مع بقاء ذلك الاِعتقاد لا ريب في كفره . بل النزاع في من هو في أول مراتب التكليف إذا وجه نفسه للنظر في تحقيق الحق ليعتقده ولم يكن معتقداً لما يوجب الكفر بل هو متردد حتى يرجح عنده شيء فيعتقده . وكذا من سبق له اعتقاد ما يوجب الكفر رجع عنه إلى الشك بسبب نظره في تحقيق الحق ولما يترجح عنده الحق ، فهذان هل هما كافران في مدة النظر أم لا ؟
أقول : ما تقدم من تعريف الكفر بأنه عدم الاِيمان مما من شأنه أن يكون مؤمناً يقتضي الحكم بكفرهما حالة النظر ، لصدق عدم الاِيمان عليهما في تلك الحالة ، وهذا مشكل جداً ، لاَنه يقتضي الحكم بكفر كل أحد أول كمال عقله الذي هو أول وقت التكليف بالمعرفة ، لاَنه أول وقت إمكان النظر ، إذ النظر قبله لا عبرة به ، ويقتضي أن يكون من أدركه الموت في تلك الحالة مخلداً في جهنم . ولا يخفى بعد ذلك عن حكمة الله تعالى وعدله ، ولزوم : إما تكليف ما لا يطاق إن عذبه على ترك الاِيمان ، حيث لم يمض له وقت يمكن تحصيله فيه قبل الموت كما هو المفروض ، أو الظلم الصرف إن لم يقدر على ذلك ، تعالى الله عن ذلك ، إذ لم يسبق له إعتقاد ما يوجب الكفر كما هو المفروض أيضاً ، ليكون التعذيب عليه .
ويلزم من ذلك القدح في صحة تعريف الكفر بذلك . اللهم إلا أن يقال : إن مثل هذا النوع من الكفر لا يعذب صاحبه ، لكن لا يلزم منه القدح في الاِجماع على أن كل كافر مخلد في النار ، وليس بعيداً التزام ذلك ، وأن يكون المراد من الكافر المخلد من كان كفره عن اعتقاد ، فيكون الاِجماع مخصوصاً بمن عدا الاَول .
إن قلت : إن لم يكن هذا الشخص من أهل النار ، يلزم أن يكون من أهل الجنة ، إذ لا واسطة بينهما في الآخرة على المذهب الحق ، فيلزم أن يخلد في الجنة من لا إيمان له أصلاً كما هو المفروض ، وهو مخالف لما انعقد عليه الاِجماع من أن غير المؤمن لا يدخل الجنة .

( 178 )
قلت : يجوز أن يكون إدخاله الجنة تفضلاً من الله تعالى كالاَطفال ، ويكون الاِجماع مخصوصاً بمن كلف الاِيمان ومضت عليه مدة كان يمكنه تحصيله فيها فقصر .
وأقول أيضاً : الذي يقتضيه النظر إن هذا الشخص لا يحكم عليه بكفر ولا بإيمان في زمان النظر حقيقة بل تبعاً كالاَطفال ، فإنه لم يتحقق له التكليف التام ليخرج عن حكم الاَطفال ، فهو باق على ذلك إلى أن يمضي عليه زمان يمكن فيه النظر الموصل إلى الاِيمان ، لكن هذا لا يتم في من لم يسبق له كفر ، كمن هو في أول بلوغه . أما من سبق له اعتقاد الكفر ثم رجع عنه إلى الشك ، فيتم فيه .

تجب المعرفة بالتفكير ولا يصح فيها التقليد

ـ الاِقتصاد للشيخ الطوسي ص 9
الطريق إلى معرفة الاَشياء أربعة لا خامس لها :
أولها ، أن يعلم الشيء ضرورة لكونه مركوزاً في العقول ، كالعلم بأن الاِثنين أكثر من واحد ، وأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين في حالة واحدة ، وأن الجسمين لا يكونان مكان واحد في حالة واحدة ، والشيء لا يخلو من أن يكون ثابتاً أو منفياً ، وغير ذلك مما هو مركوز في العقول .
والثاني ، أن يعلم من جهة الاِدراك إذا أدرك وارتفع اللبس ، كالعلم بالمشاهدات والمدركات بسائر الحواس .
والثالث ، أن يعلم بالاَخبار كالعلم بالبلدان والوقائع وأخبار الملوك وغير ذلك .
والرابع ، أن يعلم بالنظر والاِستدلال .
والعلم بالله تعالى ليس بحاصل من الوجه الاَول ، لاَن ما يعلم ضرورة لا يختلف العقلاء فيه بل يتفقون عليه ، ولذلك لا يختلفون في أن الواحد لا يكون أكثر من اثنين، وأن الشبر لا يطابق الذراع . والعلم بالله فيه خلاف بين العقلاء فكيف يجوز أن
( 179 )
يكون ضرورياً .
وليس الاِدراك أيضاً طريق العلم بمعرفة الله تعالى ، لاَنه تعالى ليس بمدرك بشيء من الحواس على ما سنبينه فيما بعد ، ولو كان مدركاً محسوساً لاَدركناه مع صحة حواسنا وارتفاع الموانع المعقولة .
والخبر أيضاً لا يمكن أن يكون طريقاً إلى معرفته ، لاَن الخبر الذي يوجب العلم هو ما كان مستنداً إلى مشاهدة وإدراك ، كالبلدان والوقائع وغير ذلك ، وقد بينا أنه ليس بمدرك ، والخبر الذي لا يستند إلى الاِدراك لا يوجب العلم . ألا ترى أن جميع المسلمين يخبرون من خالفهم بصدق محمد صلى الله عليه وآله فلا يحصل لمخالفيهم العلم به لاَن ذلك طريقه الدليل ، وكذلك جميع الموحدين يخبرون الملحدة بحدوث العالم فلا يحصل لهم العلم به لاَن ذلك طريقه الدليل .
فإذا بطل أن يكون طريق معرفته الضرورة أو المشاهدة أو الخبر ، لم يبق إلا أن يكون طريقة النظر .
فإن قيل : أين أنتم عن تقليد المتقدمين ؟
قلنا : التقليد إن أريد به قبول قول الغير من غير حجة وهو حقيقة التقليد فذلك قبيح في العقول ، لاَن فيه إقداماً على ما لا يأمن كون ما يعتقده عند التقليد جهلاً لتعريه من الدليل ، والاِقدام على ذلك قبيح في العقول ، ولاَنه ليس في العقول أن تقليد الموحد أولى من تقليد الملحد إذا رفعنا النظر والبحث عن أوهامنا ولا يجوز أن يتساوى الحق والباطل .
فإن قيل : نقلد المحق دون المبطل .
قلنا : العلم بكونه محقاً لا يمكن حصوله إلا بالنظر ، لاَنا إن علمناه بتقليد آخر أدى إلى التسلسل ، وإن علمناه بدليل فالدليل الدال على وجوب القبول منه يخرجه عن باب التقليد ، ولذلك لم يكن أحدنا مقلداً للنبي أو المعصوم فيما نقبله منه لقيام الدليل على صحة ما يقوله .

( 180 )
وليس يمكن أن يقال : نقلد الاَكثر ونرجع إليهم ، وذلك لاَن الاكثر قد يكونون على ضلال بل ذلك هو المعتاد المعروف ، ألا ترى أن الفرق المبطلة بالاِضافة إلى الفرق المحقة جزء من كل وقليل من كثير .
ولا يمكن أن يعتبر أيضاً بالزهد والورع ، لاَن مثل ذلك يتفق في المبطلين ، فلذلك ترى رهبان النصارى على غاية العبادة ورفض الدنيا مع أنهم على باطل فعلم بذلك أجمع فساد التقليد .
فإن قيل : هذا القول يؤدي إلى تضليل أكثر الخلق وتكفيرهم ، لاَن أكثر من تعنون من العقلاء لا يعرفون ما يقولونه ، من الفقهاء والاَدباء والرؤساء والتجار وجمهور العوام ، ولا يهتدون إلى ما يقولونه ، وإنما يختص بذلك طائفة يسيرة من المتكلمين ، وجميع من خالفهم يبدعهم في ذلك ، ويؤدي إلى تكفير الصحابة والتابعين وأهل الاَمصار ، لاَنه معلوم أن أحداً من الصحابة والتابعين لم يتكلم فيما تكلم فيه المتكلمون ولا سمع منه حرف واحد ولا نقل عنهم شيء منه ، فكيف يقال بمذهب يؤدي إلى تكفير أكثر الاَمة وتضليلها ، وهذا باب ينبغي أن يزهد فيه ويرغب عنه .
قيل : هذا غلط فاحش وظن بعيد ، وسوء ظن بمن أوجب النظر المؤدي إلى معرفة الله ، ولسنا نريد بالنظر المناظرة والمحاجة والمخاصمة والمحاورة التي يتداولها المتكلمون ويجرى بينهم ، فإن جميع ذلك صناعة فيها فضيلة وإن لم تكن واجبة ، وإنما أوجبنا النظر الذي هو الفكر في الاَدلة الموصلة إلى توحيد الله تعالى وعدله ومعرفة نبيه وصحة ما جاء به ، وكيف يكون ذلك منهياً عنه أو غير واجب والنبي عليه السلام لم يوجب القبول منه على أحد إلا بعد إظهار الاَعلام والمعجزة من القرآن وغيره ، ولم يقل لاَحد إنه يجب عليك القبول من غير آية ولا دلالة . وكذلك تضمن القرآن من أوله إلى آخره التنبيه على الاَدلة ووجوب النظر ، قال الله تعالى : أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والاَرض وما خلق الله من شيء . وقال : أفلا ينظرون إلى الاِبل كيف خلقت . وإلى السماء كيف رفعت . وإلى الجبال كيف نصبت . وإلى
( 181 )
الاَرض كيف سطحت . وقال : وفي أنفسكم أفلا تبصرون . وقال : قتل الاِنسان ما أكفره . من أي شيء خلقه . من نطفة خلقه . الآية . وقال : إن في خلق السماوات والاَرض واختلاف الليل والنهار لآيات لاَولي الاَلباب . إلى قوله : إنك لا تخلف الميعاد . وقال : فلينظر الاِنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صباً ، ثم شققنا الاَرض شقاً، إلى قوله : متاعاً لكم ولاَنعامكم . وقال : ولقد خلقنا الاِنسان من سلالة من طين . ثم جعلناه نطفة في قرار مكين . إلى قوله فتبارك الله أحسن الخالقين . وقال : إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ، ولقوم يعقلون ، ولاَولي الاَلباب ، ولمن كان له قلب ، يعني عقل . وغير ذلك من الآيات التي تعدادها يطول .
وكيف يحث تعالى على النظر وينبه على الاَدلة وينصبها ويدعو إلى النظر فيها ، ومع ذلك يحرمها . إن هذا لا يتصوره إلا غبيٌّ جاهل . فأما من أومي إليه من الصحابة والتابعين وأهل الاَعصار من الفقهاء والفضلاء والتجار والعوام ، فأول ما فيه أنه غير مسلم ، بل كلام الصحابة والتابعين مملو من ذلك .
. . . وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه . وقال أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته المعروفة : أول عبادة الله معرفته ، وأصل معرفته توحيده ، ونظام توحيده نفي الصفات عنه ، لشهادة العقول إن من حلته الصفات فهو مخلوق ، وشهادتها أنه خالق ليس بمخلوق ثم قال : بصنع الله يستدل عليه ، وبالعقول يعتقد معرفته ، وبالنظر يثبت حجته ، معلوم بالدلالات ، مشهور بالبينات ، إلى آخر الخطبة . وخطبه في هذا المعنى أكثر من أن تحصى .
وقال الحسن عليه السلام : والله ما يعبد الله إلا من عرفه ، فأما من لم يعرفه فإنما يعبده هكذا ضلالاً ، وأشار بيده .
وقال الصادق عليه السلام : وجدت علم الناس في أربع : أولها أن تعرف ربك ، والثاني أن تعرف ما صنع بك ، والثالث أن تعرف ما أراد منك ، والرابع أن تعرف ما يخرجك من دينك . . . .

( 182 )
فإن قالوا : أكثر من أومأتم إليه إذا سألته عن ذلك لا يحسن الجواب عنه .
قلنا : وذلك أيضاً لا يلزم ، لاَنه لا يمتنع أن يكون عارفاً على الجملة وإن تعذرت عليه العبارة عما يعتقده ، فتعذر العبارة عما في النفس لا يدل على بطلان ذلك ولا ارتفاعه .

ـ الرسالة السعدية للعلامة الحلي ص 3 ـ 9
وقد حرم الله تعالى على جميع العبيد سلوك طريق التقليد ، بل أوجب البحث في أصول العقايد اليقينية وتحصيلها باستعمال البراهين القطعية . . . . المقدمة الثانية في تحريم التقليد . طلب الله تعالى من المكلف اعتقاداً جازماً يقينياً مأخوذاً من الحجج والاَدلة ، وذلك في المسائل الاَصولية ، واعتقاداً مستفاداً إما من الحجة ، أو من التقليد في المسائل الفروعية .

ـ رسائل المحقق الكركي ج 1 ص 59
يجب على كل مكلف حرّ وعبد ذكر وأنثى أن يعرف الاَصول الخمسة التي هي أركان الاِيمان ، وهي : التوحيد ، والعدل ، والنبوة ، والاِمامة ، والمعاد ، بالدليل لا بالتقليد . ومن جهل شيئاً من ذلك لم ينتظم في سلك المؤمنين ، واستحق العقاب الدائم مع الكافرين .

ـ رسائل المحقق الكركي ج 1 ص 80 وج 3 ص 173
ويجب أمام فعلها معرفة الله تعالى ، وصفاته الثبوتية والسلبية ، وعدله وحكمته ، ونبوة نبينا محمد صلوات الله عليه وآله ، وإمامة الاَئمة عليهم السلام والاِقرار بكل ما جاء به النبي صلوات الله عليه وآله من أحوال المعاد ، بالدليل لا بالتقليد .
قوله : بالدليل لا بالتقليد ، الدليل هو ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر إثباتاً أو نفياً . والتقليد هو الاَخذ بقول الغير من غير حجة ملزمة ، مأخوذ من تقليده بالقلادة
( 183 )
وجعلها عنقه كأن المقلد يجعل ما يعتقده من قول الغير من حق أو باطل قلادة في عنق من قلده .

