aalulbayt

ونفى قدماء المتصوفة الرؤية بالعين في الدنيا

ـ التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي المتوفى سنة 380 قال في ص 43 :
وأجمعوا أنه لا يرى في الدنيا بالاَبصار ولا بالقلوب إلا من جهة الاِيقان ، لاَنه غاية الكرامة وأفضل النعم ، ولا يجوز أن يكون ذلك إلا في أفضل المكان ، ولو أعطوا في الدنيا أفضل النعم لم يكن بين الدنيا الفانية والجنة الباقية فرق ، ولما منع الله سبحانه كليمه موسى عليه السلام ذلك في الدنيا ، وكان من هو دونه أحرى . وأخرى أن الدنيا دار فناء ، ولا يجوز أن يرى الباقي في الدار الفانية ، ولو رأوه في الدنيا لكان الاِيمان به ضرورة .
والجملة أن الله تعالى أخبر أنها تكون في الآخرة ، ولم يخبر أنها تكون في الدنيا فوجب الاِنتهاء إلى ما أخبر الله تعالى به .

( 331 )
واختلفوا في النبي صلى الله عليه وسلم : هل رأى ربه ليلة المسرى ، فقال الجمهور منهم والكبار إنه لم يره محمد صلى الله عليه وسلم ببصره ، ولا أحد من الخلائق في الدنيا ، على ما روي عن عائشة أنها قالت : من زعم أن محمداً رأى ربه فقد كذب . . . . .
وقال بعضهم : رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المسرى ، وإنه خص من بين الخلائق بالرؤية كما خص موسى عليه السلام بالكلام ، واحتجوا بخبر ابن عباس وأسماء وأنس ، منهم أبو عبدالله القرشي والشبلي وبعض المتأخرين .
وقال بعضهم : رآه بقلبه ولم يره ببصره ، واستدل بقوله : ما كذب الفؤاد ما رأى .
ولا نعلم أحداً من مشايخ هذه العصبة المعروفين منهم والمتحققين به ، ولم نر في كتبهم ولا مصنفاتهم ولا رسائلهم ، ولا في الحكايات الصحيحة عنهم ، ولا سمعنا ممن أدركنا منهم من زعم أن الله تعالى يرى في الدنيا أو رآه أحد من الخلق ، إلا طائفة لم يعرفوا بأعيانهم .
بل زعم بعض الناس أن قوماً من الصوفية ادعوها لاَنفسهم ، وقد أطبق المشايخ كلهم على تضليل من قال ذلك وتكذيب من ادعاه ، وصنفوا في ذلك كتباً ، منهم أبو سعيد الخراز ، وللجنيد في تكذيب من ادعاه وتضليله رسائل وكلام كثير . وزعموا أن من ادعى ذلك فلم يعرف الله عز وجل ، وهذه كتبهم تشهد على ذلك .

تفسيرهم الذي فيه تجسيم

يلاحظ أن روايات إخواننا التي ادعت أن النبي صلى الله عليه وآله رأى ربه تعالى بعينه ، ورد قليل منها في حادثة الاِسراء والمعراج ، وأكثرها ورد في حادثة غير مفهومة ادعى راويها أنها وقعت للنبي صلى الله عليه وآله في المدينة ، وبعض رواياتها نصت على أنها منام ، أو شك راويها في أن تكون في المنام .. الخ .

( 332 )
ـ شرح مسلم للنووي ـ الساري ج 2 ص 94
قوله عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى : ما كذب الفؤاد ما رأى ، قال رأى جبريل له ستمائة جناح ، وهو مذهبه في هذه الآية .. وذهب الجمهور من المفسرين إلى أن المراد أنه رأى ربه سبحانه وتعالى . انتهى .
ويلاحظ أنه نسب القول بالرؤية بالعين إلى جمهور المفسرين ، وهم نوعاً مفسروا العهد الاَموي من تلامذة كعب الاَحبار وجماعته أو من الرواة عنهم ! ولكنه عاد ونسبها إلى أكثر العلماء ، فقال في هامش الساري ج 2 ص 92 :
الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله ( ص ) رأى ربه يعني بعيني رأسه ليلة الاِسراء . انتهى . وهذا إن صحّ فهو يعني أن أكثرية علماء إخواننا قلدوا المفسرين من تلاميذ كعب وأعرضوا عن الاَحاديث الصحيحة المعارضة لها .

ـ روى أحمد في مسنده ج 4 ص 66 وج 5 ص 378 وفي ج 1 ص 368 :
عن أبي قلابة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أتاني ربي عز وجل الليلة في أحسن صورة أحسبه يعني في النوم فقال يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الاَعلى ؟ قال قلت لا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي أو قال نحري ، فعلمت ما في السموات وما في الاَرض ، ثم قال يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الاَعلى ؟ قال قلت نعم يختصمون في الكفارات والدرجات ، قال وما الكفارات والدرجات ؟ قال المكث في المساجد والمشي على الاَقدام إلى الجمعات وابلاغ الوضوء في المكاره ، ومن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه ! وقال : يا محمد أصليت اللهم إني أسألك الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وإذا أردت بعبادك فتنة أن تقبضني إليك غير مفتون ، قال والدرجات : قل إذا بذل الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام .

( 333 )
ـ ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ج 7 ص 176 ـ 178 بعدة روايات ، وقال عن رواية ابن عايش : رواه أحمد ورجاله ثقات . وقال : عن ربيع بن أنس أن النبي ( ص ) قال رأيت ربي . . . . قال أحمد بن حنبل : أنا أقول بحديث ابن عباس بعينه ، رآه رآه حتى انقطع نفس أحمد .

ـ وروى الترمذي في سننه ج 5 ص 44 وقال :
وقد ذكروا بين أبي قلابة وبين ابن عباس في هذا الحديث رجلاً وقد رواه قتادة عن أبي قلابة ، عن خالد بن اللجلاج ، عن ابن عباس .
ورواه في 2 ص 45 وص 46 بروايتين أيضاً وقال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه ، قال : وفي الباب عن معاذ بن جبل وعبدالرحمن بن عائش ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

ـ وقال النويري في نهاية الاِرب ج 8 جزء 16 ص 295 :
عن ربيع بن أنس أن النبي ( ص ) قال رأيت ربي . . . . ثم ذكر قول أحمد : أنا أقول بحديث بن عباس بعينه رآه رآه ، حتى انقطع نفس أحمد .

ـ وقال السهيلي في الروض الاَنف ج 2 ص 156 وقال : سئل ابن حنبل عن الرؤية قال : رآه رآه رآه حتى انقطع صوته .
ورواه أيضاً عن أبي هريرة وابن عباس . . . . وروى : رأى ربه في أحسن صورة ووضع يديه بين كتفيه حتى وجد بردها بين ثدييه .

ـ وقال الذهبي في تاريخ الاِسلام ج 1 ص 257
وأما الروايات عن ابن مسعود فإنما فيها تفسير ما في النجم ، وليس في قوله ما يدل على نفي الرؤية لله .

ـ تاريخ الاِسلام للذهبي ج 16 ص 429
عن نعيم عن . . . . أم الطفيل أنها سمعت النبي ( ص ) يقول رأيت ربي في أحسن صورة ، شاباً ، موقراً ، رجلاه في مخصر ، عليه نعلان من ذهب .

( 334 )
ـ وقال السيوطي في الدر المنثور ج 3 ص 24
وأخرج أحمد وابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الاَسماء والصفات عن عبدالرحمن بن عائش الحضرمي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : رأيت ربي في أحسن صورة . . . .

ـ وقال الذهبي في ميزان الاِعتدال ج 1 ص 593
إبراهيم زبن أبي سويد ، وأسود بن عامر ، حدثنا حماد ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس مرفوعاً : رأيت ربي جعداً أمرد ، عليه حلة خضراء .
وقال ابن عدي : حدثنا عبدالله بن عبدالحميد الواسطي ، حدثنا النضر بن سلمة شاذان ، حدثنا الاَسود بن عامر ، عن حماد ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن محمداً رأى ربه في صورة شاب أمرد ، دونه ستر من لؤلؤ ، قدميه أو رجليه في خضرة .
وحدثنا ابن أبي سفيان الموصلي وابن شهريار قالا : حدثنا محمد بن رزق الله بن موسى ، حدثنا الاَسود بنحوه . وقال عفان : حدثنا عبدالصمد بن كيسان ، حدثنا حماد ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : رأيت ربي .
وقال أبوبكر بن أبي داود : حدثنا الحسن بن يحيى بن كثير ، حدثنا أبي ، حدثنا حماد بنحوه ، فهذا من أنكر ما أتى به حماد بن سلمة ، وهذه الرؤية رؤية منام إن صحت. قال المرودي قلت لاَحمد : يقولون لم يسمع قتادة عن عكرمة ! فغضب وأخرج كتابه بسماع قتادة عن عكرمة في ستة أحاديث . ورواه الحكم بن أبان ، عن زيرك ، عن عكرمة . وهو غريب جداً . انتهى . وروى نحوه الدارمي في سننه ج 2 ص 126 والبغوي في مصابيحه ج 1 ص 290 والسهيلي في الروض الاَنف ج 1 ص 268 وابن الاَثير في أُسد الغابة ج 3 ص 465 وج 7 ص 356 ورواه الهندي في كنز العمال ج 15 ص 897 ـ 598 وفي ج 16 ص 245 ـ 247 بروايات متعددة وقال في مصادره ( عب ، حم وعبد بن حميد ، ت عن ابن عباس ) ( ت ، ك عن معاذ ) ( كر ) ( ابن مندة ، والبغوي ، ق ، كر ) . والنويري في نهاية الاِرب ج 8 جزء 16 ص 295 والمنذري في الترغيب والترهيب ج 1 ص 262

( 335 )
ـ وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب ج 6 ص 204
عبدالرحمن بن عائش الحضرمي ، روي عنه حديث : رأيت ربي في أحسن صورة .

