أنواع من المعرفة والعارفين

المعرفة الحقيقية والمعرفة الشكلية

ـ الصحيفة السجادية ج 2 ص 108
. . . عن ثابت البناني قال : كنت حاجاً وجماعة عباد البصرة مثل أيوب السجستاني ، وصالح المري ، وعتبة الغلام ، وحبيب الفارسي ، ومالك بن دينار ، فلما أن دخلنا مكة رأينا الماء ضيقاً ، وقد اشتد بالناس العطش لقلة الغيث ، ففزع إلينا أهل مكة والحجاج يسألوننا أن نستسقي لهم ، فأتينا الكعبة وطفنا بها ، ثم سألنا الله خاضعين متضرعين بها ، فمنعنا الاِجابة . فبينما نحن كذلك إذا نحن بفتى قد أقبل وقد أكربته أحزانه وأقلقته أشجانه ، فطاف بالكعبة أشواطاً ثم أقبل علينا فقال : يا مالك بن دينار ويا ثابت البناني ويا صالح المري ويا عتبة الغلام ويا حبيب الفارسي ويا سعد ويا عمر ويا صالح الاَعمى ويا رابعة ويا سعدانة ويا جعفر بن سليمان فقلنا : لبيك وسعديك يا فتى . فقال : أما فيكم أحد يحبه الرحمن ؟ فقلنا : يا فتى علينا الدعاء وعليه الاِجابة ، فقال : أبعدوا عن الكعبة فلو كان فيكم أحد يحبه الرحمن لاَجابه !
ثم أتى الكعبة فخر ساجداً ، فسمعته يقول في سجوده : سيدي بحبك لي إلا سقيتهم الغيث . قال : فما استتم الكلام حتى أتاهم الغيث كأفواه القرب . فقلت : يا فتى من أين علمت أنه يحبك ؟ قال : لو لم يحبني لم يستزرني ، فلما استزارني علمت أنه يحبني ، فسألته بحبه لي فأجابني . ثم ولى عنا وأنشأ يقول :

مـن عـرف الـرب فلم تُغْنِهِ * معرفة الرب فذاك الشقِي
ما ضر ذو الطاعة ما نـاله * في طاعة الله وما ذا لـقِي
ما يـصـنع العبد بغير التقى * والعـز كل الـعـز للمتـقـِي


( 228 )
فقلت يا أهل مكة من هذا الفتى ؟ قالوا : علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب . ورواه في مستدرك الوسائل ج 6 ص 209

تحير المتصوفة في دور العقل في المعرفة

ـ التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي ص 63 ــ 67 (تحقيق د . عبد الحليم محمود طبع عيسى الحلبي مصر 1960 )
قولهم في معرفة الله تعالى :
أجمعوا على أن الدليل على الله هو الله وحده ، وسبيل العقل عندهم سبيل العاقل في حاجته إلى الدليل لاَنه محدث ، والمحدث لا يدل إلا على مثله . وقال رجل للنوري : ما الدليل على الله ؟ قال : الله . قال فما العقل ؟ قال العقل عاجز ، والعاجز لا يدل إلا على عاجز مثله !
وقال ابن عطاء : العقل آلة للعبودية لا للاِشراف على الربوبية . وقال غيره : العقل يجول حول الكون ، فإذا نظر إلى المكون ذاب . وقال أبوبكر القحطبي : من لحقته العقول فهوت مقهورة إلا من جهة الاِثبات ، ولولا أنه تعرف إليها بالاَلطاف لما أدركته من جهة الاِثبات . وأنشدونا لبعض الكبار :

من رامه بالعقل مسترشـداً * سـرحه فـي حيــرة يلهو
وشـاب بالـتـلبـيس أسراره * يقول من حيرته هل هو

وقال بعض الكبار من المشايخ : البادي من المكونات معروف بنفسه لهجوم العقل عليه ، والحق أعز من أن تهجم العقول عليه وإنه عرفنا نفسه أنه ربنا فقال : ألست بربكم ؟ ولم يقل : من أنا ؟ فتهجم العقول عليه حين بدأ معرفاً ، فلذلك انفرد عن العقول ، وتنزه عن التحصل غير الاِثبات .
وأجمعوا أنه لا يعرفه إلا ذو عقل ، لاَن العقل آلة للعبد يعرف به ما عرف ، وهو بنفسه لا يعرف الله تعالى .

( 229 )
وقال أبوبكر السباك : لما خلق الله العقل قال له : من أنا ؟ فسكت فكحله بنور الوحدانية ففتح عينيه فقال : أنت الله لا إلَه إلا أنت . فلم يكن للعقل أن يعرف الله إلا الله .

تحيرهم في الفرق بين العلم والمعرفة

ثم اختلفوا في المعرفة نفسها : ما هي ؟ والفرق بينها وبين العلم .
فقال الجنيد : المعرفة وجود جهلك عند قيام علمه . قيل له زدنا ، قال : هو العارف وهو المعروف . معناه : إنك جاهل به من حيث أنت ، وإنما عرفته من حيث هو . وهو كما قال سهل : المعرفة هي المعرفة بالجهل .
وقال سهل : العلم يثبت بالمعرفة ، والعقل يثبت بالعلم ، وأما المعرفة فإنها تثبت بذاتها . معناه : إن الله إذا عرف عبداً نفسه فعرف الله تعالى بتعرفه إليه ، أحدث له بعد ذلك علماً ، فادرك العلم بالمعرفة وقام العقل فيه بالعلم الذي أحدثه فيه .
وقال غيره : تبين الاَشياء على الظاهر علم ، وتبينها على استكشاف بواطنها معرفة . وقال غيره : أباح العلم للعامة وخص أولياءه بالمعرفة .
وقال أبوبكر الوراق : المعرفة معرفة الاَشياء بصورها وسماتها ، والعلم علم الاَشياء بحقائقها .
وقال أبو سعيد الخراز : المعرفة بالله هي علم الطلب لله من قبل الوجود له ، والعلم بالله هو بعد الوجود ، فالعلم بالله أخفى وأدق من المعرفة بالله .
وقال فارس : المعرفة هي المستوفية في كنه المعروف .
وقال غيره : المعرفة هي حقر الاَقدار إلا قدر الله ، وأن لا يشهد مع قدر الله قدراً .
وقيل لذي النون : بم عرفت ربك ؟ قال : ما هممت بمعصية فذكرت جلال الله إلا استحييت منه . جعل معرفته بقرب الله منه دلالة المعرفة له .
وقيل لعليان : كيف حالك مع المولى ؟ قال : ما جفوته منذ عرفته . قيل له : متى
( 230 )
عرفته ؟ قال : منذ سموني مجنوناً . جعل دلالة معرفة له تعظيم قدره عنده .
قال سهل : سبحان من لم يدرك العباد من معرفته إلا عجزاً عن معرفته .

تصوراتهم عن العارف بالله تعالى

ـ التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي ص 136 ــ 138
سئل الحسن بن علي بن يزدانيار : متى يكون العارف بمشهد الحق ؟ قال : إذا بدا الشاهد ، وفني الشواهد ، وذهب الحواس ، واضمحل الاِخلاص .
معنى بدا الشاهد : يعني شاهد الحق ، وهو أفعاله بك مما سبق منه إليك من بره لك ، وإكرامه إياك بمعرفته ، وتوحيده ، والاِيمان به ، تفنى رؤية ذلك منك رؤية أفعالك وبرك وطاعتك ، فترى كثير ما منك مستغرقاً في قليل ما منه ، وإن كان ما منه ليس بقليل ، وما منك ليس بكثير . وفناء الشواهد : بسقوط رؤية الخلق عنك ، بمعنى الضر والنفع والذم والمدح . وذهاب الحواس هو معنى قوله : فبي ينطق وبي يبصر ، الحديث . ومعنى اضمحل الاِخلاص : أن لا يراك مخلصاً ، وما خلص من أفعالك خلص ، ولن يخلص أبداً إذا رأيت صفتك ، فإن أوصافك معلولة مثلك .
سئل ذوالنون عن نهاية العارف فقال : إذا كان كما كان حيث كان قبل أن يكون معناه : أن يشاهد الله وأفعاله دون شاهده وأفعاله .
قال بعضهم : أعرف الخلق بالله أشدهم تحيراً فيه .
قيل لذي النون : ما أول درجة يرقاها العارف ؟
فقال : التحير ، ثم الاِفتقار ، ثم الاِتصال ، ثم التحير .
الحيرة الاَولى في أفعاله به ونعمه عنده ، فلا يرى شكره يوازي نعمه ، وهو يعلم أنه مطالب بشكرها ، وإن شكر كان شكره نعمة يجب عليه شكرها ، ولا يرى أفعاله أهلاً أن يقابله بها استحقاراً لها ، ويراها واجبة عليه ، لا يجوز له التخلف عنها .
وقيل قام الشبلي يوماً يصلي فبقى طويلاً ثم صلى فلما انفتل عن صلاته قال : يا ويلاه إن صليت جحدت ، وإن لم أصل كفرت .

( 231 )
أي جحدت عظم النعمة وكمال الفضل حيث قابلت ذلك بفعلي شكراً له مع حقارته . ثم أنشد :

الـحـمــد لله عـلـى أنــنـي * كضـفدع يسكن في اليـم
إن هي فاهت ملاَت فمهـا * أو سكتت ماتت من الغم

والحيرة الاَخيرة : أن يتحير في متاهات التوحيد ، فيضل فهمه ويخنس عقله في عظم قدرة الله تعالى وهيبته وجلاله . وقد قيل : دون التوحيد متاهات تضل فيها الاَفكار .
سأل أبو السوداء بعض الكبار فقال : هل للعارف وقت ؟ قال : لا . فقال : لم ؟ قال : لاَن الوقت فرجة تنفس عن الكربة ، والمعرفة أمواج تغط ، وترفع وتحط ، فالعارف وقته أسود مظلم . ثم قال :

شرط المعارف محو الكل منك إذا * بدا المريد بلحظ غير مطلع

قال فارس العارف : من كان علمه حالة ، وكانت حركاته غلبة عليه .
سئل الجنيد عن العارف فقال : لون الماء لون الاِناء . يعني أنه يكون في كل حال بما هو أولى فتختلف أحواله ، ولذلك قيل : هو ابن وقته .
سئل ذو النون عن العارف فقال : كان هاهنا فذهب . يعني أنك لا تراه في وقتين بحالة واحدة ، لاَن مصرفه غيره . وأنشدونا لابن عطاء :

ولو نطـقت في السن الدهر خبرت * بأني في ثوب الصبابة أرفل
وما أن لـهـا علم بقدري وموضعي * وما ذاك موهوم لاَنـي أنــقل

وقال سهل بن عبدالله : أول مقام في المعرفة أن يعطى العبد يقيناً في سره تسكن به جوارحه، وتوكلاً في جوارحه يسلم به في دنياه، وحياة في قلبه يفوز بها في عقباه .
قلنا : العارف هو الذي بذل مجهوده فيما لله ، وتحقق معرفته بما من الله ، وصح رجوعه من الاَشياء إلى الله . قال الله تعالى : ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق .

( 232 )
المؤلفة قلوبهم بالمال لكي يعرفوا

ـ اجتهد الخليفة عمر بن الخطاب في آية المؤلفة قلوبهم فأسقط سهمهم رغم نص الآية عليه ، وقد خالفه في ذلك علي والاَئمة من أهل البيت عليهم السلام وعدد من الصحابة لاَن الآية نصت على ذلك ولا يجوز نسخها بالاجتهاد !

ـ الكافي ج 2 ص 412
عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد ، عن علي بن حسان، عن موسى بن بكر، عن رجل قال : قال أبو جعفر عليه السلام : ما كانت المؤلفة قلوبهم قط أكثر منهم اليوم ، وهم قوم وحدوا الله وخرجوا من الشرك ولم تدخل معرفة محمد رسول الله صلى الله عليه وآله قلوبهم وما جاء به فتألفهم رسول الله صلى الله عليه وآله وتألفهم المؤمنون بعد رسول الله صلى الله عليه وآله لكي ما يعرفوا .

ـ مجمع الفائدة والبرهان ج 4 ص 158
الرابع : المؤلفة قلوبهم ، قال المصنف في المنتهى : أجمع علمائنا على أن من المشركين قوم مؤلفة يستمالون بالزكاة لمعاونة المسلمين ، ونقل في التهذيب من تفسير علي بن إبراهيم ، عن العالم عليه السلام أنه قال : والمؤلفة قلوبهم قال : هم قوم وحدوا الله وخلعوا عبادة من دون الله ولم تدخل المعرفة قلوبهم أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله فكان رسول الله صلى الله عليه وآله يتألفهم يعلمهم ويعرفهم كيما يعرفوا ، فجعل لهم نصيباً في الصدقات لكي يعرفوا ويرغبوا .
راجع أيضاً : الحدائق الناضرة ج 12 ص 175 وذخيرة المعاد ص 454 ومستند الشيعة ج 2 ص 46 وجواهر الكلام ج 15 ص 339 وفقه السيد الخوئي ج 23 ص 247 ومصباح الفقية ج 3 ص 95 وغيرها من مصادر الحديث والفقه والتفسير .

دعوة العدو في الجهاد إلى معرفة الله تعالى

ـ الكافي ج 5 ص 36
علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمد ، عن المنقري ، عن سفيان بن
( 233 )
عيينة ، عن الزهري قال : دخل رجال من قريش على علي بن الحسين صلوات الله عليهما فسألوه كيف الدعوة إلى الدين ؟ قال : تقول : بسم الله الرحمن الرحيم أدعوكم إلى الله عز وجل وإلى دينه ، وجماعه أمران : أحدهما معرفة الله عز وجل والآخر العمل برضوانه وأن معرفة الله عز وجل أن يعرف بالوحدانية والرأفة والرحمة والعزة والعلم والقدرة والعلو على كل شيء وأنه النافع الضار ، القاهر لكل شيء ، الذي لا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار وهو اللطيف الخبير ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وأن ما جاء به هو الحق من عند الله عز وجل ، وما سواه هو الباطل ، فإذا أجابوا ذلك فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين .
عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن الحسن بن شمون ، عن عبدالله بن عبدالرحمن ، عن مسمع بن عبدالملك ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : لما وجهني رسول الله صلى الله عليه وآله إلى اليمن قال :يا علي لا تقاتل أحداً حتى تدعوه إلى الاِسلام ، وأيم الله لاَن يهدي الله عز وجل على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت ، ولك ولاؤه . انتهى . وروى نحو الحديث الاَول في تهذيب الاَحكام ج 6 ص 141

معرفة أهل الآخرة بديهية لا كسبية

ـ رسائل الشريف المرتضى ج 2 ص 131
قال المرتضى رضي الله عنه : سألت بيان أحكام أهل الآخرة في معارفهم وأحوالهم وأنا ذاكر من ذلك جملة وجيزة : إعلم أن لاَهل الآخرة ثلاث أحوال : حال ثواب ، وحال عقاب ، وحال أخرى للمحاسبة . ويعمهم في هذه الاَحوال الثلاث سقوط التكليف عنهم ، وأن معارفهم ضرورية ، وأنهم ملجؤون إلى الاِمتناع من القبيح وإن كانوا مختارين لاَفعالهم مؤثرين لها ، وهذا هو الصحيح دون ما ذهب إليه من خالف هذه الجملة . . . .

( 234 )
وأما الذي يدل على أن أهل الآخرة لابد أن يكونوا عارفين بالله تعالى وأحواله ، فهو أن المثاب متى لم يعرفه تعالى ، لم يصح منه معرفة كون الثواب ثواباً وواصلاً إليه على الوجه الذي يستحقه ، وأنه دائم غير منقطع ، وإذا كانت هذه المعارف واجبة فما لا يتم هذه المعرفة إلا به ــ من معرفة الله تعالى وإكمال العقل وغيرهما ــ لابد من حصوله .

بحث للشيخ الطوسي في تعريف الاِيمان والكفر

ـ الاِقتصاد ص 140
الاِيمان هو التصديق بالقلب ، ولا اعتبار بما يجرى على اللسان ، وكل من كان عارفاً بالله وبنبيه وبكل ما أوجب الله عليه معرفته مقراً بذلك مصدقاً به فهو مؤمن. والكفر نقيض ذلك ، وهو الجحود بالقلب دون اللسان مما أوجب الله تعالى عليه المعرفة به ، ويعلم بدليل شرعي أنه يستحق العقاب الدائم الكثير .
وفي المرجئة من قال : الاِيمان هو التصديق باللسان خاصة وكذلك الكفر هو الجحود باللسان ، والفسق هو كل ما خرج به عن طاعة الله تعالى إلى معصيته ، سواء كان صغيراً أو كبيراً . وفيهم من ذهب إلى أن الاِيمان هو التصديق بالقلب واللسان معاً، والكفر هو الجحود بهما .
وفي أصحابنا من قال : الاِيمان هو التصديق بالقلب واللسان والعمل بالجوارح ، وعليه دلت كثير من الاَخبار المروية عن الاَئمة عليهم السلام .
وقالت المعتزلة : الاِيمان إسم للطاعات ، ومنهم من جعل النوافل والفرائض من الاِيمان ، ومنهم من قال النوافل خارجة عن الاِيمان . والاِسلام والدين عندهم شيء واحد ، والفسق عندهم عبارة عن كل معصية يستحق بها العقاب ، والصغائر التي تقع عندهم مكفرة لا تسمى فسقاً . والكفر عندهم هو ما يستحق به عقاب عظيم ،
( 235 )
وأجريت على فاعله أحكام مخصوصة ، فمرتكب الكبيرة عندهم ليس بمؤمن ولا كافر بل هو فاسق .
وقالت الخوارج قريباً من قول المعتزلة إلا أنهم لا يسمون الكبائر كلها كفراً ، وفيهم من يسميها شركاً .
والفضيلية منهم تسمي كل معصية كفراً صغيرة كانت أو كبيرة .
والزيدية من كان منهم على مذهب الناصر يسمون الكبائر كفر نعمة ، والباقون يذهبون مذهب المعتزلة .
والذي يدل على ما قلناه : أولاً ، هو أن الاِيمان في اللغة هو التصديق ، ولا يسمون أفعال الجوارح إيماناً ، ولا خلاف بينهم فيه .
ويدل عليه أيضاً قولهم : فلان يؤمن بكذا وكذا وفلان لا يؤمن بكذا . وقال تعالى : يؤمنون بالجبت والطاغوت . وقال : وما أنت بمؤمن لنا ، أي بمصدق ، وإذا كان فائدة هذه اللفظة في اللغة ما قلناه وجب إطلاق ذلك عليها إلا أن يمنع مانع ، ومن ادعى الاِنتقال فعليه الدلالة ، وقد قال الله تعالى : بلسان عربي مبين . وقال : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه . وقال : إنا أنزلناه قرآناً عربياً . وكل ذلك يقتضي حمل هذه اللفظة على مقتضى اللغة . وليس إذا كان هاهنا ألفاظ منتقلة وجب أن يحكم في جميع الاَلفاظ بذلك ، وإنما ينتقل عما ينتقل بدليل يوجب ذلك . وإن كان في المرجئة من قال ليس هاهنا لفظ منتقل ولا يحتاج إلى ذلك .
ولا يلزمنا أن نسمي كل مصدق مؤمنا لاَنا إنما نطلق ذلك على من صدق بجميع ما أوجبه الله عليه . والاِجماع مانع من تسمية من صدق بالجبت والطاغوت مؤمناً ، فمنعنا ذلك بدليل وخصصنا موجب اللغة ، وجرى ذلك مجرى تخصيص العرف لفظ الدابة ببهيمة مخصوصة ، وإن كان موجب اللغة يقتضي تسمية كل ما دب دابة ، ويكون ذلك تخصيصاً لا نقلاً . فعلى موجب هذا ، يلزم من ادعى انتقال هذه اللفظة إلى أفعال الجوارح أن يدل عليه .

( 236 )
وليس لاَحد أن يقول : إن العرف لا يعرف التصديق فيه إلا بالقول ، فكيف حملتموه على ما يختص القلب ؟
قلنا : العرف يعرف بالتصديق باللسان والقلب ، لاَنهم يصفون الاَخرس بأنه مؤمن وكذلك الساكت ، ويقولون : فلان يصدق بكذا وكذا وفلان لا يصدق ، ويريدون ما يرجع إلى القلب ، فلم يخرج بما قلناه عن موجب اللغة .
وإنما منعنا إطلاقه في المصدق باللسان لاَنه لو جاز ذلك لوجب تسميته بالاِيمان وإن علم جحوده بالقلب ، والاِجماع مانع من ذلك .
. . . وأما الكفر فقد قلنا إنه عند المرجئة من أفعال القلوب ، وهو جحد ما أوجب الله تعالى معرفته مما عليه دليل قاطع كالتوحيد والعدل والنبوة وغير ذلك ، وأما في اللغة فهو الستر والجحود ، وفي الشرع عبارة عما يستحق به العقاب الدائم الكثير ، ويلحق بفاعله أحكام شرعية كمنع التوارث والتناكح .
والعلم بكون المعصية كفراً طريقه السمع لا مجال للعقل فيه ، لاَن مقادير العقاب لا تعلم عقلاً ، وقد أجمعت الاَمة على أن الاِخلال بمعرفة الله تعالى و توحيده وعدله وجحد نبوة رسله كفر ، لا يخالف فيه إلا أصحاب المعارف الذين بينا فساد قولهم .
ولا فرق بين أن يكون شاكاً في هذه الاَشياء أو يكون معتقداً لما يقدح في حصولها ، لاَن الاِخلال بالواجب يعم الكل .
فعلى هذا ، المجبرة والمشبهة كفار ، وكذلك من قال بالصفات القديمة لاَن اعتقادهم الفاسد في هذه الاَشياء ينافي الاِعتقاد الصحيح من المعرفة بالله تعالى وعدله وحكمته .

بحث للشهيد الثاني في تعريف الاِيمان والكفر

ـ رسائل الشهيد الثاني ج 2 ص 50
في تعريف الاِيمان لغة وشرعاً ، فاعلم أن الاِيمان لغةً : التصديق ، كما نص عليه
( 237 )
أهلها ، وهو إفعال من الاَمن ، بمعنى سكون النفس واطمئنانها لعدم ما يوجب الخوف لها ، وحينئذ فكان حقيقة آمن به سكنت نفسه واطمأنت بسبب قبول قوله وامتثال أمره ، فتكون الباء للسببية . ويحتمل أن يكون بمعنى آمنه التكذيب والمخالفة ، كما ذكره بعضهم فتكون الباء فيه زائدة ، والاَول أولى كما لا يخفى وأوفق لمعنى التصديق ، وهو يتعدى باللام كقوله تعالى : وما أنت بمؤمن لنا ، فأمن له لوط . وبالباء كقوله تعالى : آمنا بما أنزلت .
وأما التصديق : فقد قيل أنه القبول والاِذعان بالقلب ، كما ذكره أهل الميزان .
ويمكن أن يقال : معناه قبول الخبر أعم من أن يكون بالجنان أو باللسان ، ويدل عليه قوله تعالى : قالت الاَعراب آمنا ، فأخبروا عن أنفسهم بالاِيمان وهم من أهل اللسان ، مع أن الواقع منهم هو الاِعتراف باللسان دون الجنان ، لنفيه عنهم بقوله تعالى : قل لم تؤمنوا . وإثبات الاِعتراف بقوله تعالى : ولكن قولوا أسلمنا ، الدال على كونه إقراراً بالشهادتين ، وقد سموه إيماناً بحسب عرفهم ، والذي نفاه الله عنهم إنما هو الاِيمان في عرف الشرع .
إن قلت : يحتمل أن يكون ما ادعوه من الاِيمان هو الشرعي ، حيث سمعوا الشارع كلفهم بالاِيمان ، فيكون المنفي عنهم هو ما ادعوا ثبوته لهم ، فلم يبق في الآية دلالة على أنهم أرادوا اللغوي .
قلت : الظاهر أنه في ذلك الوقت لم تكن الحقائق الشرعية متقررة عندهم ، لبعدهم عن مدارك الشرعيات ، فلا يكون المخبر عنه إلا ما يسمونه إيماناً عندهم .
وقوله تعالى : آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، وقوله تعالى : ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين .
وجه الدلالة في هذه الآيات أن الاِيمان في اللغة التصديق ، وقد وقع في الاِخبار عنهم أنهم آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم ، فيلزم صحة إطلاق التصديق على الاِقرار باللسان وإن لم يوافقه الجنان . وعلى هذا فيكون المنفي هو الاِيمان الشرعي أعني
( 238 )
القلبي ، جمعاً بين صحة النفي والاِثبات في هذه الآيات .
لا يقال : هذا الاِطلاق مجاز ، وإلا لزم الاِشتراك ، والمجاز خير منه .
لاَنا نقول : هو من قبيل المشترك المعنوي لا اللفظي ، ومعناه قبول الخبر أعم من أن يكون باللسان أو بالجنان ، واستعمال اللفظ الكلي في أحد أفراد معناه باعتبار تحقق الكلي في ضمنه حقيقة لا مجازاً ، كما هو المقرر في بحث الاَلفاظ .
فإن قلت : إن المتبادر من معنى الاِيمان هو التصديق القلبي عند الاِطلاق ، وأيضاً يصح سلب الاِيمان عمن أنكر بقلبه وإن أقر بلسانه ، والاَول علامة الحقيقة والثاني علامة المجاز .
قلت : الجواب عن الاَول أن التبادر لا يدل على أكثر من كون المتبادر هو الحقيقي لا المجازي ، لكن لا يدل على كون الحقيقة لغوية أو عرفية ، وحينئذ فلا يتعين أن اللغوي هو التصديق القلبي ، فلعله العرفي الشرعي .
إن قلت : الاَصل عدم النقل ، فيتعين اللغوي .
قلت : لا ريب أن المعنى اللغوي الذي هو مطلق التصديق لم يبق على إطلاقه بل أخرج عنه إما بالتخصيص عند بعض أو النقل عند آخرين . ومما يدل على ذلك أن الاِيمان الشرعي هو التصديق بالله وحده وصفاته وعدله ، وبنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وبما علم بالضرورة مجيئه به لا ما وقع فيه الخلاف وعلى هذا أكثر المسلمين . وزاد الاِمامية التصديق بإمامة إمام الزمان ، لاَنه من ضروريات مذهبهم ، أيضاً أنه مما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وقد عرفت أن الاِيمان في اللغة التصديق مطلقاً ، وهذا أخص منه .
ويؤيد ذلك قوله تعالى يا أيها الذين آمَنُوا آمِنُوا بالله ورسوله ، أخبر عنهم تعالى بالاِيمان ، ثم أمرهم بإنشائه فلابد أن يكون الثاني غير الاَول ، وإلا لكان أمراً بتحصيل الحاصل . وإذا حصلت المغايرة كان الثاني المأمور به هو الشرعي ، حيث لم يكن حاصلاً لهم ، إذ لا محتمل غيره إلا التأكيد ، والتأسيس خير منه . وعن الثاني بالمنع من كون ما صح سلبه هو الاِيمان اللغوي بل الشرعي ، وليس النزاع فيه .