ـ رسائل الشهيد الثاني ج 2 ص 56
إعلم أن العلماء أطبقوا على وجوب معرفة الله تعالى بالنظر وأنها لا تحصل بالتقليد ، إلا من شذ منهم كعبدالله بن الحسن العنبري والحشوية والتعليمية ، حيث ذهبوا إلى جواز التقليد في العقائد الاَصولية ، كوجود الصانع وما يجب له ويمتنع ، والنبوة ، والعدل وغيرها ، بل ذهب إلى وجوبه .
لكن اختلف القائلون بوجوب المعرفة في أنه عقلي أو سمعي ، فالاِمامية والمعتزلة على الاَول والاَشعرية على الثاني ، ولا غرض لنا هنا ببيان ذلك ، بل ببيان أصل الوجوب المتفق عليه .
من ذلك : أن لله تعالى على عبده نعماً ظاهرة وباطنة لا تحصى ، يعلم ذلك كل عاقل ، ويعلم أنها ليست منه ولا من مخلوق مثله . ويعلم أيضاً أنه إذا لم يعترف بإنعام ذلك المنعم ولم يذعن بكونه هو المنعم لا غيره ولم يسع في تحصيل مرضاته، ذمه العقلاء ، ورأوا سلب تلك النعم عنه حسناً ، وحينئذ فتحكم ضرورة العقل بوجوب شكر ذلك المنعم . ومن المعلوم أن شكره على وجه يليق بكمال ذاته يتوقف على معرفته ، وهي لا تحصل بالظنيات كالتقليد وغيره ، لاحتمال كذب المخبر وخطأ الاِمارة ، فلابد من النظر المفيد للعلم .
وهذا الدليل إنما يستقيم على قاعدة الحسن والقبح ، والاَشاعرة ينكرون ذلك ، لكنه كما يدل على وجوب المعرفة بالدليل ، يدل أيضاً على كون الوجوب عقلياً .
واعترض أيضاً بأنه مبني على وجوب ما لا يتم الواجب المطلق إلاّ به ، وفيه أيضاً منع للاَشاعرة . ومن ذلك أن الاَمة اجتمعت على وجوب المعرفة ، والتقليد وما في حكمه لا يوجب العلم ، إذ لو أوجبه لزم اجتماع الضدين في مثل تقليد من يعتقد حدوث العالم ويعتقد قدمه .

( 184 )
وقد اعترض على هذا بمنع الاِجماع ، كيف والمخالف معروف ، بل عورض بوقوع الاِجماع على خلافه ، وذلك لتقرير النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه العوام على إيمانهم وهم الاَكثرون في كل عصر ، مع عدم الاِستفسار عن الدلائل الدالة على الصانع وصفاته ، مع أنهم كانوا لا يعلمونها ، وإنما كانوا مقرين باللسان ومقلدين في المعارف، ولو كانت المعرفة واجبة لما جاز تقريرهم على ذلك مع الحكم بإيمانهم .
وأجيب عن هذا : بأنهم كانوا يعلمون الاَدلة إجمالاً ، كدليل الاِعرابي حيث قال : البعرة تدل على البعير ، وأثر الاَقدام على المسير ، أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا تدلان على اللطيف الخبير ؟ ! فلذا أقروا ولم يسألوا عن اعتقاداتهم ، أو أنهم كان يقبل منهم ذلك للتمرين ، ثم يبين لهم ما يجب عليهم من المعارف بعد حين .
ومن ذلك : الاِجماع أنه لا يجوز تقليد غير المحق ، وإنما يعلم المحق من غيره بالنظر في أن ما يقوله حق أم لا ، وحينئذ فلا يجوز له التقليد إلا بعد النظر والاِستدلال، وإذا صار مستدلاً امتنع كونه مقلداً ، فامتنع التقليد في المعارف الاِلَهية .
ونقض ذلك بلزوم مثله في الشرعيات ، فإنه لا يجوز تقليد المفتي إلا إذا كانت فتياه عن دليل شرعي ، فإن اكتفى في الاِطلاع على ذلك بالظن وإن كان مخطئاً في نفس الاَمر لحط ذلك عنه ، فليجز مثله في مسائل الاَصول .
وأجيب بالفرق بأن الخطأ في مسائل الاَصول يقتضي الكفر بخلافه في الفروع ، فساغ في الثانية مالم يسغ في الاَولى .
إحتج من أوجب التقليد في مسائل الاَصول بأن العلم بأمر الله غير ممكن ، لاَن المكلف به إن لم يكن عالماً به تعالى إمتنع أن يكون عالماً بأمره ، وحال امتناع كونه عالماً بأمره يمتنع كونه مأموراً من قبله ، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق ، وإن كان عالماً به استحال أيضاً أمره بالعلم به لاستحالة تحصيل الحاصل .
والجواب عن ذلك على قواعد الاِمامية والمعتزلة ظاهر ، فإن وجوب النظر والمعرفة عندهم عقلي لا سمعي . نعم يلزم ذلك على قواعد الاَشاعرة ، إذ الوجوب عندهم سمعي .

( 185 )
أقول : ويجاب أيضاً معارضةً ، بأن هذا الدليل كما يدل على امتناع العلم بالمعارف الاَصولية ، يدل على امتناع التقليد فيها أيضاً ، فينسد باب المعرفة بالله تعالى ، وكل من يرجع إليه في التقليد لابد وأن يكون عالماً بالمسائل الاَصولية ليصح تقليده ، ثم يجرى الدليل فيه فيقال : علم هذا الشخص بالله تعالى غير ممكن ، لاَنه حين كلف به إن لم يكن عالماً به تعالى استحال أن يكون عالماً بأمره بالمقدمات ، وكل ما أجابوا به فهو جوابنا ، ولا مخلص لهم إلا أن يعترفوا بأن وجوب المعرفة عقلي ، فيبطل ما ادعوه من أن العلم بالله تعالى غير ممكن ، أو سمعي فكذلك .
فإن قيل : ربما حصل العلم لبعض الناس بتصفية النفس أو إلهام إلى غير ذلك فيقلده الباقون .
قلنا : هذا أيضاً يبطل قولكم أن العلم بالله تعالى غير ممكن ، نعم ما ذكروه يصلح أن يكون دليلاً على امتناع المعرفة بالسمع ، فيكون حجة على الاَشاعرة ، لا دليلاً على وجوب التقليد .
واحتجوا أيضاً بأن النهي عن النظر قد ورد في قوله تعالى : ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا . والنظر يفتح باب الجدال فيحرم . ولاَنه صلى الله عليه وآله رأى الصحابة يتكلمون في مسألة القدر ، فنهى عن الكلام فيها وقال : إنما هلك من كان قبلكم بخوضهم هذا ، ولقوله عليه السلام : عليكم بدين العجائز ، والمراد ترك النظر ، فلو كان واجباً لم يكن منهياً عنه .
وأجيب عن الاَول : إن المراد الجدال بالباطل ، كما في قوله تعالى : وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ، لا الجدال بالحق لقوله تعالى : وجادلهم بالتي هي أحسن، والاَمر بذلك يدل على أن الجدال مطلقاً ليس منهياً عنه .
وعن الثاني : بأن نهيهم عن الكلام في مسألة القدر على تقدير تسليمه لا يدل على النهي عن مطلق النظر ، بل عنه في مسألة القدر ، كيف وقد ورد الاِنكار على تارك النظر في قوله تعالى : أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله ، وقد أثنى على فاعله في قوله تعالى : ويتفكرون في خلق السماوات والاَرض .

( 186 )
على أن نهيهم عن الخوض في القدر لعله لكونه أمراً غيبياً وبحراً عميقاً ، كما أشار إليه علي عليه السلام بقوله : بحر عميق فلا تلجه . بل كان مراد النبي تفويض مثل ذلك إلى الله تعالى ، لاَن ذلك ليس من الاَصول التي يجب اعتقادها، والبحث عنها مفصلة.
وهاهنا جواب آخر عنهما معاً ، وهو أن النهي في الآية والحديث مع قطع النظر عما ذكرناه إنما يدل على النهي عن الجدال الذي لا يكون إلا عن متعدد ، بخلاف النظر فإنه يكون من واحد ، فهو نصب الدليل على غير المدعى .
وعن الثالث : بالمنع من صحة نسبته إلى النبي صلى الله عليه وآله فإن بعضهم ذكر أنه من مصنوعات سفيان الثوري ، فإنه روى أن عمر بن عبدالله المعتزلي قال : إن بين الكفر والاِيمان منزلة بين منزلتين ، فقالت عجوز ، قال الله تعالى : هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ، فلم يجعل من عباده إلا الكافر والمؤمن ، فسمع سفيان كلامها ، فقال : عليكم بدين العجائز .
على أنه لو سلم فالمراد به التفويض إلى الله تعالى في قضائه وحكمه والاِنقياد له في أمره ونهيه .
واحتج من جوز التقليد : بأنه لو وجب النظر في المعارف الاِلَهية لوجد من الصحابة ، إذ هم أولى به من غيرهم ، ولم يوجد وإلا لنقل كما نقل عنهم النظر والمناظرة في المسائل الفقهية ، فحيث لم ينقل لم يقع ، فلم يجب .
وأجيب : بالتزام كونهم أولى به لكنهم نظروا ، وإلا لزم نسبتهم إلى الجهل بمعرفة الله تعالى ، وكون الواحد منا أفضل منهم ، وهو باطل إجماعاً ، وإذا كانوا عالمين وليس بالضرورة فهو بالنظر والاِستدلال . وأما إنه لم ينقل النظر والمناظرة ، فلاِتفاقهم على العقائد الحقة، لوضوح الاَمر عندهم ، حيث كانوا ينقلون عقائدهم عمن لا ينطق عن الهوى ، فلم يحتاجوا إلى كثرة البحث والنظر ، بخلاف الاَخلاف بعدهم فإنهم لما كثرت شبه الضالين ، واختلفت أنظار طالبي اليقين لتفاوت أذهانهم في إصابة الحق ، احتاجوا إلى النظر والمناظرة ، ليدفعوا بذلك شبه المضلين ويقفوا على اليقين .

( 187 )
أما المسائل الفروع ، فإنها لما كانت أموراً ظنية اجتهادية خفية ، لكثرة تعارض الاِمارات فيها ، وقع بينهم الخلاف فيها والمناظرة والتخطئة لبعضهم من بعض ، فلذا نقل .
واحتجوا أيضاً : بأن النظر مظنة الوقوع في الشبهات والتورط في الضلالات بخلاف التقليد فإنه أبعد عن ذلك وأقرب إلى السلامة فيكون أولى ، ولاَن الاَصول أغمض أدلة من الفروع وأخفى ، فإذا جاز التقليد في الاَسهل جاز في الاَصعب بطريق أولى، ولاَنهما سواء في التكليف بهما، فإذا جاز في الفروع فليجز في الاَصول.
وأجيب عن الاَول : بأن اعتقاد المعتقد إن كان عن تقليد ، لزم إما التسلسل ، أو الاِنتهاء إلى من يعتقد عن نظر لانتفاء الضرورة ، فيلزم ما ذكرتم من المحذور مع زيادة وهي احتمال كذب المخبر ، بخلاف الناظر مع نفسه ، فإنه لا يكابر نفسه فيما أدى إليه نظره .
على أنه لو اتفق الاِنتهاء إلى من اتفق له العلم بغير النظر كتصفية الباطن كما ذهب إليه بعضهم ، أو بالاِلهام ، أو بخلق العلم فيه ضرورة ، فهو إنما يكون لاَفراد نادرة ، لاَنه على خلاف العادة ، فلا يتيسر لكل أحد الوصول إليه مشافهة بل بالوسائط ، فيكثر احتمال الكذب ، بخلاف الناظر فإنه لايكابر نفسه، ولاَنه أقرب إلى الوقوع في الصواب .
إن قلت : ما ذكرت من الجواب إنما يدل على كون النظر أولى من التقليد ، ولا يدل على عدم جوازه ، فجواز التقليد باق لم يندفع ، على أن ما ذكرته من احتمال الكذب جار في الفروع ، فلو منع من التقليد فيها لمنع في الاَصول .
قلت : متى سلمت الاَولوية وجب العمل بها ، وإلا لزم العمل بالمرجوح مع تيسر العمل بالراجح ، وهو باطل بالاِجماع ، لا سيما في الاِعتقاديات .
وأما الجواب عن العلاوة ، فلاَنه لما كان الطريق إلى العمل بالفروع إنما هو النقل ساغ لنا التقليد فيها ، ولم يقدح احتمال كذب المخبر ، وإلا لانسد باب العمل فيها ،
( 188 )
بخلاف الاِعتقادات فإن الطريق إليها بالنظر ميسر ، فاعتبر قدح الاِحتمال في التقليد فيها .
وأما احتمال الخطأ في النظر ، فإنه وإن أمكن إلا أنه نادر جداً بالقياس إلى الخطأ في النقل ، فكان النظر أرجح ، وقد بينا أن العمل بالاَرجح واجب .
وأجيب عن الثاني : أولاً بالمنع من كونها أغمض أدلة ، بل الاَمر بالعكس لتوقف الشرعيات على العقليات عملاً وعلماً .
وثانياً بالمنع من الملازمة ، فإن كونها أغمض أدلة لا يستلزم جواز التقليد فيها فضلاً عن كونه أولى ، لاَن المطلوب فيها اليقين ، بخلاف الشرعيات فإن المطلوب فيها الظن اتفاقاً . ومن هذا ظهر الجواب عن الثالث .
واحتجوا أيضاً : بأن هذه العلوم إنما تحصل بعد الممارسة الكثيرة والبحث الطويل ، وأكثر الصحابة لم يمارسوا شيئاً منها ، فكان اعتقادهم عن تقليد .
وأجيب : بأنهم لمشاهدتهم المعجزات وقوة معارفهم بكثرة البينات من صاحب الوحي عليه السلام لم يحتاجوا في تيقن تلك المعارف إلى بحث كثير في طلب الاَدلة عليها .
أقول : ومما يبطل به مذهب القائلين بالتقليد أنه إما أن يفيد العلم أولاً ، فإن أفاده لزم اجتماع الضدين فيما لو قلد واحداً في قدم العالم وآخر في حدوثه ، وهو ظاهر . وإن لم يفده وجب ترجيح النظر عليه ، إذ من المعلوم ضرورة أن النظر الصحيح يفيد العلم ، فإذا ترجح النظر عليه وجب اعتباره وترك المرجوح اجماعاً .
وأقول : مما يدل على اعتبار اليقين في الاِيمان أن الاَمة فيه على قولين : قول باعتبار اليقين فيما يتحقق به الاِيمان . وقول بالاِكتفاء بالتقليد أو ما في حكمه فإذا انتفى الثاني بما ذكرناه من الاَدلة ثبت الاَول .
وأقول أيضاً مما يصلح شاهداً على ذلك قوله تعالى : قالت الاَعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الاِيمان في قلوبكم ، فنفى ما زعموه إيماناً ، وهو التصديق القولي ، بل ماسوى التصديق الجازم ، حيث لم يثبت لهم من الاِيمان
( 189 )
إلا ما دخل القلب . ولا ريب أن ما دخل القلب يحصل به الاِطمئنان ، ولا اطمئنان في الظن وشبهه لتجويز النقيض معه ، فيكون الثبات والجزم معتبراً في الاِيمان .
فإن قلت : قوله تعالى حكاية عن إبراهيم : أو لم تؤمن ؟ قال بلى ، ولكن ليطمئن قلبي ، يدل على أن الجزم والثبات غير معتبر في الاِيمان ، وإلا لما أخبر عليه السلام عن نفسه بالاِيمان ، بقوله بلى مع أن قوله ( ولكن ليطمئن قلبي ) يدل على أنه لم يكن مطمئناً فلم يكن جازماً .
قلت : يمكن الجواب بأنه عليه السلام طلب العلم بطريق المشاهدة ، ليكون العلم بإحياء الموتى حاصلاً له من طريق الاَبصار والمشاهدة ، ويكون المراد من اطمئنان قلبه عليه السلام استقراره وعدم طلبه لشيء آخر بعد المشاهدة ، مع كونه موقناً بإحياء الموتى قبل المشاهدة . أيضاً وليس المراد أنه لم يكن متيقناً قبل الاِرائة ، فلم يكن مطمئناً ليلزم تحقق الاِيمان مع الظن فقط .
وأيضاً إنما طلب عليه السلام كيفية الاِحياء ، فخوطب بالاِستفهام التقريري على الاِيمان بالكيف الذي هو نفس الاِحياء ، لاَن التصديق به مقدم على التصديق بالكيفية فأجاب عليه السلام بلى آمنت بقدرة الله تعالى على الاِحياء ، لكني أريد الاِطلاع على كيفية الاِحياء ، ليطمئن قلبي بمعرفة تلك الكيفية الغريبة ، البديعة ، ولا ريب أن الجهل بمعرفة تلك الكيفية لا يضر بالاِيمان ، ولا يتوقف على معرفتها . وأما سؤال الله سبحانه عن ذلك مع كونه عالماً بالسرائر ، فهو من قبيل خطاب المحب لحبيبه .
إن قلت : فما الجواب أيضاً عن قوله تعالى : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ، فإنه يفهم من الآية الكريمة وصف الكافر المشرك بالاِيمان حال شركه ، إذ الجملة الاِسمية حالية ، فضلاً عن الاِكتفاء بالظن وما في حكمه في الاِيمان ، وهو ينافي اعتبار اليقين .
قلت : لا ، فإن الآية الكريمة إنما دلت على إخباره تعالى عنهم بالاِيمان بالصانع والتصديق بوجوده ، لكنهم لم يوحدوه في حالة تصديقهم به ، بل اعتقدوا له شريكاً
( 190 )
تعالى الله عما يشركون . وحينئذ فيجوز كونهم جازمين بوجود الصانع تعالى مع كونهم غير موحدين ، فإن التوحيد مطلب آخر ، فكفرهم كان كذلك ، فلم يتحقق لهم الاِيمان الشرعي بل الاِيمان جزء منه ، وهو غير كاف .
على أنه يجوز أن يكون المراد من الاِيمان المنسوب إليهم في الآية الكريمة التصديق اللغوي ، وقد بينا سابقاً أنه أعم من الشرعي ، وليس النزاع فيه بل في الشرعي . ويكون المعنى والله أعلم : وما يؤمن أكثرهم بلسانه إلا وهو مشرك بقلبه ، أي حال إشراكه بقلبه ، نعوذ بالله من الضلالة . ونسأله حسن الهداية . هذا ما تيسر لنا من المقال في هذا المقام .