ـ الاَحاديث القدسية من الصحاح ج 1 ص 158
ـ حديث : أتاني ربي في أحسن صورة ، أخرجه الترمذي عن ابن عباس : إن الله وضع يده على كتف رسول الله ( ص ) حتى وجد رسول الله بردها بين ثدييه أو قال في خدي . وروى نحوه أيضاً في ج 2 ص 44 والقسطلاني في إرشاد الساري ج 7 ص 320 وص 359

ـ وقال أبو الشيخ في طبقات المحدثين ج 2 ص 432
عن عبدالله بن عباس أن رسول الله ( ص ) خرج يوماً على أصحابه مستبشراً .. فقال لهم : إن ربي أتاني الليلة في أحسن صورة . . . . فوضع يده على كتفي فوجدت بردها بين ثديي .. الخ .

ـ وقال في ج 1 ص 129
عن عبدالرحمن بن المبارك بن فضالة عن أبيه : كان الحسن يحلف بالله أن محمداً ( ص ) قد رأى ربه تبارك وتعالى .

ـ وقال الطبري في تفسيره ج 7 ص 162
خالد الحلاج ، قال سمعت عبدالرحمن بن عياش ، يقول صلى بنا رسول الله ( ص ) ذات غداة فقال له قائل : ما رأيت أسعد منك الغداة ، قال : ومالي وقد أتاني ربي في أحسن صورة فقال : فيم يختصم الملأ الاَعلى يا محمد ؟ قلت أنت أعلم ، فوضع يده على كتفي فعلمت ما في السموات والاَرض . . . . الخ .

ـ وقال الدميري في حياة الحيوان ج 2 ص 359
من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس ، فخرج سريعاً فَثَوَّبَ بالصلاة فصلى وتجوز في صلاته . . . . ثم انفتل إلينا فقال : أما إني سأحدثكم ما
( 336 )
حبسني عنكم الغداة : إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت ، فإذا أنا بربي تعالى في أحسن صورة ! فقال يا محمد . . . . فيم يختصم الملاَ الاَعلى . . . . الخ .

ـ وقال السيوطي في الدر المنثور ج 5 ص 319
أخرج عبدالرزاق وأحمد وعبد ابن حميد والترمذي وحسنه ومحمد بن نصر . . . الخ .
وأخرج الترمذي وصححه ومحمد بن نصر والطبراني والحاكم وابن مردويه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه . . . . الخ .
وأخرج الطبراني في السنة وابن مردويه عن جابر بن سمرة رضي الله عنه . . . . عن أبي هريرة رضي الله عنه . . .
وأخرج الطبراني في السنة والشيرازي في الاَلقاب ... .
وابن مردويه عن أنس رضي الله عنه ... .
وأخرج ابن نصر والطبراني وابن مردويه عن أبي أمامة ... .
وأخرج الطبراني في السنة والخطيب عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ... .
وأخرج محمد بن نصر في كتاب الصلاة والطبراني في السنة عن عبدالرحمن بن عابس الحضرمي رضي الله عنه ... .

ـ وقال السيوطي في الدر المنثور ج 6 ص 124
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال قال صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في أحسن صورة فقال لي : يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الاَعلى ؟ فقلت لا يا رب ، فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السماء والاَرض ، فقلت يا رب في الدرجات والكفارات ونقل الاَقدام إلى الجماعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فقلت يا رب إنك اتخذت ابراهيم خليلاً وكلمت موسى تكليماً وفعلت وفعلت فقال : ألم أشرح لك صدرك ألم أضع عنك وزرك ألم أفعل بك ألم أفعل ،
( 337 )
فأفضى إليَّ بأشياء لم يؤذن لي أن أحدثكموها فذلك قوله : ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى . فجعل نور بصري في فؤادي فنظرت إليه بفؤادي . انتهى .

ـ قال الذهبي في سيره ج 2 ص 166
ولم يأتنا نص جلي بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الله تعالى بعينيه . وهذه المسألة مما يسع المرء المسلم في دينه السكوت عنها ، فأما رؤية المنام فجاءت من وجوه متعددة مستفيضة ، وأما رؤية الله عياناً في الآخرة فأمر متيقن تواترت به النصوص . جمع أحاديثها الدارقطني والبيهقي وغيرهما .

ـ وقال السيوطي في الدر المنثور ج 6 ص 123
وأخرج عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر والحاكم وابن مردويه عن الشعبي قال : لقي ابن عباس كعباً بعرفة ، فسأله عن شيء فكبر حتى جاوبته الجبال فقال ابن عباس إنا بنو هاشم نزعم أو نقول إن محمداً قد رأى ربه مرتين ، فقال كعب : إن الله قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد عليهما السلام فرأى محمد ربه مرتين وكلم موسى مرتين .
قال مسروق فدخلت على عائشة فقلت هل رأى محمد ربه ؟ فقالت لقد تكلمت بشيء قَفَّ له شعري ، قلت رويداً ، ثم قرأت لقد رأى من آيات ربه الكبرى ، قالت أين يذهب بك ! إنما هو جبريل . من أخبرك أن محمداً رأى ربه أو كتم شيئاً مما أمر به أو يعلم الخمس التي قال الله إن الله عنده علم الساعة الآية ، فقد أعظم الفرية ، ولكنه رأى جبريل لم يره في صورته إلا مرتين ، مرة عند سدرة المنتهى ، ومرة عند جياد له ستمائة جناح قد سد الاَفق .