( 239 )
إن قلت : ما ذكرته معارض بما ذكره أهل الميزان في تقسيم العلم إلى التصور والتصديق ، من أن المراد بالتصديق الاِذعان القلبي ، فيكون في اللغة كذلك لاَن الاَصل عدم النقل .
قلت : قد بينا سابقاً أن الخروج عن هذا الاَصل ولو سلم فلا دلالة في ذلك على حصر معنى التصديق مطلقاً في الاِذعان القلبي ، بل التصديق الذي هو قسم من العلم وليس محل النزاع .
على أنا نقول : لو سلمنا صحة الاِطلاق مجازاً ثبت مطلوبنا أيضاً ، لانا لم ندع إلا أن معناه قبول الخبر مطلقاً ، ولا ريب أن الاَلفاظ المستعملة لغة في معنى من المعاني حقيقة أو مجازاً تعد من اللغة ، وهذا ظاهر .
واما الاِيمان الشرعي : فقد اختلفت في بيان حقيقته العبارات بحسب اختلاف الاِعتبارات . وبيان ذلك : إن الاِيمان شرعاً : إما أن يكون من أفعال القلوب فقط ، أو من أفعال الجوارح فقط أو منهما معاً . فإن كان الاَول فهو التصديق بالقلب فقط ، وهو مذهب الاَشاعرة وجمع من متقدمي الاِمامية ومتأخريهم ، ومنهم المحقق الطوسي رحمه الله في فصوله ، لكن اختلفوا في معنى التصديق فقال أصحابنا : هو العلم . وقال الاَشعرية : هو التصديق النفساني ، وعنوا به أنه عبارة عن ربط القلب على ما علم من أخبار المخبر ، فهو أمر كسبي يثبت باختيار المصدق ، ولذا يثاب عليه بخلاف العلم والمعرفة ، فإنها ربما تحصل بلا كسب ، كما في الضروريات .
وقد ذكر حاصل ذلك بعض المحققين ، فقال : التصديق هو أن تنسب باختيارك الصدق للمخبر حتى لو وقع ذلك في القلب من غير اختيار لم يكن تصديقاً وإن كان معرفة ، وسنبين إن شاء الله تعالى [ قصور ] ذلك .
وإن كان الثاني ، فإما أن يكون عبارة عن التلفظ بالشهادتين فقط ، وهو مذهب الكرامية . أوعن جميع أفعال الجوارح من الطاعات بأسرها فرضاً ونفلاً ، وهو مذهب الخوارج وقدماء المعتزلة والغلاة والقاضي عبدالجبار . أو عن جميعها من الواجبات
( 240 )
وترك المحظورات دون النوافل ، وهو مذهب أبي علي الجبائي وابنه هاشم وأكثر معتزلة البصرة .
وإن كان الثالث ، فهو إما أن يكون عبارة عن أفعال القلوب مع جميع أفعال الجوارح من الطاعات ، وهو قول المحدثين وجمع من السلف كابن مجاهد وغيره فإنهم قالوا : إن الاِيمان تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالاَركان .
وإما أن يكون عبارة عن التصديق مع كلمتي الشهادة ، ونسب إلى طائفة منهم أبوحنيفة .
أو يكون عبارة عن التصديق بالقلب مع الاِقرار باللسان ، وهو مذهب المحقق نصير الدين الطوسي رحمه الله في تجريده ، فهذه سبعة مذاهب ذكرت في الشرح الجديد للتجريد وغيره .
واعلم أن مفهوم الاِيمان على المذهب الاَول يكون تخصيصاً للمعنى اللغوي ، وأما على المذاهب الباقية فهومنقول ، والتخصيص خير من النقل .
وهنا بحث وهو أن القائلين بأن الاِيمان عبارة عن فعل الطاعات ، كقدماء المعتزلة والعلاف والخوارج ، لا ريب أنهم يوجبون اعتقاد مسائل الاَصول ، وحينئذ فما الفرق بينهم وبين القائلين بأنه عبارة عن أفعال القلوب والجوارح ؟
ويمكن الجواب ، بأن اعتقاد المعارف شرط عند الاَولين وشطر عند الآخرين .. . .
إعلم أن المحقق الطوسي رحمه الله ذكر في قواعد العقائد أن أصول الاِيمان عند الشيعة ثلاثة : التصديق بوحدانية الله تعالى في ذاته تعالى ، والعدل في أفعاله ، والتصديق بنبوة الاَنبياء عليهم السلام والتصديق بإمامة الاَئمة المعصومين من بعد الاَنبياء عليهم السلام .
وقال أهل السنة : إن الاِيمان هو التصديق بالله تعالى وبكون النبي صلى الله عليه وآله صادقاً ، والتصديق بالاَحكام التي يعلم يقيناً أنه صلى الله عليه وآله حكم بها دون ما فيه اختلاف واشتباه .
والكفر يقابل الاِيمان ، والذنب يقابل العمل الصالح ، وينقسم إلى كبائر وصغائر .

( 241 )
ويستحق المؤمن بالاِجماع الخلود في الجنة ، ويستحق الكافر الخلود في العقاب. انتهى .
وذكر في الشرح الجديد للتجريد أن الاِيمان في الشرع عند الاَشاعرة هو التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة ، فتفصيلاً فيما علم تفصيلاً ، وإجمالاً فيما علم إجمالاً ، فهو في الشرع تصديق خاص . انتهى .
فهؤلاء اتفقوا على أن حقيقة الاِيمان هي التصديق فقط ، وإن اختلفوا في المقدار المصدق به . والكلام هاهنا في مقامين :
الاَول : في أن التصديق الذي هو الاِيمان المراد به اليقين الجازم الثابت ، كما يظهر من كلام من حكينا عنه .
الثاني : في أن الاَعمال ليست جزء من حقيقة الاِيمان الحقيقي ، بل هي جزء من الاِيمان الكمالي . أما الدليل على الاَول فآيات بينات :
منها قوله تعالى : إن الظن لا يغني من الحق شيئاً . والاِيمان حق للنص والاِجماع، فلا يكفي في حصوله وتحققه الظن .
ومنها : إن يتبعون إلا الظن ، إن هم إلا يظنون ، إن بعض الظن إثم ، فهذه قد اشتركت في التوبيخ على اتباع الظن ، والاِيمان لا يوبخ من حصل له بالاِجماع ، فلا يكون ظناً .
ومنها قوله : إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ، فنفى عنهم الريب ، فيكون الثابت هو اليقين .
إن قلت : هذه الآية الكريمة لا تدل على المدعى بل على خلافه ، وهو عدم اعتبار اليقين في الاِيمان ، وذلك أنها إنما دلت على حصر الاِيمان فيما عدا الشك ، فيصدق الاِيمان على الظن .
قلت : الظن في معرض الريب ، لاَن النقيض مجوز فيه ويقوى بأدنى تشكيك ،
( 242 )
فصاحبه لا يخلو من ريب حيث أنه دائماً يجوز النقيض ، على أن الريب قد يطلق على ما هو أعم من الشك ، يقال : لا أرتاب في كذا . ويريد أنه منه على يقين ، وهذا شائع ذائع .
ومن السنة المطهرة قوله عليه السلام : يا مقلب القلوب والاَبصار ثبت قلبي على دينك ، فلو لم يكن ثبات القلب شرطاً في الاِيمان لما طلبه عليه السلام والثبات هو الجزم والمطابقة ، والظن لا ثبات فيه ، إذ يجوز ارتفاعه .
وفيه ، منع كون الثبات شرطاً في تحقيق الاِيمان ، ويجوز أن يكون عليه السلام طلبه لكونه الفرد الاَكمل ، وهو لا نزاع فيه .
ومن جملة الدلائل على ذلك أيضاً الاِجماع ، حيث ادعى بعضهم أنه يجب معرفة الله تعالى التي لا يتحقق الاِيمان بها إلا بالدليل إجماعاً من العلماء كافة ، والدليل ما أفاد العلم ، والظن لا يفيده .
وفي صحة دعوى الاِجماع بحث ، لوقوع الخلاف في جواز التقليد في المعارف الاَصولية ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى .
واعلم أن جميع ما ذكرناه من الاَدلة لا يفيد شيء منه العلم بأن الجزم والثبات معتبر في التصديق الذي هو الاِيمان إنما يفيد الظن باعتبارهما ، لاَن الآيات قابلة للتأويل وغيرها كذلك ، مع كونها من الآحاد .
ومن الآيات أيضاً قوله تعالى : فاعلم أنه لا إلَه إلا الله . واعترض على هذا الدليل بأنه أخص من المدعى ، فإنه إنما يدل على اعتبار اليقين في بعض المعارف ، وهو التوحيد دون غيره ، والمدعى اعتبار اليقين في كل ما التصديق به شرط في تحقق الاِيمان ، كالعدل والنبوة والمعاد وغيرها .
وأجيب بأنه لا قائل بالفرق ، فإن كل من اعتبر اليقين اعتبره في الجميع ، ومن لم يعتبره لم يعتبره في شيء منها . واعلم أن ما ذكرناه على ما تقدم وارد هاهنا أيضاً .

( 243 )
واعترض أيضاً بأن الآية الكريمة خطاب للرسول صلى الله عليه وآله فهي إنما تدل على وجوب العلم عليه وحده دون غيره .
وأجيب بأن ذلك ليس من خصوصياته صلى الله عليه وآله بالاِجماع ، وقد دل دليل وجوب التأسي به على وجوب اتباعه ، فيجب على باقي المكلفين تحصيل العلم بالعقائد الاَصولية .
وأيضاً أورد أنه إنما يفيد الوجوب لو ثبت أن الاَمر للوجوب ، وفيه منع لاحتماله غيره ، وكذا يتوقف على كون المراد من العلم هاهنا القطعي ، وهو غير معلوم ، إذ يحتمل أن يراد به الظن الغالب ، وهو يحصل بالتقليد . وبالجملة فهو دليل ظني .
وأما المقالة الثانية وهو أن الاَعمال ليست جزء من الاِيمان ولا نفسه فالدليل عليه من الكتاب العزيز ، والسنة المطهرة ، والاِجماع .
أما الكتاب ، فمنه قوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فإن العطف يقتضي المغايرة ، وعدم دخول المعطوف في المعطوف عليه ، فلو كان عمل الصالحات جزء من الاِيمان أو نفسه لزم خلو العطف عن الفائدة لكونه تكراراً .
وَرُدَّ ذلك بأن الصالحات جمع معرف يشمل الفرض والنفل ، والقائل بكون الطاعات جزء من الاِيمان يريد بها فعل الواجبات واجتناب المحرمات ، وحينئذ فيصح العطف لحصول المغايرة المفيدة لعموم المعطوف ، فلم يدخل كله في المعطوف عليه ، نعم ذلك يصلح دليلاً على إبطال مذهب القائلين بكون المندوب داخلاً في حقيقة الاِيمان كالخوارج .
ومنه قوله تعالى : ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن ، أي حالة إيمانه ، فإن عمل الصالحات في حالة الاِيمان يقتضي المغايرة لما أضيف إلى تلك الحالة وقارنه فيها ، وإلا لصار المعنى : ومن يعمل بعض الاِيمان حال حصول ذلك البعض ، أو ومن يعمل من الاِيمان حال حصوله ، وحينئذ فيلزم تقدم الشيء على نفسه وتحصيل الحاصل .

( 244 )
إن قلت : الآية الكريمة إنما تدل على المغايرة في الجملة ، لكن لا يلزم من ذلك أن لا تكون الاَعمال جزءاً ، فإن المعنى والله أعلم : ومن يعمل من الصالحات حال إيمانه ، أي تصديقه بالمعارف الاِلَهية ، وحينئذ فيجوز أن يكون الاِيمان الشرعي بمجموع الجزئين ، أي عمل الصالحات والتصديق المذكور ، فالمغايرة إنما هي بين جزئي الاِيمان ولا محذور فيه ، بل لابد منه وإلا لما تحقق الكل ، بل لابد لنفي ذلك من دليل .
قلت : من المعلوم أن الاِيمان قد غير عن معناه لغة ، فأما التصديق بالمعارف فقط فيكون تخصيصاً ، أو مع الاَعمال فيكون نقلاً ، لكن الاَول أولى ، لاَن التخصيص خير من النقل .
ووجه الاِستدلال بالآية أيضاً بأن ظاهرها كون الاِيمان الشرعي شرطاً لصحة الاَعمال ، حيث جعل سعيه مقبولاً إذا وقع حال الاِيمان ، فلابد أن يكون الاِيمان غير الاَعمال ، وإلا لزم إشتراط الشيَ بنفسه .
ويرد على هذا ما ورد على الاَول بعينه ، نعم اللازم هنا أن يكون أحد جزئي المركب شرطاً لصحة الآخر ولا محذور فيه .
والجواب عن هذا هو الجواب عن ذلك فتأمل .
ومنه قوله تعالى : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ، فإنه أثبت الاِيمان لمن ارتكب بعض المعاصي ، فلو كان ترك المنهيات جزء من الاِيمان لزم تحقق الاِيمان وعدم تحققه في موضع واحد في حالة واحدة وهو محال .
ولهم أن يجيبوا عن ذلك بمنع تحقق الاِيمان حالة ارتكاب المنهي ، وكون تسميتهم بالمؤمنين باعتبار ما كانوا عليه وخصوصاً على مذهب المعتزلة ، فإنهم لا يشترطون في صدق المشتق على حقيقة بقاء المعنى المشتق منه .
ويمكن دفعه بأن الشارع قد منع من جواز إطلاق المؤمن على من تحقق كفره وعكسه ، والكلام في خطاب الشارع ، فلا نسلم لهم الجواب .

( 245 )
ومنه قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ، فإن أمرهم بالتقوى التي لا تحصل إلا بفعل الطاعات والاِنزجار عن المنهيات مع وصفهم بالاِيمان ، يدل على عدم حصول التقوى لهم ، وإلا لما أمروا بها مع حصول الاِيمان لو صفهم به ، فلا تكون الاَعمال نفس الاِيمان ولا جزء منه ، وإلا لكان أمراً بتحصيل الحاصل .
ويرد عليه ، جواز أن يراد من الاِيمان الذي وصفوا به اللغوي ، ويكون المأمور به هو الشرعي وهو الطاعات ، أو جزؤه عند من يقول بالجزئية . ويجاب عنه بنحو ما أجيب عما أورد على الدليل الثاني ، فليتأمل .
ومنه أيضاً الآيات الدالة على كون القلب محلاً للاِيمان من دون ضميمة شيء آخر كقوله تعالى : أولئك كتب في قلوبهم الاِيمان ، أي جمعه وأثبته فيها والله أعلم . ولو كان الاِقرار غيره من الاَعمال نفس الاِيمان أو جزءه ، لما كان القلب محل جمعه ، بل هو مع اللسان وحده ، أو مع بقية الجوارح على اختلاف الآراء .
وقوله تعالى : ولما يدخل الاِيمان في قلوبكم ، ولو كان غير القلب من أعمال الجوارح نفس الاِيمان أو جزءه ، لما جعل كله محل القلب ، كما هو ظاهر الآية الكريمة .
وقوله تعالى : وقلبه مطمئن بالاِيمان ، فإن اطمئنانه بالاِيمان يقتضي تعلقه كله به ، وإلا لكان مطمئناً ببعضه لا كله .
أقول : يرد على الاَخير أنه لا يلزم من اطمئنانه بالاِيمان كونه محلاً له ، إذ من الجائز كونه عبارة عن الطاعات وحدها ، أو مع شيء آخر واطمئنان القلب لاطلاعه على حصول ذلك ، فإن القلب يطلع على الاَعمال .
ويرد على الاَولين أن الاِيمان المكتوب والداخل في القلب إنما هو العقائد الاَصوليه ، ولا يدل على حصر الاِيمان في ذلك ، ونحن لا نمنع ذلك بل نقول باعتبار ذلك في الاِيمان إما على طريق الشرطية لصحته ، أو الجزئية له ، إذ من يزعم أنه
( 246 )
الطاعات فقط لابد من حصول ذلك التصديق عنده أيضاً لتصح تلك الاَعمال ، غاية الاَمر أنه شرط للاِيمان أو جزؤه لا نفسه ، كما تقدمت الاِشارة إليه .
نعم هما يدلان على بطلان مذهب الكرامية ، حيث يكتفون في تحققه بلفظ الشهادتين من غير شيء آخر أصلاً لا شرطاً ولا جزءاً .
قيل : وكذا آيات الطبع والختم تشعر بأن محل الاِيمان القلب ، كقوله تعالى : اولئك الذين طبع الله على قلوبهم فهم لا يؤمنون ، وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله . وفيه ما تقدم .
وأما السنة المطهرة ، فكقوله عليه السلام : يا مقلب القلوب والاَبصار ثبت قلبي على دينك ، وجه الدلالة فيه أن المراد من الدين هنا الاِيمان ، لاَن طلب تثبيت القلب عليه يدل على أنه متعلق بالاِعتقاد ، وليس هناك شيء آخر غير الاِيمان من الاِعتقاد يصلح لثبات القلب عليه بحيث يسمى ديناً ، فتعين أن يكون هو الاِيمان ، وحيث لم يطلب غيره في حصول الاِيمان علم أن الاِيمان يتعلق بالقلب لا بغيره .
وكذا ما روي أن جبرئيل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وآله فسأله عن الاِيمان ؟ فقال : أن تؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر . ومعنى ذلك : أن تصدق بالله ورسله واليوم الآخر ، فلو كان فعل الجوارح أو غيره من الاِيمان لذكره له ، حيث سأله الرسول صلى الله عليه وآله عما هو الاِيمان المطلوب للشارع .
وإن قيل : ظاهر الحديث فيه مناقشة ، وذلك أن الرسول عليه السلام سأله عن حقيقة الاِيمان ، فكان من حق الجواب في شرح معناه أن يقال : أن تصدق بالله لا أن تؤمن لاَن أن مع الفعل في تأويل المصدر ، فيصير حاصله الاِيمان هو الاِيمان بالله ، فيلزم منه تعريف الشيء بنفسه في الجملة ، وذلك لا يليق بنفس الاَمر .
والجواب أن المراد من قوله : أن تؤمن بالله ، أن تصدق ، وقد كان التصديق معلوماً له عليه السلام لغة ، فلم يكن تعريف الشيء بنفسه ، فهذا إنما يكون بالقياس إلى غيرهما عليهما السلام وإلا فالسائل والمسؤول غنيان عن معرفة المعاني من الاَلفاظ .

( 247 )
وأما الاِجماع ، فهو أن الاَمة أجمعت على أن الاِيمان شرط لسائر العبادات ، والشيء لا يكون شرطاً لنفسه ، فلا يكون الاِيمان هو العبادات .
أقول : على تقدير تسليم دعوى الاِجماع ، فللخصوم أن يقولوا : نحن نقول بكون التصديق بمسائل الاَصول شرطاً لصحة العبادات التي هي الاِيمان ، ولا يلزمنا بذلك أن يكون تلك المسائل هي الاِيمان ، فإن سميتموها إيماناً بالمعنى اللغوي فلا مشاحة في ذلك ، وإن قلتم بل هي الاِيمان الشرعي ، فهو محل النزاع ودليلكم لا يدل عليه .
وأجمعت أيضاً على أن فساد العبادات لا يوجب فساد الاِيمان ، وذلك يقتضي كون الاِيمان غير أعمال الجوارح .
أقول : إن صح نقل الاِجماع ، فلا ريب في دلالته على المدعى ، وسلامته عن المطاعن المتقدمة .

هل يمكن أن يصير المؤمن كافراً

. . . المؤمن هل يجوز أن يكفر بعد إيمانه أم لا ؟ ذهب إلى الاَول جماعة من العلماء ، وظاهر القرآن العزيز يدل عليه في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : إن الذين آمنوا ثم كفروا ، إلى غير ذلك من الآيات ، ولو كان التصديق بالمعارف الاَصولية يعتبر فيه الجزم والثبات لما صح ذلك إذ اليقين لا يزول بالاَضعف ، ولا ريب أن موجب الكفر أضعف مما يوجب الاِيمان .
قلت : لا ريب أن الاِيمان من الكيفيات النفسانية ، إذ هو نوع من العلم على ما هو الحق ، فهو عرض ، وقبوله للزوال بعروض ضده أو مثله ، عند من يقول الاَعراض لا تبقى زمانين كالاَشاعرة ظاهر . وكذا على القول بأن الباقي محتاج إلى المؤثر في بقائه أو غير محتاج مع قطع النظر عن بقاء الاَعراض زمانين ، لاَن الفاعل مختار ، فيصح منه الاِيجاد والاِعدام في كل وقت . غاية الاَمر أن تبديل الاِيمان بالكفر لا يجوز أن
( 248 )
يكون من فعل الله تعالى على ما تقتضيه قواعد العدلية ، من أن العبد له فعل ، وأن اللطف واجب على الله تعالى ، ولو كان التبديل منه تعالى لنافى اللطف . على أنا نقول : قد يستند الكفر إلى الفعل دون الاِعتقاد ، فيجامع الجزم اليقين في المعارف الاَصولية ، كما في السجود للصنم وإلقاء المصاحف في القاذورات مع كونه مصدقاً بالمعارف .
إن قلت : فعلى هذا يلزم جواز اجتماع الاِيمان والكفر في محل واحد وزمان واحد ، وهو محال ، لاَن الكفر عدم الاِيمان عما من شأنه أن يكون مؤمناً .
قلت : الاِيمان هو التصديق بالاَصول المذكورة بشرط عدم السجود وغيره مما يوجب فعله الكفر بدلالة الشارع عليه ، وانتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط .
ثانيها يلزم أن يكون الظان ولو في أحد من الاَصول الخمسة كافراً وإن كان عالماً بالباقي ، لاَن الظن من أضداد اليقين فلا يجامعه . فيلزم ( القول ) بكفر مستضعفي المسلمين بل كثير من عوامهم ، لعدم التصديق في الاَول والثبات في الثاني ، كما نشاهد من تشككهم عند التشكيك ، مع أن الشارع حكم بإسلامهم وأجرى عليهم أحكامه . ومن هاهنا اكتفى بعض العلماء في الاِيمان بالتقليد ، كما تقدمت الاِشارة إليه .
ويمكن الجواب عن ذلك : بأن من يشترط اليقين يلتزم الحكم بكفرهم لو علم كون اعتقادهم بالمعارف عن ظن ، لكن هذا الاِلتزام في المستضعف في غاية البعد والضعف . وأما إجراء الاَحكام الشرعية فإنما هو للاِكتفاء بالظاهر إذ هو المدار في إجراء الاَحكام الشرعية فهو لا ينافي كون المجرى عليه كذلك كافراً في نفس الاَمر . وبالجملة ، فالكلام إنما هو في بيان ما يتحقق به كون المكلف مؤمناً عند الله سبحانه ، وأما عندنا فيكفي ما يفيد الظن حصول ذلك له ، كإقراره بالمعارف الاَصولية مختاراً غير مستهزيَ ، لتعذر العلم علينا غالباً بحصول ذلك له .
ثالثها : أنه إذا كان الاِيمان هو التصديق الجازم الثابت ، فلا يمكن الحكم بإيمان
( 249 )
أحد حتى نعلم يقيناً أن تصديقه بما ذكر يقيني ، وأنى لنا بذلك ، ولا يطلع على الضمائر إلا خالق السرائر .
والجواب عن هذا هو الجواب عن الثاني .
رابعها : انتقاض حد الاِيمان والكفر جمعاً ومنعاً بحالة النوم والغفلة وكذا بالصبي لاَنه إن كان مصدقاً فهو مؤمن وإلا فكافر ، لعدم الواسطة ، مع أن الشارع لم يحكم عليه بشيء منهما حقيقة بل تبعاً .
وأجيب عن الاَولين بأن التصديق باق لم يزل ، والذهول والغفلة إنما هو عن حصوله واتصاف النفس به ، إذ العلم بالعلم وبصفات النفس غير لازم ، ولا عدمه ينافي حصولهما .
على أن الشارع جعل الاَمر المحقق الذي لم يطرأ عليه ما يضاده ويزيله في حكم الباقي ، فسمى من اتصف بالاِيمان مؤمناً ، سواء كان مستشعراً بإيمان نفسه ، أو غافلاً عن ذلك مع اتصاف نفسه به .
وعن الثالث بأن الكلام في الاِيمان الشرعي فهو من أفراد التكليف ، فلا يوصف الصبي بشيء منها حقيقة ، لعدم دخوله في المكلف ، نعم يوصف تبعاً .