ـ شرح المقاصد للتفتازاني ج 1 ص 266
. . . . الثالث : أنا لا نسلم أن المعرفة الكاملة لا تحصل إلا بالنظر ، بل قد تحصل بالتعليم على ما يراه الملاحدة .. أو بقول المعصوم على ما يراه الشيعة . . . .

المعرفة والعمل

اشتراط كل منهما بالآخر

ـ نهج البلاغة ج 4 ص 50
وسئل عليه السلام عن الاِيمان فقال:الاِيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالاَركان.

ـ نهج البلاغة ج 2 ص 32
. . . وأنه لا ينبغي لمن عرف عظمة الله أن يتعظم ، فإن رفعة الذين يعلمون ما عظمته أن يتواضعوا له ، وسلامة الذين يعلمون ما قدرته أن يستسلموا له .

ـ الكافي ج 1 ص 44
محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن ابن
( 191 )
مسكان ، عن حسين الصيقل قال : سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول : لا يقبل الله عملاً إلا بمعرفة ولا معرفة إلا بعمل ، فمن عرف دلته المعرفة على العمل ، ومن لم يعمل فلا معرفة له . ألا إن الاِيمان بعضه من بعض .

ـ الكافي ج 2 ص 33 ـ 37
علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن بكر بن صالح ، عن القاسم بن بريد قال : حدثنا أبوعمرو الزبيري ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : قلت له : أيها العالم أخبرني أي الاَعمال أفضل عند الله ؟ قال : ما لا يقبل الله شيئاً إلا به ، قلت : وما هو ؟ قال : الاِيمان بالله الذي لا إلا هو ، أعلى الاَعمال درجة وأشرفها منزلة وأسناها حظاً ، قال : قلت ألا تخبرني عن الاِيمان أقَوْلٌ هو وعمل أم قولٌ بلا عمل ؟ فقال : الاِيمان عمل كله والقول بعض ذلك العمل ، بفرض من الله ، بين في كتابه ، واضح نوره ، ثابتة حجته ، يشهد له به الكتاب ويدعوه إليه .
قال : قلت : صفه لي جعلت فداك حتى أفهمه .
قال : الاِيمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل ، فمنه التام المنتهى تمامه ومنه الناقص البين نقصانه ومنه الراجح الزائد رجحانه .
قلت : إن الاِيمان ليتم وينقص ويزيد ؟
قال : نعم .
قلت : كيف ذلك ؟
قال : لاَن الله تبارك وتعالى فرض الاِيمان على جوارح ابن آدم وقسمه عليها وفرقه فيها ، فليس من جوارحه جارحة إلا وقد وكلت من الاِيمان بغير ما وكلت به أختها ، فمنها قلبه الذي به يعقل ويفقه ويفهم وهو أمير بدنه الذي لا ترد الجوارح ولا تصدر إلا عن رأيه وأمره ، ومنها عيناه اللتان يبصر بهما ، وأذناه اللتان يسمع بهما ، ويداه اللتان يبطش بهما ، ورجلاه اللتان يمشي بهما ، وفرجه الذي الباه من قبله ، ولسانه الذي ينطق به ، ورأسه الذي فيه وجهه . فليس من هذه جارحة إلا وقد وكلت من
( 192 )
الاِيمان بغير ما وكلت به أختها بفرض من الله تبارك اسمه ، ينطق به الكتاب لها ويشهد به عليها .
ففرض على القلب غير ما فرض على السمع ، وفرض على السمع غير ما فرض على العينين ، وفرض على العينين غير ما فرض على اللسان ، وفرض على اللسان غير ما فرض على اليدين ، وفرض على اليدين غير ما فرض على الرجلين ، وفرض على الرجلين غير ما فرض على الفرج ، وفرض على الفرج غير ما فرض على الوجه .
فأما ما فرض على القلب من الاِيمان فالاِقرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم بأن لا إلَه إلا الله وحده لا شريك له ، إلَهاً واحداً ، لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً ، وأن محمداً عبده ورسوله صلوات الله عليه وآله ، والاِقرار بما جاء من عند الله من نبي أو كتاب ، فذلك ما فرض الله على القلب من الاِقرار والمعرفة وهو عمله ، وهو قول الله عز وجل : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالاِيمان ، ولكن من شرح بالكفر صدراً .
وقال : ألا بذكر الله تطمئن القلوب .
وقال : الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم .
وقال : إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء .. فذلك ما فرض الله عز وجل على القلب من الاِقرار والمعرفة وهو عمله وهو رأس الاِيمان .
وفرض الله على اللسان القول التعبير عن القلب بما عقد عليه وأقر به ، قال الله تبارك وتعالى : وقولوا للناس حسناً ، وقال : قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلَهنا وإلَهكم واحد ونحن له مسلمون . فهذا ما فرض الله على اللسان ، وهو عمله .
وفرض على السمع أن يتنزه عن الاِستماع إلى ما حرم الله وأن يعرض عما لا يحل له مما نهى الله عز وجل عنه والاِصغاء إلى ما أسخط الله عز وجل ، فقال في ذلك : وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ، ثم استثنى الله عز وجل موضع النسيان فقال :
( 193 )
وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين . وقال : فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الاَلباب .
وقال عز وجل : قد أفلح المؤمنون ، الذين هم في صلاتهم خاشعون ، والذين هم عن اللغو معرضون ، والذين هم للزكاة فاعلون .
وقال : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم .
وقال : وإذا مروا باللغو مروا كراماً . فهذا ما فرض الله على السمع من الاِيمان أن لا يصغي إلى ما لا يحل له ، وهو عمله وهو من الاِيمان .
وفرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرم الله عليه ، وأن يعرض عما نهى الله عنه مما لا يحل له ، وهو عمله وهو من الاِيمان ، فقال تبارك وتعالى : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ، فنهاهم أن ينظروا إلى عوراتهم وأن ينظر المرء إلى فرج أخيه ويحفظ فرجه أن ينظر إليه . وقال : وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ، من أن تنظر إحداهن إلى فرج أختها وتحفظ فرجها من أن ينظر إليها .
وقال: كل شيء في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا، إلا هذه الآية فإنها من النظر.
ثم نظم ما فرض على القلب واللسان والسمع والبصر في آية أخرى فقال : وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ، يعني بالجلود : الفروج والاَفخاذ .
وقال : ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً . فهذا ما فرض الله على العينين من غض البصر عما حرم الله عز وجل ، وهو عملهما وهو من الاِيمان .
وفرض الله على اليدين أن لا يبطش بهما إلى ما حرم الله ، وأن يبطش بهما إلى ما أمر الله عز وجل ، وفرض عليهما من الصدقة وصلة الرحم والجهاد في سبيل الله
( 194 )
والطهور للصلاة ، فقال : يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين . وقال : فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مناً بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها . فهذا ما فرض الله على اليدين لاَن الضرب من علاجهما .
وفرض على الرجلين أن لا يمشي بهما إلى شيء من معاصي الله ، وفرض عليهما المشي إلى ما يرضي الله عز وجل فقال : ولا تمش في الاَرض مرحاً إنك لن تخرق الاَرض ولن تبلغ الجبال طولاً ، وقال : واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الاَصوات لصوت الحمير ، وقال فيما شهدت الاَيدي والاَرجل على أنفسهما وعلى أربابهما من تضييعهما لما أمر الله عز وجل به وفرضه عليهما : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون .
فهذا أيضاً ممافرض الله على اليدين وعلى الرجلين وهو عملهما وهو من الاِيمان.
وفرض على الوجه السجود له بالليل والنهار في مواقيت الصلاة فقال : يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون . فهذه فريضة جامعة على الوجه واليدين والرجلين ، وقال في موضع آخر : وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا .
وقال فيما فرض على الجوارح من الطهور والصلاة بها وذلك أن الله عز وجل لما صرف نبيه صلى الله عليه وآله إلى الكعبة عن البيت المقدس فأنزل الله عز وجل : وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم ، فسمى الصلاة إيماناً فمن لقي الله عز وجل حافظاً لجوارحه موفياً كل جارحة من جوارحه ما فرض الله عز وجل عليها لقي الله عز وجل مستكملاً لاِيمانه ، وهو من أهل الجنة . ومن خان في شيء منها أو تعدى ما أمر الله عز وجل فيها لقي الله عز وجل ناقص الاِيمان .
قلت : قد فهمت نقصان الاِيمان وتمامه ، فمن أين جاءت زيادته .
فقال : قول الله عز وجل : وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه
( 195 )
إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون . وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم . وقال : نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ، ولو كان كله واحداً لا زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لاَحد منهم فضل على الآخر ، ولاستوت النعم فيه ولاستوى الناس وبطل التفضيل . ولكن بتمام الاِيمان دخل المؤمنون الجنة وبالزيادة في الاِيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله ، وبالنقصان دخل المفرطون النار .

ـ الكافي ج 2 ص 553
عنه ، عن أبي إبراهيم عليه السلام دعاء في الرزق : يا الله يا الله يا الله ، أسألك بحق من حقه عليك عظيم أن تصلي على محمد وآل محمد ، وأن ترزقني العمل بما علمتني من معرفة حقك ، وأن تبسط على ما حظرت من رزقك .

ـ دعائم الاِسلام ج 1 ص 52
. . . ثم قال أبو عبد الله جعفر بن محمد صلى الله عليه : . . . . وإنما يقبل الله عز وجل العمل من العباد بالفرائض التي افترضها عليهم بعد معرفة من جاء بها من عنده ودعاهم إليه ، فأول ذلك معرفة من دعا إليه ، وهو الله الذي لا إله إلا هو وحده ، والاِقرار بربوبيته ، ومعرفة الرسول الذي بلغ عنه ، وقبول ما جاء به ، ثم معرفة الوصي ثم معرفة الاَئمة بعد الرسل الذين افترض الله طاعتهم في كل عصر وزمان على أهله ، والاِيمان والتصديق بأول الرسل والاَئمة وآخرهم . ثم العمل بما افترض الله عز وجل على العباد من الطاعات ظاهراً وباطناً ، واجتناب ما حرم الله عز وجل عليهم ظاهره وباطنه ، وإنما حرم الظاهر بالباطن ، والباطن بالظاهر معاً جميعاً ، والاَصل والفرع ، فباطن الحرام حرام كظاهره ، ولا يسع تحليل أحدهما ، ولا يجوز ولا يحل إباحة شيء منه ، وكذلك الطاعات مفروض على العباد إقامتها ، ظاهرها وباطنها ، لا يجزي إقامة ظاهر منها دون باطن ولا باطن دون ظاهر ، ولا تجوز صلاة الظاهر مع ترك صلاة
( 196 )
الباطن ، ولا صلاة الباطن مع ترك صلاة الظاهر . وكذلك الزكاة ، والصوم والحج والعمرة ، وجميع فرائض الله افترضها على عباده ، وحرماته وشعائره.

