الفصل الثاني

مذاهب السنيين في الاَلوهية والتوحيد


عندما قبل إخواننا السنة أحاديث الرؤية والتشبيه ، تورطوا فيها ، وانقسموا في تفسيرها منذ القرن الاَول إلى أربعة مذاهب وأكثر ، وقد ولدت هذه المذاهب العقائدية قبل أن تتكون مذاهبهم الفقهية بمدة طويلة ، بقيت حاكمة على أئمة المذاهب الاَربعة وأتباعهم إلى يومنا هذا !
المذهب الاَول : مذهب المتأولين الذين يوافقون مذهب أهل البيت عليهم السلام تقريباً ، ويدافعون عن تنزيه الله تعالى ويجعلون الاَساس الآيات المحكمة في التوحيد مثل قوله تعالى ( ليس كمثله شيء ) و ( لا تدركه الاَبصار ) ويقولون بتأويل كل نص يظهر منه التشبيه أو الرؤية بالعين ، لينسجم مع حكم العقل وبقية الآيات والاَحاديث .
المذهب الثاني : مذهب التفويض وتحريم التأويل ، ومعناه تجميد تفسير آيات الصفات وأحاديثها ، وتفويضها إلى الله تعالى ، وتحريم الكلام في معانيها مطلقاً . وهو مذهب عدد من قدامى رواة الاَحاديث ، وقليل من المتأخرين .
المذهب الثالث : مذهب تحريم التأويل ووجوب تفسير آيات الصفات وأحاديثها بمعناها الظاهري الحسين ، والقول بأن لله تعالى يداً ووجهاً ورجلاً وجنباً بالمعنى اللغوي المعروف ، غاية الاَمر أنهم لايقولون إن شكل ذلك مثل جوارح الاِنسان ،
( 52 )
وهو مذهب اليهود وكعب الاَحبار ومن وافقهم من الصحابة ، وهو المجسمة من الحنابلة ، الذي تعصب له ابن تيمية والذهبي والوهابيون ، وادعوا أنه مذهب السلف وأهل السنة .
المذهب الرابع : مذهب المتنقلين بين المذاهب ، والمذبذبين ، والمتحيرين ، وهم أنواع ثلاثة .

والظاهر أن لقب ( المتأولة ) الذي يطلقه السنة على الشيعة في بلاد الشام وفلسطين ومصر ، جاء من هؤلاء المجسمة الذين كانوا يكفرون الشيعة وغيرهم ، لاَنهم يقولون بتأويل أحاديث الصفات . . ومع أن التأويل موجود عند إخواننا السنة بل أكثرهم ( متأولة ) إلا أن نبز هذا اللقب وَسُبَّتَهُ بقيت من نصيب شيعة أهل البيت المظلومين ، وبقيت كلمة ( مِتْوَالي ) بكسر الميم في ذهن كثير من عوام السنة أسوأ من كلمة كافر !
ونكتفي هنا بالاِشارة إلى هذه المذاهب ، وبما كتبناه في ( الوهابية والتوحيد )
نعم لابد من ذكر شيء عن أصحاب المذهب الرابع :


المذهب الرابع : مذهب المتنقلين بين المذاهب والمذبذبين والمتحيرين

الاِنتقال من مذهب فقهي إلى مذهب آخر أمر طبيعي يكثر حدوثه في المسلمين، وكذا الاِنتقال من مذهب عقائدي إلى مذهب آخر . ونلاحظ في مسألتنا أن المنتقلين من مذهب عقائدي إلى مذهب آخر كثيرون . كما نلاحظ ظاهرةً ثانية عند بعضهم هي الجمع بين التأويل والتفويض فترى أحدهم متأولاً تارة مفوضاً أخرى . والظاهر أن ذلك كان أمراً شائعاً ومقبولاً عند القدماء ، لاَنهم يجوزون الاَمرين .

ولكن تبقى ظاهرة التناقض بين التأويل والتفويض والحمل على الظاهر عند أصحاب الظاهر ، أمراً لا يقبل الحل ، لاَنهم حرموا التأويل والتفويض وهاجموا الآخرين بسببه بل تكفروهم ، ثم ارتكبوا ما حرموه . وفيما يلي نماذج من التهافت عند أهل هذه المذاهب ، فبدؤها بما ذكره ابن تيمية عن تهافت آراء ابن فورك ، في
( 53 )
حين نسي هو تهافت آرائه ، قال ابن تيمية في تفسيره ج 6 ص 108
فصل . أقوال الفرق في صفات الله تعالى . . . هذا مع أن ابن فورك هو ممن يثبت الصفات الخبرية كالوجه واليدين وكذلك المجيء والاِتيان موافقة لاَبي الحسن فإن هذا قوله وقول متقدمي أصحابه ، فقال ابن فورك فيما صنف في أصول الدين : فإن سألت الجهمية عن الدلالة على أن القديم سميع بصير ؟ قيل لهم : قد اتفقنا على أنه من تستحيل عليه الآفات والحي إذا لم يكن مأووناً بآفات تمنعه من إدراك المسموعات والمبصرات كان سميعاً بصيراً .
وإن سألت فقلت : أين هو ؟ فجوابنا إنه في السماء كما أخبر في التنزيل عن نفسه بذلك ، فقال عز من قائل : أأمنتم من في السماء ، وإشارة المسلمين بأيديهم عند الدعاء في رفعها إليه ، وإنك لو سألت صغيرهم وكبيرهم فقلت : أين الله ؟ لقالوا إنه في السماء ، ولم ينكروا بلفظ السؤال بـ ( أين ) لاَن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الجارية التي عرضت للعتق فقال : أين الله ؟ فقالت في السماء مشيرة بها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إعتقها فإنها مؤمنة ، ولو كان ذلك قولاً منكراً لم يحكم بإيمانها ولاَنكره عليها ، ومعنى ذلك أنه فوق السماء لاَن ( في ) بمعنى ( فوق ) قال الله تعالى: فسيحوا في الاَرض أي فوقها .
قال ابن فورك : وإن سألت كيف هو ؟ قلنا له : كيف سؤال عن صفته وهو ذو الصفات العلى ، هو العالم الذي له العلم ، والقادر الذي له القدرة ، والحي الذي له الحياة ، الذي لم يزل منفرداً بهذه الصفات ، لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء .
( قلت ) فهذا الكلام هو موافق لما ذكره الاَشعري في كتاب الاِبانة ولما ذكره ابن كلاب لما حكاه عنه ابن فورك ، لكن ابن كلاب يقول إن العلو والمباينة من الصفات العقلية ، وأما هؤلاء فيقولون : كونه في السماء صفة خبريه كالمجيء والاِتيان ، ويطلقون القول بأنه بذاته فوق العرش وذلك صفة ذاتية عندهم .
والاَشعري يبطل تأويل من تأول الاِستواء بمعنى الاِستيلاء والقهر بأنه لم يزل
( 54 )
مستولياً على العرش وعلى كل شيء ، والاِستواء مختص بالعرش ، فلو كان بمعنى الاِستيلاء لجاز أن يقال ( هو مستولياً ( كذا ) على كل شيء وعلى الاَرض وغيرها ) كما يقال إنه مستول عليها ، ولما اتفق المسلمون على أن الاِستواء مختص بالعرش ، فهذا الاِستواء الخاص ليس بمعنى الاِستيلاء العام ، وأين للسلطان جعل الاِستواء بمعنى الغلبة والقهر وهو الاِستيلاء فيشبه والله أعلم أن يكون اجتهاده مختلفاً في هذه المسائل كما اختلف اجتهاد غيره ، فأبو المعالي كان يقول بالتأويل ثم حرمه ، وحكى إجماع السلف على تحريمه ، وابن عقيل له أقوال مختلفة ، وكذلك لاَبي حامد والرازي وغيرهم .
ومما بين اختلاف كلام ابن فورك أنه في مصنف آخر قال : فإن قال قائل : أين هو فقال : ليس بذي كيفية فنخبر عنها إلا أن يقول : كيف صنعه ؟ فمن صنعه أنه يعز من يشاء ويذل من يشاء وهو الصانع للاَشياء كلها .
فهنا أبطل السؤال عن الكيفية ، وهناك جوزه وقال : الكيفية هي الصفة وهو ذو الصفات ، وكذلك السؤال عن الماهية . قال في ذلك المصنف : وإن سألت الجهمية فقلت ما هو يقال لهم ( ما ) يكون استفهاماً عن جنس أو صفة في ذات المستفهم ، فإن أردت بذلك سؤالاً عن صفته فهو العلم والقدرة والكلام والعزة والعظمة .


ـ سير أعلام النبلاء ج 10 ص 610
. . . أخبرنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، سمعت نعيم بن حماد يقول : من شبه الله بخلقه ، فقد كفر ، ومن أنكر ما وصف به نفسه ، فقد كفر ، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه .
قلت : هذا الكلام حق ، نعوذ بالله من التشبيه ومن إنكار أحاديث الصفات ، فما ينكر الثابت منها من فقه ، وإنما بعد الاِيمان بها هنا مقامان مذمومان : تأويلها وصرفها عن موضوع الخطاب ، فما أولها السلف ولا حرفوا ألفاظها عن مواضعها ، بل آمنوا بها ، وأمروها كما جاءت .



( 55 )
المقام الثاني : المبالغة في إثباتها ، وتصورها من جنس صفات البشر ، وتشكلها في الذهن ، فهذا جهل وضلال ، وإنما الصفة تابعة للموصوف ، فإذا كان الموصوف عز وجل لم نره ، ولا أخبرنا أحد أنه عاينه مع قوله لنا في تنزيله : ليس كمثله شيء ، فكيف بقي لاَذهاننا مجال في إثبات كيفية الباري تعالى الله عن ذلك ، فكذلك صفاته المقدسة ، نقر بها ونعتقد أنها حق ، ولا نمثلها أصلاً ولا نتشكلها .

ـ وقال الذهبي في سيره ج 20 ص 80 ـ 86
التيمي الاِمام العلامة الحافظ شيخ الاِسلام أبوالقاسم إسماعيل بن محمد . . . حدث عنه : أبوسعد السمعاني وأبو العلاء الهمذاني وأبوطاهر السلفي وأبو القاسم بن عساكر . . . قال أبو موسى المديني : أبوالقاسم إسماعيل الحافظ إمام أئمة وقته وأستاذ علماء عصره وقدوة أهل السنة في زمانه ، حدثنا عنه جماعة في حال حياته ... قال أبو موسى : ولا أعلم أحداً عاب عليه قولاً ولا فعلاً ولا عانده أحد إلا ونصره الله . . . وقال السلفي : وسمعت أبا الحسين بن الطيوري غير مرة يقول : ما قدم علينا من خراسان مثل إسماعيل بن محمد .
. . . وقد سئل أبو القاسم التيمي قدس سره : هل يجوز أن يقال لله حد أو لا ، وهل جرى هذا الخلاف في السلف ؟ فأجاب : هذه مسألة أستعفي من الجواب عنها لغموضها وقلة وقوفي على غرض السائل منها ، لكني أشير إلى بعض ما بلغني : تكلم أهل الحقائق في تفسير الحد بعبارات مختلفة محصولها أن حد كل شيء موضع بينونته عن غيره ، فإن كان غرض القائل : ليس لله حد لا يحيط علم الحقائق به فهو مصيب ، وإن كان غرضه بذلك لا يحيط علمه تعالى بنفسه فهو ضال ، أو كان غرضه أن الله بذاته في كل مكان فهو أيضاً ضال .
قلت : الصواب الكف عن إطلاق ذلك إذ لم يأت فيه نص ، ولو فرضنا أن المعنى صحيح فليس لنا أن نتفوه بشيء لم يأذن به الله خوفاً من أن يدخل القلب شيَ من البدعة اللهم إحفظ علينا إيماننا .

( 56 )
ـ وقال في هامش سير أعلام النبلاء ج 19 ص 443
وقد بين شيخ الاِسلام في درء تعارض العقل والنقل 8 ـ 60 ـ 61 نوع الخطأ الذي وقع فيه ( ابن عقيل ) فقال :
ولابن عقيل أنواع من الكلام ، فإنه كان من أذكياء العالم كثير الفكر والنظر في كلام الناس ، فتارة يسلك مسلك نفاة الصفات الحبرية وينكر على من يسميها صفات ويقول : إنما هي إضافات موافقة للمعتزلة كما فعله في كتابه ذم التشبيه وإثبات التنزيه ، وغيره من كتبه ، واتبعه على ذلك أبوالفرج ابن الجوزي في كف التشبيه بكف التنزيه ، وفي كتابه منهاج الوصول .
وتارة يثبت الصفات الخبرية ويرد على النفاة والمعتزلة بأنواع من الاَدلة الواضحات ، وتارة يوجب التأويل كما فعله في كتابه الواضح وغيره . وتارة يحرم التأويل ويذمه وينهى عنه كما فعله في كتابه الاِنتصار لاَصحاب الحديث ، فيوجد في كلامه من الكلام الحسن البليغ ما هو معظم مشكور ، ومن الكلام المخالف للسنة والحق ما هو مذموم ومدحور . . . ولابن عقيل من الكلام في ذم من خرج عن الشريعة من أهل الكلام والتصوف ما هو معروف كما قال في الفنون ، ومن خطه نقلت ثم ذكر فصلاً مطولاً استوعب سبع صفحات من الكتاب فراجعه .

وصار الترمذي متأولاً ذات يوم فكفره المجسمة
ـ قال السقاف في شرح العقيدة الطحاوية ص 170 ـ 171
. . . فهذا ابن القيم يقول في كتابه الصواعق المرسلة ـ أنظر مختصر الصواعق 2ـ275 : وأما تأويل الترمذي وغيره له بالعلم فقال شيخنا : ( 98 ) وهو ظاهر الفساد من جنس تأويلات الجهمية . . . . وهذا الخلال يقول في سنته ص 232 ناقلاً : لا أعلم أحداً من أهل العلم ممن تقدم ولا في عصرنا هذا إلا وهو منكر لما أحدث الترمذي (99) من رد حديث محمد بن فضيل عن ليث عن مجاهد في قوله : عسى أن
( 57 )
يبعثك ربك مقاماً محموداً قال يقعده على العرش ( 100 ) فهو عندنا جهمي يهجر ونحذر عنه .
وقال السقاف في هامش كتابه :
( 98 ) يعني بشيخه : ابن تيمية كما لا ينتطح في ذلك كبشان .
( 99 ) مع أن التأويل والتفويض لم يحدثه ولم يخترعه الترمذي قدس سره . ومن الغريب العجيب أيضاً أن محقق سنة الخلال عطية الزهراني ـ حاول أن ينفي أن كون الترمذي المراد هنا هو الاِمام المعروف صاحب السنن فقال ص 224 في الهامش تعليق رقم 4 هو جهم بن صفوان ثم تراجع عن ذلك ص 232 فقال في الهامش التعليق رقم 8 (كنت أظنه جهم ولكن اتضح من الروايات أن يقصد رجلاً آخر لم أتوصل إلى معرفته ) فيا للعجب ! !
( 100 ) وهذا القعود الذي يتحدثون عنه هو قعود سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بجنب الله تعالى على العرش ! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ! والدليل عليه قول الخلال هناك ص 244 :
حدثنا أبو معمر ثنا أبو الهذيل عن محمد بن فضيل عن ليث عن مجاهد : قال : عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً ، قال : يجلسه معه على العرش ، قال عبد الله : سمعت هذا الحديث من جماعة وما رأيت أحداً من المحدثين ينكره ، وكان عندنا في وقت ما سمعناه من المشائخ أن هذا الحديث إنما تنكره الجهمية .
أقول : ومن العجيب الغريب أن الاَلباني ينكر هذا ويقول بعدم صحته وأنه لم يثبت كما سيأتي ، وكذلك محقق الكتاب وهو متمسلف معاصر ينكر ذلك أيضاً ، ويحكم على هذا الاَثر بالضعف حيث يقول في هامش تلك الصحيفة تعليق رقم 19 : إسناده ضعيف !
فهل هؤلاء جهمية ! وما هذا الخلاف الواقع بين هؤلاء في أصول اعتقادهم !

( 58 )
ومن الغريب العجيب أيضاً أنهم اعتبروا أن نفي قعود سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بجنب الله نافياً ودافعاً لفضيلة من فضائل النبي صلى الله عليه وسلم ، والدليل على ما قلناه قول الخلال هناك ص 237 :
)وقال أبو علي إسماعيل بن إبراهيم الهاشمي ( وهو مجهول بنظر المحقق ) : إن هذا المعروف بالترمذي عندنا مبتدع جهمي ، ومن رد حديث مجاهد فقد دفع فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن رد فضيلة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو عندنا كافر مرتد عن الاِسلام !
وقال ص 234 ناقلاً ( وأنا أشهد على هذا الترمذي أنه جهمي خبيث ! !

ودافع رشيد رضا عن أكثر الحنابلة وجعلهم متأولة

ـ قال في تفسير المنار ج 3 ص 198 ـ 199
. . . الصفات التي هي في الحادث انفعالات نفسية كالمحبة والرحمة والرضا والغضب والكراهة ، فالسلف يقرونها على ظاهرها مع تنزيه الله تعالى عن انفعالات المخلوقين ، فيقولون إن لله تعالى محبة تليق بشأنه ليست انفعالاً نفسياً كمحبة الناس. والخلف يؤولون ما ورد من النصوص في ذلك فيرجعونه إلى القدرة أو إلى الاِرادة فيقولون الرحمة هي الاِحسان بالفعل أو إرادة الاِحسان .
ومنهم من لا يسمي هذا تأويلاً بل يقولون إن الرحمة تدل على الاِنفعال الذي هو رقة القلب المخصوصة على الفعل الذي يترتب على ذلك الاِنفعال ، وقالوا إن هذه الاَلفاظ إذا أطلقت على الباري تعالى يراد بها غايتها التي هي أفعال دون مباديها التي هي انفعالات .
وإنما يردون هذه الصفات إلى القدرة والاِرادة بناء على أن إطلاق لفظ القدرة والاِرادة وكذا العلم على صفات الله إطلاق حقيقي لا مجازي .


والحق أن جميع ما أطلق على الله تعالى فهو منقول مما أطلق على البشر ، ولما
( 59 )
كان العقل والنقل متفقين على تنزيه الله تعالى عن مشابهة البشر ، تعين أن نجمع بين النصوص فنقول إن لله تعالى قدرة حقيقية ولكنها ليست كقدرة البشر ، وإن له رحمة ليست كرحمة البشر ، وهكذا نقول في جميع ما أطلق عليه تعالى جمعاً بين النصوص ، ولا ندعي أن إطلاق بعضها حقيقي وإطلاق البعض الآخر مجازي ، فكما أن القدرة شأن من شؤونه لا يعرف كنهه ولا يجهل أثره كذلك الرحمة شأن من شؤونه لا يعرف كنهه ولا يخفى أثره ، وهذا هو مذهب السلف فهم لا يقولون إن هذه الاَلفاظ لا يفهم لها معنى بالمرة ، ولا يقولون إنها على ظاهرها بمعنى أن رحمة الله كرحمة الاِنسان ويده كيده وإن ظن ذلك في الحنابلة بعض الجاهلين .
ومحققوا الصوفية لا يفرقون بين صفات الله تعالى ولا يجعلون بعضها محكماً إطلاق اللفظ عليه حقيقي ، وبعضها متشابهاً إطلاقه عليه مجازي ، بل كل ما أطلق عليه تعالى فهو مجاز .

ثم تبنى رشيد رضا رأي الغزالي مع أنه كاد أن يكفر الحنابلة

للغزالي رسالة إسمها ( إلجام العوام عن علم الكلام ) حرم فيها على العوام حتى السؤال عن معنى أحاديث الرؤية والتجسيم ، وقد تبناها الشيخ رشيد رضا ونقلها كلها في تفسيره قال في ج 3 ص 207 ـ 208 :
وللاِمام الغزالي تفصيل في كيفية الاِستعمال وتحقيق في هذا البحث قاله بعد الرجوع إلى مذهب السلف ( ! ) فننقله هنا من كتابه ( إلجام العوام عن علم الكلام ) وهو :
الباب الاَول في شرح اعتقاد السلف في هذه الاَخبار :
إعلم أن الحق الصريح الذي لامراء فيه عند أهل البصائر هو مذهب السلف أعني مذهب الصحابة والتابعين ، وها أنا أورد بيانه وبيان برهانه فأقول : حقيقة مذهب السلف ـ وهو الحق عندنا ـ أن كل من بلغه حديث من هذه الاَحاديث من عوام الخلق يجب عليه فيه سبعة أمور : التقديس ، ثم التصديق ، ثم الاِعتراف بالعجز ، ثم السكوت ، ثم الاِمساك ، ثم الكف ، ثم التسليم لاَهل المعرفة .

( 60 )
أما التقديس فأعني به تنزيه الرب تعالى عن الجسمية وتوابعها .
وأما التصديق فهو الاِيمان بما قاله صلى الله عليه وسلم ، وأن ما ذكره حق وهو فيما قاله صادق ، وأنه حق على الوجه الذي قاله وأراده .
وأما الاِعتراف بالعجز ، فهو أن يقر بأن معرفة مراده ليست على قدر طاقته ، وأن ذلك ليس من شأنه وحرفته .
وأما السكوت فأن لا يسأل عن معناه ولا يخوض فيه ويعلم أن سؤاله عنه بدعة ، وأنه في خوضه فيه مخاطر بدينه ، وأنه يوشك أن يكفر لو خاض فيه من حيث لا يشعر .
وأما الاِمساك فأن لا نتصرف في تلك الاَلفاظ بالتصريف والتبديل بلغة أخرى والزيادة فيه والنقصان منها والجمع والتفريق ، بل لا ينطق إلا بذلك اللفظ وعلى ذلك الوجه من الاِيراد والاِعراب والتصريف والصيغة .
وأما الكف فأن يكف باطنه عن البحث عنه والتفكر فيه .
وأما التسليم لاَهله فأن لا يعتقد أن ذلك إن خفي عليه لعجزه فقد خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو على الاَنبياء أو على الصديقين والاَولياء .
فهذه سبع وظائف اعتقد كافة السلف وجوبها على كل العوام ، لا ينبغي أن يظن بالسلف الخلاف في شيء منها ، فلنشرحها وظيفة وظيفة إن شاء الله تعالى . . . انتهى .
ومع أن الغزالي أنزل بالعوام هذه الفتاوى الشديدة منعاً لهم من تكذيب روايات السلف وأشاد بالسلف مدعياً أن ما يقوله هو مذهبهم ، لكنه قدم تأويلاً لها مخالفاً للحنابلة والسلف وهاجم اتجاههم في تحريم التأويل والميل إلى التشبيه حتى جعل منهم عبدة أصنام !

قال في ص 209 :
الوظيفة الاَولى التقديس ومعناه : أنه إذا سمع اليد والاَصبع وقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله خمر طينة آدم بيده وإن قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن فينبغي أن يعلم أن اليد تطلق لمعنيين : أحدهما هو الوضع الاَصلي وهو عضو مركب


( 61 )
من لحم وعظم وعصب ، واللحم والعظم والعصب جسم مخصوص وصفات مخصوصة ، أعني بالجسم عبارة عن مقدار له طول وعرض وعمق يمنع غيره من أن يوجد بحيث هو إلا بأن يتنحى عن ذلك المكان . وقد يستعار هذا اللفظ أعني اليد لمعنى آخر ليس ذلك المعنى بجسم أصلاً كما يقال البلدة في يد الاَمير فإن ذلك مفهوم وإن كان الاَمير مقطوع اليد مثلاً .
فعلى العامي وغير العامي أن يتحقق قطعاً ويقيناً أن الرسول عليه السلام لم يرد بذلك جسماً هو عضو مركب من لحم ودم وعظم وأن ذلك في حق الله تعالى محال وهو عنه مقدس ، فإن خطر بباله أن الله جسم مركب من أعضاء فهو عابد صنم ! فإن كل جسم فهو مخلوق وعبادة المخلوق كفر وعبادة الصنم كان كفراً لاَنه مخلوق وكان مخلوقاً لاَنه جسم ، فمن عبد جسماً فهو كافر بإجماع الاَئمة ، السلف منهم والخلف، سواء كان ذلك الجسم كثيفاً كالجبال الصم الصلاب أو لطيفاً كالهواء والماء، وسواء كان مظلماً كالاَرض أو مشرقاً كالشمس والقمر والكواكب ، أو مشفاً لا لون له كالهواء ، أو عظيماً كالعرش والكرسي والسماء ، أو صغيراً كالذرة والهباء ، أو جماداً كالحجارة ، أو حيواناً كالاِنسان .
فالجسم صنم ، فبأن يقدر حسنه وجماله أو عظمه أو صغره أو صلابته وبقاؤه لا يخرج عن كونه صنماً .
ومن نفى الجسمية عنه وعن يده وإصبعه ، فقد نفى العضوية واللحم والعصب وقدس الرب جل جلاله عما يوجب الحدوث ليعتقد بعده أنه عبارة عن معنى من المعاني ليس بجسم ولا عرض في جسم يليق ذلك المعنى بالله تعالى ، فإن كان لا يدري ذلك المعنى ولا يفهم كنه حقيقته فليس عليه في ذلك تكليف أصلاً ، فمعرفة تأويله ومعناه ليس بواجب عليه ، بل واجب عليه أن لا يخوض فيه . انتهى . وبذلك وافق الغزالي ورشيد رضا مذهبنا ومذهب المتأولين ، وخالف المفوضة وأهل الظاهر !

( 62 )
وكل علماء السنة حتى المجسمة يصيرون متأولة عند الحاجة

كل المجسمة من الاَشاعرة والحنابلة والوهابيين الذين حرموا التأويل ، وأنكروا وجود المجاز في القرآن ، وأوجبوا حمل ألفاظه وألفاظ أحاديث الصفات على معانيها الظاهرة الحقيقية ، بل حتى أولئك الذين حكموا بأن المتأولة أهل ضلالة وبدعة وكفر وحذروا منهم . . كلهم يصيرون متأولة من الدرجة الاَولى عندما يقعون في مأزق الآيات والاَحاديث التي تخالف مذهبهم وتنفي إمكان الرؤية بالعين والتشبيه والتجسيم كقوله تعالى : لا تدركه الاَبصار . . . ليس كمثله شيء . . . لا يحيطون به علماً . . . لن تراني . . إلخ .
وهكذا نجد أن إخواننا الذين نبزونا بألفاظ ( متاولة ، متوالي ، بني متوال ) يقومون هم بتأويل جميع الآيات والاَحاديث المخالفة لمذهبهم جهاراً نهاراً ، وجوباً قربة إلى الله تعالى ، من أجل الدفاع عن أحاديث الرؤية بالعين وظاهر الآيات المتشابهة فيها !
وهكذا يسقط منهجهم العلمي بتحريمهم التأويل في بعض الآيات والاَحاديث وتحليله في بعضها ! وكان الاَولى بهم أن لا يلقوا أنفسهم في هذا المأزق ويتأولوا الآيات التي يوهم ظاهرها الرؤية من أول الاَمر من أجل الجمع المنطقي بينها وبين الآيات النافية للرؤية .


وإذا سألتهم : لماذا أوجبتم الاَخذ بظاهر هذه المجموعة من الآيات والاَحاديث وحرمتم تأويلها ، وأوجبتم تأويل تلك المجموعة وحرمتم الاَخذ بظاهرها ! فليس عندهم جواب ، إلا أنهم أرادوا المحافظة على ظواهر آيات الرؤية بالعين وأحاديث الآحاد ، مهما كلفهم ذلك من تناقض في المنهج العلمي ، فالمهم عندهم أن لا تنخدش روايات الرؤية بالعين عن كعب الاَحبار ومن قلده من الخلفاء !

( 63 )
ـ قال السقاف في شرح العقيدة الطحاوية ص 148
ومن ذلك قول الحافظ ابن حجر في الفتح 13 ـ 432 : فمن أجرى الكلام على ظاهره أفضى به الاَمر إلى التجسيم ، ومن لم يتضح له وعلم أن الله منزه عن الذي يقتضيه ظاهرها إما أن يكذب نقلتها وإما أن يؤولها . انتهى .
وقد تبنى ابن تيمية والوهابيون هذا الحل ( الشرعي ) فحكموا بوجوب تصديق هذه الروايات وتحريم تأويلها حتى لو أدت إلى التجسيم ، ثم هجموا على روايات التنزيه ونفي التجسيم بمعول التأويل !

ـ وقال السقاف في شرح العقيدة الطحاوية ص 156 ـ 159
وقد نقل الحافظ ابن جرير في تفسيره 27 ـ 7 تأويل لفظة ( أيد ) الواردة في قوله تعالى : والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون ، بالقوة أيضاً عن جماعة من أئمة السلف منهم : مجاهد وقتادة ومنصور وابن زيد وسفيان . . . ومما يجدر التنبيه عليه هنا ولا يجوز إغفاله أن هؤلاء القوم الذين يحاربون التأويل ويزعمون أنه ضلال وبدعة وتحريف للقرآن والسنة هم أنفسهم يؤولون ما لا يوافق آراءهم من نصوص الكتاب والسنة في مسائل الصفات ! فنراهم يؤولون مثل قوله تعالى : وهو معكم وقوله تعالى: ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون ، وقوله تعالى : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ، وقوله تعالى : إنني معكما أسمع وأرى ، وقوله تعالى : وهو معكم ، إلى غير ذلك من نصوص واضحة !
فإذا كان هذا قرآن وذاك قرآن فما الذي أوجب اعتقاد ظاهر هذا دون ظاهر ذاك وكله قرآن ! ولماذا جوزوا تأويل ظاهر هذا دون ذلك !
... روى الخلال بسنده عن حنبل عن عمه الاِمام أحمد بن حنبل أنه سمعه يقول : احتجوا عليّ يوم المناظرة فقالوا : تجيء يوم القيامة سورة البقرة . . . الحديث قال فقلت لهم : إنما هو الثواب . اهـ . فتأمل في هذا التأويل الصريح . . . نقل الحافظ
( 64 )
البيهقي في الاَسماء والصفات ص 470 عن البخاري أنه قال : معنى الضحك : الرحمة اهـ . وقال الحافظ البيهقي ص 298 : روى الفربري عن محمد بن إسماعيل البخاري أنه قال : معنى الضحك فيه ـ أي الحديث ـ الرحمة اهـ فتأمل . وقد نقل هذا التأويل أيضاً الحافظ ابن حجر في فتح الباري 6 ـ 40 .

ـ وقال التلمساني في نفح الطيب ج 8 ص 34
حكاية أبي بكر بن الطيب مع رؤساء بعض المعتزله . وذلك أنه اجتمع معه في مجلس الخليفه فناظره في مسألة رؤية الباري فقال رئيسهم : ما الدليل أيها القاضي على جواز رؤية الله تعالى قال قوله تعالى : لا تدركه الاَبصار فنظر بعض المعتزله إلى بعض وقالوا : جن القاضي ! وذلك أن هذه الآية هي معظم ما احتجوا على مذهبهم وهو ساكت ثم قال لهم : أتقولون إن من لسان العرب قولك الحائط لا يبصر قالوا : لا ... قال فلا يصح إذا نفي الصفة عما من شأنه صحة إثباتها له ؟ قالوا : نعم ، قال فكذلك قوله تعالى : لا تدركه الاَبصار ، لو لا جواز إدراك الاَبصار له لم يصح نفيه عنه ! انتهى .
وهكذا نرى أن الذين حرموا التأويل وكفروا المسلمين بسببه ، أفرطوا في ارتكابه ووصلوا به إلى حد السفسطة ، فأولوا النفي الصريح بالاِثبات ، ولم يبق عليهم إلا أن يؤلوا ( لا إلَه إلا الله ) بوجود عدة آلهة مع الله سبحانه وتعالى عما يصفون . وسوف ترى مزيداً من فنونهم في تأويل آيات نفي الرؤية والتنزيه ، عند استعراض تفسيرها ، إن شاء الله تعالى .
ـ ونختم بما قاله الشيخ محمد رضا جعفري في بحث الكلام عند الاِمامية ص 151 من مجلة تراثنا عدد 30
قال أبو الفرج ابن الجوزي : « واعلم أن عموم المحدثين حملوا ظاهر ما تعلق من صفات الباري سبحانه على مقتضى الحس فشبهوا ، لاَنهم لم يخالطوا الفقهاء فيعرفوا حمل المتشابه على مقتضى الحكم . . » (1


وقال أيضاً : « واعلم أن الناس في أخبار الصفات على ثلاث مراتب : إحداها ،
( 65 )
إمرارها على ما جاءت من غير تفسير ولا تأويل ، إلا أن تقع ضرورة كقوله تعالى ( وجاء ربك ) (2) أي : جاء أمره ، وهذا مذهب السلف .
والمرتبة الثانية ، التأويل ، وهو مقام خطر .
والمرتبة الثالثة ، القول فيها بمقتضى الحس ، وقد عمَّ جهلة الناقلين (3) ، إذ ليس لهم حظ من علوم المعقولات التي يعرف بها ما يجوز على الله تعالى وما يستحيل ، فإن علم المعقولات يصرف ظواهر المنقولات عن التشبيه ، فإذا عدموا تصرفوا في النقل بمقتضى الحس » (4
وقال تقي الدين ابن تيمية ، راداً على من قال : إن أكثر الحنابلة مجسمة ومشبهة :
« المشبهة والمجسمة في غير أصحاب الاِمام أحمد أكثر منهم فيهم ، فهؤلاء أصناف الاَكراد ، كلهم شافعية ، وفيهم من التشبيه والتجسيم ما لا يوجد في صنف آخر ، وأهل جيلان فيهم شافعية وحنبلية ، وأما الحنبلية المحضة فليس فيهم من ذلك ما في غيرهم ، والكرامية كلهم حنفية » . (5) ولست أقر ابن تيمية على دفاعه عن أهل مذهبه ولكني أسكت عنه . . . .
4 ـ نماذج مختارة : وكنموذج لما أشار إليه ابن الجوزي في كلامه عن المحدثين أختار ثلاثة لم يكونوا من الحنابلة الصرحاء ، وأقدم لكل منهم بعض الترجمة كي لا يتهمني متهم بأني عثرت على مغمورين خاملين لم يكونوا ذوي شأن عند المحدثين :
1 ـ إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم ، أبو يعقوب الحنظلي المروزي ، ابن راهويه النيسابوري ( 161|778 ت 238|853 .
قال الخطيب : كان أحد أئمة المسلمين ، وعلماً من أعلام الدين ، اجتمع له الحديث والفقه ، والحفظ والصدق ، والورع والزهد ، ورحل إلى العراق ، والحجاز ، واليمن ، والشام . . . وورد بغداد وجالس حفاظ أهلها ، وذاكرهم ، وعاد إلى خراسان فاستوطن نيسابور إلى أن توفي بها ، وانتشر علمه عند الخراسانيين . وهكذا قال المزي والسبكي . وهو شيخ البخاري ، ومسلم ، والترمذي ، وأبوداود ، والنسائي ، وبقية بن الوليد ، ويحيى بن آدم ـ وهما من شيوخه ـ وأحمد بن حنبل ، وإسحاق
( 66 )
الكوسج ، ومحمد بن رافع ، ويحيى بن معين ـ هؤلاء من أقرانه ـ وجماعة .
قال نعيم بن حماد : إذا رأيت العراقي يتكلم في أحمد بن حنبل فاتهمه في دينه ، وإذا رأيت الخراساني يتكلم في إسحاق بن راهويه فاتهمه في دينه .
وقال النسائي : أحد الاَئمة ، ثقة مأمون . وقال أحمد بن حنبل : إذا حدثك أبو يعقوب أمير المؤمنين فتمسك به . وقال أبو حاتم : إمام من أئمة المسلمين . وقال ابن حبان : وكان إسحاق من سادات زمانه فقهاً ، وعلماً ، وحفظاً ، ونظراً ، ممن صنف الكتب ، وفرع السنن ، وذب عنها ، وقمع من خالفها ، وقبره مشهور يزار . وقال أبو عبدالله الحاكم : إمام عصره في الحفظ والفتوى . وقال أبو نعيم الاَصبهاني : كان إسحاق قرين أحمد [ بن حنبل ] وكان للآثار مثيراً ، ولاَهل الزيغ مبيراً .
وقال الذهبي : الاِمام الكبير ، شيخ المشرق ، سيد الحفاظ ، قد كان مع حفظه إماماً في التفسير ، رأساً في الفقه ، من أئمة الاِجتهاد . (6
أبو عيسى الترمذي ـ بعد أن أخرج الروايات التي تقول : إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه . . . الحديث ـ قال : وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات من الصفات ، ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا ، قالوا : قد تثبت الروايات في هذا ويؤمن بها ولا يتوهم ، ولا يقال : كيف ؟
هكذا روي عن مالك ، وسفيان بن عيينة ، وعبدالله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الاَحاديث : أمروها بلا كيف . وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة . وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات ، وقالوا : هذا تشبيه . وقد ذكر الله عزوجل في غير موضع من كتابه : اليد ، والسمع ، والبصر ، فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم ، وقالوا : إن الله لم يخلق آدم بيده ، وقالوا : إن معنى اليد ها هنا القوة .

وقال إسحاق بن إبراهيم (7) : إنما يكون التشبيه إذا قال : يد كيد ، أو مثل يد ، أو سمع كسمع ، أو مثل سمع ، فإذا قال : سمع كسمع أو مثل سمع ، فهذا التشبيه . وأما
( 67 )
إذا قال ـ كما قال الله تعالى ـ : يد ، وسمع ، وبصر ، ولا يقول : كيف ، ولا يقول مثل سمع ، ولا كسمع ، فهذا لا يكون تشبيهاً ، وهو كما قال الله تعالى : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) . (8)
2 ـ أبوبكر محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي النيسابوري ( 223|838 ـ 311|924 ) قالوا عنه : إنه كان إمام نيسابور في عصره ، فقيهاً ، مجتهداً ، بحراً من بحور العلم ، اتفق أهل عصره على تقدمه في العلم ، ولقبه الصفدي ، واليافعي ، والذهبي ، والسبكي ، وابن الجزري ، والسيوطي ، وابن عبدالحي بإمام الاَئمة . وقال الدار قطني : كان إماماً معدوم النظير . وقال ابن كثير : هو من المجتهدين في دين الاِسلام . وذكروا له الكرامات . وقال السمعاني : وجماعة [ من المحدثين ج ينسبون إليه ، يقال لكل واحد منهم خزيمي [ فهو إمام مدرسة حدثية ] . وهذا بعض ما قيل فيه (9 :
أثبت ابن خزيمة الوجه لله سبحانه ، وقال : ( ليس معناه أن يشبه وجهه وجه الآدميين ، وإلا لكان كل قائل إن لبني آدم وجهاً ، وللخنازير ، والقردة ، والكلاب . . . ـ إلى آخر ما عدد من الحيوانات ـ وجوهاً ، قد شبه وجوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة والكلاب . . . ) (10
وذكر مثل هذا في العين ، واليد ، والكف ، واليمين ، وقال : إن عيني الله لا تشبهان أي عين لغيره ، وأضاف : نحن نقول : لربنا الخالق عينان يبصر بهما ما تحت الثرى وتحت الاَرض السابعة السفلى وما في السماوات العلى وما بينهما ونزيد شرحاً وبياناً ونقول : عين الله عزوجل قديمة لم تزل باقية ، ولا يزال محكوم لها بالبقاء منفي عنها الهلاك والفناء ، وعيون بني آدم محدثة ، كانت عدماً غير مكونة فكونها الله وخلقها بكلامه الذي هو صفة من صفات ذاته . . . »(11
وقال : إن لله يدين ويداه قديمتان لم تزالا باقيتين ، وأيدي المخلوقين محدثة فأي تشبيه ! . . . (12) ونفى التأويل عن كل هذا ، خاصة تأويل اليد بالنعمة أو القوة . (13
وذكر « أن كلام ربنا عزوجل لا يشبه كلام المخلوقين ، لاَن كلام الله كلام متواصل
( 68 )
لا سكت بينه ولا سمت ، لا ككلام الآدميين الذي يكون بين كلامه سكت وسمت لانقطاع النفس ، أو التذاكر ، أو العي . . . »(14)
3 ـ عثمان بن سعيد ، أبو سعيد الدارمي ، التميمي ، السجستاني ( ح 199|815 ـ 280|894 ) الاِمام العلامة الحافظ ، الناقد الحجة ، وكان جذعاً وقذئ في أعين المبتدعة ، قائماً بالسنة ، ثقة ، حجة ، ثبتاً . وقيل فيه : كان إماماً يقتدى به في حياته وبعد مماته . ذكره الشافعية في طبقاتهم ، وعده الحنابلة من أصحاب ابن حنبل (15) .
قال الدارمي بأن لله مكاناً حده ، وهو العرش (16) و ( هو بائن من خلقه فوق عرشه بفرجة بينه في هواء الآخرة ، حيث لا خلق معه هناك غيره ، ولا فوقه سماء ) (17) وقال ( قد أينا له مكاناً واحداً ، أعلى مكان ، وأطهر مكان ، وأشرف مكان : عرشه العظيم فوق السماء السابعة العليا ، حيث ليس معه هناك إنس ولا جان ، ولا بجنبه حش ، ولا مرحاض ، ولا شيطان . وزعمت أنت (18) والمضلون من زعمائك أنه في كل مكان ، وكل حش ومرحاض ، وبجنب كل إنسان وجان ! أفأنتم تشبهونه إذ قلتم بالحلول في الاَماكن أم نحن ؟ ! ) (19
وقال ( ولو لم يكن لله يدان بهما خلق آدم ومسه مسيساً كما ادعيت ، لم يجز أن يقال ( لله ) : بيدك الخير . . . ) (20) وأحال في ذلك كل معنى أو تأويل من نعمة أو قوة إلا اليدين (21) ( بما لهما من المعنى ، وهو العضو الخاص المحسوس ) ، ( وأن لله إصبعين ، من غير تأويل بمعنى آخر ) (22) ( والقدمان قدمان من غير تأويل ) (23) ( غير أنا نقول ، كما قال الله ( ويبقى وجه ربك ) (24) إنه عنى به الوجه الذي هو الوجه عند المؤمنين ، لا الاَعمال الصالحة ، ولا القبلة . . . ) (25) وإن نفي التشبيه إنما هو بأن يكون لله كل هذا ، ولكن لا يشبه شيء منه شيئاً مما في المخلوقين ) (26

وقال الجعفري في هوامشه :
( 1 ) تلبيس ابليس : ط ادارة الطباعة المنيرية ، القاهرة : 1368|116 .
( 2 ) الفجر 89 : 22 .
( 3 ) ويقصد بهم المحدثين.

( 69 )
( 4 ) دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه ، المكتبة التوفيقية ، القاهرة : 1976|73 ـ 74 .
( 5 ) المناظرة في العقيدة الواسطية ، مجموعة الرسائل الكبرى ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، لبنان ، ط 2:1392|1972 ، 1|418 .
( 6 ) التاريخ الكبير 1 ـ 379 ـ 380 = 1209 ، التاريخ الصغير 2|368 ، الجرح والتعديل 1 ـ 1 ( 2 ) 209 ـ 210= 714 ، ابن حبان ، الثقات 8|115 ـ 116 ، طبقات الحنابلة 1|109 = 122 ، المنهج الاَحمد 1|108 ـ 109 = 43 ،تاريخ بغداد 6|345 ـ 335 = 3381 ، حلية الاَولياء 9|234 ـ 238 ابن خلكان 1|199 ـ 201 ، الاَنساب 6|56 ـ57 ، السبكي ، طبقات الشافعية 2|83 ـ 93 ، ميزان الاِعتدال 1|182 ـ 183 = 733 ، سير أعلام النبلاء 11|358 ـ382 ، تذكرة الحفاظ 2|433 ـ 435 ، العبر 1|426 ، الوافي بالوفيات 8|386 ـ 388 = 3825 ، طبقات الحفاظ |188 ـ 189 = 419 ، ابن كثير 10|317 ، تهذيب التهذيب 1|216 ـ 219 = 408 ، تهذيب الكمال 2|373 ـ 388 ـ332 ، طبقات المفسرين 1|102 ـ 103 ، شذرات الذهب 2|89 .
( 7 ) هو إسحاق بن راهويه ـ عارضة الاَحوذي: 3|332.
( 8 ) الجامع الصحيح ، الزكاة ( ما جاء في فضل الصدقة ) 3|50 ـ 51 أي 662 .
( 9 ) الذهبي سير أعلام النبلاء : 14|365 ـ 382 ، تذكرة الحفاظ : 2|720 ـ 731 ، العبر : 2|149 ، السمعاني ، الاَنساب : 5|124 ، ابن الاَثير ، اللباب : 1|442 ، ابن الجوزي ، المنتظم : 6|184 ـ 186 ، ابن كثير ، البداية والنهاية ،11|149 ، السبكي ، طبقات الشافعية : 3|109 ـ 119 ، الصفدي ، الوافي بالوفيات : 2|196 ، اليافعي ، مرآة الجنان :2|264 ، ابن عبد الحي ، شذرات الذهب : 2|262 ـ 263 ، السيوطي ، طبقات الحفاظ : 310 ـ 311 ، ابن الجزري ،طبقات القراء : 2|97 ـ 98 .
( 10 ) التوحيد واثبات صفات الرب ، راجعه وعلق عليه محمد خليل هراس ، المدرس بكلية أصول الدين (بالاَزهر )، مكتبة الكليات الاَزهرية، القاهرة : 1387|1968 ، |23.
( 11 ) المصدر | 50 ـ52 .
( 12 ) المصدر | 82 ـ 85 .
( 13 ) المصدر | 85 ـ 87 .
( 14 ) المصدر | 145 .
( 15 ) سير أعلام النبلاء : 13|319 ـ 326 ، تذكرة الحفاظ : 2|621 ـ 622 ، العبر : 2|64 ، مرآة الجنان :
( 70 )
2|193 ، ابن كثير 11|69، طبقات الشافعية: 2|302 ـ 306 ، طبقات الحفاظ : 274 ، طبقات الحنابلة : 1|221 ، شذرات الذهب : 2|176 .
( 16 ) الرد على بشر المريسي ، عقائد السلف ، نشر : دكتور علي سامي النشار ، عمار جمعي الطالبي ، منشأة المعارف الاِسكندرية ، مصر : 1971|382 .
( 17 ) المصدر | 439 .
( 18 ) يخاطب به بشر المريسي ، الذي يرد عليه الدارمي ، وهو بشر بن غياب المريسي ، البغدادي ، الحنفي ( ح 138/755 ـ 218 / 833) م أعلام الحنيفة، وممن نادى بخلق القرآن ودافع عنه، وعن كثير من آراء المعتزلة
( 19) المصدر/ 19 (20) المصدر/ 387 ( 21 ) بما لهما من المعنى ، وهو العضو الخاص المحسوس ) المصدر | 398 .
( 22 ) المصدر | 420.
( 23 ) المصدر | 423 ـ 424، 427 ـ 428 .
( 24 ) الرحمن 55|27 .
( 25 ) المصدر | 516 .
( 26 ) المصدر | 432 ـ 433 ، 508 .. انتهى .