ـ وروى الطبري في تفسيره ج 9 ص 34 ما يوهم قرب النبي المادي من الله تعالى في الاِسراء ، قال : عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: وقربناه نجيا، قال: من لقي أصحاب النبي أنه قرب للرب حتى سمع صريف القلم من الشوق إليه . انتهى .

( 338 )
ـ وروى النويري في نهاية الاِرب ج 8 جزء 16 ص 298
قال جعفر بن محمد . . . . والدنو من الله لا حد له ، ومن العباد بالحدود . انتهى . ويقصد بجعفر الاِمام جعفر الصادق عليه السلام .

والملاحظات على هذه الروايات كثيرة : منها تعارض نصوصها ، واضطرابها ، وأن سؤال الله تعالى لنبيه عن اختصام الملأ الأعلى غير مفهوم ، بل غير منطقي ! وكذا تأخر النبي عن صلاة الصبح ، وطريقة تحديثه المسلمين بالقصة ، ثم شباهة متونها بأحاديث اليهود مثل قوله ( فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السماء والاَرض ) . هذا مضافاً إلى أن بعضها خلط بين القصة المزعومة وبين روايات المعراج وآياته ، والمعراج كان في مكة ، وهذه القصة المزعومة في المدينة .
كل ذلك ، وغيره ، يوجب الشك في هذه الرواية والتريث في الحكم بصحتها ، خاصة أن بعضها اشتمل على التناقض كرواية الطبري التي يذكر في أولها أنه رآه في أحسن صورة ، وفي آخرها أنه رآه بفؤاده !
وبعضها روي عن صاحبها ما يناقضها كرواية ابن عباس ، وقد شهد ابن قيم أن روايتي الرؤية بالعين وضدها كلتاهما صحتا عن ابن عباس ، فلابد أن تكون إحداهما مكذوبة ! قال في زاد المعاد ج 3 ص 29 ـ 30 : واختلف الصحابة رضي الله عنهم ، هل رأى ربه تلك الليلة أم لا ؟ فصح عن ابن عباس أنه رأى ربه وصح عنه أنه قال : رآه بفؤاده . انتهى .
وقد علق على ذلك ناشر الكتاب الشيخ عبد القادر عرفان فقال في هامشه : لم أقف على هذه الرواية في الصحيح ، بل الذي صح عن ابن عباس رضي الله عنه ما جاء عند مسلم في الاِيمان 176 ـ 285 في قوله تعالى : ما كذب الفؤاد ما رأى ، وقوله تعالى : ولقد رأه نزلة أخرى ، قال رآه بفؤاده مرتين . وأخرجه الترمذي في التفسير 3280 .
ثم قال ابن قيم : وصح عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك وقالا إن قوله : ولقد رآه
( 339 )
نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ، إنما هو جبريل . وصح عن أبي ذر أنه سأله هل رأيت ربك فقال صلى الله عليه وسلم : نور ، أنى أراه ! أي : حال بيني وبين رؤيته النور ، كما قال في لفظ آخر : رأيت نوراً . وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على أنه لم يره .
ثم قال ابن قيم : قال شيخ الاِسلام ابن تيمية ... وقد صح عنه أنه قال : رأيت ربي تبارك وتعالى ولكن لم يكن هذا في الاِسراء ، ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح ، ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه ، وعلى هذا بنى الاِمام أحمد رحمه الله وقال : نعم رآه حقاً ، فإن رؤيا الاَنبياء حق ولا بد ، ولكن لم يقل أحمد رحمه الله : إنه رآه بعيني رأسه يقظة ، ومن حكى عنه ذلك فقد وهم عليه ، ولكن قال مرة رآه ، ومرة قال رآه بفؤاده ، فحكيت عنه روايتان ، وحكيت عنه الثالثة من تصرف بعض أصحابه : أنه رآه بعيني رأسه ، وهذه نصوص أحمد موجودة ، ليس فيها ذلك . انتهى .
راجع ما تقدم في أول الباب من أن جمهور الصحابة كانوا يوافقون عائشة على نفي الرؤية بالعين .

وجهل بعضهم فنسب الدنو والتدلي إلى الله تعالى !

ـ تاريخ الاِسلام للذهبي ج 1 ص 267
وقال سليمان بن بلال .. وذكر حديث الاِسراء وفيه ثم عرج به محمد ( ص ) إلى السماء السابعة ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء إلى سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى . . . .

ـ تفسير الطبري ج 12 ص 14
عبد الله بن عمر ، قال سمعت نبي الله ( ص ) يقول يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كتفه !