ـ وسائل الشيعة ج 11 ص 260
وفي عيون الاَخبار بأسانيده عن الفضل بن شاذان ، عن الرضا عليه السلام في كتابه إلى المأمون قال : الاِيمان هو أداء الاَمانة ، واجتناب جميع الكبائر ، وهو معرفة بالقلب ، وإقرار باللسان ، وعمل بالاَركان . إلى أن قال : واجتناب الكبائر وهي : قتل النفس التي حرم الله تعالى ، والزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، وأكل مال اليتيم ظلماً ، وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به من غير ضرورة ، وأكل الربا بعد البينة ، والسحت ، والميسر وهو القمار ، والبخس في المكيال والميزان ، وقذف المحصنات ، والزنا ، واللواط ، واليأس من روح الله ، والاَمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، ومعونة الظالمين ، والركون اليهم ، واليمين الغموس ، وحبس الحقوق من غير عسر ، والكذب والكبر ، والاِسراف والتبذير ، والخيانة ، والاِستخفاف بالحج ، والمحاربة لاَولياء الله ، والاِشتغال بالملاهي ، والاِصرار على الذنوب . ورواه ابن شعبة في (تحف العقول) مرسلاً نحوه .

ـ وروت مصادر إخواننا السنة اقتران المعرفة والعمل عن علي عليه السلام ، ففي كنز العمال ج 1 ص 273 عن علي قال : سألت النبي صلى الله عليه وآله عن الاِيمان ما هو ؟ قال : معرفة بالقلب ، وإقرار باللسان ، وعمل بالاَركان ــ أبو عمرو بن حمدان في فوائده .

ـ وفي سنن ابن ماجة ج 1 ص 25
حدثنا سهل بن أبي سهل ومحمد بن إسماعيل قالا ثنا عبدالسلام بن صالح أبو الصلت الهروي ، ثنا علي بن موسى الرضا ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الاِيمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالاَركان . قال أبو الصلت :

( 197 )
لو قريَ هذا الاِسناد على مجنون لبرأ . انتهى ورواه البيهقى في شعب الاِيمان ج1 ص 47 ورواه في كنز العمال ج 1 ص 273 ، بعدة روايات عن علي عليه السلام . ونحوه الجزري في أسنى المطالب ج 1 ص 125

ـ وفي مروج الذهب للمسعودي ج 4 ص 171
قال علي بن محمد بن علي بن موسى عن أبيه عن أجداده عن علي رضي الله عنه قال رسول الله ( ص ) : أكتب يا علي ، قلت وما أكتب ؟
قال لي : أكتب : بسم الله الرحمن الرحيم . الاِيمان ما وقرته القلوب ، وصدقته الاَعمال ، والاِسلام ما جرى به اللسان ، به المناكحة .

ـ وفي إرشاد الساري ج 1 ص 86 ـ 87
الاِيمان قول وفعل .. وهو موافق لقول السلف اعتقاد بالقلب ونطق اللسان . وقال المتأخرون منهم الاَشعرية ، ووافقهم ابن الراوندي من المعتزلة : هو تصديق الرسول ( ص ) بما علم مجيئه به . . . .
إذا تقرر هذا فاعلم أن الايمان ( يزيد ) بالطاعة ( وينقص ) بالمعصيه كما عند المؤلف وغيره وأخرجه أبو نعيم . . . . بل قال به من الصحابه عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب . . . . ومن التابعين كعب الاَحبار . . . . وعمر بن عبدالعزيز . . . . أما توقف مالك رحمه الله عن القول بنقصانه فخشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج .

أفضل الاَعمال بعد معرفة العقائد

ـ الكافي ج 2 ص 130 و 317
محمد بن مسلم بن عبيد الله قال سئل علي بن الحسين عليهما السلام أي الاَعمال أفضل عند الله ؟ قال : ما من عمل بعد معرفة الله عز وجل ومعرفة رسوله صلى الله عليه وآله أفضل من بغض الدنيا فإن لذلك لشعباً كثيرة ، وللمعاصي شعب فأول ما عصي الله به الكبر ، معصية إبليس حين أبى واستكبر وكان من الكافرين ، ثم الحرص وهي معصية آدم
( 198 )
وحواء عليهما السلام حين قال الله عز وجل لهما : كلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين . فأخذا ما لا حاجة بهما إليه ، فدخل ذلك على ذريتهما إلى يوم القيامة ، وذلك أن أكثر ما يطلب ابن آدم ما لا حاجة به إليه ، ثم الحسد وهي معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله ، فتشعب من ذلك حب النساء وحب الدنيا وحب الرئاسة وحب الراحة وحب الكلام وحب العلو والثروة ، فصرن سبع خصال فاجتمعن كلهن في حب الدنيا ، فقال الاَنبياء والعلماء بعد معرفة ذلك : حب الدنيا رأس كل خطيئة ، والدنيا دنياآن : دنيا بلاغ، ودنيا ملعونة . انتهى . ورواه في وسائل الشيعة ج 11 ص 308

ـ الكافي ج 3 ص 264
ــ حدثني محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن معاوية بن وهب قال : سألت أبا عبدالله عليه السلام عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى ربهم وأحب ذلك إلى الله عز وجل ما هو ؟ فقال : ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة ، ألا ترى أن العبد الصالح عيسى ابن مريم عليه السلام قال : وأوصاني بالصلاة والزكوة ما دمت حياً .انتهى.ورواه في وسائل الشيعة ج 1 ص 17 وج 11 ص 308

أقل ما يجب ، وأقصى ما يمكن ، من المعرفة

ـ الكافي ج 1 ص 91
محمد بن أبي عبدالله رفعه ، عن عبدالعزيز بن المهتدي قال : سألت الرضا عليه السلام عن التوحيد فقال : كل من قرأ قل هو الله احد وآمن بها فقد عرف التوحيد ، قلت : كيف يقرؤها ؟ قال : كما يقرؤها الناس وزاد فيه كذلك الله ربي ، كذلك الله ربي .

ـ الكافي ج 1 ص 91
أحمد بن ادريس ، عن محمد بن عبدالجبار ، عن صفوان بن يحيى ، عن أبي أيوب ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : إن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله
( 199 )
فقالوا : أنسب لنا ربك ، فلبث ثلاثاً لا يجيبهم ثم نزل : قل هو الله أحد ، إلى آخرها .
ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، ومحمد بن الحسين ، عن ابن محبوب ، عن حماد بن عمرو النصيبي ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : سألت أبا عبدالله عن قل هو الله أحد فقال : نسبة الله إلى خلقه أحداً صمداً أزلياً صمدياً لا ظل له يمسكه وهو يمسك الاَشياء بأظلتها ، عارف بالمجهول ، معروف عند كل جاهل ، فردانياً ، لا خلقه فيه ولا هو خلقه ، غير محسوس ولا محسوس ، لا تدركه الاَبصار ، علا فقرب ودنا فبعد ، وعصي فغفر وأطيع فشكر ، لا تحويه أرضه ولا تقله سماواته ، حامل الاَشياء بقدرته ديمومي أزلي لا ينسى ولا يلهو ولا يغلط ولا يلعب ، ولا لاِرادته فصل وفصله جزاء وأمره واقع ، لم يلد فيورث ولم يولد فيشارك ، ولم يكن له كفواً أحد .

ـ دعائم الاِسلام ج 1 ص 13
وعنه صلوات الله عليه أنه قيل له : يا أمير المؤمنين ما أدنى ما يكون به العبد مؤمناً ، وما أدنى ما يكون به كافراً ، وما أدنى ما يكون به ضالاً ؟
قال : أدنى ما يكون به مؤمناً أن يعرفه الله نفسه فيقر له بالطاعة ، وأن يعرفه الله نبيه صلى الله عليه وآله فيقر له بالطاعة ، وأن يعرفه الله حجته في أرضه وشاهده على خلقه فيعتقد إمامته فيقر له بالطاعة .
قيل : وإن جهل غير ذلك ؟ قال : نعم ولكن إذا أمر أطاع وإذا نهي انتهى .
وأدنى ما يصير به مشركاً أن يتدين بشيء مما نهى الله عنه فيزعم أن الله أمر به ، ثم ينصبه ديناً ويزعم أنه يعبد الذي أمر به وهو غير الله عزوجل . وأدنى ما يكون به ضالاً أن لا يعرف حجة الله في أرضه وشاهده على خلقه فيأتم به .

ـ الرسائل للشيخ الاَنصاري ج 1 ص 275
وقد ذكر العلامة في الباب الحادي عشر فيما يجب معرفته على كل مكلف ، من تفاصيل التوحيد والنبوة والاِمامة والمعاد ، أموراً لا دليل على وجوبها كذلك ، مدعياً
( 200 )
أن الجاهل بها عن نظر واستدلال خارج عن ربقة الاِيمان مستحق للعذاب الدائم . وهو في غاية الاِشكال .
نعم يمكن أن يقال : إن مقتضى عموم وجوب المعرفة ، مثل قوله تعالى : وما خلقت الجن والاِنس إلا ليعبدون ، أي ليعرفون . وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : وما أعلم بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس ، بناء على أن الاَفضلية من الواجب ، خصوصاً مثل الصلاة ، تستلزم الوجوب .
وكذا عمومات وجوب التفقه في الدين الشامل للمعارف بقرينة استشهاد الاِمام عليه السلام بها ، لوجوب النفر لمعرفة الاِمام بعد موت الاِمام السابق عليه السلام وعمومات طلب العلم هو وجوب معرفة الله جل ذكره ومعرفة النبي صلى الله عليه وآله والاِمام عليه السلام ومعرفة ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم على كل قادر يتمكن من تحصيل العلم ، فيجب الفحص حتى يحصل اليأس ، فإن حصل العلم بشيء من هذه التفاصيل اعتقد وتدين به ، وإلا توقف ولم يتدين بالظن لو حصل له .
ومن هنا قد يقال : إن الاِشتغال بالعلم المتكفل لمعرفة الله ومعرفة أوليائه صلوات الله عليهم أهم من الاِشتغال بعلم المسائل العلمية بل هو المتعين ، لاَن العمل يصح عن تقليد ، فلا يكون الاِشتغال بعلمه إلا كفائياً بخلاف المعرفة .
هذا ، ولكن الاِنصاف ممن جانب الاِعتساف يقتضي الاِذعان بعدم التمكن من ذلك إلا للاَوحدي من الناس ، لاَن المعرفة المذكورة لا تحصل إلا بعد تحصيل قوة استنباط المطالب من الاَخبار وقوة نظرية أخرى لئلا يأخذ بالاَخبار المخالفة للبراهين العقلية ، ومثل هذا الشخص مجتهد في الفروع قطعاً ، فيحرم عليه التقليد . ودعوى جوازه له للضرورة ليس بأولى من دعوى جواز ترك الاِشتغال بالمعرفة التي لا تحصل غالباً بالاَعمال المبتنية على التقليد .
هذا إذا لم يتعين عليه الاِفتاء والمرافعة لاَجل قلة المجتهدين . وأما في مثل زماننا فالاَمر واضح .

