الفصل الرابع
خلاصة اعتقادنا في التنزيه ونفي التشبيه
العقل والآيات والاَحاديث تنفي إمكان رؤية الله تعالى بالعين

نعتقد نحن الشيعة بأن الله تعالى لا يمكن أن يرى بالعين لا في الدنيا ولا في الآخرة ، لاَنه ليس كمثله شيء ، ولا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار ، ولا يحيطون به علماً .. إلى آخر الآيات الصريحة بأنه تعالى لا يمكن أن يرى بالعين ، بل يرى بالعقل والقلب وهي أعمق وأصح من رؤية العين .
وقد استدل أئمتنا عليهم السلام وعلماؤنا رضي الله عنهم ، على نفي التجسيم والرؤية بالكتاب والسنة والعقل .. واعتبروا أن ذلك من أصول مذهبنا ، بل هو كالبديهيات حتى عند عوامنا .
وستعرف أن القول برؤية الله تعالى جاءت من تأثر المسلمين باليهود والنصارى والمجوس ، وأن أهل البيت عليهم السلام وجمهور الصحابة وقفوا في وجه ذلك ، وكذبوا نسبة الرؤية بالعين إلى الاِسلام ، وكل ما تستلزمه من التشبيه والتجسيم ، ولكن موجة التشبيه والتجسيم غلبت .. لاَن دولة الخلافة تبنتها !

( 134 )
والدليل البسيط على نفي إمكان رؤية الله تعالى بالعين أن ما تراه العين لابد أن يكون موجوداً داخل المكان والزمان ، والله تعالى وجود متعال على الزمان والمكان، لاَنه خلقهما وبدأ شريطهما من الصفر والعدم ، فكيف نفترضه محدوداً بهما خاضعاً لقوانينهما !
لقد تعودت أذهاننا أن تعمل داخل الزمان والمكان ، حتى ليصعب عليها أن تتصور موجوداً خارج قوانين الزمان والمكان ، وحتى أننا نتصور خارج الفضاء والكون بأنه فضاء ! وهذه هي طبيعة الاِنسان قبل أن يكبر ويطلع ، وقد ورد أن النملة تتصور أن لربها قرنين كقرنيها !
لكن مع ذلك فإن عقل الاِنسان يدرك أن الوجود لا يجب أن يكون محصوراً بالمكان والزمان ، وأن بإمكان الاِنسان أن يرتقي في إدراكه الذهني فيدرك ما هو أعلى من الزمان والمكان ويؤمن به ، وإن عرف أنه غير قابل للرؤية بالعين .
وهذا الاِرتقاء الذهني هو المطلوب منا نحن المسلمين بالنسبة إلى وجود الله تعالى ، لا أن نجره إلى محيط وجودنا ومألوف أذهاننا ، كما فعل اليهود عندما شبهوه بخلقه وادعوا تجسده في عزير عليه السلام وغيره ، وكما فعل النصارى فشبهوه بخلقه وادعوا تجسده بالمسيح عليه السلام وغيره !!

الرسول صلى الله عليه وآله يعلم الاَمة التوحيد

ـ قال الصدوق في كتابه التوحيد ص 107
حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رحمه الله قال : حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبدالله عن آبائه عليهم السلام قال : مر النبي صلى الله عليه وآله على رجل وهو رافع بصره إلى السماء يدعو ، فقال له رسول : غض بصرك، فإنك لن تراه .

( 135 )
وقال : ومر النبي صلى الله عليه وآله على رجل رافع يديه إلى السماء وهو يدعو ، فقال رسول الله: أقصر من يديك ، فإنك لن تناله .

ـ الكافي ج 1 ص 93
علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن الحسن بن علي ، عن اليعقوبي ، عن بعض أصحابنا ، عن عبدالاَعلى مولى آل سام ، عن أبي عبدالله عليه السلام : قال إن يهودياً يقال له سبحت ، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : يا رسول الله جئت أسألك عن ربك ، فإن أنت أجبتني عما أسألك عنه ، وإلا رجعت ؟
قال : سل عما شئت .
قال : أين ربك ؟
قال : هو في كل مكان ، وليس في شيء من المكان المحدود .
قال : وكيف هو ؟
قال : وكيف أصف ربي بالكيف والكيف مخلوق ، والله لا يوصف بخلقه .
قال : فمن أين يعلم أنك نبي الله ؟
قال : فما بقي حوله حجر ولا غير ذلك إلا تكلم بلسان عربي مبين : يا سبحت إنه رسول الله !
فقال سبحت : ما رأيت كاليوم أمراً أبين من هذا !
ثم قال : أشهد أن لا إلَه إلا الله وأنك رسول الله .

ويعلمنا أن أقصى ما يمكن أن يراه الاِنسان نور عظمة الله

ـ بحار الاَنوار ج 4 ص 38
يد : أبي ، عن محمد العطار ، عن ابن عيسى ، عن البزنطي ، عن الرضا عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : لما أسري بي إلى السماء بلغ بي جبرئيل عليه السلام مكاناً لم يطأه جبرئيل قط ، فكُشِفَ لي فأراني الله عز وجل من نور عظمته ما أحب .

( 136 )
علي عليه السلام يثبت مشاهدة القلوب وينفي مشاهدة العيان

ـ نهج البلاغة ج 2 ص 99
179 ومن كلام له عليه السلام وقد سأله ذعلب اليماني فقال : هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين ؟
فقال عليه السلام : أفأعبد ما لا أرى !
فقال : وكيف تراه !
فقال : لا تراه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه القلوب بحقائق الاِيمان ، قريب من الاَشياء غير ملامس ، بعيد منها غير مباين ، متكلم لا بروية ، مريد لا بهمة ، صانع لا بجارحة ، لطيف لا يوصف بالخفاء ، كبير لا يوصف بالجفاء ، بصير لا يوصف بالحاسة ، رحيم لا يوصف بالرقة ، تعنو الوجوه لعظمته ، وتجب القلوب من مخافته .

