روايات في الصحاح تقول بخلود الموحدين في النار

ولكن توجد في مصادر السنيين أحاديث تعارض الاِجماع المذكور والاَحاديث
المتقدمة ، وتنص على خلود بعض الاَصناف من أهل القبلة في جهنم !
ـ كالذي رواه النسائي في ج 4 ص 66

عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من تردى من جبل فقتل
نفسه فهو في نار جهنم يتردى خالداً مخلداً فيها أبداً . ومن تحسَّى سماً فقتل نفسه
فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً . ومن قتل نفسه بحديدة .
. . كانت حديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً . ورواه
أحمد في ج 2 ص 254 وبعضه أبو داود في ج 2 ص 222
ـ وكالذي رواه الدارمي في ج 2 ص 266

عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من اقتطع حق امرئ مسلم
بيمينه فقد أوجب الله له النار ، وحرم عليه الجنة . فقال له رجل : وإن كان شيئاً يسيراً
يا رسول الله ! قال : وإن قضيبا من أراك !!
ـ والذي رواه ابن ماجة في ج 2 ص 157

عن أبي شريح الخزاعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أصيب بدم
أو خبل ( والخبل الجرح ) فهو بالخيار بين إحدى ثلاث ، فإن أراد الرابعة فخذوا على
يديه : أن يقتل ، أو يعفو ، أو يأخذ الدية . فمن فعل شيئاً من ذلك فعاد ، فإن له نار
جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً . انتهى .
ـ والذي رواه الطبراني في المعجم الكبير ج 12 ص 8

عن ابن عباس : ومن يقتل مؤمناً متعمداً قال : ليس لقاتل توبة ما نسختها آية !
ـ وقال النيسابوري في الوسيط ج 2 ص 96 : وقوله : فجزاؤه جهنم خالداً فيها . . إلى آخر
الآية ، وعيدٌ شديدٌ لمن قتل مؤمناً متعمداً حرم الله قتله وحظر سفك دمه ، وقد
( 197 )
وردت في قتل المؤمن أخبار شداد ، فإن ابن عباس سأله رجل فقال : رجل قتل مؤمناً
متعمداً ؟ فقال ابن عباس : جزاؤه جهنم خالداً فيها ، قال : فإن تاب وآمن وعمل
صالحاً ؟ فقال ابن عباس : وأَ نَّى له التوبة ، وقد سمعت نبيكم يقول : ويحٌ له قاتل
المؤمن . . .

عن القاسم بن أبي بزة أنه سأل سعيداً : هل لمن قتل مؤمناً توبة ؟ فقال لا . . . وعن
حميد عن أنس عن النبي قال : إن الله أبى أن يجعل لقاتل المؤمن توبة . . . وعن عبد
الله بن عمرو قال : قال رسول الله : والذي نفسي بيده لقتل المؤمن أعظم عند الله من
زوال الدنيا . . .

ومذهب أهل السنة : أن قاتل المؤمن عمداً له توبة ، عن عطاء عن ابن عباس أن رجلاً
سأله : ألقاتل المؤمن توبة ؟ فقلت لك توبة ، لكي لا يلقي بيده إلى التهلكة . انتهى .

ولكن هذه الرواية التي استندوا عليها عن ابن عباس تؤكد عدم قبول توبته ، ولا
تدل عليها ! فلا بد لهم من طرح روايات خلود قاتل المسلم في النار وأكثالها ، والقول
بأن رواياته تشديدٌ من الرواة لتخويف القاتل في مجتمع كان يستسهل القتل !
ـ وقد حاول النووي تأويلها فقال في شرح مسلم ج 9 جزء 17 ص 83

وأما قوله تعالى : ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها ، فالصواب
في معناها أن جزاؤه جهنم ، وقد يجازى به وقد يجازى بغيره ، وقد لا يجازى بل
يعفى عنه ، فإن قتل عمداً مستحلاً له بغير حق ولا تأويل فهو كافر مرتد ، يخلد به في
جهنم بالاِجماع . . . ثم أخبر أنه لا يخلد من مات موحداً فيها ، فلا يخلد هذا ولكن
قد يعفى عنه فلا يدخل النار أصلاً . . . انتهى .

وقد تضمنت محاولة النووي عدة وجوه ضعيفة ، أقواها : القول بأن القاتل عمداً
يخرج بقتله عن التوحيد فيجري عليه حكم المشرك في الآخرة .

ونحن نعتقد بصحة الاَحاديث التي تقول إن بعض الاَعمال توجب سلب التوحيد
( 198 )
من صاحبها قبل الموت ، فلا يموت على التوحيد كما سيأتي ، ولكنه ذلك يحتاج في
موردنا إلى دليل .
ما دل من مصادرنا على أن الدار الآخرة لا موت فيها
ـ بحار الاَنوار ج 8 ص 349

الكافي : علي ، عن أبيه ، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة ، عن أبي
عبدالله عليه السلام قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وساق الحديث في مراتب خلق الاَشياء يغلب كل
واحد منها الآخر حيث بغى وفخر ، إلى أن قال : ثم إن الاِنسان طغى وقال : من أشد
مني قوة ؟ فخلق الله له الموت وقهره وذل الاِنسان ، ثم إن الموت فخر في نفسه ،
فقال الله عز وجل لا تفخر فإني ذابحك بين الفريقين أهل الجنة وأهل النار ، ثم لا
أحييك أبداً فترجى أو تخاف . . الحديث .
تذنيب : إعلم أن خلود أهل الجنة في الجنة مما أجمع عليه المسلمون ، وكذا
خلود الكفار في النار ودوام تعذيبهم ، قال شارح المقاصد : أجمع المسلمون على
خلود أهل الجنة في الجنة وخلود الكفار في النار .

فإن قيل : القوى الجسمانية متناهية ، فلا يعقل خلود الحياة ، وأيضاً الرطوبة التي
هي مادة الحياة تفنى بالحرارة سيما حرارة نار جهنم ، فيفضي إلى الفناء ضرورة ،
وأيضاً دوام الاِحراق مع بقاء الحياة خروج عن قضية العقل !