( 201 )
فلا تغتر حينئذ بمن قصر استعداده أو همته عن تحصيل مقدمات استنباط المطالب الاِعتقادية الاَصولية والعلمية عن الاَدلة العقلية والنقلية ، فيتركها مبغضاً لها لاَن الناس أعداء ما جهلوا ، ويشتغل بمعرفة صفات الرب جل ذكره وأوصاف حججه صلوات الله عليهم بنظر في الاَخبار لا يعرف به من ألفاظها الفاعل من المفعول ، فضلاً عن معرفة الخاص من العام . وبنظر في المطالب العقلية لا يعرف به البديهيات منها ، ويشتغل في خلال ذلك بالتشنيع على حملة الشريعة العملية واستهزائهم بقصور الفهم وسوء النية ، فيسأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون . هذا كله حال وجوب المعرفة مستقلاً .
وأما اعتبار ذلك في الاِسلام أو الاِيمان فلا دليل عليه ، بل يدل على خلافه الاَخبار الكثيرة المفسرة لمعنى الاِسلام والاِيمان .
ففي رواية محمد بن سالم عن أبي جعفر عليه السلام المروية في الكافي : إن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمكة عشر سنين ، ولم يمت بمكة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا إلَه إلا الله وأن محمداً رسول الله ، إلا أدخله الله الجنة بإقراره وهو إيمان التصديق .
فإن الظاهر أن حقيقة الاِيمان التي يخرج الاِنسان بها عن حد الكفر الموجب للخلود في النار لم تتغير بعد انتشار الشريعة . نعم ظهر في الشريعة أمور صارت ضرورية الثبوت من النبي صلى الله عليه وسلم ، فيعتبر في الاِسلام عدم إنكارها .
لكن هذا لا يوجب التغيير ، فإن المقصود أنه لم يعتبر في الاِيمان أزيد من التوحيد والتصديق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبكونه رسولاً صادقاً فيما يبلغ . وليس المراد معرفة تفاصيل ذلك ، وإلا لم يكن من آمن بمكة من أهل الجنة أو كان حقيقة الاِيمان بعد انتشار الشريعة غيرها في صدر الاِسلام .
وفي رواية سليم بن قيس عن أمير المؤمنين عليه السلام : إن أدنى ما يكون به العبد مؤمناً
( 202 )
أن يعرفه الله تبارك وتعالى إياه فيقر له بالطاعة ، ويعرفه نبيه فيقر له بالطاعة ، ويعرفه إمامه وحجته في أرضه وشاهده على خلقه فيقر له بالطاعة .
فقلت له : يا أمير المؤمنين ! وإن جهل جميع الاَشياء إلا ما وصفت قال : نعم . وهي صريحة في المدعى .
وفي رواية أبي بصير عن أبي عبدالله عليه السلام قال : جعلت فداك ، أخبرني عن الدين الذي افترضه الله تعالى على العباد ما لا يسعهم جهله ولا يقبل منهم غيره ، ما هو ؟ فقال : أعده علي ، فأعاد عليه ، فقال : شهادة أن لا إلَه إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً ، وصوم شهر رمضان ، ثم سكت قليلاً ، ثم قال : والولاية والولاية ، مرتين ثم قال : هذا الذي فرض الله عز وجل على العباد ، لا يسأل الرب العباد يوم القيامة ، فيقول : ألا زدتني على ما افترضت عليك ، ولكن من زاد زاده الله . إن رسول الله صلى الله عليه وآله سن سنة حسنة ينبغي للناس الاَخذ بها .
ونحوها رواية عيسى بن السري ، قلت لاَبي عبد الله عليه السلام : حدثني عما بنيت عليه دعائم الاِسلام التي إذا أخذت بها زكى عملي . . . .
وفي رواية أبي اليسع قال قلت لاَبي عبد الله عليه السلام أخبرني عن دعائم الاِسلام التي لا يسع أحداً التقصير عن معرفة شيء منها . . . . ( وقد أوردنا الروايتين في بحث معرفة الاِمام )
وفي رواية إسماعيل : قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن الدين الذي لا يسع العباد جهله فقال : الدين واسع ، وإن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهلهم .
فقلت : جعلت فداك أما أحدثك بديني الذي أنا عليه . فقال : بلى . قلت : أشهد أن لا إلَه إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، والاِقرار بما جاء به من عند الله ، وأتولاكم وأبرأ من عدوكم ومن ركب رقابكم وتأمر عليكم وظلمكم حقكم . فقال : ما جهلت شيئاً . فقال : هو والله الذي نحن عليه . فقلت : فهل يسلم أحد لا يعرف هذا الاَمر .
( 203 )
قال : لا إلا المستضعفين . قلت : من هم قال : نساؤكم وأولادكم . قال : أرأيت أم أيمن! فإني أشهد أنها من أهل الجنة ، وما كانت تعرف ما أنتم عليه .
فإن في قوله ( ما جهلت شيئاً ) دلالة واضحة على عدم اعتبار الزائد في أصل الدين . والمستفاد من الاَخبار المصرحة بعدم اعتبار معرفة أزيد مما ذكر فيها في الدين ، وهو الظاهر أيضاً من جماعة من علمائنا الاَخيار كالشهيدين في الاَلفية وشرحها ، والمحقق الثاني في الجعفرية ، وشارحها وغيرهم ، وهو أنه يكفي في معرفة الرب التصديق بكونه موجوداً وواجب الوجود لذاته والتصديق بصفاته الثبوتية الراجعة إلى صفتي العلم والقدرة ونفي الصفات الراجعة إلى الحاجة والحدوث ، وأنه لا يصدر منه القبيح فعلاً أو تركاً .
والمراد بمعرفة هذه الاَمور ركوزها في اعتقاد المكلف ، بحيث إذا سألته عن شيء مما ذكر أجاب بما هو الحق فيه ، وإن لم يعرف التعبير عنه بالعبارات المتعارفة على ألسنة الخواص .
ويكفي في معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم معرفة شخصه بالنسب المعروف المختص به ، والتصديق بنبوته وصدقه ، فلا يعتبر في ذلك الاِعتقاد بعصمته ، أعني كونه معصوماً بالملكة من أول عمره إلى آخره . قال في المقاصد العلية : ويمكن اعتبار ذلك ، لاَن الغرض المقصود من الرسالة لا يتم إلا به ، فينتفي بالفائدة التي باعتبارها وجب إرسال الرسل . وهو ظاهر بعض كتب العقائد المصدرة بأن من جهل ما ذكروه فيها فليس مؤمناً مع ذكرهم ذلك ، والاَول غير بعيد عن الصواب . انتهى .
أقول : والظاهر أن مراده ببعض كتب العقائد هو الباب الحادي عشر للعلامة قدس سره حيث ذكر تلك العبارة ، بل ظاهره دعوى إجماع العلماء عليه .
نعم يمكن أن يقال : إن معرفة ما عدا النبوة واجبة بالاِستقلال على من هو متمكن منه بحسب الاِستعداد وعدم الموانع ، لما ذكرنا من عمومات وجوب التفقه وكون المعرفة أفضل من الصلوات الواجبة ، وأن الجهل بمراتب سفراء الله جل ذكره مع
( 204 )
تيسر العلم بها تقصير في حقهم وتفريط في حبهم ونقص يجب بحكم العقل رفعه ، بل من أعظم النقائص .
وقد أومأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك حيث قال مشيراً إلى بعض العلوم الخارجة من العلوم الشرعية : إن ذلك علم لا يضر جهله . ثم قال : إنما العلوم ثلاثة ، آية محكمة وفريضة عادلة وسنة قائمة ، وما سواهن فهو فضل .
وقد أشار إلى ذلك رئيس المحدثين في ديباجة الكافي ، حيث قسم الناس إلى أهل الصحة والسلامة وأهل المرض والزمانة ، وذكر وضع التكليف عن الفرقة الاَخيرة .
ويكفي في معرفة الاَئمة صلوات الله عليهم ، معرفتهم بنسبهم المعروف والتصديق بأنهم أئمة يهدون بالحق ويجب الاِنقياد إليهم والاَخذ منهم . وفي وجوب الزائد على ما ذكر من عصمتهم الوجهان . وقد ورد في بعض الاَخبار تفسير معرفة حق الاِمام بمعرفة كونه إماماً مفترض الطاعة .
ويكفي في التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم التصديق بما علم مجيؤه به متواتراً من أحوال المبدأ والمعاد ، كالتكليف بالعبادات والسؤال في القبر وعذابه والمعاد الجسماني والحساب والصراط والميزان والجنة والنار إجمالاً ، مع تأمل في اعتبار معرفة ما عدا المعاد الجسماني من تلك الاَمور في الاِيمان المقابل للكفر الموجب للخلود في النار ، للاَخبار المتقدمة المستفيضة والسيرة المستمرة ، فإنا نعلم بالوجدان جهل كثير من الناس بها من أول البعثة إلى يومنا هذا . ويمكن أن يقال : إن المعتبر هو عدم إنكار هذه الاَمور وغيرها من الضروريات ، لا وجوب الاِعتقاد بها ، على ما يظهر من بعض الاَخبار ، من أن الشاك إذا لم يكن جاحداً فليس بكافر . ففي رواية زرارة عن أبي عبدالله عليه السلام : لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا . ونحوها غيرها . ويؤيدها ما عن كتاب الغيبة للشيخ قدس سره بإسناده عن الصادق عليه السلام : إن
( 205 )
جماعة يقال لهم الحقية ، وهم الذين يقسمون بحق علي ولا يعرفون حقه وفضله ، وهم يدخلون الجنة .
وبالجملة ، فالقول بأنه يكفي في الاِيمان الاِعتقاد بوجود الواجب الجامع للكمالات المنزه عن النقائص وبنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبإمامة الاَئمة عليهم السلام والبراءة من أعدائهم ، والاِعتقاد بالمعاد الجسماني الذي لا ينفك غالباً عن الاِعتقادات السابقة غير بعيد ، بالنظر إلى الاَخبار والسيرة المستمرة .
وأما التدين بسائر الضروريات ففي اشتراطه ، أو كفاية عدم إنكارها ، أو عدم اشتراطه أيضاً ، فلا يضر إنكارها إلا مع العلم بكونها من الدين وجوه ، أقواها الاَخير ثم الاَوسط . وما استقربناه في ما يعتبر في الاِيمان وجدته بعد ذلك في كلام محكي عن المحقق الورع الاَردبيلي في شرح الاِرشاد .

ـ كفاية الاَصول ص 329
نعم يجب تحصيل العلم في بعض الاِعتقادات لو أمكن ، من باب وجوب المعرفة لنفسها كمعرفة الواجب تعالى وصفاته ، أداء لشكر بعض نعمائه ، ومعرفة أنبيائه فإنهم وسائط نعمه وآلائه ، بل وكذا معرفة الاِمام عليه السلام على وجه صحيح ، فالعقل يستقل بوجوب معرفة النبي ووصيه لذلك ، ولاحتمال الضرر في تركه .
ولا يجب عقلاً معرفة غير ما ذكر ، إلا ما وجب شرعاً معرفته كمعرفة الاِمام عليه السلام على وجه آخر غير صحيح ، أو أمر آخر مما دل الشرع على وجوب معرفته ، وما لا دلالة على وجوب معرفته بالخصوص ، لا من العقل ولا من النقل ، كان أصالة البراءة من وجوب معرفته محكمة . ولا دلالة لمثل قوله تعالى : وما خلقت الجن والاِنس .. الآية ، ولا لقوله صلى الله عليه وآله : وما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس . ولا لما دل على وجوب التفقه وطلب العلم من الآيات والروايات على وجوب معرفته بالعموم ، ضرورة أن المراد من ( ليعبدون ) هو خصوص عبادة الله ومعرفته ، والنبوي إنما هو بصدد بيان فضيلة الصلوات لا بيان حكم المعرفة ، فلا إطلاق فيه
( 206 )
أصلاً . ومثل آية النفر ، إنما هو بصدد بيان الطريق المتوسل به إلى التفقه الواجب ، لا بيان ما يجب فقهه ومعرفته ، كما لا يخفى . وكذا ما دل على وجوب طلب العلم إنما هو بصدد الحث على طلبه لا بصدد بيان ما يجب العلم به .
ثم إنه لا يجوز الاِكتفاء بالظن فيما يجب معرفته عقلاً أو شرعاً حيث أنه ليس بمعرفة قطعاً ، فلا بد من تحصيل العلم لو أمكن ، ومع العجز عنه كان معذوراً إن كان عن قصور لغفلة أو لغموضة المطلب مع قلة الاِستعداد ، كما هو المشاهد في كثير من النساء بل الرجال ، بخلاف ما إذا كان عن تقصير في الاِجتهاد ، ولو لاَجل حب طريقة الآباء والاَجداد واتباع سيرة السلف ، فإنه كالجبلي للخلف ، وقلما عنه تخلف . ولا يصغى إلى ما ربما قيل: بعدم وجود القاصر فيها ، لكنه إنما يكون معذوراً غير معاقب على عدم معرفة الحق ، إذا لم يكن يعانده بل كان ينقاد له على إجماله لو احتمله .

ـ حاشية السيد البروجردي على كفاية الاَصول ج 2 ص 193
فصل . إنما الثابت بمقدمات دليل الاِنسداد في الاَحكام هو حجية الظن فيها ، لا حجيته في تطبيق المأتي به في الخارج معها ، فيتبع مثلاً في وجوب صلاة الجمعة يومها ، لا في إتيانها ، بل لا بد من علم أو علمي بإتيانها ، كما لا يخفى . نعم ربما يجري نظير مقدمة الاِنسداد في الاَحكام في بعض الموضوعات الخارجية ، من انسداد باب العلم به غالباً ، واهتمام الشارع به بحيث علم بعدم الرضا بمخالفة الواقع بإجراء الاَصول فيه مهما أمكن ، وعدم وجوب الاِحتياط شرعاً أو عدم إمكانه عقلاً ، كما في موارد الضرر المردد أمره بين الوجوب والحرمة مثلاً ، فلا محيص عن اتباع الظن حينئذ أيضاً ، فافهم .
خاتمة : يذكر فيها أمران استطراداً :
الاَول : هل الظن كما يتبع عند الاِنسداد عقلاً في الفروع العملية ، المطلوب فيها أولاً العمل بالجوارح ، يتبع في الاَصول الاِعتقادية المطلوب فيها عمل الجوانح من الاِعتقاد به وعقد القلب عليه وتحمله والاِنقياد له ، أو لا . الظاهر لا ، فإن الاَمر
( 207 )
الاِعتقادي وإن أنسد باب القطع به ، إلا أن باب الاِعتقاد إجمالاً ــ بما هو واقعه والاِنقياد له وتحمله ــ غير منسد ، بخلاف العمل بالجوارح فإنه لا يكاد يعلم مطابقته مع ما هو واقعه إلا بالاِحتياط ، والمفروض عدم وجوبه شرعاً ، أو عدم جوازه عقلاً ، ولا أقرب من العمل على وفق الظن . وبالجملة : لا موجب مع إنسداد باب العلم في الاِعتقاديات لترتيب الاَعمال الجوانحية على الظن فيها ، مع إمكان ترتيبها على ما هو الواقع فيها ، فلا يتحمل إلا لما هو الواقع ، ولا ينقاد إلا له ، لا لما هو مظنونه ، وهذا بخلاف العلميات ، فإنه لا محيص عن العمل بالظن فيها مع مقدمات الاِنسداد .
نعم يجب تحصيل العلم في بعض الاِعتقادات لو أمكن ، من باب وجوب المعرفة لنفسها ، كمعرفة الواجب تعالى وصفاته أداء لشكر بعض نعمائه ، ومعرفة أنبيائه ، فإنهم وسائط نعمه وآلائه ، بل وكذا معرفة الاِمام عليه السلام على وجه صحيح ، فالعقل يستقل بوجوب معرفة النبي ووصيه لذلك ، ولاِحتمال الضرر في تركه ، ولا يجب عقلاً معرفة غير ما ذكر ، إلا ما وجب شرعاً معرفته ، كمعرفة الاِمام عليه السلام على وجه آخر غير صحيح ، أو أمر آخر مما دل الشرع على وجوب معرفته ، وما لا دلالة على وجوب معرفته بالخصوص ، لا من العقل ولا من النقل ، كان أصالة البراءة من وجوب معرفته محكمة .
ولا دلالة لمثل قوله تعالى : وما خلقت الجن والاِنس .. الآية ، ولا لقوله صلى الله عليه وآله : وما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس ، ولا لما دل على وجوب التفقه وطلب العلم من الآيات والروايات على وجوب معرفته بالعموم ، ضرورة أن المراد من ( ليعبدون ) هو خصوص عبادة الله ومعرفته ، والنبوي إنما هو بصدد بيان فضيلة الصلوات لا بيان حكم المعرفة ، فلا إطلاق فيه أصلاً ، ومثل آية النفر إنما هو بصدد بيان الطريق المتوسل به إلى التفقه الواجب ، لا بيان ما يجب فقهه ومعرفته كما لا يخفى ، وكذا ما دل على وجوب طلب العلم إنما هو بصدد الحث على طلبه ، لا بصدد بيان ما يجب العلم به .

( 208 )
ثم إنه لا يجوز الاِكتفاء بالظن فيما يجب معرفته عقلاً أو شرعاً ، حيث أنه ليس بمعرفة قطعاً ، فلا بد من تحصيل العلم لو أمكن ، ومع العجز عنه كان معذوراً إن كان عن قصور لغفلة أو لغموضة المطلب مع قلة الاِستعداد ، كما هو المشاهد في كثير من النساء بل الرجال ، بخلاف ما إذا كان عن تقصير في الاِجتهاد ، ولو لاَجل حب طريقة الآباء والاَجداد واتباع سيرة السلف ، فإنه كالجبلي ، وقلما عنه تخلف .
والمراد من المجاهدة في قوله تعالى : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ، هو المجاهدة مع النفس ، بتخليتها عن الرذائل وتحليتها بالفضائل ، وهي التي كانت أكبر من الجهاد ، لا النظر والاِجتهاد ، وإلا لاَدى إلى الهداية ، مع أنه يؤدي إلى الجهالة والضلالة ، إلا إذا كانت هناك منه تعالى عناية ، فإنه غالباً بصدد إثبات أن ما وجد آباءه عليه هو الحق ، لا بصدد الحق ، فيكون مقصراً مع اجتهاده ومؤاخذ إذا أخطأ على قطعه واعتقاده .
ثم لا استقلال للعقل بوجوب تحصيل الظن مع اليأس عن تحصيل العلم ، فيما يجب تحصيله عقلا لو أمكن ، لو لم نقل باستقلاله بعدم وجوبه بل بعدم جوازه ، لما أشرنا إليه من أن الاَمور الاِعتقادية مع عدم القطع بها أمكن الاِعتقاد بما هو واقعها والاِنقياد لها ، فلا إلجاء فيها أصلاً إلى التنزل إلى الظن فيما انسد فيه باب العلم ، بخلاف الفروع العملية كما لا يخفى .
وكذلك لا دلالة من النقل على وجوبه فيما يجب معرفته مع الاِمكان شرعاً ، بل الاَدلة الدالة على النهي عن اتباع الظن ، دليل على عدم جوازه أيضاً .
وقد انقدح من مطاوي ما ذكرنا أن القاصر يكون في الاِعتقاديات للغفلة ، أو عدم الاِستعداد للاِجتهاد فيها ، لعدم وضوح الاَمر فيها بمثابة لا يكون الجهل بها إلا عن نقص ٍ كما لا يخفى ، فيكون معذوراً عقلاً .
ولا يصغى إلى ما ربما قيل بعدم وجود القاصر فيها ، لكنه إنما يكون معذوراً غير معاقب على عدم معرفة الحق ، إذا لم يكن يعانده ، بل كان ينقاد له على إجماله لو احتمله .