( 340 )
ـ الدر المنثور ج 6 ص 123
وأخرج ابن جرير عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرج بي مضى جبريل حتى جاء الجنة فدخلت فأعطيت الكوثر ، ثم مضى حتى جاء لسدرة المنتهى فدنا ربك فتدلى ، فكان قاب قوسين أو أدنى !
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله ثم دنا قال دنا ربه فتدلى .
وأخرج أبوالشيخ وأبونعيم في الدلائل عن سريج بن عبيد قال لما صعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء فأوحى الله إلى عبده ما أوحى ، قال فلما أحس جبريل بدنو الرب خر ساجداً ، فلم يزل يسبحه تسبيحات ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة حتى قضى الله إلى عبده ما قضى ، ثم رفع رأسه فرأيته في خلقه الذي خلق عليه منظوم أجنحته بالزبرجد واللؤلؤ والياقوت فخيل إليَّ أن ما بين عينيه قد سد الاَفقين وكنت لا أراه قبل ذلك إلا على صور مختلفة ، وأكثر ما كنت أراه على صورة دحية الكلبي ، وكنت أحياناً لا أراه قبل ذلك إلا كما يرى الرجل صاحبه من وراء الغربالي .

ـ وقال السهيلي في الروض الاَنف ج 2 ص 156
وروي : لما أحس جبريل دنو الرب خر ساجداً . انتهى .
وقدتقدم ذكر روايات أخرى تنسب التدلي إلى الله تعالى، وتقدم عن أهل البيت عليهم السلام أن النبي صلى الله عليه وآله ( دنا من حجب النور فرأى ملكوت السماوات ، ثم تدلى فنظر من تحته الى ملكوت الاَرض ، حتى ظن أنه في القرب من الاَرض كقاب قوسين أو أدنى ) .

ووصفوا عرشه بأنه تحمله حيوانات كما وصفه اليهود

ـ الدر المنثور ج 6 ص 123
وأخرج ابن إسحاق والبيهقي في الاَسماء والصفات وضعفه عن عبدالله بن أبي
( 341 )
سلمة أن عبدالله بن عمر بن الخطاب بعث إلى عبدالله بن عباس يسأله هل رأى محمد ربه ؟ فأرسل إليه عبد الله بن عباس : أن نعم ، فرد عليه عبدالله بن عمر رسوله أن كيف رآه ؟ فأرسل أنه رآه في روضة خضراء دونه فراش من ذهب على كرسي من ذهب يحمله أربعة من الملائكة ، ملك في صورة رجل وملك في صورة ثور وملك في صورة نسر وملك في صورة أسد ! انتهى .
وسيأتي ذكر بقية الحيوانات التي ادعوا أنها تحمل عرش الله تعالى في بازار الاَحاديث ، ويأتي بعضها في تفسير : الرحمن على العرش استوى .

وقالوا رأى ربه واقفاً على أرض خضرة خلف ستر شفاف

ـ وقال السيوطي في الدر المنثور ج 6 ص 124
وأخرج البيهقي في الاَسماء والصفات وضعفه من طريق عكرمة عن ابن عباس أنه سئل هل رأى محمد ربه ؟ قال نعم رآه كأن قدميه على خضرة دونه ستر من لؤلؤ ، فقلت يا أبا عباس أليس يقول الله لا تدركه الاَبصار ! قال لا أم لك ذاك نوره الذي هو نوره ، إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء ! انتهى .
ومضافاً إلى تضعيف البيهقي لهذه الرواية ، فإنها تحاول تفسير قوله تعالى : لا تدركه الاَبصار ، أي لا تدرك نوره ، أما ذاته تعالى فتدركها الاَبصار . وهو مخالف لظهور الآية ، ولم يفسرها به أحد .

وحاول بعضهم أن يخفف القصة ويجعلها رؤيا في المنام

ـ تقدم في رواية الترمذي نقل قول الراوي وهو ابن عباس بزعمهم ( أحسبه قال في المنام )

ـ وروى عبد الرزاق في تفسيره ج 2 ص 137
عن ابن عباس : أن النبي ( ص ) قال : أتاني ربي الليلة في أحسن صورة أحسبه قال : يعني في المنام ، فقال : يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قال
( 342 )
النبي ( ص ) قلت : لا ، قال النبي ( ص ) : فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي .. فعلمت ما في السموات والاَرض . . . . !!

ـ وروى ابن حبان في المجروحين ج 3 ـ 135
عن أنس أن الرسول ( ص ) قال : أتاه ربه في المنام في أحسن صورة ، حتى وضع يده بين كتفه فوجد بردها بين ثديية .

ـ وقال السيوطي في الدر المنثور ج 5 ص 319
وأخرج ابن نصر والطبراني في السنة عن ثوبان رضي الله عنه . . . . وفي بعض روايات السيوطي أنه رآه بقلبه ، وفي بعضها ( فعلمت في منامي ذلك ما سألني عنه من أمر الدنيا والآخرة ، فقال : فيم يختصم الملأ الأعلى ) .

تفسير آية : وجوه يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة

كلا بل تحبون العاجلة . وتذرون الآخرة . وجوه يومئذ ناضرة . إلى ربها ناظرة . ووجوه يومئذ باسرة . تظن أن يفعل بها فاقرة . القيامة 20 ـ 25

تفسير أهل البيت عليهم السلام وفقهاء مذهبهم

ـ تفسير القمي ج 2 ص 397
وجوه يومئذ ناضرة : أي مشرقة . إلى ربها ناظرة : قال ينظرون إلى وجه الله أي إلى رحمة الله ونعمته . ووجوه يومئذ باسرة : أي ذليلة . انتهى . ورواه في الاِحتجاج ج 2 ص191 وفي تفسير نور الثقلين ج 5 ص 464 وقال : وفي مجمع البيان ، وقال : وروي ذلك عن مجاهد والحسن وسعيد بن جبير والضحاك ، وهو المروي عن علي عليه السلام .