ـ ورواه في بحار الاَنوار ج 4 ص 27 عن :
يد ، لي : القطان والدقاق والسناني ، عن ابن زكريا القطان ، عن محمد بن العباس ، عن محمد بن أبي السري ، عن أحمد بن عبدالله بن يونس ، عن ابن طريف ، عن الاَصبغ في حديث قال : قام إليه رجل يقال له ذعلب فقال : يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك ؟ فقال : ويلك يا ذعلب لم أكن بالذي أعبد رباً لم أره . قال : فكيف رأيته صفه لنا . قال : ويلك لم تره العيون بمشاهدة الاَبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الاِيمان . ويلك يا ذعلب إن ربي لا يوصف بالبعد ولا بالحركة ولا بالسكون ، ولا بالقيام قيام انتصاب ولا بجيئة ولا بذهاب ، لطيف اللطافة لا يوصف باللطف ، عظيم العظمة لا يوصف بالعِظَم ، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر ، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ ، رؤوف الرحمة لا يوصف بالرقة ، مؤمن لا بعبادة ، مدرك لا بمجسة ، قائل لا بلفظ ، هو في الاَشياء على غير ممازجة ، خارج منها على غير مباينة ، فوق كل شيء ولا يقال شيء فوقه ، أمام كل شيء ولا يقال له أمام ، داخل في الاَشياء لا كشيء في شيء داخل ، وخارج منها لا كشيء من شيء خارج .. فخر ذعلب مغشياً عليه .... الخبر .

( 137 )
لم يحلل في الاَشياء .... ولم ينأ عنها

ـ نهج البلاغة ج 1 ص 112
65 ومن خطبة له عليه السلام : الحمد لله الذي لم يسبق له حال حالاً . فيكون أولاً قبل أن يكون آخراً . ويكون ظاهراً قبل أن يكون باطناً . كل مسمى بالوحدة غيره قليل ، وكل عزيز غيره ذليل ، وكل قوي غيره ضعيف ، وكل مالك غيره مملوك ، وكل عالم غيره متعلم ، وكل قادر غيره يقدر ويعجز ، وكل سميع غيره يصمُّ عن لطيف الاَصوات ويصمه كبيرها ويذهب عنه ما بعد منها ، وكل بصير غيره يعمى عن خفي الاَلوان ولطيف الاَجسام ، وكل ظاهر غيره باطن ، وكل باطن غيره غير ظاهر .
لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان ، ولا تخوف من عواقب زمان ، ولا استعانة على ند مثاور ، ولا شريك مكاثر ، ولا ضد منافر ، ولكن خلائق مربوبون ، وعباد داخرون .

لم يحلل في الاَشياء فيقال هو فيها كائن ، ولم ينأ عنها فيقال هو منها بائن .
لم يؤده خلق ما ابتدأ ، ولا تدبير ما ذرأ ، ولا وقف به عجز عما خلق ، ولا ولجت عليه شبهة فيما قدر ، بل قضاء متقن وعلم محكم ، وأمر مبرم . المأمول مع النقم ، والمرهوب مع النعم ....

لا تقدر عظمة الله سبحانه على قدر عقلك

ـ نهج البلاغة ج 1 ص 160
91 ومن خطبة له عليه السلام تعرف بخطبة الاَشباح وهي من جلائل خطبه عليه السلام وكان سأله سائل أن يصف الله حتى كأنه يراه عياناً ، فغضب عليه السلام لذلك :
الحمد لله الذي لا يَفِرْهُ المنع والجمود ، ولا يكديه الاِعطاء والجود ، إذ كل معط منتقص سواه ، وكل مانع مذموم ما خلاه ، وهو المنان بفوائد النعم ، وعوائد المزيد والقسم . عياله الخلق ، ضمن أرزاقهم وقدر أقواتهم ، ونهج سبيل الراغبين إليه ، والطالبين ما لديه ، وليس بما سئل بأجود منه بما لم يسأل .

( 138 )
الاَول الذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله ، والآخر الذي ليس له بعد فيكون شيء بعده ، والرادع أناسيَّ الاَبصار عن أن تناله أو تدركه .
ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال ، ولا كان في مكان فيجوز عليه الاِنتقال ، ولو وهب ما تنفست عنه معادن الجبال وضحكت عنه أصداف البحار ، من فلز اللجين والعقيان ، ونثارة الدر وحصيد المرجان ، ما أثر ذلك في جوده ، ولا أنفد سعة ما عنده ، ولكان عنده من ذخائر الاَنعام ما لا تنفده مطالب الاَنام ، لاَنه الجواد الذي لا يغيضه سؤال السائلين ، ولا يبخله إلحاح الملحين .
فانظر أيها السائل فما دلك القرآن عليه من صفته فائتم به ، واستضيء بنور هدايته ، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس في الكتاب عليك فرضه ، ولا في سنة النبي صلى الله عليه وآله وأئمة الهدى أثره ، فكل علمه إلى الله سبحانه ، فإن ذلك منتهى حق الله عليك .
واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب ، الاِقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً ، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخاً . فاقتصر على ذلك ، ولا تقدر عظمة الله سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين .
هو القادر الذي إذا ارتمت الاَوهام لتدرك منقطع قدرته ، وحاول الفكر المبرأ من خطرات الوساوس أن يقع عليه في عميقات غيوب ملكوته ، وتولهت القلوب إليه لتجري في كيفية صفاته ، وغمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتناول علم ذاته ، دعاها وهي تجوب مهاوي سدف الغيوب متخلصة إليه سبحانه ، فرجعت إذ جبهت معترفة بأنه لا ينال بجور الاِعتساف كنه معرفته ، ولا تخطر ببال أولي الرويات خاطرة من تقدير جلال عزته .
الذي ابتدع الخلق على غير مثال امتثله ، ولا مقدار احتذى عليه ، من خالق معهود كان قبله . وأرانا من ملكوت قدرته ، وعجائب ما نطقت به آثار حكمته ،
( 139 )
واعتراف لحاجة من الخلق إلى أن يقيمها بمساك قدرته ، ما دلنا باضطرار قيام الحجة له على معرفته ، وظهرت في البدائع التي أحدثها آثار صنعته ، وأعلام حكمته ، فصار كل ما خلق حجة له ودليلاً عليه ، وإن كان خلقاً صامتاً فحجته بالتدبير ناطقة ، ودلالته على المبدع قائمة .
فأشهد أن من شبهك بتباين أعضاء خلقك ، وتلاحم حقاق مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك ، لم يعقد غيب ضميره على معرفتك ، ولم يباشر قلبه اليقين بأنه لا ند لك ، وكأنه لم يسمع تبرأ التابعين من المتبوعين إذ يقولون : تالله إن كنا لفي ضلال مبين ، إذ نسويكم برب العالمين .
كذب العادلون بك إذ شبهوك بأصنامهم ، ونحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم ، وجزأوك تجزئة المجسمات بخواطرهم ، وقدروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم . وأشهد أن من ساواك بشيء من خلقك فقد عدل بك ، والعادل بك كافر بما تنزلت به محكمات آياتك ، ونطقت عنه شواهد حجج بيناتك . وأنك أنت الله الذي لم تتناه في العقول فتكون في مهب فكرها مكيفاً ، ولا في رويات خواطرها فتكون محدوداً مصرفاً .