هل تزول المعرفة والاِيمان بإنكار الضروري ؟

ـ نهاية الاَفكار ج 2 ص 190
وحيث انجر الكلام إلى هنا ينبغي عطف الكلام إلى بيان أن كفر منكر الضروري هل هو لمحض إنكاره أو أنه من جهة استتباعه لتكذيب النبي صلى الله عليه وآله وتظهر الثمرة فيما لو كان منشأ الاِنكار الاِعتقاد بعدم صدور ما أنكره عن النبي صلى الله عليه وآله أو اشتباه الاَمر عليه فإنه على الاَول يحكم عليه بالكفر ويرتب عليه آثاره بمحض إنكاره ، بخلاف الثاني حيث لا يحكم عليه بالكفر في الفرض المزبور .
فنقول : إن ظاهر إطلاق كلماتهم في كفر منكر الضروري وإن كان يقتضي الوجه
( 250 )
الاَول ، ولكن النظر الدقيق فيها يقتضي خلافه ، وذلك لما هو المعلوم من انصراف إطلاق كلماتهم إلى المنكر المنتحل للاِسلام المعاشر للمسلمين . ومن الواضح ظهور إنكار مثل هذا الشخص في تكذيبه للنبي صلى الله عليه وآله ومع هذا الاِنصراف لا مجال للاَخذ بإطلاق كلامهم في الحكم بكفر منكر الضروري حتى مع العلم بعدم رجوع إنكاره إلى تكذيب النبي صلى الله عليه وآله وبعد عدم دليل في البين على ثبوت الكفر بمحض الاِنكار أمكن الاِلتزام بعدم الكفر فيمن يحتمل في حقه الشبهة وخفاء الاَمر عليه بحسب ظهور حاله كما فيمن هو قريب عهد بالاِسلام عاش في البوادي ولم يختلط بالمسلمين حيث أن إنكار مثله لا يكون له ظهور في تكذيب النبي صلى الله عليه وآله وبذلك يندفع ما قد يتوهم من اقتضاء البيان المزبور عدم الحكم بالكفر حتى في من نشأ في الاِسلام وعاشر المسلمين مع احتمال الشبهة في حقه خصوصاً مع دعواه عدم اعتقاده بصدور ما أنكره عن النبي صلى الله عليه وآله وأنه من الموضوعات . إذ نقول إنه كذلك لولا ظهور حال مثله في تكذيب النبي صلى الله عليه وآله وعدم خفاء شيء عليه من أساس الدين وضرورياته ، حيث أن العادة قاضية بأن من عاشر المسلمين مدة مديدة من عمره لا يخفى عليه شيء من أساس الدين وضرورياته فضلاً عمن كان مسلماً وكان نشوؤه من صغره بين المسلمين ، فإنكار مثل هذا الشخص يكشف لا محالة بمقتضى ظهور حاله عن تكذيب النبي بحيث لو ادعى جهله بذلك أو اعتقاده بعدم صدور ما أنكره عن النبي لا يسمع منه بل يحكم بكفره .
وهذا بخلاف غيره ممن كان نشوؤه في البوادي أو البلاد التي لا يوجد فيها المسلم فإن ظهور حاله ربما يكون على العكس ، ومن ذلك لا نحكم بكفره بمجرد انكاره لشيء من ضروريات الدين خصوصاً مع دعواه عدم علمه بكون ما أنكره صادراً عن النبي صلى الله عليه وآله .
بل ولعل في جعل مدار الكفر على إنكار الضروري دلالة على ما ذكرنا من طريقية الاِنكار للتكذيب بلحاظ بعد خفاء ما هو أساس الدين وضرورياته على المنتحل
( 251 )
للاِسلام المعاشر مع المسلمين بخلاف غير الضروري حيث لا بعد في خفائه وإلا فلا فرق في استلزام الاِنكار للتكذيب بين الضروري وغيره ، وحينئذ فيمكن الجمع بين إطلاق كلامهم في كفر منكر الضروري وبين ما هو الظاهر من طريقية الاِنكار للتكذيب بحمل الاِطلاقات على المنكر المنتحل للاِسلام المعاشر مع المسلمين برهة من عمره .
وقد يستدل على استتباع مجرد الاِنكار للكفر بما رواه زرارة عن أبي عبدالله عليه السلام من قوله : لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا ، ولكن يدفعه ظهور الرواية في الاِنكار الناشي عن العناد إذ الجحد ليس إلا عبارة عن ذلك ومن المعلوم عدم صلاحية مثله للدلالة على ثبوت الكفر بمحض الاِنكار ، ومجرد كون الاِنكار العنادي موجباً للكفر لا يقتضي تسرية الحكم إلى مطلق الاِنكار ، ومن ذلك نقول أن الاِنكار العنادي موجب للكفر مطلقاً ولو في غير الضروري .
هذا كله في صورة التمكن من تحصيل العلم والاِعتقاد الجزمي ، ولقد عرفت وجوبه عليه فيما يرجع إلى الله جل شأنه وما يرجع إلى أنبيائه ورسله وحججه وأنه مع الاِخلال به يكون معاقباً لا محالة .
نعم يبقى الكلام حينئذ في كفره وترتيب آثاره عليه من النجاسة وغيرها مع الاِخلال بتحصيل المعرفة ، فنقول :
أما مع عدم إظهاره للشهادتين فلا إشكال في كفره وترتيب آثاره عليه من النجاسة وعدم الاِرث والمناكحة . وأما مع إظهار الشهادتين ففيه إشكال ينشأ من كفاية مجرد إظهار الشهادتين مع عدم الاِنكار في الحكم بالاِسلام ، ومن عدم كفايته ولزوم الاِعتقاد في الباطن أيضاً .
ولكنه لا ينبغي التأمل في عدم كفايته فإن حقيقة الاِسلام عبارة عن الاِعتقاد بالواجب تعالى والتصديق بالنبي عليه السلام بكونه رسولاً من عند الله سبحانه وأن الاِكتفاء بإظهار الشهادتين من جهة كونه أمارة على الاِعتقاد في الباطن كما يظهر ذلك أيضاً
( 252 )
من النصوص الكثيرة . ولا ينافي ذلك ما يترائى في صدر الاِسلام من معاملة النبي صلى الله عليه وآله مع المنافقين معاملة الاِسلام بمجرد إظهارهم الشهادتين مع علمه صلى الله عليه وآله بعدم كونهم مؤمنين بالله ولا مصدقين برسوله واقعاً وأن إظهارهم الشهادتين كان لمحض الصورة إما لاَجل خوفهم من القتل وإما لبعض المصالح المنظورة لهم كالوصول إلى مقام الرياسة والآمال الدنيوية لما سمعوا وعلموا من الكهنة بارتقاء الاِسلام وتفوقه على سائر المذاهب والاَديان ، مع أنهم لم يؤمنوا بالله طرفة عين كما نطقت به الاَخبار والآثار المروية عن الاَئمة الاَطهار . إذ نقول إن في معاملة النبي صلى الله عليه وآله والوصي مع هؤلاء المنافقين في الصدر الاَول معاملة الاِسلام بمحض إظهارهم الشهادتين وجوها ومصالح شتى .
منها تكثير جمعية المسلمين وازديادهم في قبال الكفار وعبدة الاَوثان الموجب لازدياد صولة المسلمين في أنظار المشركين .
ومنها حفظ من في أصلابهم من المؤمنين الذين يوجدون بعد ذلك .
ومنها تعليم الاَمة في الاَخذ بما يقتضيه ظاهر القول بالشهادتين في الكشف عن الاِعتقاد في الباطن ، فإنه لو فتح مثل هذا الباب في الصدر الاَول لقتل كل أحد صاحبه لاَجل ما كان بينهم من العداوة في الجاهلية بدعوى أن اعتقاده على خلاف ما يظهره باللسان وأن إظهار الشهادتين كان لاَجل الخوف من القتل أو الطمع في الشركة في أخذ الغنيمة ومثله لا يزيد المسلمين وشوكتهم إلا ضعفاً كما يشهد لذلك الآية الشريفة : ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً ، وقضية أسامة بن زيد في ذلك معروفة .
ومنها غير ذلك من المصالح التي لاحظها النبي صلى الله عليه وآله مع علمه بكونهم حقيقة غير مؤمنين على ما نطق به الكتاب المبين في مواضع عديدة في قوله سبحانه : يحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ، وقوله : وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض . . .. الخ . وغير ذلك من الآيات الكثيرة .

( 253 )
وأين ذلك وزماننا هذا الذي قد كثر فيه المسلمون كثرة عظيمة ، وحينئذ فلا يمكن الاِلتزام بترتيب آثار الاِسلام على مجرد إظهار الشهادتين مع العلم بعدم كون إظهارها إلا صورياً محضاً خصوصاً مع ظهور اعتبار القول في كونه لاَجل الحكاية والطريقية عن الاِعتقاد في الباطن ، بل لابد من ترتيب آثار الكفر عليه في الفرض المزبور .

هل أن الكافر يعرف الله تعالى ؟

ـ مسالك الاَفهام ج 2 ص 75
النية معتبرة في الكفارة لاَنها عبادة تقع على وجوه مختلفة فلا يتميز المقصد منها بالنية لقوله صلى الله عليه وآله : إنما الاَعمال بالنيات ويعتبر فيها نية القربة لقوله تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ، وهذا هو القدر المتفق عليه منها . . . .
إذا تقرر ذلك فقد فرع المصنف على اعتبار نية القربة به أنه لا يصح من الكافر كتابياً كان أم غيره ، محتجاً بتعذر نية القربة في حقه ، وفيه نظر ، لاَنه إن أراد بنية القربة المتعذرة منه نية إيقاع الفعل طلباً للتقرب إلى الله بواسطة نيل الثواب أو ما جرى مجرى ذلك سواء حصل له ما نواه أم لا ، منعنا من تعذر نية القربة من مطلق الكافر ، لاَن من اعترف منهم بالله تعالى وكان كفره بجحد نبوة النبي صلى الله عليه وآله أو غيره من الاَنبياء أو بعض شرايع الاِسلام يمكن منه هذا النوع من التقرب ، وإنما يمتنع من الكافر المعطل الذي لا يعترف بوجود الله تعالى كالدهري وبعض عبدة الاَصنام ، وإن أراد بها إيقاعه على وجه التقرب إلى الله تعالى بحيث يستحق بها الثواب طالبناه بدليل على اشتراط مثل ذلك وعارضناه بعبارة المخالف من المسلمين وعتقه فإنه لا يستتبع الثواب عنده مع صحة عتقه ، وفي صحة عبادات غيره بحث فُرِد في محله .
وبالجملة فكلامهم في هذا الباب مختلف غير منقح ، لاَنهم تارة يحكمون ببطلان عبادة الكافر مطلقاً استناداً إلى تعذر نية القربة منه ، ومقتضى ذلك إرادة المعنى
( 254 )
الثاني لاَن ذلك هو المتعذر منه لا الاَول ، وتارة يجوزون منه بعض العبادات كالعتق وسيأتي تجويز جماعة من الاَصحاب له منه ، مع اشتراط القربة فيه نظراً إلى ما ذكرناه من الوجه في الاَول .
وقد وقع الخلاف بينهم في وقفه وصدقته وعتقه المتبرع به ونحو ذلك من التصرفات المالية المعتبر فيها القربة ، واتفقوا على عدم صحة العبادات البدنية منه نظراً إلى أن المال يراعي فيه جانب المدفوع إليه ولو بفك الرقبة من الرق فيرجح فيه جانب القربات بخلاف العبادات البدنية ، ومن ثم ذهب بعض العامة إلى عدم اشتراط النية في العتق والاِطعام واعتبرها في الصيام ، إلا أن هذا الاِعتبار غير منضبط عند الاَصحاب كما أشرنا إليه ، وسيأتي له في العتق زيادة بحث .
ثم عد إلى العبارة واعلم أن قوله ذمياً كان الكافر أو حربياً أو مرتداً لا يظهر للتسوية بين هذه الفرق مزية ، لاَن الكافر المقر بالله تعالى لا يفرق فيه بين الذمي والحربي ، وإن افترقا في الاِقرار بالجزية فإن ذلك أمر خارج عن هذا المطلق ، وإنما حق التسوية بين أصناف الكفار أن يقول سواء كان مقراً بالله كالكتابي أم جاحداً له كالوثني ، لاَن ذلك هو موضع الاِشكال ومحل الخلاف .
وأما ما قاله بعضهم من أن الكافر مطلقاً لا يعرف الله تعالى على الوجه المعتبر ولو عرفه لاَقر بجميع رسله ودين الاِسلام فهو كلام بعيد عن التحقيق جداً ، ولا ملازمة بين الاَمرين كما لا ملازمة بين معرفة المسلم لله تعالى ومعرفة دين الحق من فرق الاِسلام ، وكل حزب بما لديهم فرحون .

ـ مسالك الاَفهام ج 2 ص 153
قوله : ويصح اليمين من الكافر . . إلخ . إذا حلف الكافر بالله تعالى على شيَ سواء كان مقراً بالله كاليهودي والنصراني أو من كفر بجحد فريضة من المسلمين ، أو غير مقر به كالوثني ، ففي انعقاد يمينه أقوال أشهرها الاَول ، وهو الذي اختاره المصنف والشيخ في المبسوط وأتباعه وأكثر المتأخرين لوجود المقتضي وهو حلفه بالله تعالى
( 255 )
مع باقي الشرايط وانتفاء المانع إذ ليس هناك إلا كفره وهو غير مانع لتناول الاَدلة الدالة على انعقاد اليمين له من الآيات والاَخبار ، ولاَن الكفار مخاطبون بفروع الشرايع فيدخلون تحت عموم قوله تعالى : ولكن يؤاخذ كم بما عقدتم الاِيمان ، وغيره .
وقال الشيخ في الخلاف وابن ادريس لا ينعقد مطلقاً لاَن شرط صحتها الحلف بالله والكافر لا يعرف الله ، وفي إطلاق القولين معاً منع ظاهر .
وفصل العلامة جيداً في المختلف فقال إن كان كفره باعتبار جهله بالله وعدم علمه به لم ينعقد يمينه لاَنه يحلف بغير الله ، ولو عبر به فعبارته لغو لعدم اعتقاده ما يقتضي تعظيمه بالحلف به ، وإن كان جحده باعتبار جحد نبوة أو فريضة انعقدت يمينه ، لوجود المقتضي وهو الحلف بالله تعالى من عارف به إلى آخر ما اعتبر . وتوقف فعل المحلوف عليه لو كان طاعة والتكفير على تقدير الحنث على الاِسلام لا يمنع أصل الاِنعقاد ، لاَنه مشروط بشرط زايد على أصل اليمين فلا ملازمة بينهما .
وفائدة الصحة تظهر في بقاء اليمين لو أسلم في المطلقة أو قبل خروج وقت الموقتة ، وفي العقاب على متعلقها لو مات على كفره ولما يفعله لا في تدارك الكفارة ولو سبق الحنث الاِسلام ، لاَنها تسقط به عنه .
قوله : وفي صحة التكفير . . إلخ . إذا قلنا بصحة يمين الكافر على بعض الوجوه وحنث في يمينه وجبت عليه الكفارة مطلقاً ، ومذهب الاَصحاب عدم صحتها منه حال الكفر لاَنها من العبادات المشروطة بنية القربة ، وهي متعذرة في حقه سواء عرف الله أم لا ، لاَن المراد من القربة ما يترتب عليه الثواب وهو منتف في حقه .
والمصنف رحمه الله تردد في ذلك ووجه التردد ما ذكر ومن احتمال أن يراد بالقربة قصد التقرب إلى الله تعالى سواء حصل له القرب والثواب أم لا كما سبق تحقيقه في عتق الكافر ، ومن حيث أن بعض خصال الكفارة قد يشك في اعتبار نية القربة فيها كالاِطعام والكسوة كما يقوله العامة فإنهم لا يعتبرون النية إلا في الصوم من خصالها
( 256 )
ويجوزون الاِطعام ونحوه بدونها ، ولكن مذهب الاَصحاب اعتبار نية القربة في جميع خصالها ، وظاهرهم اختيار المعنى الاَول من معاني القربة ، ومن ثم أبطلوا عبادات الكافر ، ومن اختار منهم صحة يمينه منع من صحة التكفير منه مادام على كفره ، فما تردد المصنف رحمه الله فيه لا يظهر فيه خلاف معتد به .

بحث في معرفة الله تعالى عن طريق معرفة النفس

ـ تفسير الميزان للطباطبائي ج 6 ص 169 وما بعدها
في الغرر والدرر للآمدي عن علي عليه السلام قال : من عرف نفسه عرف ربه .
أقول ورواه الفريقان عن النبي أيضاً وهو حديث مشهور ، وقد ذكر بعض العلماء أنه من تعليق المحال ، ومفاده استحالة معرفة النفس لاستحالة الاِحاطة العلمية بالله سبحانه . ورد أولاً ، بقوله صلى الله عليه وآله في رواية أخرى : أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه . وثانياً ، بأن الحديث في معنى عكس النقيض ، لقوله تعالى : ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم .
وفيه عنه عليه السلام : قال الكيس من عرف نفسه وأخلص أعماله .
أقول : تقدم في البيان السابق معنى ارتباط الاِخلاص وتفرعه على الاِشتغال بمعرفة النفس .
وفيه عنه عليه السلام : قال المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين .
أقول : الظاهر أن المراد بالمعرفتين المعرفة بالآيات الاَنفسية والمعرفة بالآيات الآفاقية ، قال تعالى : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ، أو لم يكف بربك أنه على كل شيَ شهيد . حم السجدة ــ 53 ، وقال تعالى : وفي الاَرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون . الذاريات ــ 21 .
وكون السير الاَنفسي أنفع من السير الآفاقي لعله لكون المعرفة النفسانية لا تنفك عادةً من إصلاح أوصافها وأعمالها بخلاف المعرفة الآفاقية ، وذلك أن كون معرفة
( 257 )
الآيات نافعة إنما هو لاَن معرفة الآيات بما هي آيات موصلة إلى معرفة الله سبحانه وأسمائه وصفاته وأفعاله ، ككونه تعالى حياً لا يعرضه موت ، وقادراً لا يشوبه عجز ، وعالماً لا يخالطه جهل ، وأنه تعالى هو الخالق لكل شيء ، والمالك لكل شيَ ، والرب القائم على كل نفس بما كسبت ، خلق الخلق لا لحاجة منه إليهم بل لينعم عليهم بما استحقوه ، ثم يجمعهم ليوم الجمع لا ريب فيه ، ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين احسنوا بالحسنى .
وهذه وأمثالها معارف حقة ، إذا تناولها الاِنسان وأتقنها مثلت له حقيقة حياته وأنها حياة مؤبدة ذات سعادة دائمة أو شقوة لازمة ، وليست بتلك المتهوسة المنقطعة اللاهية اللاغية .
وهذا موقف علمي يهدي الاِنسان إلى تكاليف ووظائف بالنسبة إلى ربه وبالنسبة إلى أبناء نوعه في الحياة الدنيا والحياة الآخرة ، وهي التي نسميها بالدين ، فإن السنة التي يلتزمها الاِنسان في حياته ولا يخلو عنها حتى البدوي والهمجي إنما يضعها ويلتزمها أو يأخذها ويلتزمها لنفسه من حيث أنه يقدر لنفسه نوعاً من الحياة أي نوع كان، ثم يعمل بما استحسنه من السنة لاِسعاد تلك الحياة، وهذا من الوضوح بمكان .
فالحياة التي يقدرها الاِنسان لنفسه تمثل له الحوائج المناسبة لها فيهتدي بها إلى الاَعمال التي تضمن عادة رفع تلك الحوائج فيطبق الاِنسان عمله عليها ، وهو السنة أو الدين .
فتلخص مما ذكرنا أن النظر في الآيات الاَنفسية والآفاقية ومعرفة الله سبحانه بها يهتدي الاِنسان إلى التمسك بالدين الحق والشريعة الاِلَهية ، من جهة تمثيل المعرفة المذكورة الحياة الاِنسانية المؤبدة له عند ذلك ، وتعلقها بالتوحيد والمعاد والنبوة .
وهذه الهداية إلى الاِيمان والتقوى يشترك فيها الطريقان معاً ، أعني طريقي النظر إلى الآفاق والاَنفس ، فهما نافعان جميعاً ، غير أن النظر إلى آيات النفس أنفع فإنه لا يخلو من العثور على ذات النفس وقواها وأدواتها الروحية والبدنية وما يعرضها من
( 258 )
الاِعتدال في أمرها أو طغيانها أو خمودها ، والملكات الفاضلة أو الرذيلة والاَحوال الحسنة أو السيئة التي تقارنها .
واشتغال الاِنسان بمعرفة هذه الاَمور والاِذعان بما يلزمها من أمن أو خطر وسعادة أو شقاوة لا ينفك من أن يعرفه الداء والدواء من موقف قريب ، فيشتغل بإصلاح الفاسد منها والاِلتزام بصحيحها ، بخلاف النظر في الآيات الآفاقية فإنه إن دعا إلى إصلاح النفس وتطهيرها من سفاسف الاَخلاق ورذائلها وتحليتها بالفضائل الروحية ، لكنه ينادي لذلك من مكان بعيد ، وهو ظاهر .
وللرواية معنى آخر أدق مستخرج من نتائج الاَبحاث الحقيقية في علم النفس ، وهو أن النظر في الآيات الآفاقية والمعرفة الحاصلة من ذلك نظر فكري وعلم حصولي ، بخلاف النظر في النفس وقواها وأطوار وجودها والمعرفة المتجلية منها ، فإنه نظر شهودي وعلم حضوري ، والتصديق الفكري يحتاج في تحققه إلى نظم الاَقيسة واستعمال البرهان وهو باق ما دام الاِنسان متوجهاً إلى مقدماته غير ذاهل عنها ولا مشتغل بغيرها ، ولذلك يزول العلم بزوال الاِشراف على دليله وتكثر فيه الشبهات ويثور فيه الاِختلاف .
وهذا بخلاف العلم النفساني بالنفس وقواها وأطوار وجودها فإنه من العيان فإذا اشتغل الاِنسان بالنظر إلى آيات نفسه وشاهد فقرها إلى ربها وحاجتها في جميع أطوار وجودها وجد أمراً عجيباً ، وجد نفسه متعلقة بالعظمة والكبرياء متصلة في وجودها وحياتها وعلمها وقدرتها وسمعها وبصرها وإرادتها وحبها وسائر صفاتها وأفعالها ، بما لا يتناهى بهاءً وسناءً وجمالاً وجلالاً وكمالاً من الوجود والحياة والعلم والقدرة وغيرها من كل كمال .
وشاهد ما تقدم بيانه أن النفس الاِنسانية لا شأن لها إلا في نفسها ، ولا مخرج لها من نفسها ، ولا شغل لها إلا السير الاِضطراري في مسير نفسها ، وإنها منقطعة عن كل شيء كانت تظن أنها مجتمعة معه مختلطة به إلا ربها ، المحيط بباطنها وظاهرها وكل
( 259 )
شيء دونها ، فوجدت أنها دائماً في خلأ مع ربها وإن كانت في ملأ من الناس .
وعند ذلك تنصرف عن كل شيء وتتوجه إلى ربها وتنسى كل شيء ، وتذكر ربها فلا يحجبه عنها حجاب ، ولا تستتر عنه بستر ، وهو حق المعرفة الذي قدر للانسان .
وهذه المعرفة الاَحرى بها أن تسمى بمعرفة الله بالله . . . .
وأما المعرفة الفكرية التي يفيدها النظر في الآيات الآفاقية سواء حصلت من قياس أو حدس أو غير ذلك ، فإنما هي معرفة بصورة ذهنية عن صورة ذهنية ، وجل الاِلَه أن يحيط به ذهن أو تساوي ذاته صورة مختلقة اختلقها خلق من خلقه ، ولا يحيطون به علما .
وقد روى في الاِرشاد والاِحتجاج على ما في البحار عن الشعبي عن أمير المؤمنين عليه السلام في كلام له : إن الله أجل من أن يحتجب عن شيء أو يحتجب عنه شيء . وفي التوحيد عن موسى بن جعفر عليه السلام في كلام له : ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه ، احتجب بغير حجاب محجوب ، واستتر بغير ستر مستور ، لا إلَه إلا هو الكبير المتعال . وفي التوحيد مسنداً عن عبد الاَعلى عن الصادق عليه السلام في حديث : ومن زعم أنه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال ، فهو مشرك ، لاَن الحجاب والصورة والمثال غيره ، وإنما هو واحد موحد ، فكيف يوحد من زعم أنه يوحده بغيره ! إنما عرف الله من عرفه بالله فمن لم يعرفه به فليس يعرفه ، إنما يعرف غيره . . الحديث . والاَخبار المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في معنى ما قدمناه كثيرة جداً لعل الله يوفقنا لاِيرادها وشرحها في ما سيأتي إن شاء الله العزيز من تفسير سورة الاَعراف .
فقد تحصل أن النظر في آيات الاَنفس أنفس وأغلى قيمةً ، وأنه هو المنتج لحقيقة المعرفة فحسب ، وعلى هذا فعده عليه السلام إياها أنفع المعرفتين لا معرفة متعينة إنما هو لاَن العامة من الناس قاصرون عن نيلها ، وقد أطبق الكتاب والسنة وجرت السيرة الطاهرة النبوية وسيرة أهل بيته الطاهرين على قبول من آمن بالله عن نظر آفاقي وهو النظر الشائع بين المؤمنين . فالطريقان نافعان جميعاً ، لكن النفع في طريق النفس أتم وأغزر .