ـ أمالي المرتضى ج 1 ص 28
مسألة : إعلم أن أصحابنا قد اعتمدوا في إبطال ما ظنه أصحاب الرؤية في قوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ، على وجوه معروفة ، لاَنهم بينوا أن النظر
( 343 )
ليس يفيد الرؤية ولا الرؤية من أحد محتملاته ، ودلوا على أن النظر ينقسم إلى أقسام كثيرة ، منها تقليب الحدقة الصحيحة في جهة المرئي طلباً لرؤيته ، ومنها النظر الذي هو الاِنتظار ، ومنها النظر الذي هو التعطف والمرحمة ، ومنها النظر الذي هو الفكر والتأمل ، وقالوا إذا لم يكن قي أقسام النظر الرؤية لم يكن للقوم بظاهرها تعلق واحتجنا جميعاً إلى طلب تأويل الآية من غير جهة الرؤية .
وتأولها بعضهم على الاِنتظار للثواب وإن كان المنتظر في الحقيقة محذوفاً والمنتظر منه مذكوراً ، على عادة للعرب معروفة .
وسلم بعضهم أن النظر يكون الرؤية بالبصر وحمل الآية على رؤية أهل الجنة لنعم الله تعالى عليهم ، على سبيل حذف المرئي في الحقيقة وهذا كلام مشروح في مواضعه ، وقد بينا ما يرد عليه وما يجاب به عن الشبهة المعترضة في مواضع كثيرة . وهاهنا وجه غريب في الآية حكي عن بعض المتأخرين لا يفتقر معتمده إلى العدول عن الظاهر أو إلى تقدير محذوف ولا يحتاج إلى منازعتهم في أن النظر يحتمل الرؤية أو لا يحتملها ، بل يصح الاِعتماد عليه سواء كان النظر المذكور في الآية هو الاِنتظار بالقلب أم الرؤية بالعين ، وهو أن يحمل قوله تعالى إلى ربها إلى أنه أراد نعمة ربها لاَن الآلاء النعم وفي واحدها أربع لغات : ألا مثل قفا ، وألى مثل رمى ، وألي مثل معي ، وألَّى مثل حتَّى ، قال أعشى بكر بن وائل :
أبيض لا يرهب الهزال ولا * يقطع رحماً ولا يخون إلى
أراد أنه لا يخون نعمة ، وأراد تعالى إلى ربها فأسقط التنوين للاِضافة .
فإن قيل : فأي فرق بين هذا الوجه وبين تأويل من حمل الآية على أنه أراد به إلى ثواب ربها ناظرة بمعنى رائية لنعمه وثوابه .
قلنا : ذلك الوجه يفتقر إلى محذوف لاَنه إذا جعل إلى حرفاً ولم يعلقها بالرب تعالى فلا بد من تقدير محذوف ، وفي الجواب الذي ذكرناه لا يفتقر إلى تقدير محذوف ، لاَن إلى فيه اسم يتعلق به الرؤية ولا يحتاج إلى تقدير غيره ، والله أعلم بالصواب .

( 344 )
ـ بحار الاَنوار ج 4 ص 28
لي : علي بن أحمد بن موسى ، عن الصوفي ، عن الروياني ، عن عبدالعظيم الحسني ، عن إبراهيم بن أبي محمود قال قال علي بن موسى الرضا عليه السلام في قول الله عز وجل : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة : يعني مشرفة تنتظر ثواب ربها .
بيان : إعلم أن للفرقة المحقة في الجواب عن الاِستدلال بتلك الآية على جواز الرؤية وجوها :
الاَول : ما ذكره عليه السلام في هذا الخبر من أن المراد بالناظرة المنتظرة كقوله تعالى : فناظرة بم يرجع المرسلون . روي ذلك عن مجاهد والحسن وسعيد بن جبير والضحاك ، وهو المروي عن علي عليه السلام ، واعترض عليه بأن النظر بمعنى الاِنتظار لا يتعدى بإلى ، وأجيب بأن تعديته بهذا المعنى بإلى كثيرة ، كما قال الشاعر :
إني إليك لما وعدت لناظر * نظرالفقير إلى الغني الموسر
وقال آخر :
ويوم بذي قار رأيت وجوههم * إلى الموت من وقع السيوف نواظر
والشواهد عليه كثيرة مذكورة في مظانه ، ويحكى عن الخليل أنه قال : يقال : نظرت إلى فلان بمعنى انتظرته ، وعن ابن عباس أنه قال : العرب تقول إنما أنظر إلى الله ثم إلى فلان ، وهذا يعم الاَعمى والبصير ، فيقولون : عيني شاخصة إلى فلان وطامحة إليك ، ونظري إلى الله وإليك . . . .
الثاني : أن يكون فيه حذف مضاف أي إلى ثواب ربها ، أي هي ناظرة إلى نعيم الجنة حالاً بعد حال ، فيزداد بذلك سرورها ، وذكر الوجوه والمراد به أصحاب الوجوه ، روي ذلك عن جماعة من علماء المفسرين من الصحابة والتابعين وغيرهم .
الثالث : أن تكون إلى بمعنى عند ، وهو معنى معروف عند النحاة وله شواهد ، كقول الشاعر :
فهل لكم فيما إلي فإنني * طبيب أعيي النطاسي حذيما
أي فيما عندي ، وعلى هذا يحتمل تعلق الظرف بناضرة وبناظرة . والاَول أظهر .