قلنا : هذه قواعد فلسفة غير مسلمة عند المليين ، ولا صحيحة عند القائلين
بإسناد الحوادث إلى القادر المختار ، على تقدير تناهي القوى وزوال الحياة ، لجواز
أن يخلق الله البدل فيدوم الثواب والعقاب ، قال الله تعالى : كلما نضجت جلودهم
بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب .
ـ تفسير القمي ج 2 ص 50

وقال علي بن إبراهيم في قوله : وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الاَمر وهم في غفلة
( 199 )
وهم لا يؤمنون ، فإنه حدثني أبي ، عن الحسن بن محبوب ، عن أبي ولاد الحناط ،
عن أبي عبد الله عليه السلام قال سئل عن قوله : وأنذرهم يوم الحسرة ؟ قال : ينادي مناد من
عند الله ، وذلك بعد ما صار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار : يا أهل الجنة ويا
أهل النار هل تعرفون الموت في صورة من الصور ؟ فيقولون لا ، فيؤتى بالموت في
صورة كبش أملح ، فيوقف بين الجنة والنار ، ثم ينادون جميعاً : أشرفوا وانظروا إلى
الموت فيشرفون ، ثم يأمر الله به فيذبح ، ثم يقال : يا أهل الجنة خلود فلا موت أبداً ،
ويا أهل النار خلود فلا موت أبداً . وهو قوله : وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الاَمر
وهم في غفلة . أي قضي على أهل الجنة بالخلود ، وعلى أهل النار بالخلود فيها .
ما دل من مصادر السنيين على أن الدار الآخرة لا موت فيها
ـ صحيح البخاري ج 7 ص 200

عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا صار أهل الجنة إلى الجنة
وأهل النار إلى النار ، جئ بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار ، ثم يذبح ، ثم ينادي
مناد : يا أهل الجنة لا موت ، يا أهل النار لا موت ، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم
ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم . ورواه أحمد في ج 2 ص 118 وص 120 وص 121
ـ وفي مسند أحمد ج 2 ص 130

عن : عبد الله بن عمر قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يدخل أهل الجنة
الجنة ، قال أبي وحدثناه سعد قال : يدخل الله أهل الجنة الجنة ، وأهل النار ثم يقوم
مؤذن بينهم فيقول : يا أهل الجنة لا موت ، ويا أهل النار ، لا موت ، كل خالد فيما هو
فيه . ورواه الترمذي في ج 4 ص 95
ـ وفي الدر المنثور ج 4 ص 272

وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله : وأنذرهم يوم
الحسرة إذ قضي الاَمر ، قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يأتي الموت
( 200 )
في صورة كبش أملح حتى يوقف بين الجنة والنار ، ثم ينادي منادي أهل الجنة : هذا
الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا ، ولا يبقى أحد في عليين ولا في أسفل
درجة من الجنة إلا نظر إليه ، ثم ينادي يا أهل النار هذا الموت الذي كان يميت الذي
في الدنيا ، فلا يبقى أحد في ضحضاح من النار ولا في أسفل درك من جهنم إلا نظر
إليه ، ثم يذبح بين الجنة والنار ، ثم ينادي يا أهل الجنة هو الخلود أبد الآبدين ، ويا
أهل النار هو الخلود أبد الآبدين ، فيفرح أهل الجنة فرحة لو كان أحد ميتاً من فرحة
ماتوا ، ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتاً من شهقة ماتوا ، فذلك قوله : وأنذرهم
يوم الحسرة إذ قضي الاَمر ، يقول إذا ذبح الموت .
ـ وقال الرازي في تفسيره ج 13 جزء 26 ص 139

إن أهل الجنة لا يعلمون في أول دخولهم في الجنة أنهم لا يموتون ، فإذا جيَ
بالموت على صورة كبش أملح وذبح ، فعند ذلك يعلمون أنهم لا يموتون .
ـ وقال في الاَحاديث القدسية ج 1 ص 160

شرح حديث ذبح الموت وأنه يؤتى بالموت يوم القيامة فيوقف على الصراط . .
الخ . وإنه لا مانع عقلاً من أن يخلق الله تعالى الموت على صوررة حيوان ويوقف
ويذبح . . . ونحن نؤمن بما ثبت عن رسول الله ، ولا نبحث عن كيفية تحقيقه .انتهى .
*
*
عودة إلى رأي عمر بفناء النار

في هذا الجو من آيات الخلود في النار وإجماع المسلمين على خلود الجنة والنار
. . نرى الخليفة عمر من دون الصحابة يخالف المتفق عليه بين الجميع ويقول بفناء
النار وانتهائها ، ونقل أهلها الى الجنة !!

وقد أخذ الخليفة ذلك من بعض أحبار اليهود الذين كان يثق بعلمهم ، لاَن من
مقولاتهم أن الله تعالى وعد يعقوب بأن لا يدخل أبناءه الى النار إلا تحلة القسم ، وأن
( 201 )
النار أساساً عمرها قصير ثم تنتهي وتهلك !!
وقد تقدم عنهم ذلك في تفسير قوله تعالى ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة )
في فصل الشفاعة عند اليهود !!

ونظراً لغرابة هذا الرأي حاول البعض التشكيك في نسبته إلى الخليفة عمر ،
ولكنه ثابت عنه عند المحدثين والمؤرخين والمتكلمين كما تقدم ويأتي ! وأكثر أتباع
الخليفة لا يعرفون رأيه هذا ، فبعضهم ينكره .. وبعضهم (يستحي ) به . . ولكن
بعضهم تجرأ وكتب رداً عليه !
ـ قال في مقدمة فتح القدير ج 1 ص 9 :

للشوكاني مؤلفات ، منها كتاب نيل الاَوطار شرح منتقى الاَخبار . . . وكشف
الاَستار في إبطال القول بفناء النار . انتهى .

وأكثر المتحمسين لتأييد رأي عمر ابن قيم الجوزية في رسالته حادي الاَرواح تبعاً
لاَستاذه ابن تيمية . ومن المتأخرين الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار ج 8 ص 68
حيث أورد في كتابه رسالة ابن قيم كاملة ، وهي تبلغ نحو خمسين صفحة ، ولم يأت
صاحب المنار بجديد سوى المدح والغلو في ابن قيم . . لاَنه مفكر إسلامي نابغة
استطاع أن يحل المشكلة ويثبت رأي الخليفة بخمس وعشرين دليلاً !
وتدور رسالة ابن قيم على محور واحد هو أن النار تفنى كما يخرب السجن ، فلا يبقى
محل لاَهلها إلا أن ينقلوا الى الجنة ، وهو كلامٌ لم يقله عمر !!