( 260 )
وفي الدرر والغرر عن علي عليه السلام قال : العارف من عرف نفسه فاعتقها ونزهها عن كل ما يبعدها . أقول : أي أعتقها عن إسارة الهوى وَرِقِّية الشهوات .
وفيه عنه عليه السلام قال : أعظم الجهل جهل الاِنسان أمر نفسه .
وفيه عنه عليه السلام قال : أعظم الحكمة معرفة الاِنسان نفسه .
وفيه عنه عليه السلام قال : أكثر الناس معرفة لنفسه أخوفهم لربه . أقول : وذلك لكونه أعلمهم بربه وأعرفهم به ، وقد قال الله سبحانه : إنما يخشى الله من عباده العلماء .
وفيه عنه عليه السلام قال : أفضل العقل معرفة المرء بنفسه ، فمن عرف نفسه عقل ومن جهلها ضل .
وفيه عنه عليه السلام قال : عجبت لمن ينشد ضالته وقد أضل نفسه فلا يطلبها .
وفيه عنه عليه السلام قال : عجبت لمن يجهل نفسه كيف يعرف ربه .
وفيه عنه عليه السلام قال : غاية المعرفة أن يعرف المرء نفسه . أقول : وقد تقدم وجه كونها غاية المعرفة فإنها المعرفة حقيقة .
وفيه عنه عليه السلام قال : كيف يعرف غيره من يجهل نفسه .
وفيه عنه عليه السلام قال : كفى بالمرء معرفةً أن يعرف نفسه ، وكفى بالمرء جهلاً أن يجهل نفسه .
وفيه عنه عليه السلام قال : من عرف نفسه تجرد . أقول : أي تجرد عن علائق الدنيا ، أو تجرد عن الناس بالاِعتزال عنهم ، أو تجرد عن كل شيء بالاِخلاص لله .
وفيه عنه عليه السلام قال : من عرف نفسه جاهدها ، ومن جهل نفسه أهملها .
وفيه عنه عليه السلام قال : من عرف نفسه جل أمره .
وفيه عنه عليه السلام قال : من عرف نفسه كان لغيره أعرف ، ومن جهل نفسه كان بغيره أجهل .
وفيه عنه عليه السلام قال : من عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كل معرفة وعلم .
وفيه عنه عليه السلام قال : من لم يعرف نفسه بعد عن سبيل النجاة ، وخبط في الضلال والجهالات .

( 261 )
وفيه عنه عليه السلام قال : معرفة النفس أنفع المعارف .
وفيه عنه عليه السلام قال : نال الفوز الاَكبر من ظفر بمعرفة النفس .
وفيه عنه عليه السلام قال : لا تجهل نفسك فإن الجاهل معرفة نفسه جاهل بكل شيء .
وفي تحف العقول عن الصادق عليه السلام في حديث : من زعم أنه يعرف الله بتوهم القلوب فهو مشرك ، ومن زعم أنه يعرف الله بالاِسم دون المعنى فقد أقر بالطعن لاَن الاِسم محدث ، ومن زعم أنه يعبد الاِسم والمعنى فقد جعل مع الله شريكاً ، ومن زعم أنه يعبد بالصفة لا بالاِدراك فقد أحال على غائب ، ومن زعم أنه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغر بالكبير ، وما قدروا الله حق قدره .
قيل له فكيف سبيل التوحيد ؟ قال : باب البحث ممكن وطلب المخرج موجود ، إن معرفة عين الشاهد قبل صفته ، ومعرفة صفة الغائب قبل عينه . قيل وكيف يعرف عين الشاهد قبل صفته ؟ قال : تعرفه وتعلم علمه ، وتعرف نفسك به ولا تعرف نفسك من نفسك ، وتعلم أن ما فيه له وبه ، كما قالوا ليوسف إنك لاَنت يوسف ، قال أنا يوسف وهذا أخي ، فعرفوه به ولم يعرفوه بغيره ولا أثبتوه من أنفسهم بتوهم القلوب . . . . الحديث .
أقول قد أوضحنا في ذيل قوله عليه السلام المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين ، الرواية الثانية من الباب أن الاِنسان إذا اشتغل بآية نفسه وخلا بها عن غيرها انقطع إلى ربه من كل شيء وعقب ذلك معرفة ربه معرفة بلا توسيط وسط وعلماً بلا تسبيب سبب ، إذ الاِنقطاع يرفع كل حجاب مضروب ، وعند ذلك يذهل الاِنسان بمشاهدة ساحة العظمة والكبرياء عن نفسه . وأحرى بهذه المعرفة أن تسمى معرفة الله بالله . . . . وانكشف له عند ذلك من حقيقة نفسه أنها الفقيرة إلى الله سبحانه المملوكة له ملكاً لا تستقل بشيء دونه ، وهذا هو المراد بقوله عليه السلام : تعرف نفسك به ، ولا تعرف نفسك بنفسك من نفسك ، وتعلم أن ما فيه له وبه .
وفي هذا المعنى ما رواه المسعودي في إثبات الوصية عن أمير المؤمنين عليه السلام قال
( 262 )
في خطبة له : فسبحانك ملأت كل شيء وباينت كل شيء ، فأنت لا يفقدك شيء وأنت الفعال لما تشاء . . . . إلى أن قال : سبحانك أي عين تقوم نصب بهاء نورك وترقى إلى نور ضياء قدرتك ، وأي فهم يفهم ما دون ذلك إلا أبصار كشفت عنها الاَغطية وهتكت عنها الحجب العمية فرقت أرواحها على أطراف أجنحة الاَرواح ، فناجوك في أركانك وولجوا بين أنوار بهائك ، ونظروا من مرتقى التربة إلى مستوى كبريائك ، فسماهم أهل الملكوت زواراً ، ودعاهم أهل الجبروت عماراً .
وفي البحار عن إرشاد الديلمي وذكر بعد ذلك سندين لهذا الحديث وفيه : فمن عمل برضائي ألزمه ثلاث خصال : أعرفه شكراً لا يخالطه الجهل ، وذكراً لا يخالطه النسيان ، ومحبةً لا يؤثر على محبتي محبة المخلوقين . فإذا أحبني أحببته وأفتح عين قلبه إلى جلالي ولا أخفي عليه خاصة خلقي وأناجيه في ظلم الليل ونور النهار ، حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم ، واسمعه كلامي وكلام ملائكتي وأعرفه السر الذي سترته عن خلقي ، وألبسه الحياء حتى يستحيي منه الخلق كلهم ، ويمشي على الاَرض مغفوراً له ، واجعل قلبه واعياً وبصيراً ، ولا أخفي عليه شيئاً من جنة ولا نار ، وأعرفه ما يمر على الناس في القيامة من الهول والشدة ، وما أحاسب به الاَغنياء والفقراء والجهال والعلماء ، وأنومه في قبره وأنزل عليه منكراً ونكيراً حتى يسألاه ، ولا يرى غم الموت وظلمة القبر واللحد وهول المطلع ، ثم أنصب له ميزانه وأنشر ديوانه ، ثم أضع كتابه في يمينه فيقرؤه منشوراً ، ثم لا أجعل بيني وبينه ترجماناً . فهذه صفات المحبين .
يا أحمد إجعل همك هماً واحداً ، واجعل لسانك لساناً واحداً ، واجعل بدنك حياً لا يغفل أبداً ، من يغفل عني لا أبالي بأي وادٍ هلك .
والروايات الثلاثة الاَخيرة وإن لم تكن من أخبار هذا البحث المعقود على الاِستقامة ، إلا أنا إنما أوردناها ليقضي الناقد البصير بما قدمناه من أن المعرفة الحقيقية لا تستوفي بالعلم الفكري حق استيفائها ، فإن الروايات تذكر أموراً من
( 263 )
المواهب الاِلَهية المخصوصة بأوليائه لا ينتجها السير الفكري البتة . وهي أخبار مستقيمة صحيحة يشهد على صحتها الكتاب الاِلَهي على ما سنبين ذلك فيما سيوافيك من تفسير سورة الاَعراف إن شاء الله العزيز . . . .
وأما سائر الفرق المذهبية من الهنود كالجوكية أصحاب الاَنفاس والاَوهام وكأصحاب الروحانيات وأصحاب الحكمة وغيرهم ، فلكل طائفة منهم رياضات شاقة عملية لا تخلو عن العزلة وتحريم اللذائذ الشهوانية على النفس .
وأما البوذية فبناء مذهبهم على تهذيب النفس ومخالفة هواها وتحريم لذائذها عليها للحصول على حقيقة المعرفة ، وقد كان هذه هي الطريقة التي سلكها بوذا نفسه في حياته فالمنقول أنه كان من أبناء الملوك أو الرؤساء فرفض زخارف الحياة وهجر أريكة العرش إلى غابة موحشة لزمها في ريعان شبابه واعتزل الناس وترك التمتع بمزايا الحياة وأقبل على رياضة نفسه والتفكر في أسرار الخلقة ، حتى قذفت المعرفة في قلبه وسنه إذ ذاك ستة وثلاثون ، وعند ذاك خرج إلى الناس فدعاهم إلى ترويض النفس وتحصيل المعرفة ولم يزل على ذلك قريباً من أربع وأربعين سنة على ما في التواريخ .
وأما الصابئون ونعني بهم أصحاب الروحانيات فهم وإن أنكروا أمر النبوة غير أن لهم في طريق الوصول إلى كمال المعرفة النفسانية طرقاً لا تختلف كثيراً عن طرق البراهمة والبوذيين ، قالوا : على ما في الملل والنحل ، أن الواجب علينا أن نطهر نفوسنا عن دنس الشهوات الطبيعية ، ونهذب أخلاقنا عن علائق القوى الشهوانية والغضبية ، حتى يحصل مناسبه ما بيننا وبين الروحانيات ، فنسأل حاجاتنا منهم ونعرض أحوالنا عليهم ونصبوا في جميع أمورنا إليهم ، فيشفعون لنا إلى خالقنا وخالقهم ورازقنا ورازقهم .
وهذا التطهير ليس يحصل إلا باكتسابنا ورياضتنا ، وفطامنا أنفسنا عن دنيئات الشهوات ، استمداداً من جهة الروحانيات ، والاِستمداد هو التضرع والاِبتهال
( 264 )
بالدعوات وإقامة الصلوات ، وبذل الزكوات ، والصيام عن المطعومات والمشروبات، وتقريب القرابين والذبائح ، وتبخير البخورات وتعزيم العزائم ، فيحصل لنفوسنا استعداد واستمداد من غير واسطة . انتهى .
وهؤلاء وإن اختلفوا فيما بين أنفسهم بعض الاِختلاف في العقائد العامة الراجعة إلى الخلق والاِيجاد لكنهم متفقوا الرأي في وجوب ترويض النفس للحصول على كمال المعرفة وسعادة النشأة .
وأما المانوية من الثنوية ، فاستقرار مذهبهم على كون النفس من عالم النور العلوي وهبوطها إلى هذه الشبكات المادية المظلمة المسماة بالاَبدان ، وأن سعادتها وكمالها التخلص من دار الظلمة إلى ساحة النور ، إما اختياراً بالترويض النفساني وإما اضطراراً بالموت الطبيعي المعروف .
وأما أهل الكتاب ونعني بهم اليهود و النصارى والمجوس ، فكتبهم المقدسة وهي العهد العتيق والعهد الجديد وأوستا ، مشحونة بالدعوة إلى إصلاح النفس وتهذيبها و مخالفة هواها . ولا تزال كتب العهدين تذكر الزهد في الدنيا والاِشتغال بتطهير السر ، ولا يزال يتربى بينهم جم غفير من الزهاد وتاركي الدنيا ، جيلاً بعد جيل وخاصة النصارى فإن من سننهم المتبعة الرهبانية . وقد ذكر أمر رهبانيتهم في القرآن الشريف قال تعالى : ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون . المائدة ــ 82 وقال تعالى : ورهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها . الحديد ــ 27 ، كما ذكر المتعبدون من اليهود في قوله : ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين . آل عمران ــ 114 .
وأما الفرق المختلفة من أصحاب الاِرتياضات والاَعمال النفسية كأصحاب السحر والسيمياء ، وأصحاب الطلسمات وتسخير الاَرواح والجن وروحانيات
( 265 )
الحروف والكواكب وغيرها ، وأصحاب الاِحضار وتسخير النفوس ، فلكل منهم ارتياضات نفسية خاصة تنتج نوعاً من السلطة على أمر النفس .
وجملة الاَمر على ما يتحصل من جميع ما مر : أن الوجهة الاَخيرة لجميع أرباب الاَديان والمذاهب والاَعمال هو تهذيب النفس بترك هواها والاِشتغال بتطهيرها من شوب الاَخلاق والاَحوال غير المناسبة للمطلوب .
لعلك ترجع وتقول إن الذي ثبت من سنن أرباب المذاهب والطرق وسيرهم هو الزهد في الدنيا وهو غير مسألة معرفة النفس أو الاِشتغال بأمر النفس بالمعنى الذي تقدم البحث عنه . وبلفظ أوضح : الذي يندب إليه الاَديان والمذاهب التي تدعو إلى العبودية بنحو أن يتزهد الاِنسان نوع تزهد في الدنيا بإتيان الاَعمال الصالحة وترك الهوى والآثام ورذائل الاَخلاق ليتهيأ بذلك لاَحسن الجزاء إما في الآخرة كما تصرح به الاَديان النبوية كاليهودية والنصرانية والاِسلام ، أو في الدنيا كما استقر عليه دين الوثنية ومذهب التناسخ وغيرهما ، فالمتعبد على حسب الدستور الديني يأتي بما ندب إليه من نوع التزهد من غير أن يخطر بباله أن هناك نفساً مجردة وأن لها نوعاً من المعرفة فيه سعادتها وكمال وجودها .
وكذلك الواحد من أصحاب الرياضات على اختلاف طرقها وسننها إنما يرتاض بما يرتاض من مشاق الاَعمال ولا همَّ له في ذلك إلا حيازة المقام الموعود فيها والتسلط على نتيجة العمل كنفوذ الاِرادة مثلاً ، وهو في غفلة من أمر النفس المذكور من حين يأخذ في عمله إلى حين يختمه . على أن في هؤلاء من لا يرى في النفس إلا أنها أمر مادي طبيعي كالدم أو الروح البخار أو الاَجزاء الاَصلية ، ومن يرى أن النفس جسم لطيف مشاكل للبدن العنصري حال فيه وهو الحامل للحياة ، فكيف يسوغ القول بكون الجميع يرومون بذلك أمر معرفة النفس .
لكنه ينبغي لك أن تتذكر ما تقدم ذكره أن الاِنسان في جميع هذه المواقف التي يأتي فيها بأعمال تصرف النفس عن الاِشتغال بالاَمور الخارجية والتمتعات المتفننة
( 266 )
المادية إلى نفسها ، للحصول على خواص وآثار لا توصل إليها الاَسباب المادية والعوامل الطبيعية العادية ، لا يريد إلا الاِنفصال عن العلل والاَسباب الخارجية والاِستقلال بنفسه للحصول على نتائج خاصة لا سبيل للعوامل المادية العادية إليها . فالمتدين المتزهد في دينه يرى أن من الواجب الاِنساني أن يختار لنفسه سعادته الحقيقية ، وهي الحياه الطيبة الاَخروية عند المنتحلين بالمعاد ، والحياة السعيدة الدنيوية التي تجمع له الخير وتدفع عنه الشر عند المنكرين له كالوثنية وأصحاب التناسخ ، ثم يرى أن الاِسترسال في التمتعات الحيوانية لا تحوز له سعادته ولا تسلك به إلى غرضه ، فلا محيص له عن رفض الهوى وترك الاِنطلاق إلى كل ما تتهوسه نفسه بأسبابها العادية في الجملة ، والاِنجذاب إلى سبب أو اسباب فوق الاَسباب المادية العادية بالتقرب إليه والاِتصال به ، وأن هذا التقرب والاِتصال إنما يتأتى بالخضوع له والتسليم لاَمره ، وذلك أمر روحي نفساني لا ينحفظ إلا بأعمال وتروك بدنية وهذه هي العبادة الدينية من صلاة ونسك أو ما يرجع إلى ذلك .
فالاَعمال والمجاهدات والاِرتياضات الدينية ترجع جميعاً إلى نوع من الاِشتغال بأمر النفس ، والاِنسان يرى بالفطرة أنه لا يأخذ شيئاً ولا يترك شيناً إلا لنفع نفسه ، وقد تقدم أن الاِنسان لا يخلو ولا لحظة من لحظات وجوده من مشاهدة نفسه وحضور ذاته ، وأنه لا يخطيَ في شعوره هذا البتة ، وإن أخطأ فإنما يخطيَ في تفسيره بحسب الرأي النظري والبحث الفكري .
فظهر بهذا البيان أن الاَديان والمذاهب على اختلاف سننها وطرقها تروم الاِشتغال بأمر النفس في الجملة ، سواء علم بذلك المنتحلون بها أم لم يعلموا . وكذلك الواحد من أصحاب الرياضات والمجاهدات وإن لم يكن منتحلاً بديلاً ولا مؤمناً بأمر حقيقة النفس ، لا يقصد بنوع رياضته التي يرتاض بها إلا الحصول على نتيجتها الموعودة له ، وليست النتيجة الموعودة مرتبطة بالاَعمال والتروك التي يأتي بها ارتباطاً طبيعياً نظير الاِرتباط الواقع بين الاَسباب الطبيعية ومسبباتها ، بل هو
( 267 )
ارتباط إرادي غير مادي متعلق بشعور المرتاض وإرادته المحفوظين بنوع العمل الذي يأتي به ، دائر بين نفس المرتاض وبين النتيجة الموعودة .
فحقيقة الرياضة المذكورة هي تأييد النفس وتكميلها في شعورها وإرادتها للنتيجة المطلوبة . وإن شئت قلت : أثر الرياضة أن تحصل للنفس حالة العلم بأن المطلوب مقدور لها ، فإذا صحت الرياضة وتمت صارت بحيث لو أرادت المطلوب مطلقاً أو أرادته على شرائط خاصة ، كإحضار الروح للصبي غير المراهق في المرآة ، حصل المطلوب .
وإلى هذا الباب يرجع معنى ما روي : أنه ذكر عند النبي صلى الله عليه وآله أن بعض أصحاب عيسى عليه السلام كان يمشي على الماء فقال صلى الله عليه وآله : لو كان يقينه أشد من ذلك لمشى على الهواء ، فالحديث كما ترى يومىَ إلى أن الاَمر يدور مدار اليقين بالله سبحانه وإمحاء الاَسباب الكونية عن الاِستقلال في التأثير .
فإلى أي مبلغ بلغ ركون الاِنسان إلى القدرة المطلقة الاِلَهية انقادت له الاَشياء على قدره ، فافهم ذلك .
ومن أجمع القول في هذا الشأن قول الصادق عليه السلام : ما ضعف بدن عما قويت عليه النية . وقال صلى الله عليه وآله في الحديث المتواتر : إنما الاَعمال بالنيات .
فقد تبين أن الآثار الدينية للاَعمال والعبادات وكذلك آثار الرياضات والمجاهدات إنما تستقر الرابطة بينها وبين النفس الاِنسانية بشؤونها الباطنية ، فالاِشتغال بشيء منها اشتغال بأمر النفس . . . .
إياك أن يشتبه عليك الاَمر فتستنتج من الاَبحاث السابقة أن الدين هو العرفان والتصوف ، أعني معرفة النفس كما توهمه بعض الباحثين من الماديين ، فقسم المسلك الحيوي الدائر بين الناس إلى قسمين المادية والعرفان وهو الدين . وذلك أن الذي يعقد عليه الدين أن للاِنسان سعادة حقيقية ليس ينالها إلا بالخضوع لما فوق الطبيعة ، ورفض الاِقتصار على التمتعات المادية .

( 268 )
وقد أنتجت الاَبحاث السابقة أن الاَديان أياً ما كانت من حق أو باطل تستعمل تربية الناس وسوقهم إلى السعادة التي تعدهم إياها ، وتدعوهم إليها إصلاح النفس وتهذيبها إصلاحاً وتهذيباً يناسب المطلوب . وأين هذا من كون عرفان النفس هو الدين .
فالدين يدعو إلى عبادة الاِلَه سبحانه من غير واسطة أو بواسطة الشفعاء والشركاء لاَن فيها السعادة الاِنسانية والحياة الطيبة التي لا بغية للاِنسان دونها ، ولا ينالها الاِنسان ولن ينالها إلا بنفس طاهرة مطهرة من ألواث التعلق بالماديات والتمتعات المرسلة الحيوانية ، فمست الحاجة إلى أن يدرج في أجزاء دعوته إصلاح النفس وتطهيرها ليستعد المنتحل به المتربي في حجره للتلبس بالخير والسعادة ولا يكون كمن يتناول الشيء بإحدى يديه ويدفعه بالاَخرى .
فالدين أمر وعرفان النفس أمر آخر وراءه وإن استلزم الدين العرفان نوعاً من الاِستلزام .
وبنظير البيان يتبين أن طرق الرياضة والمجاهدة المسلوكة لمقاصد متنوعة غريبة عن العادة أيضاً غير عرفان النفس وإن ارتبط البعض بالبعض نحواً من الاِرتباط .
نعم لنا أن نقضي بأمر وهو : إن عرفان النفس بأي طريق من الطرق فرض السلوك إليه إنما هو أمر مأخوذ من الدين ، كما أن البحث البالغ الحر يعطي أن الاَديان على اختلافها وتشتتها إنما انشعبت هذه الاِنشعابات من دين واحد عريق تدعو إليه الفطرة الاِنسانية وهو دين التوحيد .
فإنا إذا راجعنا فطرتنا الساذجة بالاِغماض عن التعصبات الطارئة علينا بالوراثة من أسلافنا أو بالسراية من أمثالنا لم نرتب في أن العالم على وحدته في كثرته وارتباط أجزائه في عين تشتتها ، ينتهي إلى سبب واحد فوق الاَسباب وهو الحق الذي يجب الخضوع لجانبه ، وترتيب السلوك الحيوي على حسب تدبيره وتربيته ، وهو الدين المبني على التوحيد .