( 345 )
الرابع : أن يكون النظر إلى الرب كناية عن حصول غاية المعرفة بكشف العلائق الجسمانية ، فكأنها ناظرة إليه تعالى كقوله صلى الله عليه وآله : أعبد الله كأنك تراه .

ـ وقال السيد شرف الدين في كتاب أبو هريرة ج 1 ص 61
اما رؤية الله عز وجل بالعين الباصرة فقد أجمع الجمهور على إمكانها في الدنيا والآخرة ، وأجمعوا أيضاً على وقوعها في الآخرة وأن المؤمنين والمؤمنات سيرونه يوم القيامة بأبصارهم ، وأن الكافرين والكافرات لا يرونه أبداً . وأكثر هؤلاء على أن الرؤية لا تقع في الدنيا ، وربما قال بعضهم بوقوعها أيضاً .
ثم أن المجسمة يرونه ماثلاً أمامهم فينظرون إليه كما ينظر بعضهم إلى بعض ، لا يمارون فيه كما لا يمارون في الشمس والقمر ليس دونهما سحاب ، على ما يقتضيه حديث أبي هريرة . وقد خالف هؤلاء حكم العقل والنقل ، وخرقوا إجماع الاَمة بأسرها ، وخرجوا عليها ومرقوا من الدين ، وخالفوا ما علم منه بحكم الضرورة الاِسلامية ، فلا كلام لنا معهم .
وأما غيرهم من الجمهور وهم المنزهون من الاَشعرية فقد قالوا بأن الرؤية قوة سيجعلها الله تعالى يوم القيامة بأبصار المؤمنين والمؤمنات خاصة ، لا تكون باتصال الاَشعة ، ولا بمقابلة المرئي ولا بتحيزه ولا بتكيفه ، ولا ، ولا ، فهي على غير الرؤية المعهودة للناس ، بل هي رؤية خاصة تقع من أبصار المؤمنين والمؤمنات على الله عز وجل لا كيف فيها ولا جهة من الجهات الست .
وهذا محال لا يعقل ، ولا يمكن أن يتصوره متصور إلا إذا اختص الله المؤمنين في الدار الآخرة ببصر آخر لا تكون فيه خواص الاَبصار المعهودة في الحياة الدنيا على وجه تكون فيه الرؤية البصرية كالرؤية القلبية ، وهذا خروج عن محل النزاع في ظاهر الحال . ولعل النزاع بيننا وبينهم في الواقع ونفس الاَمر لفظي . انتهى .
وقد بيننا في تفسير لا تدركه الاَبصار ، أن محاولة جعل الرؤية بحاسة أخرى كالعين خروج عن الموضوع ، وأن روايات إخواننا تأبى ذلك لاَنها ظاهرة في الرؤية بالعين المتعارفة .

( 346 )
رؤية العارفين بقلوبهم أرقى من الرؤية البصرية

ـ روى الصدوق في التوحيد ص 117
حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق ؛ قال : حدثنا محمد بن أبي عبدالله الكوفي قال : حدثنا موسى بن عمران النخعي ، عن الحسين بن يزيد النوفلي، عن علي بن أبي حمزة ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال قلت له : أخبرني عن الله عز وجل هل يراه المؤمنون يوم القيامة ؟ قال : نعم ، وقد رأوه قبل يوم القيامة، فقلت متى ؟ قال : حين قال لهم : ألست بربكم قالوا بلى ، ثم سكت ساعة ، ثم قال : وإن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة ، ألست تراه في وقتك هذا ؟ قال أبو بصير فقلت له : جعلت فداك فأحدث بهذا عنك ؟ فقال لا ، فإنك إذا حدثت به فأنكر منكر جاهل بمعنى ما تقوله ، ثم قدَّر أن ذلك تشبيه كفر . وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين ، تعالى الله عما يصفه المشبهون والملحدون . ورواه المجلسي في بحار الاَنوار ج 4 ص 44