قال ابن قيم وهو يعدد الاَقوال في الخلود في جهنم :
السابع : قول من يقول بل يفنيها ربها وخالقها تبارك وتعالى ، فإنه جعل لها أمداً
تنتهي إليه ، ثم تفنى ويزول عذابها .

قال شيخ الاِسلام ( ابن تيمية ) : وقد نقل هذا القول عن عمر وابن مسعود وأبي
هريرة وأبي سعيد وغيرهم ، وقد روى عبد بن حميد وهو من أجل أئمة الحديث في
( 202 )
تفسيره المشهور : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن
الحسن ، قال قال عمر : لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج ، لكان لهم على
ذلك يوم يخرجون فيه .

وقال : حدثنا حجاج بن منهال ، عن حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن أن
عمر بن الخطاب قال : لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج ، لكان لهم يوم يخرجون
فيه . ذكر ذلك في تفسير ثابت عند قوله تعالى ( لابثين فيها أحقاباً ) فقد رواه عبد
وهو من الاَئمة الحفاظ ، وعلماء السنة عن هذين الجليلين سليمان بن حرب وحجاج
بن منهال ، وكلاهما عن حماد بن سلمة وحسبك به ، وحماد يرويه عن ثابت وحميد
وكلاهما يرويه عن الحسن وحسبك بهذا الاِسناد جلالة ، والحسن وإن لم يسمع من
عمر فإنما رواه عن بعض التابعين ، ولو لم يصح عنده ذلك عن عمر لما جزم به وقال
قال عمر بن الخطاب ، ولو قدر أنه لم يحفظ عن عمر فتداولُ هؤلاء الاَئمة له غير
مقابلين له بالاِنكار والرد ، مع أنهم ينكرون على من خالف السنة بدون هذا ، فلو كان
هذا القول عند هؤلاء الاَئمة من البدع المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع
الاَئمة ، لكانوا أول منكر له .

قال : ولا ريب أن من قال هذا القول عن عمر ونقله عنه إنما أراد بذلك جنس أهل
النار الذين هم أهلها ، فأما قوم أصيبوابذنوبهم فقد علم هؤلاء وغيرهم أنهم يخرجون
منها ، وأنهم لا يلبثون قدر رمل عالج ولا قريباً منه ، ولفظ أهل النار لا يختص (يقصد
لا يطلق ) بالموحدين بل يختص بمن عداهم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم
( أما أهل النار الذين هم أهلها فهم لا يموتون فيها ولا يحيون ) ولا يناقض هذا قوله
تعالى ( خالدين فيها ) وقوله ( وما هم منها بمخرجين ) بل ما أخبر الله به هو الحق
والصدق الذي لا يقع خلافه . لكن إذا انقضى أجلها وفنيت كما تفنى الدنيا ، لم تبق
ناراً ولم يبق فيها عذاب ) . انتهى .

وقد استدل ابن قيم على رأي الخليفة عمر بخمس وعشرين وجهاً ! لا نطيل
( 203 )
الكلام بسردها وردها ، لاَنها ماعدا واحد منها وجوه خطابية استحسانية ، وليست
علمية ، ويكفي في جوابها جميعاً أنها لا تنهض بمعارضة الآيات والاَحاديث
المتقدمة الدالة على خلود بعض الفجار في النار ، ولا على معارضة الاِجماع الذي
تقدم من الفريقين !

أما الوجه الذي يحسن التعرض له فهو قول ابن القيم :

فصل . والذين قطعوا بدوام النار لهم ست طرق :
أحدها : اعتقاد الاِجماع ، فكثير من الناس يعتقدون أن هذا مجمع عليه بين
الصحابة والتابعين ، لا يختلفون فيه ، وأن الاِختلاف فيه حادث ، وهو من أقوال
أهل البدع .
الطريق الثاني : أن القرآن دل على ذلك دلالة قطعية ، فإنه سبحانه أخبر أنه عذاب
مقيم ، وأنه لا يفتر عنهم ، وأنه لن يزيدهم إلا عذاباً ، وأنهم خالدون فيها أبداً ، وما
هم بخارجين من النار ، وما هم منها بمخرجين ، وأن الله حرم الجنة على الكافرين ،
وأنهم لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ، وأنهم لا يقضى عليهم
فيموتوا ، ولا يخفف عنهم من عذابها ، وأن عذابها كان غراماً أي مقيماً لازماً . . قالوا
وهذا يفيد القطع بدوامه واستمراره .
الطريق الثالث : أن السنة المستفيضة أخبرت بخروج من كان في قلبه مثقال ذرة
من إيمان دون الكفار ، وأحاديث الشفاعة من أولها إلى آخرها صريحة في خروج
عصاة الموحدين من النار ، وأن هذا حكم مختص بهم فلو خرج الكفار منها لكانوا
بمنزلتهم ولم يختص الخروج بأهل الاِيمان .
الطريق الرابع : أن الرسول وقفنا على ذلك وعلمناه من دينه بالضرورة من غير
حاجة بنا إلى نقل معين ، كما علمنا من دينه دوام الجنة وعدم فنائها .
الطريق الخامس : أن عقائد السلف وأهل السنة مصرحة بأن الجنة والنار
مخلوقتان وأنهما لا تفنيان بل هما دائمتان ، وإنما يذكرون فناءهما عن أهل البدع .
( 204 )
الطريق السادس : أن العقل يقضي بخلود الكفار في النار . وهذا مبني على قاعدة
وهي أن المعاد وثواب النفوس المطيعة وعقوبة النفوس الفاجرة هل هو مما يعلم
بالعقل أو لا يعلم إلا بالسمع فيه طريقتان لنظار المسلمين ، وكثير منهم يذهب إلى أن
ذلك يعلم بالعقل مع السمع كما دل عليه القرآن في غير موضع كإنكاره سبحانه على
من زعم أنه يسوي بين الاَبرار والفجار في المحيا والممات ، وعلى من زعم أنه خلق
خلقه عبثا وأنهم إليه لا يرجعون وأنه يتركهم سدى أي لا يثيبهم ولا يعاقبهم ، وذلك
يقدح في حكمته وكماله وأنه نسبة إلى ما لا يليق به . وربما قرروه بأن النفوس
البشرية باقية واعتقاداتها وصفاتها لازمة لها لا تفارقها وإن ندمت عليها لما رأت
العذاب فلم تندم عليها لقبحها أو كراهة ربها لها ، بل لو فارقها العذاب رجعت كما
كانت أولاً قال تعالى ( ولو ترى إذ وفقوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات
ربنا ونكون من المؤمنين ، بل بدا لهم ماكانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا
عنه وأنهم لكاذبون ) فهؤلاء قد ذاقوا العذاب وباشروه ولم يزل سببه ومقتضيه من
نفوسهم بل خبثها قائم بها لم يفارقها بحيث لو ردوا لعادوا كفاراً كما كانوا ، وهذا يدل
على أن دوام تعذيبهم يقضي به العقل كما جاء به السمع .انتهى .