ـ وروى هذه الخطبة الصدوق في التوحيد ص 48 فقال :
139 حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه‌الله قال : حدثنا محمد بن أبي عبدالله الكوفي قال : حدثنا محمد بن إسماعيل البرمكي ، قال : حدثني علي بن العباس ، قال : حدثني إسماعيل بن مهران الكوفي ، عن إسماعيل بن إسحاق الجهني ، عن فرج بن فروة ، عن مسعدة بن صدقة ، قال : سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: بينما أمير المؤمنين عليه السلام يخطب على المنبر بالكوفة إذ قام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين صف لنا ربك تبارك وتعالى لنزداد له حباً وبه معرفة ، فغضب أمير المؤمنين عليه السلام ونادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس حتى غص المسجد بأهله ، ثم قام متغير اللون فقال .... كما في نهج البلاغة بتفاوت في بعض الكلمات .

( 140 )
لا تدركه الشواهد ولا تحويه المشاهد

ـ نهج البلاغة ج 2 ص 115
185 ومن خطبة له عليه السلام : الحمد الله الذي لا تدركه الشواهد ، ولا تحويه المشاهد ، ولا تراه النواظر ، ولا تحجبه السواتر ، الدال على قدمه بحدوث خلقه ، وبحدوث خلقه على وجوده ، وباشتباههم على أن لا شبه له .
الذي صدق في ميعاده ، وارتفع عن ظلم عباده ، وقام بالقسط في خلقه ، وعدل عليهم في حكمه . مستشهد بحدوث الاَشياء على أزليته ، وبما وسمها به من العجز على قدرته ، وبما اضطرها إليه من الفناء على دوامه .
واحد لا بعدد ، ودائم لا بأمد ، وقائم لا بعمد . تتلقاه الاَذهان لا بمشاعرة ، وتشهد له المرائي لا بمحاضرة . لم تحط به الاَوهام بل تجلى لها ، وبها امتنع منها ، وإليها حاكمها .
ليس بذي كبر امتدت به النهايات فكبرته تجسيماً ، ولا بذي عظم تناهت به الغايات فعظمته تجسيداً . بل كبر شأناً ، وعظم سلطاناً .
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصفي ، وأمينه الرضي صلى الله عليه وآله . أرسله بوجوب الحجج ، وظهور الفلج ، وإيضاح المنهج ، فبلغ الرسالة صادعاً بها ، وحمل على المحجة دالاً عليها ، وأقام أعلام الاِهتداء ومنار الضياء ، وجعل أمراس الاِسلام متينة، وعرى الاِيمان وثيقة .

ـ نهج البلاغة ج 2 ص 116
186 ومن خطبة له عليه السلام في التوحيد ، وتجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة :
ما وحده من كيفه ، ولا حقيقته أصاب من مثله ، ولا إياه عنى من شبهه ، ولا صمده من أشار إليه وتوهمه .

( 141 )
فاعل لا باضطراب آلة ، مقدر لا بجول فكرة ، غني لا باستفادة ، لا تصحبه الاَوقات ، ولا ترفده الاَدوات ، سبق الاَوقات كونه ، والعدم وجوده ، والاِبتداء أزله .
بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له ، وبمضادته بين الاَمور عرف أن لا ضد له ، وبمقارنته بين الاَشياء عرف أن لا قرين له . ضاد النور بالظلمة ، والوضوح بالبهمة ، والجمود بالبلل ، والحرور بالصرد ، مؤلف بين متعادياتها ، مقارن بين متبايناتها ، مقرب بين متباعداتها ، مفرق بين متدانياتها .
لا يشمل بحد ، ولا يحسب ببعد ، وإنما تحد الاَدوات أنفسها ، وتشير الآلة إلى نظائرها ، منعتها منذ القدمية ، وحمتها قد الاَزلية ، وجنبتها لولا التكملة . بها تجلى صانعها للعقول ، وبها امتنع عن نظر العيون .
لا يجري عليه السكون والحركة ، وكيف يجري عليه ما هو أجراه ، ويعود فيه ما هو أبداه ، ويحدث فيه ما هو أحدثه ، إذن لتفاوتت ذاته ، ولتجزأ كنهه ، ولامتنع من الاَزل معناه ، ولكان له وراء إذ وجد له أمام ، ولالتمس التمام إذ لزمه النقصان . وإذا لقامت آية المصنوع فيه ، ولتحول دليلاً بعد أن كان مدلولاً عليه ، وخرج بسلطان الاِمتناع من أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره .
الذي لا يحول ولا يزول ، ولا يجوز عليه الاَفول ، ولم يلد فيكون مولوداً ، ولم يولد فيصير محدوداً . جل عن اتخاذ الاَبناء ، وطهر عن ملامسة النساء . لا تناله الاَوهام فتقدره ، ولا تتوهمه الفطن فتصوره ، ولا تدركه الحواس فتحسه ، ولا تلمسه الاَيدي فتمسه .
لا يتغير بحال ، ولا يتبدل بالاَحوال ، ولا تبليه الليالي والاَيام ، ولا يغيره الضياء والظلام . ولا يوصف بشيء من الاَجزاء ، ولا بالجوارح والاَعضاء ، ولا بعرض من الاَعراض ، ولا بالغيرية والاَبعاض ، ولا يقال له حد ولا نهاية ، ولا انقطاع ولا غاية ، ولا أن الاَشياء تحويه ، فتقله أو تهويه ، أو أن شيئاً يحمله فيميله أو يعدله .
ليس في الاَشياء بوالج ، ولا عنها بخارج ، يخبر لا بلسان ولهوات ، ويسمع لا بخروق وأدوات . يقول ولا يلفظ ، ويحفظ ولا يتحفظ ، ويريد ولا يضمر .

( 142 )
يحب ويرضى من غير رقة ، ويبغض ويغضب من غير مشقة . يقول لمن أراد كونه كن فيكون . لا بصوت يقرع ، ولا بنداء يسمع ، وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ، ومثله لم يكن من قبل ذلك كائناً ، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً .
لا يقال كان بعد أن لم يكن ، فتجري عليه الصفات المحدثات ، ولا يكون بينها وبينه فصل ، ولا له عليها فضل ، فيستوي الصانع والمصنوع ، ويتكافأ المبتديَ والبديع .
خلق الخلائق على غير مثال خلا من غيره ، ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه ، وأنشأ الاَرض فأمسكها من غير اشتغال ، وأرساها على غير قرار ، وأقامها بغير قوائم ، ورفعها بغير دعائم ، وحصنها من الاَود والاِعوجاج ، ومنعها من التهافت والاِنفراج . أرسى أوتادها ، وضرب أسدادها ، واستفاض عيونها ، وخد أوديتها ، فلم يهن ما بناه ، ولا ضعف ما قواه .
هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته ، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته ، والعالي على كل شيء منها بجلاله وعزته ، لا يعجزه شيء منها طلبه ، ولا يمتنع عليه فيغلبه ، ولا يفوته السريع منها فيسبقه ، ولا يحتاج إلى ذي مال فيرزقه .
خضعت الاَشياء له ، وذلت مستكينة لعظمته ، لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره فتمتنع من نفعه وضره ، ولا كفؤ له فيكافئه ، ولا نظير له فيساويه .
هو المفني لها بعد وجودها ، حتى يصير موجودها كمفقودها ، وليس فناء الدنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها واختراعها .

أول الدين معرفته .... وكمال الاِخلاص له نفي الصفات عنه

ـ نهج البلاغة ج 1 ص 14
ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها ابتداء خلق السماء والاَرض وخلق آدم :
الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ، ولا يحصي نعماءه العادون ، ولا يؤدي حقه المجتهدون . الذي لا يدركه بعد الهمم ، ولا يناله غوص الفطن ، الذي ليس
( 143 )
لصفته حد محدود ، ولا نعت موجود ، ولا وقت معدود ، ولا أجل ممدود فطر الخلائق بقدرته ، ونشر الرياح برحمته ، ووتد بالصخور مَيَدَان أرضه ..
أول الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الاِخلاص له ، وكمال الاِخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثناه ، ومن ثناه فقد جزأه ، ومن جزأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حده ، ومن حده فقد عده ، ومن قال فيم فقد ضمنه ، ومن قال علام فقد أخلى منه .
كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم ، مع كل شيء لا بمقارنة ، وغير كل شيء لا بمزايلة ، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة ، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه ، متوحد إذ لا سكن يستأنس به ، ولا يستوحش لفقده .
أنشأ الخلق إنشاء ، وابتدأه ابتداء ، بلا رَوِيَّةً أجالها ، ولا تجربة استفادها ، ولا حركة أحدثها ، ولا همامة نفس اضطرب فيها ، أحال الاَشياء لاَوقاتها ، ولاءم بين مختلفاتها ، وغرز غرائزها ، وألزمها أشباحها ، عالماً بها قبل ابتدائها ، محيطاً بحدودها وانتهائها ، عارفاً بقرائنها وأحنائها .
ثم أنشأ سبحانه فتق الاَجواء ، وشق الاَرجاء ، وسكائك الهواء ، فأجرى فيها ماء متلاطماً تياره ، متراكماً زخاره ، حمله على متن الريح العاصفة ، والزعزع القاصفة ، فأمرها برده ، وسلطها على شده ، وقرنها إلى حده ، الهواء من تحتها فتيق ، والماء من فوقها دفيق .
ثم أنشأ سبحانه ريحاً اعتقم مهبهاً ، وأدام مربها ، وأعصف مجراها ، وأبعد منشاها، فأمرها بتصفيق الماء الزخار ، وإثارة موج البحار ، فمخضته مخض السقاء ، وعصفت به عصفها بالفضاء ، ترد أوله إلى آخره ، وساجيه إلى مائره ، حتى عب عُبَابُه ، ورمى بالزبد ركامه ، فرفعه في هواء منفتق ، وجو منفهق ، فسوى منه سبع
( 144 )
سموات ، جعل سفلاهن موجاً مكفوفاً ، وعلياهن سقفاً محفوظاً ، وسمكاً مرفوعاً ، بغير عمد يدعمها ، ولا دسار ينظمها .
ثم زينها بزينة الكواكب ، وضياء الثواقب ، وأجرى فيها سراجاً مستطيراً ، وقمراً منيراً ، في فلك دائر ، وسقف سائر ، ورقيم مائر ، ثم فتق ما بين السموات العلا ، فملاَهن أطواراً من ملائكته ، منهم سجود لا يركعون ، وركوع لا ينتصبون ، وصافون لا يتزايلون ، ومسبحون لا يسأمون ، لا يغشاهم نوم العين ، ولا سهو العقول ، ولا فترة الاَبدان ، ولا غفلة النسيان . ومنهم أمناء على وحيه ، وألسنة إلى رسله ، ومختلفون بقضائه وأمره . ومنهم الحفظة لعباده ، والسدنة لاَبواب جنانه . ومنهم الثابتة في الاَرضين السفلى أقدامهم ، والمارقة من السماء العليا أعناقهم ، والخارجة من الاَقطار أركانهم ، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم ، ناكسة دونه أبصارهم ، متلفعون تحته بأجنحتهم ، مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة وأستار القدرة ، لا يتوهمون ربهم بالتصوير ، ولا يجرون عليه صفات المصنوعين ، ولا يحدونه بالاَماكن ، ولا يشيرون إليه بالنظائر .
ثم جمع سبحانه من حَزْن الاَرض وسهلها ، وعذبها وسبخها ، تربة سنَّها بالماء حتى خلصت ، ولاطها بالبلة حتى لزبت ، فجبل منها صورة ذات أحناء ووصول ، وأعضاء وفصول ، أجمدها حتى استمسكت ، وأصلدها حتى صلصلت ، لوقت معدود ، وأمد معلوم ، ثم نفخ فيها من روحه ، فمثلت إنساناً ذا أذهان يجيلها ، وفكر يتصرف بها ، وجوارح يختدمها ، وأدوات يقلبها ، ومعرفة يفرق بها بين الحق والباطل ، والاَذواق والمشام ، والاَلوان والاَجناس . معجوناً بطينة الاَلوان المختلفة ، والاَشباه المؤتلفة ، والاَضداد المتعادية ، والاَخلاط المتباينة ، من الحر والبرد ، والبلة والجمود ، واستأدى الله سبحانه الملائكة وديعته لديهم ، وعهد وصيته إليهم ، في الاِذعان بالسجود له ، والخشوع لتكرمته ....

( 145 )
كان المسلمون يعرفون قيمة الجواهر فيكتبونها

ـ التوحيد للشيخ الصدوق ص 31
حدثنا أبي رضي الله عنه قال : حدثنا سعد بن عبدالله قال : حدثنا أحمد بن أبي عبدالله ، عن أبيه محمد بن خالد البرقي ، عن أحمد بن النضر وغيره ، عن عمرو بن ثابت ، عن رجل سماه ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن الحارث الاَعور قال : خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يوماً خطبة بعد العصر ، فعجب الناس من حسن صفته وما ذكر من تعظيم الله جل جلاله ، قال أبو إسحاق فقلت للحارث : أو ما حفظتها قال : قد كتبتها ، فأملاها علينا من كتابه :
الحمد لله الذي لا يموت ، ولا تنقضي عجائبه ، لاَنه كل يوم في شأن ، من إحداث بديع لم يكن . الذي لم يولد فيكون في العز مشاركاً ، ولم يلد فيكون موروثاً هالكاً ، ولم تقع عليه الاَوهام فتقدره شبحاً ماثلاً ، ولم تدركه الاَبصار فيكون بعد انتقالها حائلاً ، الذي ليست له في أوليته نهاية ، ولا في آخريته حد ولا غاية ، الذي لم يسبقه وقت ، ولم يتقدمه زمان ، ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان ، ولم يوصف بأين ولا بمكان، الذي بطن من خفيات الاَمور ، وظهر في العقول بما يرى في خلقه من علامات التدبير . الذي سئلت الاَنبياء عنه فلم تصفه بحد ولا بنقص ، بل وصفته بأفعاله ، ودلت عليه بآياته ، ولا تستطيع عقول المتفكرين جحده ، لاَن من كانت السماوات والاَرض فطرته وما فيهن وما بينهن هو الصانع لهن ، فلا مدفع لقدرته .
الذي بان من الخلق فلا شيء كمثله . الذي خلق الخلق لعبادته وأقدرهم على طاعته بما جعل فيهم ، وقطع عذرهم بالحجج ، فعن بينة هلك من هلك وعن بينة نجا من نجا . ولله الفضل مبدئاً ومعيدا ....
الحمد لله اللابس الكبرياء بلا تجسد ، والمرتدي بالجلال بلا تمثل ، والمستوي على العرش بلا زوال ، والمتعالي عن الخلق بلا تباعد منهم ، القريب منهم بلا ملامسة منه لهم ، ليس له حد ينتهي إلى حده ، ولا له مثل فيعرف بمثله ، ذل من
( 146 )
تجبر غيره ، وصغر من تكبر دونه ، وتواضعت الاَشياء لعظمته ، وانقادت لسلطانه وعزته، وكلت عن إدراكه طروف العيون ، وقصرت دون بلوغ صفته أوهام الخلائق ، الاَول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء ، ولا يعدله شيء ، الظاهر على كل شيء بالقهر له ، والمشاهد لجميع الاَماكن بلا انتقال إليها ، ولا تلمسه لامسة ولا تحسه حاسة ، وهو الذي في السماء إلَه وفي الاَرض إلَه وهو الحكيم العليم . أتقن ما أراد خلقه من الاَشياء كلها بلا مثال سبق إليه ، ولا لغوب دخل عليه ، في خلق ما خلق .... إلى آخر الخطبة .

أمير المؤمنين يرد على تجسيم اليهود

ـ قال الصدوق في كتابه التوحيد ص 77
حدثنا أبوسعيد محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق المذكر المعروف بأبي سعيد المعلم بنيسابور ، قال حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، قال حدثنا علي ابن سلمة الليفي ، قال حدثنا إسماعيل بن يحيى بن عبدالله ، عن عبدالله بن طلحة بن هجيم ، قال حدثنا أبو سنان الشيباني سعيد بن سنان ، عن الضحاك ، عن النزال بن سبرة قال : جاء يهودي إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فقال : يا أمير المؤمنين متى كان ربنا ؟ قال فقال له علي عليه السلام : إنما يقال : متى كان لشيء لم يكن فكان ، وربنا تبارك وتعالى هو كائن بلا كينونة كائن ، كان بلا كيف يكون ، كائن لم يزل بلا لم يزل ، وبلا كيف يكون ، كان لم يزل ليس له قبل ، هو قبل القبل بلا قبل وبلا غاية ولا منتهى ، غاية ولا غاية إليها ، غاية انقطعت الغايات عنه ، فهو غايه كل غاية .
أخبرني أبوالعباس الفضل بن الفضل بن العباس الكندي فيما أجازه لي بهمدان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة قال : حدثنا محمد بن سهل يعني العطار البغدادي لفظاً من كتابه سنة خمس وثلاثمائة قال : حدثنا عبدالله بن محمد البلوي قال : حدثني عمارة بن زيد ، قال : حدثني عبد الله بن العلاء قال : حدثني صالح بن سبيع ، عن عمرو بن محمد بن صعصعة بن صوحان قال : حدثني أبي ، عن أبي المعتمر مسلم بن أوس قال : حضرت مجلس علي عليه السلام في جامع الكوفة فقام إليه رجل مصفر
( 147 )
اللون كأنه من متهودة اليمن فقال : يا أمير المؤمنين صف لنا خالقك وانعته لنا كأنا نراه وننظر إليه ، فسبح علي عليه السلام ربه وعظمه عز وجل وقال :
الحمد لله الذي هو أول بلا بدء مما ، ولا باطن فيما ، ولا يزال مهما ، ولا ممازج مع ما ، ولا خيال وهما ، ليس بشبح فيرى ، ولا بجسم فيتجزى ، ولا بذي غاية فيتناهى ، ولا بمحدث فيبصر ، ولا بمستتر فيكشف ، ولا بذي حجب فيحوى .
كان ولا أماكن تحمله أكنافها ، ولا حملة ترفعه بقوتها ، ولا كان بعد أن لم يكن ، بل حارت الاَوهام أن تكيف المكيف للاَشياء ومن لم يزل بلا مكان ، ولا يزول باختلاف الاَزمان ، ولا ينقلب شاناً بعد شان .
البعيد من حدس القلوب ، المتعالي عن الاَشياء والضروب ، والوتر علام الغيوب، فمعاني الخلق عنه منفية ، وسرائرهم عليه غير خفية ، المعروف بغير كيفية ، لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس ، ولا تدركه الاَبصار ، ولا تحيط به الاَفكار ، ولا تقدره العقول ، ولا تقع عليه الاَوهام ، فكل ما قدره عقل أو عرف له مثل فهو محدود ، وكيف يوصف بالاَشباح ، وينعت بالاَلسن الفصاح ، من لم يحلل في الاَشياء فيقال هو فيها كائن ، ولم ينأ عنها فيقال هو عنها بائن ، ولم يخل منها فيقال أين ، ولم يقرب منها بالاِلتزاق ، ولم يبعد عنها بالاِفتراق ، بل هو في الاَشياء بلا كيفية ، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد ، وأبعد من الشبه من كل بعيد .
لم يخلق الاَشياء من أصول أزلية ، ولا من أوائل كانت قبله بدية ،بل خلق ما خلق، وأتقن خلقه ، وصور ما صور ، فأحسن صورته ، فسبحان من توحد في علوه ، فليس لشيء منه امتناع ، ولا له بطاعة أحد من خلقه انتفاع ، إجابته للداعين سريعة ، والملائكة له في السماوات والاَرض مطيعة ، كلم موسى تكليماً بلا جوارح وأدوات، ولا شفة ولا لهوات ، سبحانه وتعالى عن الصفات ، فمن زعم أن إلَه الخلق محدود ، فقد جهل الخالق المعبود .... والخطبة طويلة أخذنا منها موضع الحاجة .. انتهى .
وقد تقدم في الفصل الاَول رده على كعب الاَحبار فى مجلس الخليفة عمر .

( 148 )
ويوجه المسلمين إلى التفكر في عظمة المخلوقات فيصف الطاووس

ـ نهج البلاغة ج 2 ص 70
165 ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها عجيب خلقة الطاووس :
ابتدعهم خلقاً عجيباً من حيوان وموات ، وساكن وذي حركات ، فأقام من شواهد البينات على لطيف صنعته وعظيم قدرته ، ما انقادت له العقول معترفة به ومسلمة له، ونعقت في أسماعنا دلائله على وحدانيته .
وما ذرأ من مختلف صور الاَطيار ، التي أسكنها أخاديد الاَرض وخروق فجاجها ، ورواسي أعلامها ، من ذات أجنحة مختلفة ، وهيئات متباينة ، مصرفة في زمان التسخير ، ومرفرفة بأجنحتها في مخارق الجو المنفسح ، والفضاء المنفرج .
كَوَّنها بعد أن لم تكن ، في عجائب صور ظاهرة ، وركبها في حقاق مفاصل محتجبة ، ومنع بعضها بعبالة خلقة ، أن يسمو في السماء خفوفاً ، وجعله يدف دفيفاً، ونسقها على اختلافها في الاَصابيغ بلطيف قدرته ، ودقيق صنعته ، فمنها مغموس في قالب لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه ، ومنها مغموس في لون صبغ قد طوق بخلاف ما صبغ به ، ومن أعجبها خلقاً الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل ، ونضد ألوانه في أحسن تنضيد ، بجناح أشرج قصبه ، وذنب أطال مسحبه .
إذا درج إلى الاَنثى نشره من طيه ، وسما به مطلاً على رأسه ، كأنه قلع داري عَنَجَهُ نُوتِيُّهُ ، يختال بألوانه ، ويميس بزيفانه ، يفضي كإفضاء الديكة ، وَيُؤرُّ بملاقحة أرَّ الفحول المغتلمة للضراب الضراب .
أحيلك من ذلك على معاينة ، لا كمن يحيل على ضعيف إسناده ، ولو كان كزعم من يزعم أنه يلقح بدمعة تسفحها مدامعه ، فتقف في ضفتي جفونه ، وأن أنثاه تطعم ذلك ، ثم تبيض لا من لقاح فحل ، سوى الدمع المنبجس ، لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب .
تخال قصبه مداري من فضة ، وما أنبت عليها من عجيب داراته ، وشموسه
( 149 )
خالص العقيان ، وفلذ الزبرجد ، فإن شبهته بما أنبتت الاَرض قلت : جني جني من زهرة كل ربيع ، وإن ضاهيته بالملابس فهو كموشى الحلل ، أو مونق عصب اليمن ، وإن شاكلته بالحلي فهو كفصوص ذات ألوان قد نطقت باللجين المكلل .
يمشي مشي المرح المختال ، ويتصفح ذنبه وجناحيه فيقهقه ضاحكاً لجمال سرباله ، وأصابيغ وشاحه ، فإذا رمى ببصره إلى قوائمه ، زقا معولاً بصوت يكاد يبين عن استغاثته ، ويشهد بصادق توجعه ، لاَن قوائمه حمش كقوائم الديكة الخلاسية ، وقد نجمت من ظنبوب ساقه صيصية خفية .
وله في موضع العرف قنزعة خضراء موشاة ، ومخرج عنقه كالاِبريق ، ومغرزها إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانية ، أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال ، وكأنه متلفع بمعجر أسحم ، إلا أنه يخيل لكثرة مائه وشدة بريقه أن الخضرة الناضرة ممتزجة به ، ومع فتق سمعه خط كمستدق القلم في لون الاَقحوان ، أبيض يقق ، فهو ببياضه في سواد ما هنالك يأتلق ، وقل صبغ إلا وقد أخذ منه بقسط ، وعلاه بكثرة صقاله وبريقه ، وبصيص ديباجه ورونقه ، فهو كالاَزاهير المبثوثة لم تربها أمطار ربيع ، ولا شموس قيظ ، وقد يتحسر من ريشه ، ويعرى من لباسه ، فيسقط تترى ، وينبت تباعاً ، فينحت من قصبه انحتات أوراق الاَغصان ، ثم يتلاحق نامياً حتى يعود كهيئته قبل سقوطه ، لا يخالف سالف ألوانه ، ولا يقع لون في غير مكانه .
وإذا تصفحت شعرة من شعرات قصبه أرتك حمرة وردية ، وتارة خضرة زبرجدية، وأحياناً صفرة عسجدية .
فكيف تصل إلى صفة هذا عمائق الفطن ، أو تبلغه قرائح العقول ، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين ! وأقل أجزائه قد أعجز الاَوهام أن تدركه ، والاَلسنة أن تصفه، فسبحان الذي بهر العقول عن وصف خلق جلاه للعيون ، فأدركته محدوداً مكوناً ، ومؤلفاً ملوناً ، وأعجز الاَلسن عن تلخيص صفته ، وقعد بها عن تأدية نعته .
وسبحان من أدمج قوائم الذرة والهمجة ، إلى ما فوقهما من خلق الحيتان والاَفيلة،
( 150 )
ووأى على نفسه أن لا يضطرب شبح مما أولج فيه الروح ، إلا وجعل الحمام موعده، والفناء غايته...

ويصف النملة والجرادة

ـ نهج البلاغة ج 2 ص 115
185 ومن خطبة له عليه السلام : .... ولو فكروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة ، لرجعوا إلى الطريق ، وخافوا عذاب الحريق ، ولكن القلوب عليلة ، والبصائر مدخولة .
ألا تنظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه ، وأتقن تركيبه ، وفلق له السمع والبصر ، وسوى له العظم والبشر . أنظروا إلى النملة في صغر جثتها ، ولطافة هيئتها ، لا تكاد تنال بلحظ البصر ، ولا بمستدرك الفكر ، كيف دبت على أرضها ، وصبت على رزقها ، تنقل الحبة إلى جحرها ، وتعدها في مستقرها ، تجمع في حرها لبردها ، وفي وردها لصدرها ، مكفولة برزقها ، مرزوقة بوفقها ، لا يغفلها المنان ، ولا يحرمها الديان ، ولو في الصفا اليابس ، والحجر الجامس .
ولو فكرت في مجاري أكلها ، في علوها وسفلها ، وما في الجوف من شراسيف بطنها ، وما في الرأس من عينها وأذنها ، لقضيت من خلقها عجباً ، ولقيت من وصفها تعبا . فتعالى الذي أقامها على قوائمها ، وبناها على دعائمها ، لم يشركه في فطرتها فاطر ، ولم يعنه في خلقها قادر .
ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ، ما دلتك الدلالة إلا على أن فاطر النملة هو فاطر النخلة ، لدقيق تفصيل كل شيء ، وغامض اختلاف كل حي ، وما الجليل واللطيف ، والثقيل والخفيف ، والقوي والضعيف ، في خلقه إلا سواء ، وكذلك السماء والهواء ، والرياح والماء . فانظر إلى الشمس والقمر ، والنبات والشجر، والماء والحجر ، واختلاف هذا الليل والنهار ، وتفجر هذه البحار ، وكثرة هذه الجبال ، وطول هذه القلال ، وتفرق هذه اللغات ، والاَلسن المختلفات .

( 151 )
فالويل لمن جحد المقدر وأنكر المدبر . زعموا أنهم كالنبات ما لهم زارع ، ولا لاختلاف صورهم صانع ، ولم يلجؤوا إلى حجة فيما ادعوا ، ولا تحقيق لما أوعوا . وهل يكون بناء من غير بان ، أو جناية من غير جان .
وإن شئت قلت في الجرادة ، إذ خلق لها عينين حمراوين ، وأسرج لها حدقتين قمراوين ، وجعل لها السمع الخفي ، وفتح لها الفم السوي ، وجعل لها الحس القوي ، ونابين بهما تقرض ، ومنجلين بهما تقبض ، يرهبها الزراع في زرعهم ، ولا يستطيعون ذبها ولو أجلبوا بجمعهم ، حتى ترد الحرث في نزواتها ، وتقضي منه شهواتها ، وخلقها كله لا يكون إصبعاً مستدقة .
فتبارك الله الذي يسجد له من في السموات والاَرض طوعاً وكرهاً ، ويعفرِّ له خداً ووجهاً ، ويلقى إليه بالطاعة سلماً وضعفاً ، ويعطى له القياد رهبة وخوفاً ، فالطير مسخرة لاَمره ، أحصى عدد الريش منها والنفس ، وأرسى قوائمها على الندى واليبس ، وقدر أقواتها ، وأحصى أجناسها ، فهذا غراب ، وهذا عقاب ، وهذا حمام ، وهذا نعام . دعا كل طائر باسمه ، وكفل له برزقه ، وأنشأ السحاب الثقال فأهطل ديمها، وعدد قسمها ، فبلَّ الاَرض بعد جفوفها ، وأخرج نبتها بعد جدوبها .

علي عليه السلام مؤسس علم التوحيد

ـ أمالي المرتضى ج 1 ص 103
إعلم أن أصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام وخطبه ، وأنها تتضمن من ذلك ما لا مزيد عليه ولا غاية وراءه ، ومن تأمل المأثور في ذلك من كلامه ، علم أن جميع ما أسهب المتكلمون من بعد في تصنيفه وجمعه ، إنما هو تفصيل لتلك الجمل ، وشرح لتلك الاَصول .
وروي عن الاَئمة من أبناءه عليهم السلام من ذلك ما لا يكاد يحاط به كثرة ، ومن أحب الوقوف عليه وطلبه من مظانه أصاب منه الكثير الغزير ، الذي في بعضه شفاء للصدور السقيمة ،
( 152 )
ونتاج للعقول العقيمة ، ونحن نقدم على ما نريد ذكره شيئاً مما روي عنهم في هذا الباب . فمن ذلك ما روي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام وهو يصف الله تعالى :
بمضادته بين الاَشياء علم أن لا ضد له ، وبمقارنته بين الاَمور علم أن لا قرين له ، ضاد النور بالظلمة ، والخشونة بالليل ، واليبوسة بالبلل ، والصرد بالحرور ، مؤلف بين متباعداتها ، مفرق بين متدانياتها .
وروي عنه عليه السلام أنه سئل : بم عرفت ربك ؟ فقال : بما عرفني به . قيل : وكيف عرفك ؟ قال : لا تشبهه صورة ، ولا يحس بالحواس ، ولا يقاس بقياس الناس .
وقيل له عليه السلام : كيف يحاسب الله الخلق ؟ قال : كما يرزقهم . فقيل كيف يحاسبهم ولا يرونه ؟ فقال : كما يرزقهم ولا يرونه .
وسأله رجل فقال : أين كان ربك قبل أن يخلق السماء والاَرض ؟ فقال : أين سؤال عن مكان ، وكان الله ولا مكان .

الاِمام زين العابدين عليه السلام ينظم زبور آل محمد

ـ قال عليه السلام في أدعيته المعروفة بالصحيفة السجادية ، الدعاء الاَول :
الحمد لله الاَول بلا أول كان قبله ، والآخر بلا آخر يكون بعده ، الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين ، وعجزت عن نعته أوهام الواصفين ، ابتدع بقدرته الخلق ابتداعاً ، واخترعهم على مشيته اختراعاً ، ثم سلك بهم طريق إرادته ، وبعثهم في سبيل محبته ، لا يملكون تأخيراً عما قدمهم إليه ، ولا يستطيعون تقدماً إلى ما أخرهم عنه ، وجعل لكل روح منهم قوتاً معلوماً مقسوماً من رزقه ، لا ينقص من زاده ناقص ، ولا يزيد من نقص منهم زائد ، ثم ضرب له في الحياة أجلاً موقوتاً ، ونصب له أمداً محدوداً ، يتخطى إليه بأيام عمره ، ويرهقه بأعوام دهره ، حتى إذا بلغ أقصى أثره ، واستوعب حساب عمره ، قبضه إلى ما ندبه إليه من موفور ثوابه ، أو محذور عقابه ، ليجزي الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ، عدلاً منه تقدست أسماؤه ، وتظاهرت آلاؤه ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ....

( 153 )
ـ الصحيفة السجادية الدعاء الثاني والثلاثون
وكان من دعائه عليه السلام بعد الفراغ من صلاة الليل : اللهم ياذا الملك المتأبد بالخلود والسلطان ، الممتنع بغير جنود ولا أعوان ، والعز الباقي على مر الدهور وخوالي الاعوام ، ومواضي الاَزمان والاَيام ، عز سلطانك عزاً لا حد له بأولية ، ولا منتهى له بآخرية ، واستعلى ملكك علواً سقطت الاَشياء دون بلوغ أمده ، ولا يبلغ أدنى ما استأثرت به من ذلك أقصى نعت الناعتين ، ضلت فيك الصفات ، وتفسخت دونك النعوت ، وحارت في كبريائك لطائف الاَوهام .
كذلك أنت الله الاَول في أوليتك ، وعلى ذلك أنت دائم لا تزول .
وأنا العبد الضعيف عملاً ، الجسيم أملاً ، خرجت من يدي أسباب الوصلات إلا ما وصلته رحمتك ، وتقطعت عني عصم الآمال إلا ما أنا معتصم به من عفوك ، قلَّ عندي ما أعتد به من طاعتك ، وكثر علي ما أبوء به من معصيتك ، ولن يضيق عليك عفو عن عبدك وإن أساء ، فاعف عني .....

ـ الصحيفة السجادية ج 2 ص 21
دعاؤه عليه السلام في التحميد لله عز وجل : الحمد لله الذي تجلى للقلوب بالعظمة ، واحتجت عن الاَبصار بالعزة ، واقتدر على الاَشياء بالقدرة ، فلا الاَبصار تثبت لرؤيته ، ولا الاَوهام تبلغ كنه عظمته ، تجبر بالعظمة والكبرياء ، وتعطف بالعز والبر والجلال ، وتقدس بالحسن والجمال ، وتجمل بالفخر والبهاء ، وتهلل بالمجد والآلاء ، واستخلص بالنور والضياء . خالق لا نظير له ، وواحد لاند له ، وماجد لا ضد له ، وصمد لا كفو له ، وإلَه لا ثاني معه ، وفاطر لا شريك له ، ورازق لا معين له ، الاَول بلا زوال ، والدائم بلا فناء ، والقائم بلا عناء ، والباقي بلا نهاية ، والمبدئ بلا أمد ، والصانع بلا ظهير ، والرب بلا شريك ، والفاطر بلا كلفة ، والفاعل بلا عجز .
ليس له حد في مكان ، ولا غاية في زمان ، لم يزل ولا يزول ولن يزال ، كذلك أبداً هو الاِلَه الحي القيوم ، الدائم القديم ، القادر الحكيم ....