( 209 )
ـ حقائق الاَصول ج 2 ص 211
قوله : فإن الاَمر الاِعتقادي ، يعني أن العمل على الظن في الاَصول الاِعتقادية يتوقف على تتميم مقدمات الاِنسداد فيها وهو غير ممكن إذ منها عدم إمكان الاِحتياط الموجب للدوران بين الاَخذ بالطرف المظنون والموهوم ، وبقاعدة قبح ترجيح المرجوح يتعين الاَول ، وفي المقام لا مجال للدوران المذكور لاِمكان الاِعتقاد بها إجمالاً على ما هي عليه واقعاً ، إلا أن يدعى وجوب الاِعتقاد بها تفصيلاً حتى في حال الجهل ، فإنه حيث لا يمكن العلم بها لابد من سلوك الظن لاَنه أقرب إلى الواقع ، لكن لابد من الاِلتزام بالكشف إذ لو لم تكشف المقدمات عن كون الظن حجة شرعاً كان الاِعتقاد المطابق له تشريعاً محرماً عقلاً ، فتأمل جيداً .
إلا أن دعوى وجوب الاِعتقاد تفصيلاً مطلقاً لا دليل عليها من عقل أو شرع فلاحظ .
قوله : كمعرفة الواجب تعالى ، لا ريب ظاهراً في وجوب هذه المعارف وإنما الخلاف في وجوبها عقلاً أو شرعاً ، فالمحكي عن العدلية الاَول ، وعن الاَشاعرة الثاني ، والخلاف في ذلك منهم مبني على الخلاف في ثبوت قاعدة التحسين والتقبيح العقليين ، فعلى القول بها ــ كما هو مذهب الاَولين ــ تكون واجبة عقلاً لاَن شكر المنعم ودفع الخوف عن النفس واجبان وهما يتوقفان على المعرفة وما يتوقف عليه الواجب واجب ، وظاهر تقرير هذا الدليل كون وجوب المعرفة غيري ، والمصنف رحمه الله جعل وجوبها نفسياً بناء منه على كون المعرفة بنفسها شكراً ، فإذا كان الشكر واجباً عقلاً لكونه حسناً بنفسه كانت المعرفة بنفسها واجبة لا أنها مقدمة لواجب ، ولذا قال في تعليل وجوبها : أداء لشكر بعض . . . . الخ .
نعم لو كان الشكر واجباً من باب وجوب دفع الضرر كان وجوبه غيرياً فيكون وجوب المعرفة حينئذ غيرياً ، بل لو قلنا حينئذ بأن وجوب دفع الضرر ليس عقلياً بل فطرياً كان وجوبها فطرياً غيرياً لا عقلياً لا نفسياً ولا غيرياً .

( 210 )
والاِنصاف يقتضي التأمل في وجوب الشكر لنفسه وإن كان حسناً لاَن حسنه لا يلازم وجوبه ، نعم هو واجب من باب وجوب دفع الضرر المحتمل ، فيكون وجوب المعرفة غيرياً لا نفسياً . وأما كونه عقلياً أو فطرياً فقد عرفت فيما سبق تحقيقه . فلاحظ .
ثم إنه قد يتوهم كون وجوب المعرفة غيرياً من جهة توقف الاِعتقاد عليها ، لكنه إنما يتم لو كان الاِعتقاد واجباً تفصيلاً مطلقاً غير مشروط بالمعرفة مع توقفه على المعرفة ، وقد عرفت الاِشكال في الاَول ، كما يمكن منع الثاني لاِمكان تحقق الاِعتقاد بلا معرفة غاية الاَمر أنه تشريع محرم عقلاً لكن تحريمه كذلك لا يقتضي وجوب المعرفة . نعم لو كان الواجب عقلاً هو الاِعتقاد عن معرفة كانت واجبة لغيرها لكنه أول الكلام .
قوله : فإنهم وسائط ، يعني فتكون معرفتهم أداء للشكر الواجب وكذا معرفة الاِمام عليه السلام على وجه صحيح ( هامش : وهو كون الاِمامة كالنبوة منصباً إلَهياً يحتاج إلى تعيينه تعالى ونصبه لا أنها من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين وهو الوجه الآخر منه قدس سره ) فالعقل يستقل بوجوب معرفة النبي ووصيه لذلك ولاِحتمال الضرر في تركه ولا يجب عقلاً معرفة غير ما ذكر إلا ما وجب شرعاً معرفته ــ كمعرفة الاِمام عليه السلام ــ على وجه آخر غير صحيح أو أمر آخر مما دل الشرع على وجوب معرفته وما لا دلالة على وجوب معرفته بالخصوص لا من العقل ولا من النقل كان أصالة البراءة من وجوب معرفته محكمة ولا دلالة لمثل قوله تعالى : وما خلقت الجن والاِنس ، الآية ولا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : وما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس ، ولا لما دل على وجوب التفقه وطلب العلم من الآيات والروايات على وجوب معرفته بالعموم أن المراد من : ليعبدون ، هو خصوص عبادة الله ومعرفته والنبوي إنما هو بصدد بيان فضيلة الصلوات لا بيان حكم المعرفة فتجب .
قوله : وكذا معرفة الاِمام عليه السلام ، يعني واجبة لنفسها لاَن الاِمامة كالنبوة من المناصب
( 211 )
الاِلَهية فيكون الاِمام عليه السلام من وسائط النعم فتجب معرفته كمعرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا هو الوجه الصحيح . . . .

ـ نهاية الاَفكار ج 2 ص 188
أما المقام الاَول ، فلا ينبغي الاِشكال في وجوب تحصيل معرفة الواجب تعالى ومعرفة ما يرجع إليه من صفات الجمال والجلال ، ككونه واحداً قادراً عالماً مريداً حياً غنياً لم يكن له نظير ولا شبيه ، ولم يكن بجسم ولا مرئي ولا له حيز ونحو ذلك .. كما لا إشكال أيضاً في كون الوجوب المزبور نفسياً ، لاَن المعرفة بالمبدأ سبحانه هي الغاية القصوى والغرض الاَصلي من خلق العباد وبعث الرسل كما ينبيء عنه قوله سبحانه : وما خلقت الجن والاِنس إلا ليعبدون ، حيث أن حقيقة العبودية هي المعرفة ولا ينافي ذلك مقدميتها لواجب آخر عقلي أو شرعي كالتدين والاِنقياد ونحوه . ثم إن عمدة الدليل على وجوب المعرفة إنما هو حكم العقل الفطري واستقلاله بوجوب تحصيل المعرفة بالمبدأ تعالى على كل مكلف بمناط شكر المنعم باعتبار كونها من مراتب أداء شكره فيجب بحكم العقل تحصيل المعرفة به سبحانه ، وبما يرجع إليه من صفات الجمال والجلال ، بل ويجب أيضاً معرفة أنبيائه ورسله وحججه الذين هم وسائط نعمه وفيضه .
وإلا فمع الاِغماض عن هذا الحكم العقلي الفطري لا تجدي الاَدلة السمعية كتاباً وسنة من نحو قوله سبحانه : ما خلقت الجن والاِنس إلا ليعبدون ، لعدم تمامية مثل هذه الاِستدلالات للجاهل بهما لا إلزاماً ولا إقناعاً ، لاَن دليليتهما فرع الاِعتقاد بهما وبكلامهما ، وحينئذ فالعمدة في الدليل على الوجوب هو حكم العقل الفطري .
نعم بعد تحصيل المعرفة بالمبدأ ووسائط نعمه بحكم العقل ، لا بأس بالاستدلال بالكتاب والسنة لاِثبات وجوب المعرفة لما عداهما في فرض تمامية إطلاق تلك الاَدلة من حيث متعلق المعرفة ، وإلا فبناء على عدم إطلاقها من هذه الجهة فلا مجال للتمسك بها أيضاً .

( 212 )
ثم إنه مما ذكرنا ظهر الحال في المقام الثاني حيث أنه بعد ما وجب تحصيل المعرفة بالواجب تعالى وبوسائط نعمه يجب بحكم العقل الاِعتقاد وعقد القلب والاِنقياد له سبحانه لكون مثله أيضاً من مراتب أداء شكره الواجب عليه . بل الظاهر أن وجوب ذلك أيضاً كوجوب أصل المعرفة مطلق غير مشروط بحصول العلم من الخارج ، فيجب عليه حينئذ تحصيل العلم مقدمة للاِنقياد الواجب .
هذا كله بالنسبة إلى أصل وجوب المعرفة ، وأما المقدار الواجب منها فإنما هو المعرفة بالمبدأ جل شأنه وبوحدانيته وبما يرجع إليه من صفات الجمال والجلال ، وكذا معرفة أنبيائه ورسله وحججه الذين هم وسائط نعمه وفيضه ، وكذلك الحشر والنشر ولو بنحو الاِجمال .
وأما ما عدا ذلك كتفاصيل التوحيد وكيفية علمه وإرادته سبحانه ، وتفاصيل المحشر وخصوصياته ، وأن الميزان والصراط بأي كيفية ، ونحو ذلك فلا يجب تحصيل العلم ولا الاِعتقاد بها بتلك الخصوصيات .
نعم في فرض حصول العلم بها من الخارج يجب الاِعتقاد وعقد القلب بها . فوجوب الاِعتقاد بخصوصيات الاَمور المزبورة إنما كان مشروطاً بحصول العلم بها من باب الاِتفاق ، لا أن وجوبها مطلق حتى يجب تحصيل العلم بها من باب المقدمة. نعم الواجب على المكلف هو الاِعتقاد الاِجمالي بما هو الواقع ونفس الاَمر فيعتقد وينقاد بتلك الاَمور على ما هي عليها في الواقع ونفس الاَمر .
ومن هذا البيان ظهر الحال في المقام الثالث أيضاً ، فإن مقتضى الاَصل فيما عدا المقدار المزبور هو عدم وجوب تحصيل المعرفة زائداً على المقدار الذي يستقل العقل بوجوب تحصيله ، إلا ما ثبت من الخارج وجوب الاِعتقاد به من ضرورة ونحوه كالمعاد الجسماني .
وأما الاِستدلال على وجوب المعرفة بتفاصيل الاَمور المزبورة بما ورد من الاَدلة النقلية كتاباً وسنة كقوله سبحانه : وما خلقت الجن والاِنس إلا ليعبدون ، وعموم آية
( 213 )
النفر وقوله عليه السلام : لا أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من الصلوات الخمس ، وقوله : طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ، فيدفعه مضافاً إلى قضاء العادة بامتناع حصول المعرفة بما ذكر إلا للاوحدي من الناس ، أنه لا إطلاق لها من حيث متعلق المعرفة لاَنها بين ما كان في مقام بيان فضيلة الصلاة والحث والترغيب إليها لا في مقام بيان حكم المعرفة ، وبين ما كان بصدد إثبات أصل وجوب المعرفة بالمبدأ ورسله وحججه لا في مقام وجوبها على الاِطلاق ، حتى بالنسبة إلى التفاصيل المزبورة . وعليه فعند الشك لابد من الرجوع إلى الاَصل المقتضى لعدم وجوبها .
نعم حيث قلنا بعدم وجوب تحصيل المعرفة في الزائد عن المقدار المعلوم فليس له إنكاره والجحد به ، إذ لا يستلزم عدم وجوب المعرفة بشيء جواز إنكاره ، بل ربما يكون إنكاره حراماً عليه ، بل موجباً لكفره إذا كان من الضروريات ، لما يظهر منهم من التسالم على كفر منكر ضروري الدين كالمعراج والمعاد الجسماني ونحوهما . فلا بد لمثل هذا الشخص حينئذ من الاِعتقاد إجمالاً بما هو الواقع .

شرح المواقف للجرجاني ج 8 ص 105
. . . والجواب منع التكليف بكمال معرفته إذ هو أي التكليف بقدر وسعنا فنحن مكلفون بأن نعرف من صفاته ما يتوقف تصديق النبي عليه السلام على العلم به لا بمعرفة صفات أخرى . أو بأن نقول سلمنا تكليفنا بكمال معرفته لكن لا يلزم من التكليف به حصوله من جميع المكلفين بل ربما يعرفه معرفة كاملة بعض منهم كالاَنبياء والكاملين من أتباعهم . . . .
فإن قلت : مرادهم أنا مكلفون بكمال معرفة ممكنة ، وقد لا يسلمون كون معرفته تعالى بالكنه ممكنة .
قلت : لو سلم فلعل له تعالى صفة لا يمكن لنا معرفتها أيضاً فلا يتجه لهم بما ذكروه نفي صفة غير السمع بالكلية فتأمل .
قوله فنحن مكلفون إلى آخره .. هذا مترتب على منة التكليف بكمال المعرفة ثم
( 214 )
الترتب باعتبار الاَخبار نظيره الفاء في قوله تعالى : وما بكم من نعمة فمن الله ، أي إذا كان التكليف بكمال المعرفة ممنوعاً فأخبركم أنا مكلفون بكذا لا بكذا ، وحينئذ لا يرد أن مثل السمع والبصر والكلام داخل تحت الوسع ، فيقتضي قوله إذ هو بقدر وسعنا أن نكون مكلفين بمعرفته أيضاً مع أن التفريع يقتضي عدم التكليف بها ، إذ لا يتوقف تصديق النبي عليه السلام على شيء منها ، فتدبر .