ثم قال ابن قيم :

قال أصحاب الفناء على هذه الطرق يبين الصواب في هذه المسألة :

فأما الطريق الاول فالاِجماع الذي ادعيتموه غير معلوم وإنما يظن الاِجماع في
هذه المسألة من لم يعرف النزاع وقد عرف النزاع بها قديماً وحديثاً ، بل لو كلف
مدعي الاِجماع أن ينقل عن عشرة من الصحابة فما دونهم إلى الواحد أنه قال إن النار
لا تفنى أبداً لم يجد إلى ذلك سبيلاً ، ونحن قد نقلنا عنهم التصريح بخلاف ذلك ،
فما وجدنا عن واحد منهم خلاف ذلك ، بل التابعون حكوا عنهم هذا وهذا قالوا ،
والاِجماع المعتد به نوعان متفق عليهما ونوع ثالث مختلف فيه ، ولم يوجد واحد
( 205 )
منها في هذه المسألة :
النوع الاَول ما يكون معلوماً من ضرورة الدين كوجوب أركان الاِسلام وتحريم
المحرمات الظاهرة .
الثاني ما ينقل عن أهل الاِجتهاد التصريح بحكمه .
الثالث أن يقول بعضهم القول وينشر في الاَمة ولا ينكره أحد . فأين معكم واحد من
هذه الاَنواع ، ولو أن قائلاً ادعى الاِجماع من هذه الطريق واحتج بأن الصحابة صح
عنهم ولم ينكر أحد منهم عليه ، لكان أسعد بالاِجماع منكم !
قالوا : وأما الطريق الثاني وهو دلالة القرآن على بقاء النار وعدم فنائها ، فأين في
القرآن دليل واحد يدل على ذلك ، نعم الذي دل عليه القرآن أن الكفار خالدون في
النار أبداً ، وأنهم غير خارجين منها ، وأنه لا يفتر عنهم من عذابها ، وأنهم لا يموتون
فيها ، وأن عذابهم فيها مقيم ، وأنه غرام أي لازم لهم . وهذا كله مما لا نزاع فيه بين
الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين ، وليس هذا مورد النزاع ، وإنما النزاع في أمر آخر
( !! ) وهو أنه هل النار أبدية أو مما كتب عليه الفناء ؟ وأما كون الكفار لا يخرجون
منها ، ولا يفتر عنهم من عذابها ، ولا يقضى عليهم فيموتوا ، ولا يدخلون الجنة حتى
يلج الجمل في سم الخياط ، فلم يختلف في ذلك الصحابة ولا التابعون ولا أهل
السنة . وإنما خالف في ذلك من قد حكينا أقوالهم من اليهود ( ! ! ) والاِتحادية وبعض
أهل البدع ، وهذه النصوص وأمثالها تقتضي خلودهم في دار العذاب مادامت باقية
ولا يخرجون منها مع بقائها البتة كما يخرج أهل التوحيد منها مع بقائها ، فالفرق
كالفرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس على حاله ، وبين من يبطل حبسه
بخراب الحبس وانتقاضه .

قالوا : وأما الطريق الثالث وهو مجيء السنة المستفيضة بخروج أهل الكبائر من
النار دون أهل الشرك ، فهي حق لا شك فيه ، وهي إنما تدل على ما قلناه من خروج
( 206 )
الموحدين منها وهي دار عذاب لم تفن ، ويبقى المشركون فيها ما دامت باقية .
والنصوص دلت على هذا وعلى هذا .
قالوا : وأما الطريق الرابع وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقفنا على ذلك
ضرورة ، فلا ريب أنه من المعلوم من دينه بالضرورة أن الكفار باقون فيها ما دامت
باقية ، هذا معلوم من دينه بالضرورة ، وأما كونها أبدية لا انتهاء لها ولا تفنى كالجنة
فأين في القرآن والسنة دليل واحد يدل على ذلك !! انتهى .

وقد ذكر في 79 : قول أهل السنة (إن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبداً فلا ريب
أن القول بفنائهما قول أهل البدع من الجهمية ) وأجاب عليه بقوله ( فقولكم إنه من
أقوال أهل البدع كلام من لا خبرة له بمقالات بني آدم وآرائهم واختلافهم . . .) انتهى .

ونلاحظ أن ابن قيم اعترف بأن الذين نفوا خلود النار هم اليهود والاِتحادية من
الوثنيين والماديين ، ثم قام بتغيير موضوع النزاع في المسألة ، لكي يوفق بين إجماع
المسلمين على الخلود في النار وبين قول عمر بفنائها ، وعمدة ماقاله : إنه لا مانع أن
نقول خالدين فيها إذا لم تخرب ، كما نقول مؤبدٌ في السجن مادام السجن موجوداً
ولم يخرب . يريد بذلك أن أهل النار إنما ينقلون الى الجنة بسبب خرابها !
ولو سلمنا هذا المنطق في المسألة ، فأين دليله على خراب السجن أو جهنم ؟ !
يكفي لرد ذلك أنه لو كان له أصلٌ في الاِسلام لكثرت فيه الآيات والاَحاديث !
ولو كان له أصلٌ لاحتج به الخليفة ، وذكر ولو كلمةً عن فناء النار ، وما اقتصر على
رمل عالج !!