ـ التحفة السنية ص 84
ومن ثمة كان العلم الحاصل من الرؤية ألذ من العلم الحاصل من غيرها لازدياد الكشف فيها بسبب حضور نفس المعلوم عند الحس وصورته عند الذهن ، فاللذة الزايدة إنما هي باعتبار هذا الاِنكشاف الزايد من تصور معشوقه في خياله ، فإنه يلتذ بتصوره لا محالة .
لكن لا نسبة لهذه اللذة إلى اللذة الحاصلة من مشاهدته رأي العين ، وحيث أنها أقوى طرق الاِنكشاف ربما يعبر عن مطلق الاِنكشاف التام بأي طريق حصل بالرؤية والنظر كما في قوله سبحانه : إلى ربها ناظرة ، وما ورد من بعض الطرق : أن رسول الله صلى الله عليه وآله رأى ربه ليلة المعراج ونحو ذلك ، لتطابق العقل والنقل على امتناع الرؤية الحسية في حقه تعالى ، لاشتراطها بالوضع والجهة وكثافة المرئي وغير ذلك .
( 347 )
فالمراد بها أينما أطلقت في كلمات من يعتنى بتصحيح كلامهم : غاية الاِنكشاف التام الذي لا يكون ما فوقه مجازاً مقبولاً لوجود العلاقة البينة ، إن ثبت كون اللفظ حقيقة في خصوص البصرية ، وإلا فمن استعمال المشترك في معناه الآخر حقيقة اعتماداً على وضوح القرينة وهي اشتراط الحسية بما يمتنع في حقه سبحانه .
وأحسن ما ينكشف به هذا المطلب ما سبقت روايته عن أمير المؤمنين عليه السلام من قوله : لم أعبد رباً لم أره ، لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقايق الاِيمان ، حيث أثبت عليه السلام الرؤية أولاً ، ثم استدرك ذلك بصرفها من العينية لاَنها المتبادر ، إلى القلبية .

ـ شرح الاَسماء الحسنى ج 1 ص 185 ـ 191
. . . ومنها قوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ، وجه الاِحتجاج : أن النظر في اللغة جاء بمعنى الاِنتظار ويتعدى بنفسه ، وبمعنى التفكر ويستعمل بفي ، وبمعنى الرأفة ويستعمل باللام ، وبمعنى الرؤية ويستعمل بإلى كما في الآية ، فوجب حمله على الرؤية كما قيل .
ويظهر من صاحب القاموس أن النظر المتعدي بنفسه يجيء بمعنى الرؤية أيضاً ، وجعله من باب الحذف والاِيصال خلاف الاَصل ، وأنه جاء بمعنى الحكم ويستعمل بكلمة بين فقال : نظره كضربه وسمعه ، وإليه نظراً ومنظراً ونظراناً ومنظرة وتنظاراً : تأمله بعينه كتنظره ، والاَرض أرت العين نباتها ، ولهم : أعانهم ، وبينهم : حكم .انتهى.
واعترض على هذا الدليل أيضاً بأن النظر لا يدل على الرؤية ، فإن النظر تقليب الحدقة نحو المرئي . بل ادعى بعضهم أن النظر المستعمل بإلى موضوع لذلك ولتحققه بدونها ، يقال نظرت إلى الهلال فما رأيته ، ولو كان بمعنى الرؤية لكان تناقضاً ، ولم أزل أنظر إلى الهلال حتى رأيته ، ولو حمل على الرؤية لكان الشيء غاية لنفسه .

( 348 )
أقول : يمكن جعله من باب الاِكتفاء بالمراد عن الاِرادة ، كقوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ، وهذا باب واسع كما في المغني وغيره ، فمعنى قولهم نظرت إلى الهلال فما رأيته أردت رؤية الهلال فما رأيته ، وهكذا في الآخر ، بل في كل موضع يقال إنه لتقليب الحدقة ، فالنظر محمول على معناه الحقيقي وهو الرؤية المرادة بتلك الاِرادة ، بل إذا نظرت المعاني المستعمل فيها النظر وجدت روح جلها لو لم يكن كلها ، الرؤية . وأجيب أيضاً : بأن معنى قولهم نظرت إلى الهلال فما رأيته ونحوه ، نظرت إلى مطلع الهلال .
واعترض أيضاً على هذا الدليل بأنا لا نسلم أن لفظة إلى صلة للنظر ، بل واحدة الآلاء ومفعول به للنظر بمعنى الاِنتظار ، أي نعمة ربها منتظرة ، ولو سلم فالنظر الموصول بإلى قد جاء للاِنتظار قال الشاعر :
وشعث ينظرون إلى هلال * كما نظر الظما حب الغمام
والجواب : أما عن الثاني فبمثل ما ذكر عن حديث التقليب وكون النظر المستعمل بإلى بمعنى الاِنتظار مما لم يثبت عند البلغاء ، وأما عن الاَول فبأن انتظار النعمة غم ، بل قيل الاِنتظار موت أحمر ، والآية مسوقة لبيان النعم .
وهذا الجواب زيف ، لاَن الآية دالة على أن الحالة التى عبر عنها بقوله سبحانه : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ، سابقة على حالة استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ، بقرينة المقابلة لقوله تعالى : وجوه يومئذ باسره تظن أن يفعل بها فاقرة ، أي تظن أن يفعل بها فعل هو في شدته وفظاعته داهية فاقرة تقصم فقار الظهر، ولم يفعل بها بعد ، وحينئذ كان انتظار النعمة بعد البشارة بها سروراً يستتبع نضارة الوجه ، كما أن انتظار إكرام الملك لا يكون موجباً للغم إذا تيقن وصوله إليه .
بل الحق في الجواب أن كون إلى في الآية بمعنى النعمة لا يخفى بعده وغرابته وإخلاله بالفهم عند تعلق النظر به ، ولهذا لم يحمل الآية عليه أحد من أئمة التفسير .