المعرفة لا تتوقف على علم الكلام

ـ مستدرك الوسائل ج 1 ص 161
فقه الرضا عليه السلام : إياك والخصومة فإنها تورث الشك وتحبط العمل ، وتردي صاحبها ، وعسى أن يتكلم بشيء لا يغفر له .
ونروي : إنه كان فيما مضى قوم انتهى بهم الكلام إلى الله عز وجل فتحيروا ، فإن كان الرجل ليدعى من بين يديه فيجيب من خلفه .
وأروي : تكلموا فيما دون العرش ، فإن قوماً تكلموا في الله عز وجل فتاهوا .
وأروي عن العالم : وسألته عن شيء من الصفات فقال : لا تتجاوز ما في القرآن .
وأروي : إنه قريَ بين يدي العالم عليه السلام قوله : لا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار ، فقال : إنما عنى أبصار القلوب وهي الاَوهام ، فقال : لا تدرك الاَوهام كيفيته ، وهو يدرك كل وهم ، وأما عيون البشر فلا تلحقه ، لاَنه لا يحل فلا يوصف . هذا ما نحن عليه كلنا .

ـ رسائل الشهيد الثاني ج 2 ص 174
التوحيد على ثلاثة أقسام : الاَول : توحيد الذات ونفي الشريك في واجب الوجود .
الثاني : بحسب الصفات هو نفي الصفة الموجودة القائمة بذاته تعالى .
الثالث : توحيده تعالى بحسب العبودية وتخصيص العبادة له جل جلاله .

( 215 )
والعمدة في الاِستدلال على الاَول قوله تعالى : قل لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا . والدليل على الثاني والثالث قوله تعالى : ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ، وقول مولانا أمير المؤمنين عليه السلام : إن أول الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الاِخلاص له ، وكمال الاِخلاص له نفي الصفات عنه ، بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزأه ، ومن جزأه فقد جهله . صدق ولي الله عليه السلام . وروى محمد بن أبي عمير عن الكاظم عليه السلام حين سأله عن التوحيد ؟ فقال : يا أبا أحمد لا تجاوز في التوحيد عما ذكره الله تعالى في كتابه فتهلك .
وسائر صفاته الثبوتية مذكورة في القرآن ، مصرحة بواجب الوجود ، وهو دليل على نفي الصفات السلبية ، لاستلزامها الاِمكان المضاد للوجوب . وباقي الاَصول من النبوة والاِمامة والمعاد الجسماني مستفاد من الكتاب العزيز والسنة النبوية والاِمامية، بحيث لا مزيد عليها .
فظهر أن تحصيل الاِيمان لا يتوقف على تعلم علم الكلام ولا المنطق ، ولا غيرها من العلوم المدونة ، بل يكفي مجرد الفطرة الاِنسانية على اختلاف مراتبها، والتنبيهات الشرعية من الكتاب والسنة المتواترة أو الشائعة المشهورة ، بحيث يحصل من العلم بها العلم بالمسائل المذكورة . وكل ممكن برهان ، وكل آية حجة ، وكل حديث دليل ، وفهم المقصود استدلال ، وكل عاقل مستدل ، وإن لم يعلم الصغرى ولا الكبرى ولا التالي ولا المقدم ، بهذه العبارات والقوانين والاِصطلاحات .

ـ رسائل الشهيد الثاني ج 2 ص 176
الباب السادس ، في الكلام على تعلم علم الكلام ، واعلم أنه علم إسلامي وضعه المتكلمون لمعرفة الصانع وصفاته العليا ، وزعموا أن الطريق منحصر فيه وهو أقرب الطرق . والحق أنه أبعدها وأصعبها وأكثرها خوفاً وخطراً ، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وآله عن
( 216 )
الغور فيه ، حيث روي أنه مر على شخصين متباحثين على مسألة ، كالقضاء والقدر ، فغضب صلى الله عليه وآله حتى احمرت وجنتاه .
وروى هارون بن موسى التلعكبري أستاد شيخنا المفيد قدس سرهما عن عبدالله ابن سنان قال : أردت الدخول على أبي عبدالله عليه السلام فقال لي مؤمن الطاق استأذن لي على أبي عبدالله عليه السلام فقلت : نعم ، فدخلت عليه فاعلمته مكانه ، فقال عليه السلام : يابن سنان لا تأذن له عليَّ ، فإن الكلام والخصومات يفسدان النية وتمحق الدين .
وعن عاصم بن حميد الحناط عن أبي عبيدة الحذاء قال قال لي أبوجعفر عليه السلام وأنا عنده : إياك وأصحاب الكلام والخصومات ومجالستهم ، فإنهم تركوا ما أمروا بعلمه وتكلفوا ما لم يؤمروا بعلمه حين تكلفوا أهل أبناء السماء . يا أبا عبيدة خالط الناس بأخلاقهم وزائلهم في أعمالهم ، يا أبا عبيدة إنا لا نعد الرجل فقيهاً عالماً حتى يعرف لحن القول ، وهو قوله تعالى : ولتعرفنهم في لحن القول .
وعن جميل بن دراج قال : سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول : متكلموا هذه الاَمة من شرار أمتي ومن هم منهم .
وعنه عليه السلام : يهلك أهل الكلام وينجو المسلمون .
وورد في موضع آخر : إن شر هذه الاَمة المتكلمون .
وروي أن يونس قال للصادق عليه السلام : جعلت فداك إني سمعت أنك تنهى عن الكلام تقول : ويل لاَصحاب الكلام . فقال عليه السلام : إنما قلت ويل لهم إن تركوا ما أقول وذهبوا إلى ما يقولون .
أقول : يمكن أن يكون هذا إشارة إلى أنهم تركوا التشبيهات كما عرفت الواردة في القرآن والآثار النبوية والاِمامية صلوات الله عليهم ، وعدلوا عنها إلى خيالاتهم الفاسدة وحكاياتهم الباردة ، المذكورة في الكتب الكلامية .
قال سيد المحققين رضي الدين علي بن طاووس قدس سره : مثل مشائخ المعتزلة في تعليمهم معرفة الصانع ، كمثل شخص أراد أن يعرف غيره النار ، فقال : يا هذا
( 217 )
معرفتها تحتاج إلى أسباب : أحدها الحجر ولا يوجد إلا طريق مكة . والثاني الحديد وصفته كذا وكذا . والثالث حراق على هذه الصفة . والرابع مكان خال عن شدة الهواء فأخذ المسكين في تحصيل هذه الاَسباب .
ولو قال له في أول الحال : إن هذا الجسم المضيَ الذي تشاهده هو النار التي تطلبها لاَراح واستراح .
فمثل هذا العالم حقيق أن يقال إنه قد أضل ، ولا يقال إنه قد هدى ، أو عدل بالخلائق ( في معرفة الخالق ) إلى تلك الطرائق الضيقة البعيدة ، وضيق عليهم سبيل الحقيقة ، كما عدل من أراد تعريف النار المعلومة بالاِضطرار إلى استخراجها من الاَخبار .
أقول : هذا حال الكلام الذي كان في أول الاِسلام ، ولا شك أنه ما كان بهذه المثابة من البحث والخصومة ، فما ظنك بهذه المباحثات والخصومات الشائعة في زماننا . وليت شعري أن هؤلاء الجماعة هل لهم دليل عقلي ونقلي على وجوبه واستحبابه ؟ أو مجرد تقليد آبائهم وأسلافهم ، وأنهم على آثارهم لمقتدون . وأنهم هل يقرون بإيمان السابقين أو ينكرونه ؟ وهل يعترفون بإيمان العوام الغافلين عنه أو لا يعترفون ؟ فإن أقروا واعترفوا فما فائدته ؟ وإلا فكيف يعاشرونهم بالرطوبات ؟ مع اعتقادهم بأن عدم المعرفة بالاَصول كفر والكافر نجس . وكيف يجوز الاِشتغال بالواجب مع استلزامه ترك ما هو أوجب ؟ فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي كانوا يوعدون .

ويكفي الدليل الاِجمالي في المعرفة

ـ الاِقتصاد للشيخ الطوسي ص 11
فإن قيل : قد ذكرتم أنه يخرج الاِنسان عن حد التقليد بعلم الجملة ، ما حد ذلك بينوه لنقف عليه ؟
قلنا : أحوال الناس تختلف في ذلك : فمنهم من يكفيه الشيء اليسير ، ومنهم من
( 218 )
يحتاج إلى أكثر منه بحسب ذكائه وفطنته وخاطره ، حتى يزيد بعضهم على بعض إلى أن يبلغ إلى حد لا يجوز له الاِقتصار على علم الجملة بل يلزمه على التفصيل لكثرة خواطره وتواتر شبهاته . وليس يمكن حصر ذلك لشيء لا يمكن الزيادة عليه ولا النقصان عنه .
فإن قيل : فعلى كل حال بينوا لذلك مثالاً على وجه التقريب .
قلنا : أما على وجه التقريب فإنا نقول : من فكر في نفسه فعلم أنه لم يكن موجوداً ثم وجد نطفة ثم صار علقة ثم مضغة ثم عظماً ثم جنيناً في بطن أمه ميتاً ثم صار حياً فبقي مدة ثم ولد صغيراً ، فتتقلب به الاَحوال من صغر إلى كبر ومن طفولة إلى رجولة ومن عدم عقل إلى عقل كامل ثم إلى الشيخوخة وإلى الهرم ثم الموت ، وغير ذلك من أحواله ، عَلِمَ أن هنا من يصرفه هذا التصريف ويفعل به هذا الفعل ، لاَنه يعجز عن فعل ذلك بنفسه ، وحال غيره من أمثاله حاله من العجز عن مثل ذلك . فعلم بذلك أنه لابد من أن يكون هناك من هو قادر على ذلك مخالف له ، لاَنه لو كان مثله لكان حكمه حكمه . ويعلم أنه لا بد أن يكون عالماً من حيث أن ذلك في غاية الحكمة والاِتساق ، مع علمه الحاصل بأن بعض ذلك لا يصدر ممن ليس بعالم ، وبهذا القدر يكون عالماً بالله تعالى على الجملة .
وهكذا إذا نظر في بذر يبذر فينبت منه أنواع الزرع والغرس ويصعد إلى منتهاه ، فمنه ما يصير شجراً عظيماً يخرج منه أنواع الفواكه والملاذ ، ومنه ما يصير زرعاً يخرج منه أنواع الاَقوات ، ومنه ما يخرج منه أنواع المشمومات الطيبة الروائح ، ومنه ما يكون خشبه في غاية الطيب كالعود الرطب وغير ذلك ، وكالمسك الذي يخرج من بعض الظباء والعنبر الذي يخرج من البحر ، فيعلم بذلك أن مصرف ذلك وصانعه قادر عالم لتأتي ذلك وإتساقه ، ولعجزه وعجز أمثاله عن ذلك ، فيعلم بذلك أنه مخالف لجميع أمثاله ، فيكون عارفاً بالله على الجملة .
وكذلك إذا نظر إلى السماء صاحية فتهب الرياح وينشأ السحاب ويصعد ولا يزال يتكاثف ويظهر فيه الرعد والبرق والصواعق ، ثم ينزل منه من المياه والبحار العظيمة
( 219 )
التي تجري منها الاَنهار العظيمة والاَودية الوسيعة ، وربما كان فيه من البرد مثل الجبال ، كل ذلك في ساعة واحدة ثم تنقشع السماء وتبدو الكواكب وتطلع الشمس أو القمر كأن ما كان لم يكن من غير تراخ ولا زمان بعيد ، فيعلم ببديهة أنه لابد أن يكون من صح ذلك منه قادراً عليه ممكن منه ، وأنه مخالف له ولاَمثاله ، فيكون عند ذلك عارفاً بالله . وأمثال ذلك كثيرة لا نطول بذكره .
فمتى عرف الاِنسان هذه الجملة وفكر فيها هذا الفكر واعتقد هذا الاِعتقاد ، فإن مضى على ذلك ولم يشعثه خاطر ولا طرقته شبهة فهو ناج متخلص .
وأكثر من أشرتم إليه يجوز أن يكون هذه صفته ، وإن بحث عن ذلك وعن علل ذلك فطرقته شبهات وخطرت له خطرات وأدخل عليه قوم ملحدون ما حيره وبلبله فحينئذ يلزمه التفتيش ولا تكفيه هذه الجملة ، ويجب عليه أن يتكلف البحث والنظر على ما سنبينه ليسلم من ذلك ويحصل له العلم على التفصيل .
ونحن نبين ذلك في الفصل الذي يلي هذا الفصل على ما وعدنا به إنشاء الله .
فإن قيل : أصحاب الجُمَل ( بضم الجيم أي أصحاب المعرفة الاِجمالية ) على ما ذكرتم لا يمكنهم أن يعرفوا صفات الله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه منها على طريق الجملة، وإذا لم يمكنهم ذلك لم يمكنهم أن يعلموا أن أفعاله كلها حكمة ولا حسن التكليف ولا النبوات ولا الشرعيات ، لاَن معرفة هذه الاَشياء لا يمكن إلا بعد معرفة الله تعالى على طريق التفصيل .
قلنا : يمكن معرفة جميع ذلك على وجه الجملة ، لاَنه إذا علم بما قدمناه من الاَفعال ووجوب كونه قادراً عالماً ، وعلم أنه لا يجوز أن يكون قادراً بقدرة محدثة لاَنها كانت تجب أن تكون من فعله ، وقد تقرر أن المحدث لابد له من محدث ، وفاعلها يجب أن يكون قادراً أولاً ، فلولا تقدم كونه قادراً قبل ذلك لما صح منه تعالى فعل القدرة ، فيعلم أنه لم يكن قادراً بقدرة محدثة ، ولاَجله علم أنه كذلك لاَمر لا اختصاص له بمقدور دون مقدور ، فيعلم أنه يجب أن يكون قادراً على جميع الاَجناس ومن كل جنس على ما لا يتناهى لفقد التخصيص .