إن فذلكات ابن قيم وأمثاله لا يمكنها أن تقاوم ما تقدم من الآيات والاَحاديث
والاِجماع ، ولا أن تقلب معاني ألفاظ اللغة فتلغي معنى الدوام والتأبيد والخلود
وتجعلها كلها لزمنٍ محدودٍ ينتهي .

وقد اغتر بهذه الفذلكة بعضهم وقال : ليس في اللغة العربية كلمة للوقت الممتد
( 207 )
بلا انقطاع ! وخير جواب لهؤلاء أن نسألهم : إذا أردتم التعبير بالعربية عن هذا المعنى
فبماذا تعبرون ؟ فلابد أنهم سيستعملون ألفاظاً من مادة الدوام والتأبيد والخلود . .
وهي المواد التي استعملها القرآن والحديث !!
الجهمية أخذت من الخليفة عمر
ـ قال الاَشعري في مقالات الاِسلاميين ج 1 ص 148

واختلفت المرجئة في تخليد الله الكفار . . . فقالت الفرقة الاَولى منهم وهم
أصحاب جهم بن صفوان : الجنة والنار تفنيان وتبيدان ويفنى أهلهما . . . وأنه لا يجوز
أن يخلد الله أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار !!
وفي ج 1 ص 279

والذي تفرد به جهم القول بأن الجنة والنار تبيدان وتفنيان !
ـ تأويلات أهل السنة ج 1 ص 75 ـ 76

الرد على الجهمية فى قولهم بفناء الجنة وما فيها ، وقوله وهم فيها خالدون أي
مقيمون أبداً ، فالآية ترد على الجهمية قولهم لاَنهم يقولون بفناء الجنة . . . لكن ذلك
وهمٌ عندنا ، لاَن الله تعالى هو الاَول بذاته . . والباقي بذاته ، والجنة وما فيها باقية
بغيرها . إن الله تعالى جعل الجنة داراً مطهرة عن المعايب كلها . . ولو كان آخرها
للفناء لكان فيها أعظم المعايب إذ المرء لا يهنأ بعيش إذا نقص عليه بزواله . فلو كان
آخره للزوال كانت نعمته منغصه على أهلها . . .
ـ تأويلات أهل السنة ج 1 ص 121

الرد على الجهمية في قولهم بفناء الجنة والنار وانقطاع ما فيهما : والذين كفروا
وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ، تنقض على الجهمية قولهم . . .
فلو كانت الجنة تفنى وينقطع ما فيها لكان فيها خوف وحزنٌ لاَن من خاف في الدنيا
زوال النعمة عنه وفوتها يحزن عليه . . فأخبر عز وجل أن لا خوف عليهم فيها ، خوف
( 208 )
التبعة ولا حزن فوات النعمة ، ولا هم يحزنون ، دل على أنها باقية وأن نعيمها دائم لا
يزول ، وكذلك أخبر عز وجل أن الكفار في النار خالدون .
والمرجئة أخذوا من عمر
ـ تاريخ الاِسلام للذهبي ج 13 ص 160

وكان أبو المطيع فيما نقل الخطيب من رؤوس المرجئة . . وذكروا عنه أنه كان
يقول : الجنة والنار خلقتا وستفنيان ، وهذا كلام جهم .
وابن العاص أخذ من عمر
ـ فتح القدير للشوكاني ج 2 ص 658

عن ابن عمرو قال : ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد . ثم
قال صاحب الكشاف : ما كان لابن عمرو في سيفيه ومقاتلته بهما علياً ما يشغله عن
تسيير هذا الحديث ! انتهى .

ويقصد الزمخشري أن عبد الله بن عمرو بن العاص راوي هذا الحديث لا يوثق
به، لاَنه كان مبغضاً لعلي عليه السلام وقد قاتله في صفين بسيفين ، وكان الاَولى به أن يكتفي
بفعلته تلك ولا ينقل مثل هذه الاَحاديث الخارجة عن إجماع المسلمين !
قال في هامش اختيار معرفة الرجال ج 1 ص 157 : وقال في الكشاف : وماظنك بقوم
نبذوا كتاب الله لما روى لهم بعض النوابت عبد الله بن عمرو بن العاص : ليأتين على
جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعدما يلبثون أحقابا . وبلغني أن من
الضلال من اغتر بهذا الحديث فاعتقد أن الكفار لا يخلدون في النار ، وهذا ونحوه والعياذ
بالله من الخذلان المبين زادنا الله هداية إلى الحق ومعرفة بكتابه وتنبهاً على أن نغفل عنه .
ولئن صح هذا عن ابن ابن العاص فمعناه أنهم يخرجون من حر النار إلى برد الزمهرير ،
فذلك خلق جهنم وصفق أبوابها، وأقول : أما كان لابن عمرو في سيفيه ومقاتلته بهما
علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما يشغله عن تسيير هذا الحديث . انتهى قول الكشاف .
( 209 )
ورووا عن ابن مسعود أنه وافق عمر
ـ الدر المنثور ج 3 ص 351

وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن إبراهيم قال : ما في القرآن آية أرجى لاَهل النار
من هذه الآية : خالدين فيها ما دامت السموات والاَرض إلا ما شاء ربك قال وقال ابن
مسعود : ليأتين عليها زمان تخفق أبوابها .
ـ وفي تفسير التبيان ج 6 ص 68 وروي عن ابن مسعود أنه قال : ليأتين على جهنم زمان
تخفق أبوابها ليس فيها أحد ، وذلك بعد أن يلبثوا فيها أحقاباً .
والشعبي أخذ من عمر
ـ تفسير التبيان ج 6 ص 68

وقال الشعبي : جهنم أسرع الدارين عمراناً ، وأسرعهما خراباً .

ويلاحظ على رواياتهم عن ابن العاص وابن مسعود والشعبي أن جهنم تبقى
ولكن تفرغ وينقل أهلها الى الجنة ! وهذا هو موضوع كلام عمر ، لا ماادعاه ابن قيم !
والمعتزلة أخذت من عمر
ـ الملل والنحل للشهرستاني ـ هامش الفصل ج 1 ص 64

الخامسة : قوله ( أبو الهذيل ) إن حركات أهل الخلدين تنقطع ، وإنهم يصيرون
إلى سكون دائم خموداً ، وتجتمع اللذات في ذلك السكون لاَهل الجنة ، وتجتمع
الآلام في ذلك السكون لاَهل النار .
والجاحظ أخذ من عمر
ـ الملل والنحل ـ هامش الفصل ج 1 جزء 1 ص 95

أقوال الجاحظ التي انفرد بها عن أصحابه . . منها : قوله في أهل النار إنهم لا
يخلدون فيها عذاباً ، بل يصيرون إلى طبيعة النار .
( 210 )
وابن عربي والجيلي أخذاً من عمر
قال في تفسير المنار ج 8 ص 70

ويدخل فيه أنها تفنى كما تقول الجهمية ، أو تتحول إلى نعيم كما قال الشيخ
محيي الدين بن العربي وعبد الكريم الجيلي من الصوفية .
أما عمر فقد أخذ من كعب الاَحبار واليهود
ـ سيرة ابن هشام ج 2 ص 380

وقالوا : لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله
عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون .

قال ابن إسحاق : وحدثني مولى لزيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد ابن جبير
عن ابن عباس قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تقول : إنما
مدة الدنيا سبعة آلاف سنة ، وإنما يعذب الله الناس في النار بكل ألف سنة من أيام
الدنيا يوماً واحداً في النار من أيام الآخرة ، وإنما هي سبعة أيام ثم ينقطع العذاب !!

فأنزل الله في ذلك من قولهم : وقالوا لن تمسنا النار إلا أيام معدودة ، قل أتخذتم عند
الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون . بلى كسب سيئة
وأحاطت به خطيئته ، أي من عمل بمثل أعمالكم وكفر بمثل ما كفرتم به حتى يحيط
كفره بماله عند الله من حسنة ، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ، أي خلداً
أبداً. والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون . أي
من آمن بما كفرتم به وعمل بما تركتم من دينه فلهم الجنة خالدين فيها ، يخبرهم أن
الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبداً ، ولا انقطاع له .
ـ الدر المنثور ج 1 ص 84

قوله تعالى : وقالوا لن تمسنا النار الآية . أخرج ابن إسحق وابن جرير وابن المنذر
( 211 )
وابن أبي حاتم والطبراني والواحدي عن ابن عباس أن اليهود كانوا يقولون مدة الدنيا
سبعة آلاف سنة . . .الخ. ورواه في مجمع الزوائد ج 6 ص 314
ـ تفسير التبيان ج 1 ص 323

قالوا لن تمسنا النار ولن ندخلها إلا أياماً معدودة ، وإنما لم يبين عددها في
التنزيل، لاَنه تعالى أخبر عنهم بذلك وهم عارفون بعدد الاَيام التي يوقتونها في النار ،
فلذلك نزل تسمية عدد الاَيام وسماها معدودة لما وصفنا .

وقال أبو العالية وعكرمة والسدي وقتادة : هي أربعون يوماً . ورواه الضحاك عن
ابن عباس . ومنهم قال : إنها عدد الاَيام التي عبدوا فيها العجل .

وقال ابن عباس : إن اليهود تزعم أنهم وجدوا في التوراة مكتوباً إن ما بين طرفي
جهنم مسيرة أربعين سنة ، وهم يقطعون مسيرة كل سنة في يوم واحد ، فإذا انقطع
المسير انقطع العذاب ، وهلكت النار !!
ـ قال السيوطي في الدر المنثور ج 6 ص 286

وأخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن ميمون أن كعباً دخل يوماً على عمر بن
الخطاب فقال له عمر : حدثني إلى ما تنتهي شفاعة محمد يوم القيامة ؟ فقال كعب
قد أخبرك الله في القرآن إن الله يقول : ما سلككم في سقر . . . إلى قوله اليقين قال
كعب: فيشفع يومئذ حتى يبلغ من لم يصل صلاة قط ، ويطعم مسكيناً قط ، ومن لم
يؤمن ببعث قط ، فإذا بلغت هؤلاء لم يبق أحد فيه خير ! انتهى .

وقد ذكرنا أن كلام كعب هذا يحتل وجهين لاَن قوله : حتى يبلغ ، وقوله فإذا
بلغت، قد يقصد بهما أن الشفاعة تبلغ هؤلاء المكذبين بيوم الدين الذين لم يفعلوا
خيراً قط ! فلا يبقى أحد في النار وتنتهي . وقد يقصد بهما أن الشفاعة تقف عند
هؤلاء فيكون كلامه توسيعاً لها لكل المؤمنين بالبعث من غير المسلمين !
ولايبعد أن يكون هدف كعب القول بدخول الجميع الجنة وفناء النار ، لاَن ذلك من
( 212 )
مقولات اليهود كما رأيت ! ويكون قصده أن سؤال أهل اليمين للمجرمين : ماسلككم
في سقر ؟ إنما هو مقدمةٌ لاِخراجهم من النار . . وبشفاعة نبينا صلى الله عليه وآله !!
*
*

وقد يتصور البعض أن من المبالغة أو التهمة للخليفة عمر بأنه أخذ هذه العقيدة
من كعب الاَحبار ، ولكن الذي يقرأ احترام عمر لاَحبار اليهود والنصارى ولكعب
الاَحبار خاصة حتى قبل إسلام كعب . . لا يستبعد ذلك بل يطمئن اليه ، ويحسن
مراجعة ما كتبناه في ذلك موثقاً في كتاب تدوين القرآن ، وأن الخليفة عمر كان يدرس
عند اليهود في المدينة في حياة النبي صلى الله عليه وآله وأن النبي نهاه عن عن ذلك ولم يمتثل !
ونذكر هنا بعض النصوص التي تكشف ثقته العالية بكعب ، والمقام العظيم الذي
يحتله كعب في ذهنه وعواطفه !
عمر ينظر إلى كعب كأنه نبي ويتلقى منه

يلاحظ الباحث تعاملاً فريداً للخليفة عمر مع كعب الاَحبار ، وأنه كان يحترمه أكثر
من كل صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله ويفضله عليهم علمياً وسياسياً ، ويسأله عن عوالم
الغيب والشهادة والاَنبياء والجنة والنار وتفسير القرآن ، وعن مستقبل الاَمة ومستقبله
الشخصي ويثق به ثقةً مطلقة ويقبل منه . . شبيهاً بتعامل الصحابي المؤمن مع نبيه
الذي ينزل عليه الوحي !
ـ قال السيوطي في الدر المنثور ج 3 ص 6

وأخرج ابن جرير عن أبي المخارق زهير بن سالم قال قال عمر لكعب : ما أول
شيَء ابتدأه الله من خلقه ؟ فقال كعب : كتب الله كتاباً لم يكتبه قلم ولا مداد ،
ولكن كتب بإصبعه يتلوها الزبرجد واللؤلؤ والياقوت : أنا الله لا إلَه إلا أنا سبقت
رحمتي غضبي !!
( 213 )
ـ وقال أحمد في مسنده ج 1 ص 42

قال عمر يعني لكعب : إني أسألك عن أمر فلا تكتمني ، قال : والله لا أكتمك شيئاً
أعلمه قال : ما أخوف شيء تخوفه على أمة محمد ؟ قال أئمة مضلين . قال عمر :
صدقت قد أسرَّ ذلك اليَّ وأعلمنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم . ورواه الهيثمي في
مجمع الزوائد ج 5 ص 239 وقال : رجاله ثقات .
ـ وقال السيوطي في الدر المنثور ج 4 ص 57

عن الحسن البصري أن عمر قال لكعب : ما عدن ؟ قال : هو قصر في الجنة لا
يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حاكم عدل .
ـ وقال في ج 5 ص 347

عن قتادة قال : إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : يا كعب ما عدن ؟ قال : قصور من
ذهب في الجنة يسكنها النبيون والصديقون وأئمة العدل .
ـ وقال في كنز العمال ج 12 ص 560

عن الحسن قال : قال عمر بن الخطاب : حدثني يا كعب عن جنات عدن . قال :
نعم يا أمير المؤمنين قصور في الجنة لا يسكنها إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم
عدل ، فقال عمر : أما النبوة فقد مضت لاَهلها ، وأما الصديقون فقد صدقت الله
ورسوله ، وأما الحكم العدل فإني أرجو الله أن لا أحكم بشيء إلا لم آل فيه عدلاً ، وأما
الشهادة فأ نَّى لعمر بالشهادة ؟ ! ـ ابن المبارك وأبو ذر الهروي في الجامع .
ـ وقال السيوطي في الدر المنثور ج 4 ص 57

وأخرج عبد بن حميد عن الحسن رضي الله عنه أن عمر قال لكعب : ما عدن ؟ قال : هو
قصر في الجنة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حاكم عدل .

وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه قال :
( 214 )
قرأ عمر رضي الله عنه على المنبر جنات عدن ، فقال : أيها الناس هل تدرون ما جنات عدن ؟
قصر في الجنة له عشرة آلاف باب ، على كل باب خمسة وعشرون ألفاً من الحور
العين ، لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد !!.
ـ وقال في الدر المنثور ج 5 ص 347

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة رضي الله عنه . . . في قوله : وأدخلهم جنات
عدن قال إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : يا كعب ما عدن ؟ قال : قصور من ذهب في
الجنة يسكنها النبيون والصديقون وأئمة العدل .
ـ معجم ما استعجم ج 2 ص 74

الحثمة : بفتح أوله وإسكان ثانية : صخرات بأسفل مكة بها ربع عمر بن الخطاب .
روى عنه مجاهد أنه قرأ على المنبر : جنات عدن فقال : أيها الناس أتدرون ما جنات
عدن ؟ قصر في الجنة له خمسة آلاف باب على كل باب خمسة وعشرون ألفاً من
الحور العين لا يدخله إلا نبي ، وهنيئاً لصاحب القبر وأشار إلى النبي صلى الله عليه
وسلم ، أو صديق وهنيئاً لأبي بكر وأشار إلى قبره ، أو شهيد وأنى لعمر بالشهادة وإن
الذي أخرجني من منزلي بالحثمة قادر أن يسوقها إلي !! انتهى .

وفي هذه الرواية دلالة على أن كعباً استطاع أن يقنع عمر أن مقصوده بالنبي
والصديق والشهيد الذين يسكنون عدن : رسول الله صلى الله عليه وآله وأبا بكر وعمر ، وأن كعباً كان
من المخططين لقتله !
ـ وقال في الدر المنثور ج 5 ص 306

قوله تعالى : يا داود إنا جعلناك خليفة في الاَرض الآية . أخرج الثعلبي من طريق
العوام بن حوشب قال حدثني رجل من قومي شهد عمر رضي الله عنه أنه سأل طلحة والزبير
وكعباً وسلمان : ماالخليفة من الملك ؟ قال طلحة والزبير : ما ندري ، فقال
سلمان رضي الله عنه : الخليفة الذي يعدل في الرعية ، ويقسم بينهم بالسوية ، ويشفق عليهم
( 215 )
شفقة الرجل على أهله ويقضي بكتاب الله تعالى . فقال كعب : ما كنت أحسب أحداً
يعرف الخليفة من الملك غيري !
ـ وفي كنز العمال ج 12 ص 569

عن طبقات ابن سعد : عن سفيان بن أبي العوجاء قال : قال عمر بن الخطاب :
والله ما أدري أخليفة أنا أم ملك ؟ فإن كنت ملكاً فهذا أمر عظيم ، قال قائل يا أمير
المؤمنين إن بينهما فرقاً ، قال ما هو ؟ قال : الخليفة لا يأخذ إلا حقاً ولا يضعه إلا في
حق ، فأنت بحمد الله كذلك ، والملك يعسف الناس فيأخذ من هذا ويعطي هذا ،
فسكت عمر بن سعد .
ـ وقال في كنز العمال ج 12 ص 573

عن كعب أن عمر بن الخطاب قال : أنشدك بالله يا كعب أتجدني خليفة أم ملكاً ؟
قال بل خليفة ، فاستحلفه فقال كعب : خليفة والله من خير الخلفاء ، وزمانك خير
زمان ـ نعيم بن حماد في الفتن .
ـ الدر المنثور ج 4 ص 293

سأل عمر كعباً عن آيات أول سورة الحديد فقال : معناها إن علمه بالاَول كعلمه
بالآخر ، وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن ! انتهى .
*
*
ـ كنز العمال ج 2 ص 488

عن عمر قال : ذكر النبي صلى الله عليه وسلم : يوم القيامة فعظم شأنه وشدته ،
قال : ويقول الرحمن لداود عليه السلام : مرَّ بين يدي ، فيقول داود : يا رب أخاف أن
تدحضني خطيئتي ، فيقول : مرِّ خلفي ، فيقول : يا رب أخاف أن تدحضني خطيئتي
فيقول : خذ بقدمي ! فيأخذ بقدمه عز وجل فيمر !! قال فتلك الزلفى التي قال الله
( 216 )
تعالى : وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ! ورواه السيوطي في الدر المنثور ج 5 ص 305
عن ابن مردويه .
ـ الدر المنثور ج 5 ص 297

وأخرج الديلمي عن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ينبغي
لاَحد أن يقول إني أعبد من داود !!.
ـ الدر المنثور ج 5 ص 305

وأخرج عبد بن حميد ، عن السدي بن يحيى ، قال حدثني أبو حفص رجل قد
أدرك عمر بن الخطاب : إن الناس يصيبهم يوم القيامة عطش وحر شديد فينادي
المنادي داود فيسقى على رؤس العالمين ، فهو الذي ذكر الله : وإن له عندنا لزلفى
وحسن مآب ! انتهى .

ومن الواضح أن هذه الروايات عن داود عليه السلام من مقولات اليهود وكعب الاَحبار
ولكن الخليفة عمر يقبلها منه ، والرواة ينسبونها إلى نبينا صلى الله عليه وآله !!
ـ كنز العمال ج 14 ص 146

عن سعيد بن المسيب قال : استأذن رجل عمر بن الخطاب في إتيان بيت
المقدس فقال له : إذهب فتجهز فإذا تجهزت فأعلمني فلما تجهز جاءه فقال له عمر :
إجعلها عمرة !
*
*
ـ مجمع الزوائد ج 9 ص 67

عن عمر بن ربيعة أن عمر بن الخطاب أرسل إلى كعب الاَحبار فقال : يا كعب
كيف تجد نعتي ؟ قال : أجد نعتك قرن من حديد . قال : وما قرن من حديد ؟ قال :
أمير شديد لا تأخذه في الله لومة لائم . قال : ثم مه ؟ قال : ثم يكون من بعدك خليفة
تقتله فئة .
( 217 )
ـ تاريخ الطبري ج 1 ص 323

عن أشعث عن سالم النصرى قال : بينما عمر بن الخطاب يصلي ويهوديان خلفه،
وكان عمر إذا أراد أن يركع خوى ، فقال أحدهما لصاحبه : أهو هو ؟ قال فلما انفتل
عمر قال : أرأيت قول أحدكما لصاحبه أهو هو ؟ فقالا : إنا نجد في كتابنا قرناً من
حديد يعطى ما أعطي حزقيل الذى أحيا الموتى بإذن الله !!

فقال عمر : مانجد في كتابنا حزقيل ، ولا أحيا الموتى بإذن الله إلا عيسى بن
مريم! فقالا : أما تجد في كتاب الله : ورسلاً لم نقصصهم عليك ؟ فقال عمر : بلى ،
قالا : وأما إحياء الموتى فسنحدثك إن بني اسرائيل وقع فيهم الوباء ، فخرج منهم
قوم حتى إذا كانوا على رأس ميل أماتهم الله فبنوا عليهم حائطاً حتى إذا بليت
عظامهم بعث الله حزقيل فقام عليهم فقال : ما شاء الله ، فبعثهم الله له فأنزل الله في
ذلك : ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت . انتهى .

والأخوى : الذي لا يستطيع أن يركع أو يسجد بشكل طبيعي إلا بفتح قدميه
ونحوه . . والرواية تدل على اهتمام اليهود بإيمان عمر بثقافتهم ، ومحاولتهم التزلف
إليه بادعاء أن شخصيته مذكورة في كتبهم ، وأنه نبي يحيي الموتى مثل حزقيل !
ـ تاريخ المدينة لابن شبة ج 3 ص 110

لما قدم عمر رضي الله عنه من مكة في آخر حجة حجها أتاه كعب فقال : يا أمير المؤمنين
إعهد فإنك ميت في عامك ! قال عمر رضي الله عنه وما يدريك يا كعب ؟ قال : وجدته في
كتاب الله ! فقال : أنشدك الله يا كعب هل وجدتني باسمي ونسبي عمر بن الخطاب ؟
قال : اللهم لا ، ولكني وجدت صفتك وسيرتك وعملك وزمانك !
ـ ورواه في ج 3 ص 88 وزاد فيه : فلما أصبح الغد غدا عليه كعب فقال عمر رضي الله عنه : يا
كعب ، فقال كعب: بقيت ليلتان ، فلما أصبح الغد غدا عليه كعب ـ قال عبدالعزيز :
فأخبرني عاصم بن عمر بن عبيد الله بن عمر قال : قال عمر رضي الله عنه :
( 218 )
يواعدني كعب ثلاثاً يعدُّها * ولا شك أن القول ما قاله كعبُ
وما بي لقاء الموت إني لميتٌ * ولكنما في الذنب يتبعه الذنبُ

فلما طعن عمر رضي الله عنه دخل عليه كعب فقال : ألم أنهك ؟ !

قال : بلى ، ولكن كان أمر الله قدراً مقدورا !! انتهى .

ولا يتسع المجال للرد على أفكار كعب التي تضمنتها رواياته ، وقد أوردنا عدداً
منها في سبب نشأة التجسيم في المجلد الثاني .
والواقع أن كعب الاَحبار من أكبر المصائب في مصادر إخواننا السنيين ، حيث تجده
مقيماً فيها ، كامناً في المواقع الحساسة من أصول العقيدة والشريعة ! وهذا أمر
يحتاج الى معالجات جريئة من علمائهم !

ولكن لابد من الاِلفات هنا الى أن النصوص المتقدمة تدل بما لا يقبل الريب ،
على أن كعباً كان شريكاً في مؤامرة قتل عمر !

ولكن إخواننا السنيين ما زالوا يبرئون كعباً ويثقون به ، كما برَّأَ المسيحيون اليهود من
دم المسيح !

كما نشير الى أن كعباً أخطأ في تفسير أول سورة الحديد ، لاَنه فسر ( هو ) بعلمه !!
ولكن الخليفة عمر يقبل منه كل مايقوله ، بل يحدث به المسلمين على المنبر !
*
*