( 269 )
والتأمل العميق في جميع الاَديان والنحل يعطي أنها مشتملة نوع اشتمال على هذا الروح الحي حتى الوثنية والثنوية ، وإنما وقع الاِختلاف في تطبيق السنة الدينية على هذا الاَصل والاِصابة والخطأ فيه ، فمن قائل مثلاً أنه أقرب إلينا من حبل الوريد وهو معنا أينما كنا ليس لنا من دونه من ولي ولا شفيع ، فمن الواجب عبادته وحده من غير إشراك ، ومن قائل أن تسفل الاِنسان الاَرضي وخسة جوهره لا يدع له مخلصاً إلى الاِتصال بذاك الجناب ، وأين التراب ورب الاَرباب فمن الواجب أن نتقرب إلى بعض عباده المكرمين المتجردين عن جلباب المادة ، الطاهرين المطهرين من ألواث الطبيعة ، وهم روحانيات الكواكب ، أو أرباب الاَنواع ، أو المقربون من الاِنسان ، وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . وإذ كانوا غائبين عن حواسنا متعالين عن جهاتنا كان من الواجب أن نجسدهم بالاَنصاب والاَصنام حتى يتم بذلك أمر التقرب العبادي . وعلى هذا القياس في سائر الاَديان والملل ، فلا نجد في متونها إلا ما هو بحسب الحقيقة نحو توجيه لتوحيد الاِلَه عز اسمه .
ومن المعلوم أن السنن الدائرة بين الناس وإن انشعبت أي انشعاب واختلفت أي اختلاف شديد ، فإنها تميل إلى التوحد إذا رجعنا إلى سابق عهودها القهقرى ، وتنتهي بالآخرة إلى دين الفطرة الساذجة الاِنسانية وهو التوحيد .
فدين التوحيد أبو الاَديان وهي أبناء له صالحة أو طالحة .
ثم إن الدين الفطري إنما يعتبر أمر عرفان النفس ليتوصل به إلى السعادة الاِنسانية التي يدعو إليها ، وهي معرفة الاِلَه التي هي المطلوب الاَخير عنده . وبعبارة أخرى : الدين إنما يدعو إلى عرفان النفس دعوة طريقية لا غائية ، فإن الذوق الديني لا يرتضي الاِشتغال بأمر إلا في سبيل العبودية ، وإن الدين عند الله الاِسلام ولا يرضى لعباده الكفر ، فكيف يرضى بعرفان النفس إذا استقل بالمطلوبية .
ومن هنا يظهر أن العرفان ينتهي إلى أصل الدين الفطري إذ ليس هو بنفسه أمراً مستقلاً تدعو إليه الفطرة الاِنسانية ، حتى تنتهي فروعه وأغصانه إلى أصل واحد هو العرفان الفطري .

( 270 )
ويمكن أن يستأنس في ذلك بأمر آخر وهو : أن الاِنسانية وإن اندفعت بالفطرة إلى الاِجتماع والمدنية لاِسعاد الحياة ، وأثبت النقل والبحث أن رجالاً أو أقواماً اجتماعيين دعوا إلى طرائق قومية أو وضعوا سنناً اجتماعية وأجروها بين أممهم كسنن القبائل والسنن الملوكية والديمقراطية ونحوها ، ولم يثبت بنقل أو بحث أن يدعو إلى عرفان النفس وتهذيب أخلاقها أحد من غير أهل الدين في طول التاريخ البشري .
نعم من الممكن أن يكون بعض أصحاب هذه الطرق غير الدينية كأصحاب السحر والاَرواح ونحوهما إنما تنبه إلى هذا النوع من عرفان النفس من غير طريق الدين ، لكن لا من جهة الفطرة ، إذ الفطرة لا حكم لها في ذلك كما عرفت ، بل من جهة مشاهدة بعض الآثار النفسانية الغريبة على سبيل الاِتفاق ، فتتوق نفسه إلى الظفر بمنزلة نفسانية يملك بها أعمالاً عجيبة وتصرفات في الكون نادرة تستغربها النفوس ، فيدفعه هذا التوقان إلى البحث عنه والسلوك إليه ، ثم السلوك بعد السلوك يمهد السبيل إلى المطلوب ويسهل الوعر منه .
يحكى عن كثير من صلحائنا من أهل الدين أنهم نالوا في خلال مجاهداتهم الدينية كرامات خارقة للعادة ، وحوادث غريبة اختصوا بها من بين أمثالهم كتمثل أمور لاَبصارهم غائبة عن أبصار غيرهم ، ومشاهدة أشخاص أو وقائع لا يشاهدها حواس من دونهم من الناس ، واستجابة للدعوة وشفاء المريض الذي لا مطمع لنجاح المداواة فيه ، والنجاة من المخاطر والمهالك من غير طريق العادة .
وقد يتفق نظائر ذلك لغير أهل الصلاح إذا كان ذا نية صادقة ونفس منقطعة ، فهؤلاء يرون ما يرون وهم على غفلة من سببه القريب ، وإنما يسندون ذلك إلى الله سبحانه من غير توسيط وسط .
واستناد الاَمور إليه تعالى وإن كان حقاً لا محيص عن الاِعتراف به ، لكن نفي الاَسباب المتوسطة مما لا مطمع فيه .

( 271 )
وربما أحضر الروحي روح أحد من الناس في مرآة أو ماء ونحوه بالتصرف في نفس صبي على ما هو المتعارف ، وهو كغيره يرى أن الصبي إنما يبصره بالبصر الحسي ، وأن بين أبصار سائر الناظرين وبين الروح المحضر حجاباً مضروباً ، لو كشف عنه لكانوا مثل الصبي في الظفر بمشاهدته .
وربما وجدوا الاَرواح المحضرة أنها تكذب في أخبارها فيكون عجباً لاَن عالم الاَرواح عالم الطهارة والصفاء لا سبيل للكذب والفرية والزور إليه .
وربما أحضروا روح إنسان حي فيستنطقونه بأسراره وضمائره وصاحب الروح في حالة اليقظة مشغول بأشغاله وحوائجه اليومية لا خبر عنده من أن روحه محضر مستنطق يبث من القول ما لا يرضى هو ببثه .
وربما نوم الاِنسان تنويماً مغناطيسياً ، ثم لقن بعمل حتى ينعم بقبوله ، فإذا أوقظ ومضى لشأنه أتى بالعمل الذي لقنه على الشريطة التي أريد بها وهو غافل عما لقنوه، وعن إنعامه بقبوله .
وبعض الروحيين لما شاهدوا صوراً روحية تماثل الصور الاِنسانية أو صور بعض الحيوان ظنوا أن هذه الصور في عالم المادة وظرف الطبيعة المتغيرة ، وخاصة بعض من لا يرى لغير الاَمر المادي وجوداً ، حتى حاول بعض هؤلاء أن يخترع أدوات صناعية يصطاد بها الاَرواح ! كل ذلك استناداً منهم إلى فرضية افترضوها في النفس أنها مبدأ مادي أو خاصة لمبدأ مادي ، يفعل بالشعور والاِرادة ، مع أنهم لم يحلوا مشكلة الحياة والشعور حتى اليوم .
ونظير هذه الفرضية فرضية من يرى أن الروح جسم لطيف مشاكل للبدن العنصري في هيئاته وأشكاله ، لما وجدوا أن الاِنسان يرى نفسه في المنام وهو على هيئته في اليقظة ، وربما يمثل لاَرباب المجاهدات صور أنفسهم قبالاً خارج أبدانهم وهي مشاكلة للصورة البدنية مشاكلة تامة ، فحكموا أن الروح جسم لطيف حال البدن العنصري مادام الاِنسان حياً فإذا فارق البدن كان هو الموت .

( 272 )
وقد فاتهم أن هذه صورة إدراكية قائمة بشعور الاِنسان نظيره صورته التي يدركها من بدنه ، ونظيره صور سائر الاَشياء الخارجة المنفصلة عن بدنه ، وربما تظهر هذه الصورة المنفصلة لبعض أرباب المجاهدة أكثر من واحدة ، أو في هيئة غير هيئة نفسه، وربما يرى نفسه عين نفس غيره من أفراد الناس ، فإذا لم يحكموا في هذه الصور المذكور أنها هي صورة الروح ، فجدير بهم أن لا يحكموا في الصورة الواحدة المشاكلة التي تتراءى لاَرباب المجاهدات أنها صورة الروح .
وحقيقة الاَمر أن هؤلاء نالوا شيئاً من معارف النفس وفاتهم معرفة حقيقتها ، فأخطأوا في تفسير ما نالوه ، وضلوا في توجيه أمره . والحق الذي يهدي إليه البرهان والتجربة أن حقيقة النفس التي هي هذا الشعور المتعقل المحكي عنه بقولنا ( أنا ) أمر مغاير في جوهره لهذه الاَمور المادية كما تقدم ، وأن أقسام شعوره وأنواع إدراكاته من حس أو خيال أو تعقل من جهة كونها مدركات إنما هي متقررة في عالمه وظرفه غير الخواص الطبيعية الحاصلة في أعضاء الحس والاِدراك من البدن ، فإنها أفعال وانفعالات مادية فاقدة في نفسها للحياة والشعور ، فهذه الاَمور المشهودة الخاصة بالصلحاء وأرباب المجاهدات والرياضات غير خارجة عن حيطة نفوسهم ، وإنما الشأن في أن هذه المعلومات والمعارف كيف استقرت في النفس وأين محلها منها ، وأن للنفس سمة علية لجميع الحوادث والاَمور المرتبطة بها ارتباطاً ما . فجميع هذه الاَمور الغريبة المطاوعة لاَهل الرياضة والمجاهدة ، إنما ترتضع من إرادتهم ومشيئتهم ، والاِرادة ناشئة من الشعور ، فللشعور الاِنساني دخل في جميع الحوادث المرتبطة به والاَمور المماسة له .
فمن الحري أن نقسم المشتغلين بعرفان النفس في الجملة إلى طائفتين ، إحداهما : المشتغلون بالاِشتغال بإحراز شيء من آثار النفس الغريبة الخارجة عن حومة المتعارف من الاَسباب والمسببات المادية كأصحاب السحر والطلسمات وأصحاب تسخير روحانيات الكواكب والموكلين على الاَمور والجن وأرواح
( 273 )
الآدميين وأصحاب الدعوات والعزائم ونحو ذلك .
والثانية : المشتغلون بمعرفة النفس بالاِنصراف عن الاَمور الخارجة عنها والاِنجذاب نحوها ، للغور فيها ومشاهدة جوهرها وشؤونها كالمتصوفة على اختلاف طبقاتهم ومسالكهم .
وليس التصوف مما أبدعه المسلمون من عند أنفسهم لما ( ثبت ) أنه يوجد بين الاَمم التي تتقدمهم في النشوء كالنصارى وغيرهم ، حتى الوثنية من البرهمانية والبوذية ، ففيهم من يسلك الطريقة حتى اليوم ، بل هي طريقة موروثة ورثوها من أسلافهم . لكن لا بمعنى الاَخذ والتقليد العادي كوراثة الناس ألوان المدنية بعضهم من بعض ، وأمة منهم متأخرة من أمة منهم متقدمة ، كما جرى على ذلك عدة من باحثي الاَديان والمذاهب وذلك لما عرفت في الفصول السابقة من أن دين الفطرة يهدي إلى الزهد ، والزهد يرشد إلى عرفان النفس .
فاستقرار الدين بين أمة وتمكنه من قلوبهم يعدهم ويهيؤهم لاَن تنشأ بينهم طريقة عرفان النفس لا محالة ، ويأخذ بها بعض من تمت في حقه العوامل المقتضية لذلك . فمكث الحياة الدينية في أمة من الاَمم برهة معتداً بها ينشيَ بينهم هذه الطريقة لا محالة صحيحة أو فاسدة ، وإن انقطعوا عن غيرهم من الاَمم الدينية كل الاِنقطاع . وما هذا شأنه لا ينبغي أن يعد من السنن الموروثة التي يأخذها جيل عن جيل .
ثم ينبغي أن نقسم أصحاب القسم الثاني من القسمين المتقدمين وهم أهل العرفان حقيقة إلى طائفتين : فطائفة ، منهم يسلكون الطريقة لنفسها فيرزقون شيئاً من معارفها من غير أن يتم لهم تمام المعرفة لها ، لاَنهم لما كانوا لا يريدون غير النفس فهم في غفلة عن أمر صانعها وهو الله عز اسمه الذي هو السبب الحق الآخذ بناصية النفس في وجودها وآثار وجودها . وكيف يسع الاِنسان تمام معرفة شيَ مع الذهول عن معرفة أسباب وجوده وخاصة السبب الذي هو سبب كل سبب ، وهل هو إلا كمن يدعي معرفة السرير على جهل منه بالنجار وقدومه ومنشاره ، وغرضه في
( 274 )
صنعه ، إلى غير ذلك من علل وجود السرير .
ومن الحري بهذا النوع من معرفة النفس أن يسمى كهانة بما في ذيله من الحصول على شيء من علوم النفس وآثارها .
وطائفة منهم يقصدون طريقة معرفة النفس لتكون ذريعة لهم إلى معرفة الرب تعالى ، وطريقتهم هذه هي التي يرتضيها الدين في الجملة وهي أن يشتغل الاِنسان بمعرفة نفسه بما أنها آية من آيات ربه وأقرب آية ، وتكون النفس طريقاً مسلوكاً والله سبحانه هو الغاية التي يسلك إليها ، وأن إلى ربك المنتهى .
وهؤلاء طوائف مختلفة ذووا مذاهب متشتتة في الاَمم والنحل ، وليس لنا كثير خبرة بمذاهب غير المسلمين منهم وطرائقهم التي يسلكونها . وأما المسلمون فطرقهم فيها كثيرة ربما انهيت بحسب الاَصول إلى خمس وعشرين سلسلة ، تنشعب من كل سلسلة منها سلاسل جزئية أخر ، وقد استندوا فيها إلا واحدة ، إلى علي عليه أفضل السلام .
وهناك رجال منهم لا ينتمون إلى واحدة من هذه السلاسل ويسمون الاَويسية نسبة إلى أويس القرني ، وهناك آخرون منهم لا يتسمون بإسم ولا يتظاهرون بشعار .
ولهم كتب ورسائل مسفورة ترجموا فيها عن سلاسلهم وطرقهم والنواميس والآداب التي لهم عن رجالهم ، وضبطوا فيها المنقول من مكاشفاتهم ، وأعربوا فيها عن حججهم ومقاصدهم التي بنوها عليها ، من أراد الوقوف عليها فليراجعها .
وأما البحث عن تفصيل الطرق والمسالك وتصحيح الصحيح ونقد الفاسد ، فله مقام آخر ، وقد تقدم في الجزء الخامس من هذا الكتاب بحث لا يخلو عن نفع في هذا الباب ، فهذه خلاصة ما أردنا إيراده من البحث المتعلق بمعنى معرفة النفس .
واعلم أن عرفان النفس بغية عملية لا يحصل تمام المعرفة بها إلا من طريق السلوك العملي دون النظري .
وأما علم النفس الذي دَوَّنه أرباب النظر من القدماء فليس يغني من ذلك شيئاً ،
( 275 )
وكذلك فن النفس العملي الذي دونه المتأخرون حديثاً ، فإنما هو شعبة من فن الاَخلاق على ما دونه القدماء ، والله الهادي . انتهى .

الموقف الفقهي من الدعوة إلى معرفة الله تعالى عن طريق معرفة النفس

ما ذكره صاحب الميزان رحمه الله من الطريقين لمعرفة الله تعالى : طريق النظر في الآفاق وطريق النظر في الاَنفس ، مطلب شائع بين العرفانيين والمتصوفة ، والظاهر أنهم أخذوه من قوله تعالى ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) ولابد هنا من تسجيل الملاحظات التالية :
أولاً : وردت أحاديث شريفة في تفسير الآية المذكورة بأنها من علامات ظهور الاِمام المهدي عليه السلام أو من الاَحداث التي تظهر على يده ، وأن المقصود بالآفاق آفاق الاَرض حيث ( تنتقض الاَطراف عليهم ) أي على الجبارين قرب ظهوره عليه السلام . ويؤيد ذلك سين الاِستقبال في الآية ، التي تخبر عن حدث في المستقبل ، وإلا لقال ( ولقد أريناهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) مثلاً . أو قال ( أولم ينظروا في الآفاق ) كما قال تعالى ( أولم ينظروا في ملكوت السماوات والاَرض ) .
ثانياً : لا شك أن النظر في ملكوت السماوات والاَرض ، أي فيما يمكن للاِنسان معرفته وفهمه وأخذ العبرة منه ، أمر محبوب شرعاً وموصل إلى معرفة الله تعالى وزيادة الاِيمان به . قال تعالى : أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والاَرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ، فبأي حديث بعده يؤمنون . الاَعراف ــ 185 ، ولكن نفس الاِنسان جزء من هذا الملكوت وواحدة من هذه الآفاق ، وليست طريقاً في مقابل بقية الآفاق .
ثالثاً : لم أجد سنداً للحديث الذي ذكره ( المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين ) ومن البعيد أن يكون حديثاً شريفاً ، وعلى فرض صحته لا يصح تفسيره بما ذكره رحمه الله فإن المقابل لمعرفة الله بالنفس معرفة الله بالله تعالى ، أو معرفة الله بأنبيائه وأوليائه ، أو
( 276 )
معرفة الله بآياته غير النفس . . فمن أين جعل رحمه الله المعرفة التي تقابل معرفة النفس ، معرفة الآفاق وحصره المقابلة بها . ثم إذا كانت المعرفة بالسير الآفاقي تشمل معرفة الله بالله تعالى وبأوليائه صلوات الله عليهم ، فكيف يصح تفضيل معرفته عن طريق النفس على هذه المعرفة ؟!
رابعاً : تقدم بحث الحد الاَدنى الواجب من معرفة الله تعالى ، ولم يتعرض الفقهاء والمتكلمون إلى طرقه ، ولم يفضلوا بعضها على بعض . كما تقدم أن معرفة الله هي من صنعه تعالى في نفس الاِنسان وألطافه به ، ولا صنع للاِنسان فيها .
خامساً : لا شك في صحة ما ذكره رحمه الله من أن تزكية النفس وتهذيبها من الرذائل والشهوات والتعلق بحطام الدنيا ومتاعها ، مقدمة لازمة لتحقيق هدف الدين الذي هو عبادة الله تعالى . قال تعالى ( وما خلقت الجن والاِنس إلا ليعبدون ) وقال تعالى (هو الذي بعث في الاَميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ) ولكن الوارد في القرآن الكريم والاَحاديث الشريفة هو تزكية النفس وجهاد النفس ومخالفة النفس ، وهي أمور عملية غير ما يطرحه المتصوفة والعرفاء من معرفة النفس ، وإن كانت تزكية النفس تتوقف على قدر من معرفتها .
سادساً : لو سلمنا أن تزكية النفس ومخالفتها وجهادها هي نفس معرفة النفس التي طرحها المتصوفة والعرفاء ، ولكن الدعوة إلى معرفة الله تعالى وطاعته عن طريق معرفة النفس على إجمالها وإهمالها تتضمن مخاطر عديدة لا يمكن قبولها ، لاَنها تتسع للضد والنقيض في الاَساليب والاَهداف والقدوات . . جميعاً .
فبعض الدعوات إلى معرفة الله تعالى عن طريق معرفة النفس تتبنى العزلة والرهبانية ، وبعضها يتبنى إصلاح النفس والمجتمع والحكم . وبعضها يدعو إلى التقيد بأحكام الشريعة المقررة في هذا المذهب أو ذاك . . . . وبعضها يدعو إلى تقليد الاَستاذ شيخ الطريقة أو أستاذ الاَخلاق وما شابه ، دون الحاجة إلى أخذ أي مفهوم أو حكم شرعي من غيره !

( 277 )
وبعضها يدعي أنه يتصل بالله تعالى عن طريق المعرفة فيلهم العقائد والاَحكام الشرعية ، ولا يحتاج عند ذلك إلى شريعة ! بل ولا إلى نبوة !!
وبعض الدعوات تجعل قدوتها في المعرفة بعض الصحابة أو الاَولياء الذين لم يجعلهم الله تعالى ولا رسوله قدوة . بل قد يتخذ بعضهم قدوة من العرفاء والمتصوفة غير المسلمين . . الى آخر ما هنالك من تعدد الاَساليب والاَهداف والقدوات .
ولهذا ، فإن من المشكل جداً أن ندعو الناس إلى معرفة الله تعالى عن طريق معرفة النفس ، ونقول لهم اقتدوا بأستاذكم حتى يصل أحدكم إلى الله تعالى فيصير أستاذاً مجتهداً ! فما أيسر أن يجلس الشيطان في هذا الطريق وينحرف بالاِنسان !
سابعاً : بما أن حب الذات أقوى غرائز الاِنسان على الاِطلاق ، فإن دعوة العوام بل وأكثر المتعلمين إلى سلوك طريق العرفان والتصوف بدون تحديد الوسائل والاَهداف والقدوة ، يجعلهم في معرض الوقوع في عبادة الذات وتعظيمها ، فيتخيل أحدهم أنه وصل إلى الله تعالى ، وحصل على ارتباط به ، وصار صاحب أسرار إلَهية، ويزين له الشيطان العيش في عالم من نسيج الخيال وحب الذات ، وقد تظهر منه ادعاءات باطلة واتجاهات منحرفة ، أعاذنا الله وجميع المؤمنين .
لذلك فإن الاِئتمام في المعرفة وتعيين وسائلها وهدفها من أول ضرورياتها ، فالواجب التركيز على القدوة في معرفة النفس والسلوك ، قبل الدعوة إلى سلوك طريقٍ لا إمام له .
ثامناً : ما دامت معرفة النفس عند المتصوفة طريقاً الى معرفة الله تعالى ، ومعرفة الله تعالى طريقاً الى عبادته ، فالهدف المتفق عليه عند الجميع هو عبادة الله سبحانه . وهذه العبادة التي هي غاية الخلق وطريق التكامل الاِنساني الوحيد ، إنما تحصل بإطاعته سبحانه ، وإطاعة رسوله صلى الله عليه وآله وإطاعة أهل بيته عليهم السلام أولي الاَمر الذين أمرنا الله ورسوله بإطاعتهم والاِقتداء بهم . .
ولذلك فلابد في الدعوة إلى المعرفة والعرفان وتزكية النفس وتطهيرها وجهادها
( 278 )
وغرس الفضائل فيها . . أن تتقيد بإطاعة الاَحكام الشرعية كاملة ، وتتخذ من النبي وآله صلى الله عليه وعليهم قدوة وأئمة في المسلك والسلوك . . حتى تكون طريقاً صحيحاً في الحياة ، موصلة إلى رضوان الله تعالى . ولذلك أجاب أحد الفقهاء شخصاً سأله ما هو العرفان ، وكيف يكون الاِنسان عارفاً ، فقال له : هذه الاَحكام الشرعية التي تطبقها يومياً فتصلي وتقوم بالواجبات وتترك المحرمات هي العرفان ، وأنت بسلوكك هذا تمارس المعرفة .
ومن الطبيعي أن يكون ذلك السلوك على درجات ومراتب ومقامات ، ولكنها تتحقق من هذا الطريق الذي سلكه النبي وآله وتلامذتهم ، لا من غيره .

معرفة النبي والاَئمة صلى الله عليه وعليهم

يجب على كل الناس معرفة النبي صلى الله عليه وآله

ـ الكافي ج 1 ص 168
علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن العباس بن عمر الفقيمي ، عن هشام بن الحكم ، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال للزنديق الذي سأله من أين أثبتت الاَنبياء والرسل ؟ قال : أنه لما أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيماً متعالياً لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه ، فيباشرهم ويباشروه ويحاجهم ويحاجوه ، ثبت أن له سفراء في خلقه ، يعبرون عنه إلى خلقه وعباده ، ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناوهم ، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبرون عنه عز وجل ، وهم الاَنبياء عليهم السلام وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدبين بالحكمة ، مبعوثين بها ، غير مشاركين للناس ــ على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب ــ في شيء من أحوالهم ، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة ، ثم ثبت ذلك في كل دهر وزمان مما أتت به الرسل والاَنبياء من
( 279 )
الدلائل والبراهين ، لكيلا تخلو أرض الله من حجة ، يكون معه علم يدل على صدق مقالته وجواز عدالته .

ـ دعائم الاِسلام ج 1 ص 5
فأما ما فرض على القلب من الاِيمان فالاِقرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم بأن الله تبارك وتعالى هو الواحد ، لا إلَه إلا هو وحده لا شريك له إلَهاً واحداً أحداً صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً ، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله والاِقرار بما كان من عند الله من نبي أو كتاب ، وذلك ما فرض على القلب من الاِقرار والمعرفة .

ـ الهداية للصدوق ص 5
يجب أن يعتقد أن النبوة حق كما اعتقدنا أن التوحيد حق ، والاَنبياء الذين بعثهم الله مئة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي ، جاؤوا بالحق من عند الحق وأن قولهم قول الله وأمرهم أمر الله وطاعتهم طاعة الله ومعصيتهم معصية الله ، فإنهم لم ينطقوا إلا عن الله تبارك وتعالى وعن وحيه . وأن سادة الاَنبياء خمسة الذين عليهم دارت الرحى ، وهم أصحاب الشرايع وهم أولوا العزم : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى، ومحمد صلوات الله عليهم ، وأن محمداً صلى الله عليه وآله سيدهم وأفضلهم ، وأنه جاء بالحق وصدق المرسلين ، وأن الذين كذبوه لذائقوا العذاب الاَليم ، وأن الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون .
ويجب أن يعتقد أن الله تعالى لم يخلق خلقاً أفضل من محمد صلى الله عليه وآله ومن بعده الاَئمة صلوات الله عليهم ، وأنهم أحب الخلق إلى الله عز وجل وأكرمهم عليه ، وأولهم إقراراً به لما أخذ الله ميثاق النببين من الذر ، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ، وأن الله بعث نبيه صلى الله عليه وآله في الذر ، وأن الله أعطى ما أعطى كل نبي على قدر معرفته ، ونبينا صلى الله عليه وآله سبقهم إلى الاِقرار به .
ويعتقد أن الله تبارك وتعالى خلق جميع ما خلق له ولاَهل بيته صلى الله عليه وآله وأنه لولاهم ما
( 280 )
خلق السماء والاَرض ، ولا الجنة والنار ، ولا آدم ولا حواء ولا الملائكة ، ولا شيئاً مما خلق ، صلوات الله عليهم أجمعين . . . .

ـ رسائل الشهيد الثاني ج 2 ص 144
الثالث ، في بيان المعارف التي يحصل بها الاِيمان ، وهي خمسة أصول : الاَصل الاَول ، معرفة الله تعالى وتقدس . المراد بها التصديق الجازم الثابت بأنه تعالى موجود أزلاً وأبداً ، واجب الوجود لذاته . . . .
الاَصل الثاني ، التصديق بعدله ، أي بأنه عادل . والتصديق بحكمته . . . .
الاَصل الثالث ، التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وبجميع ما جاء به ، تفصيلاً فيما علم تفصيلاً ، وإجمالاً فيما علم إجمالاً . وليس بعيداً أن يكون التصديق الاِجمالي بجميع ما جاء به عليه السلام كافياً في تحقق الاِيمان ، وإن كان المكلف قادراً على العلم بذلك تفصيلاً يجب العلم بتفاصيل ما جاء به من الشرائع للعمل به .
وأما تفصيل ما أخبر به من أحوال المبدأ والمعاد ، كالتكليف بالعبادات ، والسؤال في القبر وعذابه ، والمعاد الجسماني ، والحساب والصراط ، والجنة ، والنار، والميزان ، وتطاير الكتب ، مما ثبت مجيؤه به تواتراً ، فهل التصديق بتفاصيله معتبرة في تحقق الاِيمان ؟ صرح باعتباره جمع من العلماء . والظاهر أن التصديق به إجمالاً كاف ، بمعنى أن المكلف لو اعتقد حقية كل ما أخبر به عليه السلام بحيث كلما ثبت عنده جزئي منها صدق به تفصيلاً كان مؤمناً وإن لم يطلع على تفاصيل تلك الجزئيات بعد ، ويؤيد ذلك أن أكثر الناس في الصدر الاَول لم يكونوا عالمين بهذه التفاصيل في الاَول ، بل كانوا يطلعون عليها وقتاً فوقتاً ، مع الحكم بإيمانهم في كل وقت من حين التصديق بالوحدانية والرسالة ، بل هذا حال أكثر الناس في جميع الاَعصار كما هو المشاهد ، فلو اعتبرناه لزم خروج أكثر أهل الاِيمان عنه ، وهو بعيد عن حكمة العزيز الحكيم . نعم العلم بذلك لا ريب أنه من مكملات الاِيمان . . . .

( 281 )
ـ كشف الغطاء ص 4
. . . ثم لا تجب على الاَمم اللاحقة معرفة الاَنبياء السابقين ، نعم ربما وجب معرفة أن لله أنبياء قد سبقت دعوتهم وانقرضت ملتهم على الاِجمال . ويجب معرفة عصمته بالدليل ، ويكفي فيه أنه لو جاز عليه الخطأ والخطيئة لم يبق وثوق بإخباره ولا اعتماد على وعده ووعيده ، فتنتفي فائدة البعثة .

يعرف النبي بالمعجزة والاِمام بالنص والمعجزة

ـ رسائل الشريف المرتضى ج 3 ص 18
باب ما يجب اعتقاده في النبوة . متى علم الله سبحانه أن لنا في بعض الاَفعال مصالح وألطافاً ، أو فيها ما هو مفسدة في الدين ، والعقل لا يدل عليها ، وجب بعثة الرسول لتعريفه ، ولا سبيل إلى تصديقه إلا بالمعجز . وصفة المعجز أن يكون خارقاً للعادة ، ومطابقاً لدعوى الرسول ومتعلقاً بها ، وأن يكون متعذراً في جنسه أو صفته المخصوصة على الخلق ، ويكون من فعله تعالى أو جارياً مجرى فعله تعالى ، وإذا وقع موقع التصديق فلا بد من دلالته على المصدق وإلا كان قبيحاً .
. . . باب ما يجب إعتقاده في الاِمامة وما يتصل به أوجب في الاِمام عصمته ، لاَنه لو لم يكن كذلك لكانت الحاجة إليه فيه ، وهذا يتناهى من الرؤساء والاِنتهاء إلى رئيس معصوم . وواجب أن يكون أفضل من رعيته وأعلم ، لقبح تقديم المفضول على الفاضل فيما كان أفضل منه فيه في العقول . فإذا وجبت عصمته وجب النص من الله تعالى عليه وبطل اختيار الاِمامة ، لاَن العصمة لا طريق للاَنام إلى العلم بمن هو عليها .

ـ الاِقتصاد للشيخ الطوسي ص 151
ولا طريق إلى معرفة النبي إلا بالمعجز ، والمعجز في اللغة عبارة عمن جعل غيره عاجزاً ، مثل المقدور الذي يجعل غيره قادراً إلا أنه صار بالعرف عبارة عما
( 282 )
يدل على صدق من ظهر على يده واختص به ، والمعتمد على ما في العرف دون مجرد اللغة .
والمعجز يدل على ما قلناه بشروط : أولها أن يكون خارقاً للعادة ، والثاني يكون من فعل الله أو جارياً مجرى فعله ، والثالث أن يتعذر على الخلق جنسه أو صفته المخصوصة ، والرابع أن يتعلق بالمدعى على وجه التصديق لدعواه .
. . . فعلى هذا لا يلزم أن يظهر الله على يد كل إمام معجزاً ، لاَنه يجوز أن يعلم إمامته بنص أو طريق آخر ، ومتى فرضنا أنه لا طريق إلى معرفة إمامته إلا المعجز وجب إظهار ذلك عليه وجرى مجرى النبي سواء ، لاَنه لابد لنا من معرفته كما لابد لنا من معرفة النبي المتحمل لمصالحنا . ولو فرضنا في نبي علمنا نبوته بالمعجز أنه نص على نبي آخر لاَغنى ذلك عن ظهور المعجز على يد النبي الثاني ، بأن نقول : النبي الاَول أعلمنا أنه نبي ، كما يعلم بنص إمام على إمامته ولا يحتاج إلى معجز .

وتجب معرفة الاَئمة لاَن الله تعالى فرض طاعتهم

ـ رسائل الشهيد الثاني ج 2 ص 145
الاَصل الرابع : التصديق بإمامة الاِثني عشر صلوات الله عليهم أجمعين ، وهذا الاَصل اعتبرته في تحقق الاِيمان الطائفة المحقة الاِمامية ، حتى أنه من ضروريات مذهبهم ، دون غيرهم من المخالفين ، فإنه عندهم من الفروع . . . .

ـ الكافي ج 1 ص 180
عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه ، عمن ذكره ، عن محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى ، عن أبيه ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : إنكم لا تكونون صالحين حتى تعرفوا ولا تعرفوا حتى تصدقوا ولا تصدقوا حتى تسلموا ، أبواباً أربعة لا يصلح أولها إلا بآخرها . . . . إنما يتقبل الله من المتقين ، فمن اتقى الله فيما أمره لقى الله مؤمناً بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله هيهات هيهات فات قوم وماتوا قبل أن يهتدوا وظنوا
( 283 )
أنهم آمنوا ، وأشركوا من حيث لا يعلمون . إنه من أتى البيوت من أبوابها اهتدى ، ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردى ، وصل الله طاعة ولي أمره بطاعة رسوله ، وطاعة رسوله بطاعته ، فمن ترك طاعة ولاة الاَمر لم يطع الله ولا رسوله ، وهو الاِقرار بما أنزل من عند الله عز وجل ، خذوا زينتكم عند كل مسجد والتمسوا البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ، فإنه أخبركم أنهم رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والاَبصار . إن الله قد استخلص الرسل لاَمره ، ثم استخلصهم مصدقين بذلك في نذره فقال : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ، تاه من جهل ، واهتدى من أبصر وعقل . إن الله عز وجل يقول : فإنها لا تعمى الاَبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ، وكيف يهتدي من لا يبصر ؟ وكيف يبصر من لم يتدبر ؟ إتبعوا رسول الله وأهل بيته وأقروا بما نزل من عند الله واتبعوا آثار الهدى ، فإنهم علامات الاِمامة والتقى ، واعلموا أنه لو أنكر رجل عيسى ابن مريم عليه السلام وأقر بمن سواه من الرسل لم يؤمن . اقتصوا الطريق بالتماس المنار والتمسوا من وراء الحجب الآثار ، تستكملوا أمر دينكم وتؤمنوا بالله ربكم . . . .
ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حماد بن عيسى ، عن حريز ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : ذروة الاَمر وسنامه ومفتاحه وباب الاَشياء ورضا الرحمن تبارك وتعالى : الطاعة للاِمام بعد معرفته ، ثم قال : إن الله تبارك وتعالى يقول : من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا .
ـ الحسين بن محمد الاَشعري ، عن معلى بن محمد ، عن الحسن بن علي الوشاء عن أبان بن عثمان ، عن أبي الصباح قال : أشهد أني سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول : أشهد أن علياً إمام فرض الله طاعته ، وأن الحسن إمام فرض الله طاعته ، وان الحسين إمام فرض الله طاعته ، وأن علي بن الحسين إمام فرض الله طاعته ، وأن محمد بن علي إمام فرض الله طاعته .

( 284 )
ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن حماد بن عيسى عن الحسين بن المختار ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عز وجل : وآتيناهم ملكاً عظيماً . قال : الطاعة المفروضة .
ـ أحمد بن محمد ، عن محمد بن أبي عمير ، عن سيف بن عميرة ، عن أبي الصباح الكناني قال : قال أبو عبدالله عليه السلام : نحن قوم فرض الله عز وجل طاعتنا ، ولنا صفوا المال ، ونحن الراسخون في العلم ، ونحن المحسودون الذين قال الله : أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله .
ـ أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن الحسين بن أبي العلاء قال : ذكرت لاَبي عبد الله عليه السلام قولنا في الاَوصياء أن طاعتهم مفترضة قال فقال : نعم ، هم الذين قال الله تعالى : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الاَمر منكم . وهم الذين قال الله عزوجل : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا .
ـ وبهذا الاِسناد ، عن أحمد بن محمد ، عن معمر بن خلاد قال : سأل رجل فارسي الحسن عليه السلام فقال : طاعتك مفترضة ؟ فقال نعم ، قال : مثل طاعة علي ابن أبي طالب عليه السلام ؟ فقال : نعم .
ـ وبهذا الاِسناد ، عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم ، عن علي بن أبي حمزة عن بصير ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال سألته عن الاَئمة هل يجرون في الاَمر والطاعة مجرى واحداً ؟ قال : نعم .
ـ علي ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن محمد بن الفضيل قال : سألته عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى الله عز وجل ، قال : أفضل ما يتقرب به العباد إلى الله عز وجل طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أولي الاَمر ، قال أبو جعفر عليه السلام : حبنا إيمان وبغضنا كفر .
ـ محمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن عيسى ، عن فضالة بن أيوب ، عن أبان ، عن عبدالله بن سنان ، عن إسماعيل بن جابر ، قال : قلت لاَبي
( 285 )
جعفر عليه السلام : أعرض عليك ديني الذي أدين الله عز وجل به ؟ قال : فقال هات ، قال فقلت : أشهد أن لا إلَه إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله والاِقرار بما جاء به من عند الله ، وأن علياً كان إماماً فرض الله طاعته ، ثم كان بعده الحسن إماماً فرض الله طاعته ، ثم كان بعده الحسين إماماً فرض الله طاعته ، ثم كان بعده علي بن الحسين إماماً فرض الله طاعته حتى انتهى الاَمر إليه ، ثم قلت : أنت يرحمك الله ؟ قال : فقال : هذا دين الله ودين ملائكته .

ـ دعائم الاِسلام ج 1 ص 52
. . . ثم قال أبوعبدالله جعفر بن محمد صلى الله عليه : . . . . وإنما يقبل الله عز وجل العمل من العباد بالفرائض التي افترضها عليهم بعد معرفة من جاء بها من عنده، ودعاهم إليه ، فأول ذلك معرفة من دعا إليه ، وهو الله الذي لا إلَه إلا هو وحده والاِقرار بربوبيته ، ومعرفة الرسول الذي بلغ عنه ، وقبول ما جاء به ، ثم معرفة الوصي، ثم معرفة الاَئمة بعد الرسل الذين افترض الله طاعتهم في كل عصر وزمان على أهله ، والاِيمان والتصديق بأول الرسل والاَئمة وآخرهم . ثم العمل بما افترض الله عز وجل على العباد من الطاعات ظاهراً وباطناً ، واجتناب ما حرم الله عز وجل عليهم ظاهره وباطنه . . . .

ـ الهداية للصدوق ص 6
باب الاِمامة . يجب أن يعتقد أن الاِمامة حق ، كما اعتقد أن النبوة حق ، ويعتقد أن الله عز وجل الذي جعل النبي صلى الله عليه وآله نبياً هو الذي جعل الاِمام إماماً ، وأن نصب الاِمام واختياره إلى الله عز وجل ، وأن فضله منه .
ويجب أن يعتقد أنه يلزمنا من طاعة الاِمام ما يلزمنا من طاعة النبي صلى الله عليه وآله وكل فضل آتاه الله عز وجل نبيه فقد آتاه الاِمام إلا النبوة . . . .
باب معرفة الاَئمة الذين هم حجج الله على خلقه بعد نبيه صلوات الله عليه وعليهم بأسمائهم .

( 286 )
يجب أن يعتقد أن حجج الله عز وجل على خلقه بعد نبيه محمد صلى الله عليه وآله الاَئمة الاِثنا عشر : أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ثم الحسن ، ثم الحسين ، ثم علي بن الحسين ، ثم محمد بن علي ، ثم جعفر بن محمد ، ثم موسى بن جعفر ، ثم الرضا علي بن موسى ، ثم محمد بن علي ، ثم علي بن محمد ، ثم الحسن بن علي ، ثم الحجة القائم صاحب الزمان خليفة الله في أرضه ، صلوات الله عليهم أجمعين .
ويجب أن يعتقد أنهم أولوا الاَمر الذين أمر الله بطاعتهم ، وأنهم الشهداء على الناس ، وأنهم أبواب الله والسبيل إليه والاَدلاء عليه ، وأنهم عيبة علمه وتراجمة وحيه وأركان توحيده ، وأنهم معصومون من الخطأ والزلل ، وأنهم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، وأن لهم المعجزات والدلائل ، وأنهم أمان لاَهل الاَرض كما أن النجوم أمان لاَهل السماوات ، ومَثَلُهم في هذه الاَمة كمثل سفينة نوح وباب حطة الله ، وأنهم عباد الله المكرمون الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون . ويجب أن يعتقد أن حبهم إيمان وبغضهم كفر ، وأن أمرهم أمر الله ونهيهم نهى الله ، وطاعتهم طاعة الله ومعصيتهم معصية الله ، ووليهم ولي الله وعدوهم عدو الله .
ويجب أن يعتقد أن حجة الله في أرضه وخليفته على عباده في زماننا هذا هو القائم المنتظر ابن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وأنه هو الذي أخبر النبي صلى الله عليه وآله به عن الله عز وجل بإسمه ونسبه ، وأنه هو الذي يملاَ الاَرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ، وأنه هو الذي يظهر الله عز وجل به دينه صلى الله عليه وآله على الدين كله ولو كره المشركون ، وأنه هو الذي يفتح الله عز وجل على يده مشارق الاَرض ومغاربها ، حتى لا يبقى مكان إلا ينادى فيه بالاَذان ويكون الدين كله لله ، وأنه هو المهدي الذي إذا خرج نزل عيسى بن مريم عليه السلام فصلى خلفه ، ويكون إذا صلى خلفه مصلياً خلف الرسول صلى الله عليه وآله لاَنه خليفته .

( 287 )
ويجب أن يعتقد أنه لا يجوز أن يكون القائم غيره ، بقي في غيبته ما بقي ، ولو بقي في غيبته عمر الدنيا لم يكن القائم غيره ، لاَن النبي صلى الله عليه وآله والاَئمة عليهم السلام عرفوا باسمه ونسبه ونصوا به وبشروا .
ويجب أن يتبرأ إلى الله عز وجل من الاَوثان الاَربعة : يغوث ويعوق ونسر وهبل ، ومن الاَنداد الاَربع اللات والعزى ومناة والشعرى ، وممن عبدوهم ومن جميع أشياعهم وأتباعهم ، ويعتقد فيهم أنهم أعداء الله وأعداء رسوله وأنهم شر خلق الله ، ولا يتم الاِقرار بجميع ما ذكرناه إلا بالتبري منهم .

ـ المقنعة ص 32
ويجب على كل مكلف أن يعرف إمام زمانه ، ويعتقد إمامته وفرض طاعته ، وأنه أفضل أهل عصره وسيد قومه ، وأنهم في العصمة والكمال كالاَنبياء عليهم السلام ويعتقد أن كل رسول لله تعالى فهو نبي إمام ، وليس كل إمام نبياً ولا رسولاً ، وأن الاَئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله حجج الله تعالى وأوليائه وخاصة أصفياء الله ، أولهم وسيدهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، عليه أفضل السلام وبعده الحسن والحسين ، ثم علي بن الحسين ، ثم محمد بن علي بن الحسين، ثم جعفر بن محمد ، ثم موسى بن جعفر ، ثم علي بن موسى ، ثم محمد بن علي بن موسى ، ثم علي بن محمد بن علي ، ثم الحسن بن علي بن محمد ، ثم الحجة القائم بالحق ابن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى عليهم السلام لا إمامة لاَحد بعد النبي صلى الله عليه وآله غيرهم ، ولا يستحقها سواهم ، وأنهم الحجة على كافة الاَنام كالاَنبياء عليهم السلام وأنهم أفضل خلق الله بعد نبيه عليه وآله السلام ، والشهداء على رعاياهم يوم القيامة ، كما أن الاَنبياء عليهم السلام شهداء الله على أممهم ، وأنه بمعرفتهم وولايتهم تقبل الاَعمال ، وبعداوتهم والجهل بهم يستحق النار .

ـ رسائل الكركي ج 2 ص 298
مسألة : معرفة تعداد الاَئمة عليهم السلام شرط في صحة عقد النكاح ، أم يكفي معرفتهم
( 288 )
وإعتقاد إمامتهم إجمالاً من الزوجين من غير معرفة التعداد على الترتيب أو من غير تعداد مطلقاً ؟
الجواب : إن كانت الزوجة عارفة فلا بد من معرفة الزوج .

ـ العروة الوثقى ج 2 ص 318
مسألة : استشكل بعض العلماء في جواز إعطاء الزكاة لعوام المؤمنين الذين لا يعرفون الله إلا بهذا اللفظ ، أو النبي أو الاَئمة كلاً أو بعضاً ، شيئاً من المعارف ، الخمس واستقرب عدم الاِجزاء ، بل ذكر بعض آخر أنه لا يكفي معرفة الاَئمة بأسمائهم بل لابد في كل واحد أن يعرف أنه من هو وابن من ، فيشترط تعيينه وتمييزه عن غيره ، وأن يعرف الترتيب في خلافتهم ، ولو لم يعلم أنه هل يعرف ما يلزم معرفته أم لا يعتبر الفحص عن حاله ، ولا يكفي الاِقرار الاِجمالي بأني مسلم مؤمن واثني عشري . وما ذكروه مشكل جداً ، بل الاَقوى كفاية الاِقرار الاِجمالي وإن لم يعرف أسماؤهم أيضاً فضلاً عن أسماء آبائهم والترتيب في خلافتهم .

وتجب معرفتهم لاَن الله تعالى فرض مودتهم

ـ الغدير للاَميني ج 2 ص 324
أخرج القاضي عياض في الشفاء عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : معرفة آل محمد براءة من النار ، وحب آل محمد جواز على الصراط ، والولاية لآل محمد أمان من العذاب . ويوجد في الصواعق ص 139 ، والاِتحاف ص 15 ، ورشفة الصادي ص 459 .

ـ الغدير ج 2 ص 307
أخرج الحافظ أبو عبد الله الملا في سيرته أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : إن الله جعل أجري عليكم المودة في أهل بيتي ، وإني سائلكم غداً عنهم . ورواه محب الدين الطبري في الذخائر ص 25 وابن حجر في الصواعق ص 102 و 136 والسمهودي في جواهر العقدين .

( 289 )
قال جابر بن عبدالله : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وقال : يا محمد أعرض على الاِسلام .
فقال : تشهد أن لا إلَه إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله .
قال : تسألني عليه أجراً قال : لا ، إلا المودة في القربى .
قال : قرابتي أو قرابتك !
قال : قرابتي .
قال : هات أبايعك ، فعلى من لا يحبك ولا يحب قرابتك لعنة الله .
فقال النبي صلى الله عليه وآله : آمين .
أخرجه الحافظ الكنجي في الكفاية ص 31 من طريق الحافظ أبي نعيم ، عن محمد بن أحمد بن مخلد ، عن الحافظ ابن أبي شيبة بإسناده .
وأخرج الحافظ الطبري ، وابن عساكر ، والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل لقواعد التفضيل ، بعدة طرق عن أبي أمامة الباهلي ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إن الله خلق الاَنبياء من أشجار شتى ، وخلقني من شجرة واحدة ، فأنا أصلها وعلي فرعها وفاطمة لقاحها والحسن والحسين ثمرها ، فمن تعلق بغصن من أغصانها نجا ، ومن زاغ عنها هوى ، ولو أن عبداً عبد الله بين الصفا والمروة ألف عام ثم ألف عام ثم ألف عام ، ثم لم يدرك محبتنا ، أكبه الله على منخريه في النار . ثم تلا : قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى .

ـ الغدير ج 1 ص 242
شمس الدين أبوالمظفر سبط ابن الجوزي الحنفي المتوفى 654 ، رواه في تذكرته ص 19 قال : ذكر أبوإسحاق الثعلبي في تفسيره بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال ذلك ( يعني حديث الولاية ) طار في الاَقطار وشاع في البلاد والاَمصار فبلغ ذلك الحرث بن النعمان الفهري فأتاه على ناقة له فأناخها على باب المسجد ، ثم عقلها وجاء فدخل في المسجد فجثا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
( 290 )
يا محمد إنك أمرتنا أن نشهد أن لا إلَه إلا الله وأنك رسول الله فقبلنا منك ذلك ، وإنك أمرتنا أن نصلي خمس صلوات في اليوم والليلة ونصوم رمضان ونحج البيت ونزكي أموالنا فقبلنا منك ذلك ، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك وفضلته على الناس وقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه . فهذا شيء منك أو من الله ؟ !
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد احمرت عيناه : والله الذي لا إلَه إلا هو ما هو إلا من الله .
فولى الحرث وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأرسل من السماء علينا حجارة أو ائتنا بعذاب أليم ! قال : فوالله ما بلغ ناقته حتى رماه الله من السماء بحجر فوقع على هامته فخرج من دبره ومات ، وأنزل الله تعالى : سأل سائل بعذاب واقع . الآيات . . . .
شمس الدين الشربيني القاهري الشافعي المتوفى 977 ( المترجم ص 135 ) قال: في تفسيره السراج المنير 4 ص 364 : اختلف في هذا الداعي فقال ابن عباس : هو النضر بن الحرث ، وقيل : هو الحرث بن النعمان . . . . انتهى .
ملاحظة : لا ينافي هذا الحديث نزول الآية في مكة ، لاَن ما وقع في المدينة يكون تأويلها ، فيكون المعنى أن الحرث الفهري هو السائل بالعذاب الذي أخبر عنه الله تعالى قبل ذلك ، أو يكون مصداقاً للسائلين بالعذاب .
على أنه لا مانع من القول بنزول جبرئيل مرة أخرى بالآية مؤكداً حادثة تأويلها ، بل لا مانع من نزول الآية مرتين .

ـ الشفا للقاضي عياض جزء 2 ص 47
فصل . ومن توقيره صلى الله عليه وسلم وبره بر آله وذريته وأمهات المؤمنين أزواجه كما حض عليه صلى الله عليه وسلم وسلكه السلف الصالح رضي الله عنهم ، قال الله تعالى : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ، الآية . وقال تعالى : وأزواجه أمهاتهم .

( 291 )
أخبرنا الشيخ أبو محمد بن أحمد العدل من كتابه وكتبت من أصله ، حدثنا أبو الحسن المقري الفرغاني ، حدثتني أم القاسم بنت الشيخ أبي بكر الخفاف ، قالت حدثني أبي حدثنا خاتم هو ابن عقيل ، حدثنا يحيى هو ابن اسماعيل ، حدثنا يحيى هو الحمائي ، حدثنا وكيع ، عن أبيه ، عن سعيد بن مسروق ، عن يزيد بن حيان ، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنشدكم الله أهل بيتي ، ثلاثاً . قلنا لزيد : من أهل بيته ؟ قال آل علي وآل جعفر وآل عقيل وآل العباس .
وقال صلى الله عليه وسلم : إني تارك فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما .
وقال صلى الله عليه وسلم : معرفة آل محمد صلى الله عليه وسلم براءة من النار ، وحب آل محمد جواز على الصراط ، والولاية لآل محمد أمان من العذاب .
قال بعض العلماء : معرفتهم هي معرفة مكانهم من النبي صلى الله عليه وسلم وإذا عرفهم بذلك ، عرف وجوب حقهم وحرمتهم بسببه . انتهى .
ونلاحظ أن القاضي عياضاً قد بتر حديث الغدير الذي يرويه مسلم وغيره ، فلم يرو إلا جزءً من آخره ، ثم فسر معرفة آل محمد بأنها معرفة نسبهم من النبي صلى الله عليه وآله أو معرفة معزته لهم ، مدعياً أن الاِنسان يستحق براءة من النار ! ! وهذا من عجائب الفتاوى التي تجعل الجنة مشروطة بمعرفة نسب آل النبي صلى الله عليه وعليهم ! أما اتِّباعهم وإطاعتهم ، وموالاة من وليهم ومعاداة عدوهم فلا يجب منه شيء . . !
وقد تعرض السيد شرف الدين لهذا الحديث في المراجعات ص 82 وقال في هامشه :
أورده القاضي عياض في الفصل الذي عقده لبيان أن من توقيره وبره صلى الله عليه وآله بر آله وذريته ، من كتاب الشفا في أول ص 40 من قسمه الثاني طبع الآستانة سنة 1328 ، وأنت تعلم أن ليس المراد من معرفتهم هنا مجرد معرفة أسمائهم وأشخاصهم وكونهم أرحام رسول الله صلى الله عليه وآله فإن أبا جهل وأبا لهب ليعرفان ذلك كله ، وإنما المراد
( 292 )
معرفة أنهم أولوا الاَمر بعد رسول الله على حد قوله صلى الله عليه وآله : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية . انتهى .
ومن الطريف أن القاضي عياضاً روى بعد هذا الحديث أحاديث أخرى تفسر معرفة أهل البيت عليهم السلام بخلاف ما فسرها ، قال :
وعن عمر بن أبي سلمة لما نزلت : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، الآية ــ وذلك في بيت أم سلمة ــ دعا فاطمة وحسناً وحسيناً فجللهم بكساء وعلي خلف ظهره ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا .
وعن سعد بن أبي وقاص لما نزلت آية المباهلة دعا النبي صلى الله عليه وسلم علياً وحسناً وحسيناً وفاطمة وقال : اللهم هؤلاء أهلي .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في علي : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه . وقال فيه : لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق . . . . وقال أبو بكر رضي الله عنه : إرقبوا محمداً في أهل بيته . انتهى !

وتجب معرفتهم لاَن الله تعالى فرض الصلاة عليهم

ـ رسائل الشريف المرتضى ج 2 ص 249
الرسالة الباهرة في العترة الطاهرة . بسم الله الرحمن الرحيم . قال رضي الله عنه : مما يدل أيضاً على تقديمهم عليهم السلام وتعظيمهم على البشر أن الله تعالى دلنا على أن المعرفة بهم كالمعرفة به تعالى في أنها إيمان وإسلام ، وإن الجهل والشك فيهم كالجهل به والشك فيه في أنه كفر وخروج من الاِيمان ، وهذه منزلة ليس لاَحد من البشر إلا لنبينا صلى الله عليه وآله وبعده لاَمير المؤمنين عليه السلام والاَئمة من ولده على جماعتهم السلام . لاَن المعرفة بنبوة الاَنبياء المتقدمين من آدم إلى عيسى عليهم السلام أجمعين غير واجبة علينا ولا تعلق لها بشيء من تكاليفنا ، ولولا أن القرآن ورد بنبوة من سمي فيه من الاَنبياء المتقدمين
( 293 )
فعرفناهم تصديقاً للقرآن وإلا فلا وجه لوجوب معرفتهم علينا ، ولا تعلق لها بشيَ من أحوال تكليفنا .
وبقي علينا أن ندل على أن الاَمر على ما ادعيناه .
والذي يدل على أن المعرفة بإمامة من ذكرناه عليهم السلام من جملة الاِيمان وأن الاِخلال بها كفر ورجوع عن الاِيمان ، إجماع الشيعة الاِمامية على ذلك فإنهم لا يختلفون فيه ، وإجماعهم حجة بدلالة أن قول الحجة المعصوم الذي قد دلت العقول على وجوده في كل زمان في جملتهم وفي زمرتهم ، وقد دللنا على هذه الطريقة في مواضع كثيرة من كتبنا واستوفيناها في جواب التبانيات خاصة ، وفي كتاب نصرة ما انفردت به الشيعة الاِمامية من المسائل الفقهية ، فإن هذا الكتاب مبني على صحة هذا الاَصل .
ويمكن أن يستدل على وجوب المعرفة بهم عليهم السلام بإجماع الاَمة ، مضافاً إلى ما بيناه من إجماع الاِمامية وذلك أن جميع أصحاب الشافعي يذهبون إلى أن الصلاة على نبينا صلى الله عليه وآله في التشهد الاَخير فرض واجب وركن من أركان الصلاة من أخل به فلا صلاة له ، وأكثرهم يقول : إن الصلاة في هذا التشهد على آل النبي عليهم الصلوات في الوجوب واللزوم ووقوف أجزاء الصلاة عليها كالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله والباقون منهم يذهبون إلى أن الصلاة على الآل مستحبة وليست بواجبة .
فعلى القول الاَول لابد لكل من وجبت عليه الصلاة من معرفتهم من حيث كان واجباً عليه الصلاة عليهم ، فإن الصلاة عليهم فرع على المعرفة بهم ، ومن ذهب إلى أن ذلك مستحب فهو من جملة العبادة وإن كان مسنوناً مستحباً والتعبد به يقتضي التعبد بما لا يتم إلا به من المعرفة . ومن عدا أصحاب الشافعي لا ينكرون أن الصلاة على النبي وآله في التشهد مستحبة ، وأي شبهة تبقى مع هذا في أنهم عليهم السلام أفضل الناس وإجلالهم وذكرهم واجب في الصلاة .
وعند أكثر الاَمة من الشيعة الاِمامية وجمهور أصحاب الشافعي أن الصلاة تبطل بتركه وهل مثل هذه الفضيلة لمخلوق سواهم أو تتعداهم ؟

( 294 )
ومما يمكن الاِستدلال به على ذلك أن الله تعالى قد ألهم جميع القلوب وغرس في كل النفوس تعظيم شأنهم وإجلال قدرهم على تباين مذاهبهم واختلاف دياناتهم ونحلهم ، وما اجتمع هؤلاء المختلفون المتباينون مع تشتت الاَهواء وتشعب الآراء على شيء كإجماعهم على تعظيم من ذكرناه وإكبارهم ، إنهم يزورون قبورهم ويقصدون من شاحط البلاد وشاطئها مشاهدهم ومدافنهم والمواضع التي وسمت بصلاتهم فيها وحلولهم بها ، وينفقون في ذلك الاَموال ويستنفدون الاَحوال ، فقد أخبرني من لا أحصيه كثرة أن أهل نيسابور ومن والاها من تلك البلدان يخرجون في كل سنة إلى طوس لزيارة الاِمام أبي الحسن علي بن موسى الرضا صلوات الله عليهما بالجمال الكثيرة والاَهبة التي لا توجد مثلها إلا للحج إلى بيت الله . وهذا مع المعروف من انحراف أهل خراسان عن هذه الجهة وازورارهم عن هذا الشعب .
وما تسخير هذه القلوب القاسية وعطف هذه الاَمم البائنة إلا كالخارق للعادات والخارج عن الاَمور المألوفات ، وإلا فما الحامل للمخالفين لهذه النحلة المنحازين عن هذه الجملة على أن يراوحوا هذه المشاهد ويغادوها ويستنزلوا عندها من الله تعالى الاَرزاق ويستفتحوا الاَغلال ويطلبوا ببركاتها الحاجات ويستدفعوا البليات ، والاَحوال الظاهرة كلها لا توجب ذلك ولا تقتضيه ولا تستدعيه وإلا فعلوا ذلك فيمن يعتقدونهم ، وأكثرهم يعتقدون إمامته وفرض طاعته ، وأنه في الديانة موافق لهم غير مخالف ومساعد غير معاند .
ومن المحال أن يكونوا فعلوا ذلك لداع من دواعي الدنيا ، فإن الدنيا عند غير هذه الطائفة موجودة وعندها هي مفقودة ، ولا لتقية واستصلاح ، فإن التقية هي فيهم لا منهم ولا خوف من جهتهم ولا سلطان لهم ، وكل خوف إنما هو عليهم فلم يبق إلا داعي الدين ، وذلك هو الاَمر الغريب العجيب الذي لا ينفذ في مثله إلا مشية الله وقدرة القهار التي تذلل الصعاب ، وتقود بأزمتها الرقاب .
وليس لمن جهل هذه المزية أو تجاهلها وتعامى عنها وهو يبصرها أن يقول : إن
( 295 )
العلة في تعظيم غير فرق الشيعة لهؤلاء القوم ليست ما عظمتموه وفخمتموه وادعيتم خرقه للعادة وخروجه من الطبيعة ، بل هي لاَن هؤلاء القوم من عترة النبي صلى الله عليه وآله وكل من عظم النبي صلى الله عليه وآله فلا بد من أن يكون لعترته وأهل بيته معظماً مكرماً ، وإذا انضاف إلى القرابة الزهد وهجر الدنيا والعفة والعلم زاد الاِجلال والاِكرام لزيادة أسبابهما .
والجواب عن هذه الشبهة الضعيفة : أنه شارك أئمتنا عليهم السلام في حسبهم ونسبهم وقراباتهم من النبي صلى الله عليه وآله غيرهم ، وكانت لكثير منهم عبادات ظاهرة وزهادة في الدنيا بادية ، وسمات جميلة وصفات حسنة ، من ولد أبيهم عليه وآله السلام ، ومن ولد العباس رضوان الله عليه ، فما رأينا من الاِجماع على تعظيمهم وزيارة مدافنهم والاِستشفاع بهم في الاَغراض ، والاِستدفاع بمكانهم للاَعراض والاَمراض ، وما وجدنا مشاهداً معايناً في هذا الشراك ، وإلا فمن ذا الذي أجمع على فرط إعظامه وإجلاله من سائر صنوف العترة في هذه الحالة يجري مجرى الباقر والصادق والكاظم والرضا صلوات الله عليهم أجمعين ، لاَن من عدا من ذكرناه من صلحاء العترة وزهادها ممن يعظمه فريق من الاَمة ويعرض عنه فريق ، ومن عظمه منهم وقدمه لا ينتهي في الاِجلال والاِعظام إلى الغاية التي ينتهي إليها من ذكرناه .
ولولا أن تفصيل هذه الجملة ملحوظ معلوم لفصلناها على طول ذلك ولاَسمينا من كنينا عنه ونظرنا بين كل معظم مقدم من العترة ليعلم أن الذي ذكرناه هو الحق الواضح ، وما عداه هو الباطل الماضح .
وبعد فمعلوم ضرورة أن الباقر والصادق ومن وليهما من الاَئمة صلوات الله عليهم أجمعين كانوا في الديانة والاِعتقاد وما يفتون من حلال وحرام على خلاف ما يذهب إليه مخالفوا الاِمامية ، وإن ظهر شك في ذلك كله فلا شك ولا شبهة على منصف في أنهم لم يكونوا على مذهب الفرقة المختلفة المجتمعة على تعظيمهم والتقرب إلى الله تعالى بهم .
وكيف يعترض ريب فيما ذكرناه ، ومعلوم ضرورة أن شيوخ الاِمامية وسلفهم في
( 296 )
تلك الاَزمان كانوا بطانة للصادق والكاظم والباقر عليهم السلام وملازمين لهم ومتمسكين بهم ، ومظهرين أن كل شيء يعتقدونه وينتحلونه ويصححونه أو يبطنونه فعنهم تلقوه ومنهم أخذوه ، فلو لم يكونوا عنهم بذلك راضين وعليه مقرين لاَبوا عليهم نسبة تلك المذاهب إليهم وهم منها بريئون خليون ، ولنفوا ما بينهم من مواصلة ومجالسة وملازمة وموالاة ومصافاة ومدح وإطراء وثناء ، ولاَبدلوه بالذم واللوم والبراءة والعداوة ، فلو لم يكونوا عليهم السلام لهذه المذاهب معتقدين وبها راضين لبان لنا واتضح ، ولو لم يكن إلا هذه الدلالة لكفت وأغنت . وكيف يطيب قلب عاقل أو يسوغ في الدين لاَحد أن يعظم في الدين من هو على خلاف ما يعتقد أنه الحق وما سواه باطل، ثم ينتهي في التعظيمات والكرامات إلى أبعد الغايات وأقصى النهايات ، وهل جرت بمثل هذا عادة أو مضت عليه سنة ؟
أو لا يرون أن الاِمامية لا تلتفت إلى من خالفها من العترة وحاد عن جادتها في الديانة ومحجتها في الولاية ، ولا تسمح له بشيء من المدح والتعظيم فضلاً عن غايته وأقصى نهايته ، بل تتبرأ منه وتعاديه وتجريه في جميع الاَحكام مجري من لا نسب له ولا حسب له ولا قرابة ولا علقة . وهذا يوقظ على أن الله خرق في هذه العصابة العادات وقلب الجبلات ، ليبين من عظيم منزلتهم وشريف مرتبتهم . وهذه فضيلة تزيد على الفضائل وتربى على جميع الخصائص والمناقب ، وكفى بها برهاناً لائحاً وميزاناً راجحاً ، والحمد لله رب العالمين . انتهى .
ملاحظة : نعرف قوة استدلال الشريف الرضي قدس الله نفسه عندما نلاحظ أن نيشابور كانت مركزاً للعلماء والمذاهب المخالفة لاَهل البيت عليهم السلام فمنها أئمة الحديث وأساتيذ أصحاب الصحاح والشخصيات العلمية السنية . بل كانت الى القرن السادس العاصمة العلمية للسنة ، ومع ذلك كانت تخرج كلها لزيارة قبر الاِمام الرضا عليهم السلام في طوس ، كل سنة بقوافل كقوافل الحج !! ولا يتسع المقام للتفصيل .

( 297 )
ـ الغدير للاَميني ج 2 ص 303
في المقام أخبار كثيرة وكلمات ضافية توجد في طيات كتب الفقه والتفسير والحديث . ذكر ابن حجر في الصواعق ص 87قوله تعالى : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً . وروى جملة من الاَخبار الصحيحة الواردة فيها وأن النبي صلى الله عليه وآله قرن الصلاة على آله بالصلاة عليه لما سئل عن كيفية الصلاة والسلام عليه ، ثم قال : وهذا دليل ظاهر على أن الاَمر بالصلاة على أهل بيته وبقية آله مراد من هذه الآية ، وإلا لم يسألوا عن الصلاة على أهل بيته وآله عقب نزولها ، ولم يجابوا بما ذكر ، فلما أجيبوا به دل على أن الصلاة عليهم من جملة المأمور به ، وأنه صلى الله عليه وآله أقامهم في ذلك مقام نفسه ، لاَن القصد من الصلاة عليه مزيد تعظيمه ومنه تعظيمهم ، ومن ثم لما دخل من مر في الكساء قال : اللهم إنهم مني وأنا منهم فاجعل صلاتك ورحمتك ومغفرتك ورضوانك عليَّ وعليهم . وقضية استجابة هذا الدعاء : أن الله صلى عليهم معه ، فحينئذ طلب من المؤمنين صلاتهم عليهم معه .
ويروى : لا تصلوا عليَّ الصلاة البتراء ، فقالوا: وما الصلاة البتراء؟ قال: تقولون اللهم صل على محمد وتمسكون ، بل قولوا اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد. ثم نقل للاِمام الشافعي قوله :

يا أهـل بيت رسول الله حبكم * فـرض من الله في القرآن أنزله
كفـاكـم مـن عظيم القـدر أنكم * من لم يصل عليكم لا صلاة له

فقال : فيحتمل لا صلاة له صحيحة ، فيكون موافقاً لقوله بوجوب الصلاة على الآل ، ويحتمل لا صلاة كاملة فيوافق أظهر قوليه .
وقال في هامش الغدير : نسبهما إلى الامام الشافعي الزرقاني في شرح المواهب ج 7 ص 7 وجمع آخرون .
وقال ابن حجر في ص 139 من الصواعق : أخرج الدار قطني والبيهقي حديث : من صلى صلاة ولم يصل فيها عليَّ وعلى أهل بيتي لم تقبل منه . وكأن هذا الحديث
( 298 )
هو مستند قول الشافعي رضي الله عنه : إن الصلاة على الآل من واجبات الصلاة كالصلاة عليه صلى الله عليه وآله لكنه ضعيف ، فمستنده الاَمر في الحديث المتفق عليه : قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، والاَمر للوجوب حقيقة على الاَصح .
وقال الرازي في تفسيره ج 7 ص 391 : إن الدعاء للآل منصب عظيم ، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة ، وقوله : اللهم صلِّ على محمد وآل محمد وارحم محمداً وآل محمد ، وهذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل ، فكل ذلك يدل على أن حب آل محمد واجب .
وقال : أهل بيته صلى الله عليه وآله ساووه في خمسة أشياء : في الصلاة عليه وعليهم في التشهد. وفي السلام . والطهارة . وفي تحريم الصدقة . وفي المحبة .
وقال النيسابوري في تفسيره عند قوله تعالى : قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ، كفى شرفاً لآل رسول الله صلى الله عليه وآله وفخراً ختم التشهد بذكرهم والصلاة عليهم في كل صلاة .
وروى محب الدين الطبري في الذخاير ص 19 عن جابر رضي الله عنه أنه كان يقول : لو صليت صلاة لم أصل فيها على محمد وعلى آل محمد ، ما رأيت أنها تقبل .
وأخرج القاضي عياض في الشفا عن ابن مسعود مرفوعاً : من صلى صلاة لم يصل عليَّ فيها وعلى أهل بيتي ، لم تقبل منه .
وللقاضي الخفاجي الحنفي في شرح الشفا 3 ص 500 ــ 505 فوائد جمة حول المسألة وذكر مختصر ما صنفه الاِمام الخيصري في المسألة سماه : زهر الرياض في رد ما شنعه القاضي عياض .
وصور الصلوات المأثورة على النبي وآله مذكورة في ( شفاء السقام ) لتقي الدين السبكي ص 181 ــ 187 ، وأورد جملة منها الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد ج 10 ص163 وأول لفظ ذكره عن بريدة قال : قلنا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك ، فكيف نصلي عليك ؟ قال قولوا : اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على
( 299 )
محمد وآل محمد ، كما جعلتها على آل إبراهيم إنك حميد مجيد . انتهى .
وقد روت مصادر إخواننا السنة هذا الحديث وصححته ، ولكنهم لا يعملون به إلا في صلاتهم ، فتراهم غالباً يصلون على النبي وحده في غير صلاتهم ، حتى في أدعيتهم ، مع أنهم رووا أن الدعاء لا يقبل ولا يصعد إلى الله تعالى إذا لم يصل معه على النبي صلى الله عليه وآله ورووا أن النبي علمهم كيفية الصلاة عليه ، فكأن استجابة أدعيتهم ليست مهمة عندهم !
ولا يسع المجال لاِيراد الاَحاديث الكثيرة في فضل الصلاة على النبي وآله صلى الله عليه وآله وأحكامها وكيفيتها التي يسمونها الصلاة الاِبراهيمية ، وهي جديرة ببحث مفصل ، وقد ألف فيها عدد من القدماء رسائل مستقلة .
وقد روى أحاديث الصلاة الاِبراهيمية الاِمام مالك في كتاب الموطأ ج 1 ص 165 وكتاب المسند ص 349 وكتاب الاَم ج 1 ص 140 والبخاري في صحيحه ج 4 ص 118 ــ 119 وج 6 ص 27 وج 7 ص 156 ــ 157 ومسلم ج 2 ص 16 ــ 17 وابن ماجة ج 1 ص 293 وأبو داود ج 1 ص 221 ــ 222 والترمذي ج 5 ص 38 والنسائي ج 3 ص 45 ــ 50 وأحمد ج 4 ص118 ــ 119 وص 244 وج 5 ص 353 وص 424 والدارمي ج 1 ص 165 وص 309 والحاكم ج 1 ص 268 ــ 270 والبيهقي في سننه ج 2 ص 146 ــ 153 وص 378 ــ 379 والهيثمي في مجمع الزوائد ج 2 ص 144 ــ 145 والهندي في كنز العمال ج 2 ص 266 ــ 283 وج 5 وأورد السيوطي عدداً كبيراً من أحاديثها في الدر المنثور ج 5 ص 215 ــ 220 ، وغيره من المفسرين ، والفقهاء كالنووي في المجموع ج 3 ص 466 وابن قدامة في المغني ج1 ص 580 وابن حزم في المحلى ج 3 ص 272 . . . . ولا نطيل بذكر كلماتهم .

ـ الشفا للقاضي عياض جزء 2 ص 64
. . . في الحديث : لا صلاة لمن لم يصل عليَّ ، قال ابن القصار معناه كاملة أو لمن لم يصل عليَّ مرة في عمره . وضعف أهل الحديث كلهم رواية هذا الحديث .
وفي حديث أبي جعفر عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم : من صلى
( 300 )
صلاة لم يصل فيها عليَّ وعلى أهل بيتي لم تقبل منه . قال الدارقطني : الصواب أنه من قول أبي جعفر محمد بن الحسين : لو صليت صلاة لم أصل فيها على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على أهل بيته لرأيت أنها لا تتم . . . .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : عجل هذا ، ثم دعاه فقال له ولغيره : إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليدع بعد بما شاء ، ويروى من غير هذا السيد بتمجيد الله وهو أصح .
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : الدعاء والصلاة معلق بين السماء والاَرض فلا يصعد إلى الله منه شيء حتى يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم .

ـ وقال الاَردبيلي في زبدة البيان ص 84
التاسعة : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً . . . .
قال في الكشاف : الصلاة عليه واجبة ، وقد اختلفوا في حال وجوبها ، فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره ، وفي الحديث من ذكرت عنده فلم يصل علي فدخل النار فأبعده الله . . . . ومنهم من قال : تجب في كل مجلس مرة ، وإن تكرر ذكره ، كما قيل في آية السجدة ، وتسميت العاطس وكذلك في كل دعاء في أوله وآخره ، ومنهم من أوجبها في العمر مرة وكذا قال في إظهار الشهادتين مرة ، والذي يقتضيه الاِحتياط الصلاة عليه عند كل ذكر ، لما ورد من الاَخبار . انتهى .
والاَخبار من طرقنا أيضاً مثل الاَول موجودة مع صحة بعضها ، ولا شك أن احتياط الكشاف أحوط ، واختار في كنز العرفان الوجوب كلما ذكر وقال إنه اختيار الكشاف . . . . ثم قال في الكشاف : فإن قلت : فما تقول في الصلاة على غيره صلى الله عليه وآله .
قلت : القياس يقتضي جواز الصلاة على كل موَمن ، لقوله تعالى : هو الذي يصلي عليكم و ملائكته ، وقوله : وصل عليهم إن صلوتك سكن لهم ، وقوله صلى الله عليه وآله : اللهم صل على آل أبي أوفى ، ولكن للعلماء تفصيلاً في ذلك ، وهو أنها إن كان على سبيل
( 301 )
التبع كقولك صلى الله على النبي وآله ، فلا كلام فيها ، وأما إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو ، فمكروه لاَن ذلك صار شعاراً لذكر رسول الله صلى الله عليه وآله ولاَنه يؤدي إلى الاِتهام بالرفض ! ( راجع تفسير الكشاف ج 2 ص 549 )
ولا يخفى ما فيه فإن ما ذكره برهان لا قياس ، وإن البرهان من العقل والنقل كتاباً وسنة كما نقله ، ومثله قوله تعالى : وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم و رحمة ، فإنها تدل على أن صلوات الله على من يقول هذا بعد المصيبة ، ولا شك في صدوره كذلك عن أهل البيت بل غيرهم أيضاً . فإذا ثبت لهم الصلاة من الله فيجوز القول بذلك لهم ، وهو ظاهر اقتضى جوازه مطلقاً ، بل الاِنفراد بخصوصه فلا مجال للتفصيل . . . . وإنما صار ذلك شعار الرافضة لاَنهم فعلوا ذلك ، وتركه غيرهم بغير وجه ، وإلا فهو مقتضى البرهان ، ومع ذلك لا يستلزم كونه شعاراً لهم ، ومتداولاً بينهم تركه ، وإلا يلزم ترك العبادات كذلك فإنها شعارهم .
وبالجملة لا ينبغي منع ما يقتضي العقل والنقل جوازه بل استحبابه وكونه عبادة ، بسبب أن جماعة من المسلمين يفعلون هذه السنة والعبادة ، فإن ذلك تعصب وعناد محض ، وليس فيه تقرب إلى الله تعالى وطلب لمرضاته وعمل لله تعالى وهو ظاهر ، ولا يناسب من العلماء العمل إلا لله .
ولهم أمثال ذلك كثيرة ، مثل ما ورد في تسنيم القبور أن المستحب هو التسطيح ، ولكن هو شعار للرافضة فالتسنيم خير منه ، وكذلك في التختم باليمين وغير ذلك ، ومنه ذكر ( على ) بعد قوله صلى الله عليه وعلى آله ، وترك الآل معه صلى الله عليه وسلم مع أنه مرغوب بغير نزاع ، وإنما النزاع كان في الاِفراد ، فإنهم يتركون الآل معه ويقولون صلى الله عليه !
والعجب أنهم يتركون الآل وفي حديث كعب حيث يقولون سأله عن كيفية الصلاة عليه ، فقال صلى الله عليه وآله قولوا : اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على
( 302 )
إبراهيم وآل إبراهيم . . إلخ . فتأمل .
ـ وقال ابن أبي جمهور الاِحسائي عن الصلاة البتراء في كتابه غوالي اللئالي ج 2 ص40 : وبمعناه ما رواه الاِمام السخاوي الشافعي في القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع في الباب الاَول ، في الاَمر بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله ولفظ الحديث : ويروى عنه صلى الله عليه وسلم مما لم أقف على إسناده : لا تصلوا عليَّ الصلاة البتيرا ، قالوا وما الصلاة البتيرا يا رسول الله ؟ قال : تقولوا : اللهم صل على محمد وتمسكون ، بل قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد . أخرجه أبو سعد في شرف المصطفى . انتهى .

ملاحظة : كان أكثر علماء السنة في القرون الماضية يصلون على النبي في كتبهم بصيغة ( صلى الله عليه وآله ) ونلاحظ ذلك بوضوح في مخطوطات كتبهم التي وصلت إلينا سالمة ولم تمسها يد المحرفين والنواصب . ويظهر أن حذف الصلاة على آل النبي صلى الله عليه وآله انتشر مع موجة التعصب العثماني الاَخيرة ضد الشيعة . وقد ورث هذه الموجة وأفرط فيها الوهابيون و ( المحققون ) والناشرون الذين أطعموهم من سحت أموالهم ، فمدوا أيديهم إلى كتب التراث وخانوا مؤلفيها فحذفوا منها وحرفوا كثيراً من المواضع ، ومن ذلك عبارة صلى الله عليه وآله ووضعوا بدلها صلى الله عليه وسلم .
والحمد لله أنه بقي في المحققين والناشرين أفراد أمناء وأصحاب ضمائر مستقيمة أثبتوا الصلاة على آل النبي كما وردت في مخطوطات المؤلفين مثل مستدرك الحاكم . كما بقيت النسخ المخطوطة ومصوراتها وستبقى شاهدة على نواصب التحقيق والنشر .
كما ينبغي الاِشارة إلى أن المسلمين الاَوائل فهموا معنى التسليم في قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً ، بأنه التسليم لاَمر النبي وليس السلام عليه صلى الله عليه وآله لاَنه لم يقل وسلموا سلاماً . ولذا نجد أن الصلاة عليه استعملت مجردة في القرون الاَولى بدون ( وسلم ) وإن كان الدعاء بتسليم الله عليه من نوع الدعاء بالصلاة
( 303 )
عليه صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً ، ولكني أظن أنهم بعد أن حذفوا كلمة ( وآله ) التي كانت سائدة عند الجميع قروناً طويلة وجدوا خلأً فملؤوه بكلمة ( وسلم ) . وهذا موضوع مهم ، يحتاج الى بحث واسع موثق .

وتجب معرفتهم لاَنهم أهل الذكر الذين أمرنا الله بسؤالهم

ـ بصائر الدرجات ص 37 ــ 41
حدثنا العباس بن معروف ، عن حماد بن عيسى ، عن عمرو بن يزيد ، قال قال أبو جعفر عليه السلام : وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون ، قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته أهل الذكر وهم المسؤولون .
حدثنا يعقوب بن يزيد ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن أٌذينة ، عن بريد ، عن معاوية قال أبوجعفر عليه السلام في قول الله تبارك وتعالى : وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون ، قال : إنما عنانا بها ، نحن أهل الذكر ونحن المسؤولون . . . .
حدثنا أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن صفوان ، عن أبي عثمان ، عن المعلى بن خنيس ، عن أبي عبدالله عليه السلام في قول الله تعالى : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ، قال هم آل محمد ، فذكرنا له حديث الكلبي أنه قال : هي في أهل الكتاب ، قال فلعنه وكذبه .
حدثنا السندي بن محمد ، عن علا ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام قال قلت له إن من عندنا يزعمون أن قول الله تعالى : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، أنهم اليهود والنصارى ، قال : إذاً يدعونهم إلى دينهم ، ثم أشار بيده إلى صدره فقال : نحن أهل الذكر ونحن المسؤولون .
حدثنا عبدالله بن جعفر ، عن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن إسماعيل بن جابر وعبدالكريم ، عن عبدالحميد بن أبي الديلم ، عن أبي عبدالله عليه السلام في قول الله تعالى : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ، قال : كتاب الله الذكر ،
( 304 )
وأهله آل محمد الذين أمر الله بسؤالهم ولم يؤمروا بسؤال الجهال . وسمى الله القرآن ذكراً فقال : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون .

ـ روضة الواعظين ص 203
وقال الباقر عليه السلام في قوله تعالى : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ، قال نحن أهل الذكر . قال أبو زرعة : صدق محمد بن علي ، ولعمري إن أبا جعفر لمن أكبر العلماء .

ـ العمدة ص 303
ومنها قوله تعالى : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون . وهذا أيضاً غاية في الاَمر باتباعه ، لموضع الاَمر بسؤاله ، وبجعله تعالى أهل الذكر ، والذكر هو القرآن ، وهو أهله بنص كتاب الله تعالى ، فوجب اتباعه واتباع ذريته ، لموضع الاَمر بسؤالهم .

ـ نهج الحق ص 210
الثالثة والثمانون : روى الحافظ ، محمد بن موسى الشيرازي من علماء الجمهور ، واستخرجه من التفاسير الاِثني عشر ، عن ابن عباس في قوله تعالى : فاسألوا أهل الذكر ، قال : هم محمد ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين . هم أهل الذكر ، والعلم ، والعقل ، والبيان ، وهم أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة، والله ما سمي المؤمن مؤمناً إلا كرامة لاَمير المؤمنين . ورواه سفيان الثوري عن السدي عن الحارث .

ـ أمان الاَمة ص 196
وأخرج الثعلبي في تفسيره الكبير في تفسير قوله تعالى : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ، عن جابر قال : قال علي بن أبي طالب : نحن أهل الذكر . وأخرجه الطبري في تفسيره . وأخرج الحسكاني في ذلك روايات غيرها .

ـ الخطط السياسية لتوحيد الاَمة ص 97
وما يؤكد أنهم أولو الاَمر وأهل الذكر : أن الهداية لا تدرك بعد النبي إلا بالقرآن
( 305 )
وبهم معاً ، وأن الضلالة لا يمكن تجنبها إلا بالقرآن وبهم معاً ، فهم أحد الثقلين بالنص، وإن كنت في شك من ذلك فارجع مشكوراً إلى صحيح الترمذي ج 5 ص 328 حديث 3874 ، وجامع الاَصول لابن الاَثير ج 1 ص 187 حديث 65 ، والمعجم الكبير للطبراني ص 137 ، ومشكاة المصابيح ج 2 ص 258 ، وإحياء الميت للسيوطي بهامش الاِتحاف ص 114 ، والفتح الكبير للنبهاني ج 1 ص 503 وج 3 ص 385 والصواعق المحرقة لابن حجر ص 147 و 226 ، والمعجم الصغير للطبراني ج 1 ص 135 ، ومقتل الحسين للخوارزمي ج 1 ص 104 ، والطبقات الكبرى لابن سعد ج 2 ص 194 ، وخصائص النسائي ص 21 ، ومجمع الزوائد للهيثمي ج 5 ص 195 . ولولا الرغبة بالاِختصار لذكرت لك 192 مرجعاً .

ـ الخطط السياسية لتوحيد الاَمة ص 266
فإذا ذكر ذاكر أن الله تعالى قد أذهب الرجس عن أهل البيت وطهرهم تطهيراً ، جاءك الجواب سريعاً ، إن أهل البيت هم نساء النبي وحدهن ، ومنهم من يتبرع بالمباهلة إذا كان أهل البيت غير نساء النبي !
وإذا قيل إن النبي لا يسأل أجراً إلا المودة في القربى ، قيل : كل قريش قرابة النبي، بل كل العالم أقارب النبي ، وهو جد التقي ولو كان عبداً حبشياً !
وإذا قيل : هم أهل الذكر . قيل لك : إن العلماء هم أهل الذكر ، وهم ورثة الاَنبياء !
وباختصار فلا تجد نصاً في القرآن الكريم يتعلق بأهل البيت الكرام أو ببني هاشم، إلا وقد حضرت له البطون ومن والاها عشرات التفسيرات والتأويلات لاِخراجه عن معناه الخاص بأهل البيت الكرام ! ولا تجد فضلاً اختص به أهل البيت الكرام إلا وقد أوجدت بطون قريش لرجالاتها فضلاً يعادله عن طريق التفسير والتأويل ! ومع سيطرة البطون وإشرافها على وسائل الاَعلام ، وهيمنتها على الدولة الاِسلامية خلطت كافة الاَوراق ، حتى إذا أخرجت يدك لم تكد تراها .

( 306 )
ـ معالم الفتن لسعيد أيوب ج 1 ص 123
والخلاصة : إن الروايات التي فسرت الآية بينت أن الذكر رسول الله وأن عترته أهله . وروي في قوله عز وجل : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ، إن الآية مكية وعلى هذا فالمراد بقوله : أهلك ، بحسب وقت النزول خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب ، وكان من أهله وفي بيته أو هما وبعض بنات النبي صلى الله عليه وسلم . وعلى هذا فإن القول بأن أهله جميع متبعيه من أمته غير سديد . . . . وروي أن النبي صلى الله عليه وآله ظل يأمر أهله بالصلاة في مكة والمدينة حتى فارق الدنيا .
وفي الدر المنثور أخرج الطبراني في الاَوسط وأبونعيم في الحلية والبيهقي في شعب الاِيمان بسند صحيح عن عبدالله بن سلام قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة وتلا : وأمر أهلك بالصلاة ، وروي أنه صلى الله عليه وآله كان يجيء إلى باب علي وفاطمة ثمانية أشهر ، وفي رواية تسعة أشهر ويقول : الصلاة رحمكم الله . إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا . . . .

وتجب معرفتهم لاَن الاَعمال لا تقبل إلا بولايتهم
ـ الكافي ج 1 ص 183

ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن صفوان بن يحيى ، عن العلاء بن رزين عن محمد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : كل من دان الله عز وجل بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله فسعيه غير مقبول ، وهو ضال متحير والله شانيء لاَعماله ، ومثله كمثل شاة ضلت عن راعيها وقطيعها ، فهجمت ذاهبة وجائية يومها ، فلما جنها الليل بصرت بقطيع غنم مع راعيها ، فحنت إليها واغترت بها ، فباتت معها في مربضها فلما أن ساق الراعي قطيعه أنكرت راعيها وقطيعها ، فهجمت متحيرة تطلب راعيها وقطيعها فبصرت بغنم مع راعيها فحنت إليها واغترت بها فصاح بها الراعي : الحقي براعيك ، وقطيعك فأنت تائهة متحيرة عن راعيك
( 307 )
وقطيعك ، فهجمت ذعرة متحيرة تائهة لا راعي لها يرشدها إلى مرعاها أو يردها ، فبينا هي كذلك إذا اغتنم الذئب ضيعتها فأكلها ، وكذلك والله يا محمد من أصبح من هذه الاَمة لا إمام له من الله عز وجل . انتهى . ونحوه في المحاسن ص 92 ، وتفسير العياشي ج 2 ص 252

ـ علل الشرائع ج 1 ص 250
حدثنا محمد بن علي ماجيلويه رحمه الله عن عمه محمد بن أبي القاسم ، عن يحيى بن علي الكوفي ، عن محمد بن سنان ، عن صباح المدايني ، عن المفضل بن عمر ، أن أباعبدالله عليه السلام كتب إليه كتاباً فيه : إن الله تعالى لم يبعث نبياً قط يدعو إلى معرفة الله ليس معها طاعة في أمر ولا نهي ، وإنما يقبل الله من العباد العمل بالفرايض التي فرضها الله على حدودها ، مع معرفة من دعا إليه . ومن أطاع وحرم الحرام ظاهره وباطنه وصلى وصام وحج واعتمر وعظم حرمات الله كلها ولم يدع منها شيئاً ، وعمل بالبر كله ومكارم الاَخلاق كلها وتجنب سيئها .
ومن زعم أنه يحل الحلال ويحرم الحرام بغير معرفة النبي صلى الله عليه وآله لم يحل لله حلالاً ولم يحرم له حراماً ، وإن من صلى وزكى وحج واعتمر وفعل ( البر ) كله بغير معرفة من افترض الله عليه طاعته ، فلم يفعل شيئاً من ذلك ، لم يصل ولم يصم ولم يزك ولم يحج ولم يعتمر ولم يغتسل من الجنابة ولم يتطهر ولم يحرم لله ، وليس له صلاة وإن ركع وإن سجد ، ولا له زكاة ولا حج ، وإنما ذلك كله يكون بمعرفة رجل مَنَّ الله تعالى على خلقته بطاعته وأمر بالاَخذ عنه ، فمن عرفه وأخذ عنه أطاع الله .
ومن زعم أن ذلك إنما هي المعرفة وأنه إذا عرف اكتفى بغير طاعة فقد كذب وأشرك ، وإنما قيل إعرف واعمل ما شئت من الخير فإنه لا يقبل منك ذلك بغير معرفة ، فإذا عرفت فاعمل لنفسك ما شئت من الطاعة قل أو كثر ، فإنه مقبول منك . انتهى . ورواه في وسائل الشيعة ج 1 ص 95

( 308 )
ـ وسائل الشيعة ج 1 ص 90
وعن علي بن إبراهيم ، عن أبيه وعن عبدالله بن الصلت جميعاً ، عن حماد بن عيسى ، عن حريز بن عبدالله ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام ( في حديث ) قال : ذروة الاَمر وسنامه ومفتاحه وباب الاَشياء ورضا الرحمان الطاعة للاِمام بعد معرفته ، أما لو أن رجلاً قام ليله وصام نهاره ، وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ، ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه وتكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على الله حق في ثوابه ولا كان من أهل الاِيمان . ورواه البرقي في المحاسن عن عبدالله بن الصلت بالاِسناد .
ـ وعن محمد بن الحسن ، عن الصفار ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن فضال ، عن علي بن عقبة ، عن أبيه عقبة بن خالد ، عن ميسر ، عن أبي جعفر عليه السلام ( في حديث ) قال : إن أفضل البقاع ما بين الركن والمقام ، وباب الكعبة وذاك حطيم إسماعيل ووالله لو أن عبداً صف قدميه في ذلك المكان ، وقام الليل مصلياً حتى يجيئه النهار ، وصام النهار حتى يجيئه الليل ، ولم يعرف حقنا وحرمتنا أهل البيت لم يقبل الله منه شيئاً أبداً .
ـ علي بن إبراهيم في تفسيره ، عن أحمد بن علي ، عن الحسين بن عبيد الله ، عن السندي بن محمد ، عن أبان ، عن الحارث ، عن عمرو ، عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى : وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ، قال : ألا ترى كيف اشترط ولم تنفعه التوبة والاِيمان والعمل الصالح حتى اهتدى ؟ والله لو جهد أن يعمل ما قبل منه حتى يهتدي ، قال : قلت : إلى من جعلني الله فداك ؟ قال : إلينا . أقول : والاَحاديث في ذلك كثيرة جداً .

ـ مستدرك الوسائل ج 1 ص 149 ــ 155
وعن سلام بن سعيد المخزومي عن يونس بن حباب عن علي بن الحسين عليه السلام
( 309 )
قال قام رسول الله صلى الله عليه وآله فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ما بال أقوام إذا ذكر عندهم آل إبراهيم وآل عمران فرحوا واستبشروا ، وإذا ذكر عندهم آل محمد اشمأزت قلوبهم ! والذي نفس محمد بيده لو أن عبداً جاء يوم القيامة بعمل سبعين نبياً ما قبل الله ذلك منه حتى يلقى الله بولايتي وولاية أهل بيتي !
ورواه ابن الشيخ الطوسي في أماليه ، عن أبيه ، عن المفيد ، عن علي بن خالد المراغي ، عن الحسن بن علي الكوفي ، عن إسماعيل بن محمد المزني ، عن سلام بن أبي عمرة ، عن سعد بن سعيد ، مثله .
( وقال في هامشه : كتاب سلام بن ابي عمرة ص 117 ، أمالي الطوسي ج 1 ص140 باختلاف يسير وعنه في بحار الاَنوار ج 27 ص 172 ح 15 ) .
ـ أحمد بن محمد بن خالد البرقي في المحاسن ، عن خلاد المقري ، عن قيس بن الربيع ، عن ليث بن سليمان ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحسين بن علي عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إلزموا مودتنا أهل البيت فإنه من لقي الله وهو يودنا أهل البيت دخل الجنة بشفاعتنا . والذي نفسي بيده لا ينتفع عبد بعلمه إلا بمعرفة حقنا .
(وقال في هامشه : المحاسن ص 61 ح 105 ، أمالي المفيد ص 43 ح2 باختلاف يسير . أمالي المفيد ص 13 ح 1 ، عنه في بحار الاَنوار ج 75 ص 101 ح 7 )
ـ وعن أبيه ، عن أبي منصور السكري ، عن جده علي بن عمر عن العباس بن يوسف الشكلي ، عن عبيد الله بن هشام ، عن محمد بن مصعب ، عن الهيثم بن حماد عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك ، قال رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله قافلين من تبوك فقال لي في بعض الطريق ألقوا لي الاَحلاس والاَقتاب ففعلوا ، فصعد رسول الله صلى الله عليه وآله فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال معاشر الناس ما لي إذا ذكر آل ابراهيم تهللت وجوهكم ، وإذا ذكر آل محمد كأنما يفقأ في وجوهكم حب الرمان ، فوالذي بعثني بالحق نبياً لو جاء أحدكم يوم القيامة بأعمال كأمثال الجبال ولم يجيء بولاية علي بن أبي طالب أكبه الله عز وجل في النار .

( 310 )
( وقال في هامشه : أمالي الطوسي ج 1 ص 314 باختلاف يسير ، عنه في بحار الاَنوار ج 27 ص 171 ح 12 . الاَحلاس : واحدة حلس بكسر فسكون كحمل وأحمال : كساء يوضع على ظهر البعير تحت القتب ــ لسان العرب ج 6 ص 54 ، مجمع البحرين ج 4 ص 63 حلس ، والاَقتاب : جمع قتب وهو بالتحريك : رحل البعير ــ لسان العرب ج1 ص 660 ، مجمع البحرين ج 2 ص 139 قتب ) .

ـ الغدير للاَميني ج 2 ص 301
ـ عن ابن عباس في حديث عن النبي صلى الله عليه وآله : لو أن رجلاً صفن بين الركن والمقام فصلى وصام ثم لقي الله وهو مبغض لاَهل بيت محمد ، دخل النار . أخرجه الحاكم في المستدرك 3 ص 149 وصححه ، والذهبي في تلخيصه .
ـ وأخرج الطبراني في الاَوسط من طريق أبي ليلى ، عن الاِمام السبط الشهيد ، عن جده رسول الله صلى الله عليه وآله انه قال : إلزموا مودتنا أهل البيت فإنه من لقي الله عز وجل وهو يودنا دخل الجنة بشفاعتنا ، والذي نفسي بيده لا ينفع عبداً عمله إلا بمعرفة حقنا . و ذكره الهيثمي في المجمع 9 ص 172 ، وابن حجر في الصواعق ، ومحمد سليمان محفوظ في أعجب ما رأيت 1 ص 8 . والنبهاني في الشرف المؤبد ص 96 والحضرمي في رشفة الصادي ص 43 .
ـ وأخرج الحافظ السمان في أماليه بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه وآله : لو أن عبداً عبد الله سبعة آلاف سنة و( هو ) عمر الدنيا ثم أتى الله عز وجل يبغض علي بن أبي طالب جاحداً لحقه ناكثاً لولايته ، لاَتعس الله خيره وجدع أنفه . وذكره القرشي في شمس الاَخبار ص 40 .
ـ وأخرج الخوارزمي في المناقب ص 39 عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال لعلي : يا علي لو أن عبداً عبد الله عز وجل مثل ما قام نوح في قومه وكان له مثل أحد ذهباً فأنفقه في سبيل الله ، ومد في عمره حتى حج ألف عام على قدميه ، ثم قتل بين الصفا والمروة
( 311 )
مظلوماً ، ثم لم يوالك يا علي ، لم يشم رائحة الجنة ولم يدخلها .
ـ عن أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال : يا أم سلمة أتعرفينه ؟ قلت : نعم هذا علي بن أبي طالب . قال : صدقت ، سجيته سجيتي ودمه دمي وهو عيبة علمي ، فاسمعي واشهدي لو أن عبداً من عباد الله عز وجل عبد الله ألف عام بين الركن والمقام ثم لقي الله عز وجل مبغضاً لعلي بن أبي طالب وعترتي ، أكبه الله تعالى على منخره يوم القيامة في نار جهنم .
أخرجه الحافظ الكنجي بإسناده من طريق الحافظ أبي الفضل السلامي ثم قال : هذا حديث سنده مشهور عند أهل النقل .
ـ وأخرج ابن عساكر في تاريخه مسنداً عن جابر بن عبدالله عن رسول الله صلى الله عليه وآله في حديث : يا علي لو أن أمتي صاموا حتى يكونوا كالحنايا ، وصلوا حتى يكونوا كالاَوتار ، ثم أبغضوك لاَكبهم الله في النار .
وذكره الكنجي في الكفاية ص 179 ، وأخرجه الفقيه ابن المغازلي في المناقب ، ونقله عنه القرشي في شمس الاَخبار ص 33 ورواه شيخ الاِسلام الحمويني في الفرايد في الباب الاَول . وهناك أخبار كثيرة تضاهي هذه في ولاء أمير المؤمنين وعترته لا يسعنا ذكرها . . . .
ــ قال الشيخ أبوبكر بن شهاب السقاف ، وهو شيخ محمد بن عقيل الحضرمي صاحب النصائح الكافية :

حــب آل البـيت قربَهْ * وهو أسمى الحب رتبَـهْ
ذنــب مــــن والاهــم * يـغـسـلـه مــزن الـمحبـَّهْ
والـذي يـبغـضـهـم لا * يسـكـن الاِيـمـان قـلــبـَهْ
عـلمه والنسك رجسٌ * عـسـلٌ في ضـَرْعِ كلبَهْ
لـعـن الله عـــدو الآل * إبـــلــيـس وحـــزبــــــَهْ