( 220 )
وكذلك إذا علم بالمحكم من أفعاله كونه عالماً علم أن ما لاَجله علم ما علمه لا اختصاص له بمعلوم دون معلوم ، إذ المخصص هو العلم المحدث والعلم لا يقع إلا من عالم ، فلابد أن يتقدم كونه عالماً لا بعلم محدث ، وما لاَجله علم لا اختصاص له بمعلوم دون معلوم ، فيعلم أنه عالم بما لا يتناهى وبكل ما يصح أن يكون معلوماً لفقد الاِختصاص . فيعلم أنه لا يشبه الاَشياء ، لاَنه لو أشبهها لكان مثلها في كونها محدثة ، لاَن المثلين لا يكون أحدهما قديماً والآخر محدثاً . ويعلم أنه غير محتاج ، لاَن الحاجة من صفات الاَجسام ، لاَنها تكون إلى جلب المنافع ودفع المضار وهما من صفات الاَجسام ، فيعلم عند ذلك أنه غني . ويعلم أنه لا تجوز عليه الرؤية والاِدراكات ، لاَنه لا يصح أن يدرك إلا ما يكون هو أو محله في جهة ، وذلك يقتضي كونه جسماً أو حالاً في جسم ، وهكذا يقتضي حدوثه وقد علم أنه قديم . وإذا علم أنه عالم بجميع المعلومات ، وعلم كونه غنياً ، علم أن جميع أفعاله حكمة وصواب ولها وجه حسن وأن لم يعلمه مفصلاً ، لاَن القبيح لا يفعله إلا من هو جاهل بقبحه أو محتاج إليه وكلاهما منتفيان عنه ، فيقطع عند ذلك على حسن جميع أفعاله من خلق الخلق والتكليف وفعل الآلام وخلق المؤذيات من الهوام والسباع وغير ذلك .
ويعلم أيضاً عند ذلك صحة النبوات ، لاَن النبي إذا ادعى النبوة وظهر على يده علم معجز يعجز عن فعله جميع المحدثين علم أنه من فعل الله ، ولولا صدقه لما فعله ، لاَن تصديق الكذاب لا يحسن ، وقد أمن ذلك بكونه عالماً غنياً . فإذا علم صدق الاَنبياء بذلك علم صحة ما أتوا به من الشرعيات والعبادات ، لكونهم صادقين على الله ، وأنه لا يتعبد الخلق إلا بما فيه مصلحتهم .
وإذا ثبت له هذه العلوم فتشاغل بالعبادة أو بالمعيشة ولم تخطر له شبهة ولا أورد عليه ما يقدح فيما علمه ، ولا فكر هو في فروع ذلك ، لم يلزمه أكثر من ذلك . ومتى أورد عليه شبهة فإن تصورها قادحة فيما علمه يلزمه حينئذ النظر فيها حتى يحلها ليسلم له ما علمه ، وإن لم يتصورها قادحة ولا اعتقد أنها تؤثر فيما علمه لم يلزمه النظر فيها ولا التشاغل بها .

( 221 )
وهذه أحوال أكثر العوام وأصحاب المعايش والمترفين ، فإنهم ليس يكادون يلتفتون إلى شبهة تورد عليهم ولا يقبلونها ولا يتصورونها قادحة فيما اعتقدوه ، بل ربما أعرضوا عنها واستغنوا عن سماعها وإيرادها وقالوا : لا تفسدوا علينا ما علمناه . وقد شاهدت جماعة هذه صورتهم . فبان بهذه الجملة ما أشرنا إليه من أحوال أصحاب الجُمَل .

ـ رسائل الشهيد الثاني ج 2 ص 142
الثاني في بيان معنى الدليل الذي يكفي في حصول المعرفة المحققة للاِيمان عند من لا يكتفي بالتقليد في المعرفة .
إعلم أن الدليل بمعنى الدال ، وهو لغة المرشد ، وهو الناصب للدليل كالصانع ، فإنه نصب العالم ، دليلاً عليه ، والذاكر له كالعالم ، فإنه دال بمعنى أنه يذكرون العالم دليلاً على الصانع ، ويقال لما به الاِرشاد كالعالم ، لاَنه بالنظر فيه يحصل الاِرشاد ، أي الاِطلاع على الصانع تعالى .
واصطلاحاً : هو ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري وهذا يشمل الاِمارة ، لاَنها توصل بالنظر فيها إلى الظن بمطلوب خبري ، كالنظر إلى الغيم الرطب في فصل الشتاء ، فإن التأمل فيه يوجب الظن بنزول المطر فيه . وقيل : إنه ما يمكن التوصل به إلى العلم بمطلوب خبري ، فلا يشمل الاِمارة . وهذان التعريفان للاَصوليين . وقوله : ما يمكن ، يشمل ما نظر فيه بالفعل وأوجب المطلوب وما لم ينظر فيه بعد ، فالعالم قبل النظر فيه دليل على وجود الصانع عند الاَصوليين دون المنطقيين حيث عرفوه بأنه قولان فصاعداً يكون عنهما قول آخر ، وهذا يشمل الاِمارة ، وقيل : قولان فصاعداً يلزم عنه لذاته قول آخر ، وهذا لا يشمل الاِمارة . فالدليل عندهم إنما يصدق على القضايا المصدق بها حالة النظر فيها أي ترتيبها ، لاَنها الحالة التي تكون فيه أو يلزم منها قول آخر . ويمكن أن يقال : على اعتبار اللزوم
( 222 )
لا يصدق الدليل على المقدمات حال ترتيبها ، لاَن اللزوم لا يحصل عنده بل بعده . اللهم إلا أن يراد باللزوم اللغوى ، أي الاِستتباع .
ثم إن الذي يكفي إعتباره في تحقق الاِيمان من هذه التعاريف هو التعريف الثاني للاَصوليين لكن بعد النظر فيما يمكن التوصل به ، لا الاَول ، لاَن ما يفيد الظن بالمعارف الاَصولية غير كاف في تحقق الاِيمان على المذهب الحق .
ولا يعتبر في تحققه شيء من تعريف المنطقيين ، لاَن العلم بترتيب المقدمات وتفصيلها على الوجه المعتبر عندهم غير لازم في حصول الاِيمان ، بل اللازم من الدليل فيه ما تطمئن به النفس بحسب استعدادها ويسكن إليه القلب ، بحيث يكون ذلك ثابتاً مانعاً من تطرق الشك والشبهة إلى عقيدة المكلف ، وهذا يتفق كثيراً بملاحظة الدليل إجمالاً ، كما هو الواقع لاَكثر الناس .
أقول : يمكن أن يقال أن حصول العلم عن الدليل لا يكون إلا بعد ترتيب المقدمات على الوجه التفصيلي المعتبر في شرائط الاِستدلال ، وحصوله في النفس وإن لم يحصل الشعور بذلك الترتيب ، إذ ليس كل ما اتصفت به النفس تشعر به ، إذ العلم بالعلم غير لازم .
والحاصل أن الترتيب المذكور طبيعي لكل نفس ناطقة مركوز فيها . وهذا معنى ما قالوه من أن الشكل الاَول بديهي الاِنتاج لقربه من الطبع ، فدل على أن في الطبيعة ترتيباً مطبوعاً متى أشرفت عليه النفس حصل به العلم ، وحينئذ فالمعتبر في حصول العلم بالدليل ليس إلا ما ذكره المنطقيون . والخلاف بينهم وبين الاَصوليين ليس إلا في التسمية ، لاَنهم يطلقون الدليل على نفس المحسوس كالعالم ، وأهل المعقول لا يطلقونه إلا على نفس المعقول كالقضايا المرتبة ، مع أن حصول العلم بالفعل على الاِصطلاحين يتوقف على ترتيب القضايا المعقولة ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإن حصول الاِيمان بالفعل أعني التصديق بالمعارف الاِلَهية إنمايكون بعد الترتيب المذكور .

( 223 )
فقولهم إن الدليل الاِجمالي كاف في الاِيمان لا يخلو عن مسامحة ، لما بينا من أن الترتيب لابد منه في النظريات ، وكأنهم أرادوا بالاِجمال عدم الشعور بذلك الترتيب وعدم العلم بشرائط الاِستدلال ، لا عدم حصول ذلك في النفس ، والثاني هو المعتبر في حصول العلم دون الاَول . نعم الاَول إنما يعتبر في المناظرات ودفع المغالطات ورد الشبهة وإلزام الخصوم .
ويؤيد ما ذكرناه أنك لا تجد في مباحث الدليل وتعريفه إشارة إلى أنه قد يكون تفصيلياً وقد يكون إجمالياً ، وما يوجد في مباحث الاِيمان من أنه يكفي فيه الدليل الجملي ، فقد بينا المراد منه .

العجز عن معرفة ذات الله تعالى


ـ الكافي ج 1 ص 92
باب النهي عن الكلام في الكيفية :
ـ محمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، عن الحسن بن محبوب ، عن علي بن رئاب ، عن أبي بصير قال : قال أبوجعفر عليه السلام : تكلموا في خلق الله ولا تتكلموا في الله فإن الكلام في الله لا يزداد صاحبه إلا تحيراً . وفي رواية أخرى عن حريز : تكلموا في كل شيء ولا تتكلموا في ذات الله .
ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن أبي عمير ، عن عبدالرحمن بن الحجاج ، عن سليمان بن خالد قال قال أبو عبدالله عليه السلام : إن الله عز وجل يقول : وأن إلى ربك المنتهى ، فإذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا .
ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير عن أبي أيوب ، عن محمد بن مسلم قال قال أبو عبدالله عليه السلام : يا محمد إن الناس لا يزال بهم المنطق حتى يتكلموا في الله ، فإذا سمعتم ذلك فقولوا : لا إلَه إلا الله الواحد الذي ليس كمثله شيء .
ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن بعض أصحابه ، عن
( 224 )
الحسين ابن المياح ، عن أبيه قال سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول : من نظر في الله كيف هو ؟ هلك .
ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن محمد بن عبدالحميد ، عن العلاء بن رزين ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : إياكم والتفكر في الله ، ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خلقه .
ـ محمد بن أبي عبدالله رفعه قال : قال أبوعبدالله عليه السلام : يا ابن آدم لو أكل قلبك طائر لم يشبعه ، وبصرك لو وضع عليه خرق إبرة لغطاه ، تريد أن تعرف بهما ملكوت السماوات والاَرض ، إن كنت صادقاً فهذه الشمس خلق من خلق الله ، فإن قدرت تملأ عينيك منها فهو كما تقول .

ـ نهج البلاغة ج 2 ص 67
. . . فمن هداك لاجترار الغذاء من ثدي أمك ، وعرفك عند الحاجة مواضع طلبك وإرادتك . هيهات ، إن من يعجز عن صفات ذي الهيئة والاَدوات فهو عن صفات خالقه أعجز . وَمِن تناولِه بحدود المخلوقين أبعد .

ـ نهج البلاغة ج 2 ص 119
ومن خطبة له عليه السلام في التوحيد وتجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة :
ما وحده من كيفه ، ولا حقيقته أصاب من مَثَّله ، ولا إياه عني من شَبَّهه ، ولا صمده من أشار إليه وتوهمه .
كل معروف بنفسه مصنوع ، وكل قائم في سواه معلول .
فاعلٌ لا باضطراب آلة ، مقدر لا بجول فكرة ، غني لا باستفادة ، لا تصحبه الاَوقات ، ولا ترفده الاَدوات ، سبق الاَوقات كونه ، والعدم وجوده ، والاِبتداء أزله .
بتشعيره المشاعر عُرِفَ أن لا مُشْعِرَ له ، وبمضادته بين الاَمور عرف أن لا ضد له ، وبمقارنته بين الاَشياء عُرِفَ أن لا قرين له ، ضاد النور بالظلمة ، والوضوح بالبهمة والجمود بالبلل . . . .

( 225 )
ـ نهج البلاغة ج 1 ص 158
ومن خطبة له عليه السلام : الحمد لله المعروف من غير رؤية ، والخالق من غير رَوِيَّة ، الذي لم يزل قائماً دائماً إذ لا سماء ذات أبراج ، ولا حجب ذات أرتاج ، ولا ليل داج، ولا بحر ساج ، ولا جبل ذو فجاج . . . .

ـ نهج البلاغة ج 1 ص 164
. . . وأشهد أن من شبهك بتباين أعضاء خلقك ، وتلاحم حقاق مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك ، لم يعقد غيب ضميره على معرفتك ، ولم يباشر قلبه اليقين بأنه لا ند لك وكأنه لم يسمع تبرأ التابعين من المتبوعين إذ يقولون : تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين . كذب العادلون بك إذ شبهوك بأصنامهم ، ونحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم ، وجزؤوك تجزئة المجسمات بخواطرهم ، وقدروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم . . . .

ـ الكافي ج 1 ص 137
علي بن محمد ، عن صالح بن أبي حماد ، عن الحسين بن يزيد ، عن الحسن بن علي ابن أبي حمزة ، عن إبراهيم عن أبي عبدالله عليه السلام قال : إن الله تبارك اسمه ، وتعالى ذكره ، وجل ثناؤه ، سبحانه وتقدس ، وتفرد وتوحد ، ولم يزل ولا يزال ، وهو الاَول والآخر والظاهر والباطن فلا أول لاَوليته ، رفيعٌ في أعلى علوه ، شامخ الاَركان ، رفيع البنيان عظيم السلطان ، منيف الآلاء ، سني العلياء ، الذي عجز الواصفون عن كنه صفته ، ولا يطيقون حمل معرفة إلَهيته ، ولا يحدون حدوده ، لاَنه بالكيفية لايتناهى إليه .
ـ علي بن إبراهيم ، عن المختار بن محمد بن المختار ومحمد بن الحسن ، عن عبدالله ابن الحسن العلوي جميعاً ، عن الفتح بن يزيد الجرجاني قال : ضمني وأبا الحسن عليه السلام الطريق في منصرفي من مكة إلى خراسان وهو سائر إلى العراق ، فسمعته يقول : من اتقى الله يتقى ، ومن أطاع الله يطاع ، فتلطفت الوصول إليه ، فوصلت
( 226 )
فسلمت عليه ، فرد عليَّ السلام ثم قال : يا فتح من أرضى الخالق لم يبال بسخط المخلوق ، ومن أسخط الخالق فقمن أن يسلط الله عليه سخط المخلوق ، وإن الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه ، وأنى يوصف الذي تعجز الحواس أن تدركه ، والاَوهام أن تناله ، والخطرات أن تحده ، والاَبصار عن الاِحاطة به ، جل عما وصفه الواصفون ، وتعالى عما ينعته الناعتون ، نأى في قربه ، وقرب في نأيه ، فهو في نأيه قريب ، وفي قربه بعيد ، كيَّف الكيف فلا يقال : كيف ؟ وأيَّن الاَين فلا يقال : أين ؟ إذ هو منقطع الكيفوفية والاَينونية .

النهي عن الفضولية في معرفة الله تعالى

ـ مستدرك الوسائل ج 12 ص 47
محمد بن مسعود العياشي في تفسيره : عن مسعدة بن صدقة ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه عليهما السلام : إن رجلاً قال لاَمير المؤمنين عليه السلام : هل تصف ربنا نزداد له حباً وبه معرفة ؟ فغضب وخطب الناس ، فقال فيما قال :
عليك يا عبدالله بما دلك عليه القرآن من صفته ، وتقدمك فيه الرسول من معرفته، فائتم به ، واستضيَ بنور هدايته ، فإنما هي نعمة وحكمة أوتيتها ، فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين ، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه ، ولا في سنة الرسول وأئمة الهدى أثره ، فكل علمه إلى الله ، ولا تقدر عظمة الله عليه قدر عقلك ، فتكون من الهالكين ، وأعلم يا عبدالله أن الراسخين في العلم ، هم الذين أغناهم الله عن الاِقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب ، إقراراً بجهل ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فقالوا : آمنا به كل من عند ربنا ، وقد مدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً ، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخاً.