الفصـل الثـامن
شفاعات وحرمانات غير معقولة روتها مصادر السنيين

النوع الاَول : شفاعة اثنين لصاحب الجنازة
ليس من السهل أن نعترض على الاَحاديث التي تحكم على نوع من الناس باستحقاق الجنة أو النار . . لاَن الخير والشر في داخل الاِنسان عالمٌ معقد ، وما يظهر للعيان لا يجب أن يكون دائماً هو الحقيقة ! فرب عمل صغير نقوم به يكون في حساب الثواب والعقاب الاِلَهي كبيراً ، وبالعكس . . ورب ظرف يجعل العمل السيء حسناً وبالعكس !
وبسبب هذه السعة والتعقيد في أعمال الناس وظروفها ، لابد أن تكون أنظمة الجزاء عميقة واسعة حتى تستوعبها .
ولكنا مع ذلك نملك يقينيات من العقل والشرع تسمح لنا أحياناً بالحكم بإمكان هذا الجزاء الاِلَهي أو عدم إمكانه . . ومن هذه اليقينيات : لو أن شخصاً قاتلاً ظالماً جامعاً للصفات الشريرة ، توفي وحملوا جنازته ، فمر بها شخصان مسلمان فقالا :
( 220 )
رحمه الله كان مؤمناً تقياً ، لاَنهما جاهلان بحاله أو متعمدان ، فإن شهادتهما لا تغير شيئاً من قوانين المجازاة الاِلَهية !
لكن توجد ( أحاديث ) في مصادر السنيين تقول : إن مجرد شهادة اثنين بالخير لصاحب الجنازة تجعله من أهل الجنة ! كما أن شهادتهما له بالسوء تجعله من أهل النار !!
فكأن الشهادة على الجنازة في منطق هذه الاَحاديث وثيقة شرعية نهائية لا يقرأ الملائكة غيرها ، أو ختم نهائي لا يقبل الله تعالى غيره !!
لقد جاءنا هذا المنطق من الثقافة اليهودية ، ولكنه مهما كان مصدره ، ليس منطقاً إسلامياً ! لاَن معناه السماح للمجرمين بأن يفعلوا ما شاؤوا ويهلكواالحرث والنسل ، ثم يوصي أحدهم بأن يشهد على جنازته عشرة شهود كذباً وزوراً فيدخل الجنة !
والاَخطر من ذلك أن الاِنسان المؤمن الطيب الاَمين المستقيم مهما عمل من خير في حياته فإن عمله يتبخر بمجرد أن يرسل خصومه اثنين يشهدان على جنازته بأنه كان سيئاً ، فيدخلانه النار !
ولو كانت هذه المقولة توجد في مصادرهم من الدرجة الثانية لكان الاَمر أسهل ، ولكنها توجد في مصادر الدرجة الأولى مع الاَسف ، وعن لسان أقدس الشخصيات عندهم بعد النبي صلى الله عليه وآله الاَمر الذي يتطلب من فقهائهم جرأةً في معالجتها :

ـ روى البخاري في صحيحه ج 2 ص 100
عن أنس بن مالك قال : مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وجبت ، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً فقال : وجبت ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما وجبت ؟ قال : هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة ، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار ، أنتم شهداء الله في الاَرض .
ورواه في ج 3 ص 148 وفيه ( قال شهادة القوم المؤمنين شهداء الله في الاَرض ) .
ورواه مسلم في صحيحه ج 3 ص 53 وقد كرر فيه كلمة : وجبت وأنتم شهداء الله
( 221 )
ثلاث مرات .
ورواه النسائي ج 4 ص 50 ورواه الترمذي ج 2 ص 261 وقال ( وفي الباب عن عمر وكعب بن عجرة وأبي هريرة . قال أبو عيسى : حديث أنس حديث حسن صحيح ).
ورواه ابن ماجة في ج 1 ص 478 وفيه ( فقال : شهادة القوم والمؤمنون شهود الله في الاَرض ) . وفي هامشه ( ويوافقه حديث عمر رواه الترمذي والنسائي وإسناد ابن ماجة صحيح ورجاله رجال الصحيحين ) .
ورواه أبو داود في ج 2 ص 86 وفيه ( إن بعضكم على بعض شهداء ) .
ورواه أحمد في ج3 ص‌179 و ج2 ص261 وص498 وص528 وج2 ص466 وص470 وفيه (بعضكم شهداء على بعض ) وج3 ص186 وكرر فيه وجبت ثلاث مرات مثل مسلم .
وفي رواية أخرى (قال شهادة القوم والمؤمنون شهداء الله في الاَرض) وفي ج3 ص 197 وص 211 وص 245 وص 281
ورواه البيهقي في سننه ج4 ص75 وج 10 ص 123 وص 209

* *

ـ وقال البخاري في صحيحه ج 2 ص 100
عن أبي الاَسود قال : قدمت المدينة وقد وقع بها مرض فجلست إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فمرت بهم جنازة فأثنى على صاحبها خيراً فقال عمر رضي الله عنه : وجبت . ثم مر بأخرى فأثنى على صاحبها خيراً ، فقال عمر رضي الله عنه : وجبت . ثم مر بالثالثة فأثنى على صاحبها شراً ، فقال : وجبت . فقال أبو الاَسود فقلت : وما وجبت يا أمير المؤمنين ؟ قال : قلت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة ، فقلنا وثلاثة قال : وثلاثة . فقلنا واثنان قال : واثنان . ثم لم نسأله عن الواحد !
ـ ورواه البخاري أيضاً في ج 3 ص 149 والنسائي في ج 4 ص 51 وفيه :

( 222 )
( فقلت وما وجبت يا أمير المؤمنين ؟ قال : قلت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيما مسلم شهد له أربعة قالوا خيراً أدخله الله الجنة . قلنا : أو ثلاثة ؟ قال : أو ثلاثة . قلنا : أو اثنان ؟ قال : أو اثنان .
ورواه الترمذي في ج 2 ص 261 وقال ( قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح وأبو الاَسود الدؤلي اسمه ظالم بن عمر بن سفيان ) .
ورواه أحمد في ج 1 ص 21 وص 22 وص 27 وص 30 وص 45 وص 46 ، والبيهقي في سننه ج 10 ص 124

* *

إلى هنا تجد أن هذه المقولة بمقاييس إخواننا السنيين تامة السند والدلالة . . ولكن توجد مؤشرات تفتح باب البحث حولها :
المؤشر الاَول : أن الاِمام أحمد روى أن بعض الذين سمعوا الحديث من الخليفة عمر شككوا فيه لغرابته عن منطق النبي صلى الله عليه وآله وظنوا أنه رأيٌ من عمر لا من قول النبي صلى الله عليه وآله فأكد له عمر أنه النبي هو الذي قال ذلك !

ـ قال أحمد في ج 1 ص 54
حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا وكيع ثنا عمر بن الوليد الشني عن عبد الله بن بريدة قال : جلس عمر رضي الله عنه مجلساً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسه ، فمر عليه الجنائز ، قال فمروا بجنازة فأثنوا خيراً فقال : وجبت . ثم مروا بجنازة فأثنوا خيراً فقال : وجبت . ثم مروا بجنازة فقالوا خيراً فقال : وجبت . ثم مروا بجنازة فقالوا هذا كان أكذب الناس ، فقال : إن أكذب الناس أكذبهم على الله ، ثم الذين يلونهم من كذب على روحه في جسده ، قال قالوا : أرأيت إذا شهد أربعة ؟ قال : وجبت . قالوا : أو ثلاثة ؟ قال : وثلاثة ، قال وجبت . قالوا : واثنين ؟ قال : وجبت ، ولاَن أكون قلت واحد أحب إلي من حمر النعم . قال فقيل لعمر : هذا شيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لا ، بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه
( 223 )
وسلم . انتهى .
والرواية تدل على أن الخليفة تفرد بهذه الرواية من دون الصحابة الحاضرين في ذلك المجلس الرسمي الذي كان يجلسه رسول الله صلى الله عليه وآله وأنهم تعجبوا لاَنهم لم يسمعوا ذلك ، وتجرؤوا أن يسألوا عمر رغم سطوته ، فأكد لهم أنه سمع ذلك !
المؤشر الثاني : يشير إلى أن الحادثة قضية شخصية في جنازة أشخاص معينين في زمن النبي صلى الله عليه وآله وليست قاعدة كلية لكل جنازة . .
فقد روى الحاكم في ج 1 ص 377 : عن أنس قال كنت قاعداً مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمر بجنازة فقال : ما هذه الجنازة ؟ قالوا جنازة فلان الفلاني كان يحب الله ورسوله ويعمل بطاعة الله ويسعى فيها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : وجبت وجبت وجبت . ومر بجنازة أخرى قالوا جنازة فلان الفلاني كان يبغض الله ورسوله ويعمل بمعصية الله ويسعى فيها ، فقال : وجبت وجبت وجبت . فقالوا يا رسول الله قولك في الجنازة والثناء عليها ؟ أثني على الاَول خير وعلى الآخر شر فقلت فيها وجبت وجبت وجبت ؟ فقال : نعم يا أبا بكر إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر . هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذا اللفظ . انتهى .
فلو صح الحديث لكان معناه أن النبي صلى الله عليه وآله شهد ، بما عرفه الله تعالى ، بأن الملائكة نطقت على ألسنة أولئك المادحين والذامين . . وليس معناه أن الملائكة تنطق دائماً على ألسنة المسلمين .
المؤشر الثالث : يدل على أن الخصوصية للشاهد أو الشافع في الجنازة . . ففي مستدرك الحاكم ج 2 ص 268 : عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله في جنازة فينا في بني سلمة وأنا أمشي إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وآله فقال رجل : نعم المرء ما علمنا إن كان لعفيفاً مسلماً إن كان . . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أنت الذي تقول ؟ قال يا رسول الله ذاك بدا لنا والله أعلم بالسرائر . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : وجبت . قال وكنا معه في جنازة رجل من بني حارثة أو من بني عبد الاَشهل ، فقال
( 224 )
رجل : بئس المرء ما علمنا إن كان لفظاً غليظاً إن كان . . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أنت الذي تقول ؟ قال يا رسول الله الله أعلم بالسرائر فأما الذي بدا لنا منه فذاك . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : وجبت . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله : وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً . هذا حديث صحيح الاِسناد ولم يخرجاه ، إنما اتفقا على وجبت فقط . انتهى .
فقد أكد النبي صلى الله عليه وآله على شخص القائل الذي لم تسمه الرواية فقال له : أنت الذي تقول ذلك وتشهد بهذه الشهادة لهذا الميت ؟ فقال نعم إني أشهد حسب ظاهر طحاله. فقال النبي إن الجنة قد وجبت له بشهادة ذلك الرجل ، أو إن شهادته طابقت الواقع كما أوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وآله ، فيحتمل أن تكون القضية شخصية كما في الرواية السابقة، وإذا وجد الاِحتمال بطل الاِستدلال، ولم يبق يقين بأنها قاعدة عامة .
المؤشر الرابع : أنه توجد أحاديث معارضة تجعل دعاء مئة مسلم موحد أو أربعين بالشفاعة للميت موجباً للاَمل بأن الله تعالى يشفعهم فيه ويدخله الجنة . . وقد روت الصحاح رواية المئة ، ورواية الاَربعين ، وفي بعض رواياتها ثلاثة صفوف ، وأمة من الناس ، ونحوها . . الاَمر الذي يدل على أن وجود كثرة من المسلمين المؤمنين يصلون على جنازة الميت أو يدعون له ، أمر مفيد له ، وأن الله تعالى قد يستجيب دعاءهم . . ولكن ليس في هذه الاحاديث تلك الحتمية و ( الاَتوماتيكية ) التي في أحاديث ( وجبت وجبت ) المتقدمة !
ـ ففي صحيح مسلم ج 3 ص 52 عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له ، إلا شفعوا فيه . انتهى وفي رواية أخرى : أربعون . ورواه في سنن البيهقي ج 3 ص 180 ـ 181

ـ وفي سنن ابن ماجة ج 1 ص 477
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من صلى عليه مائة من
( 225 )
المسلمين غفر له . في الزوائد : قد جاء عن عائشة في الترمذي والنسائي مثله . وإسناده صحيح ورجاله رجال الصحيحين . انتهى . وما ذكره موجود في سنن الترمذي ج 2 ص 247 وفي سنن النسائي ج 4 ص 75 بصيغة مائة وأمة من الناس ) .

ـ وفي فردوس الاَخبار ج 4 ص 329 ح 6496
أنس وعائشة : ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغوا أن يكونوا مائة يشفعون له إلا شفعوا فيه .
ـ وفي ص 371 ح 6609 : أبو هريرة : ماصف قوم صفوفاً ثلاث على ميت فيستغفرون له إلا شفعوا .

ـ وروى ابن ماجة في سننه ج 1 ص 477
عن كريب مولى عبدالله بن عباس قال : هلك ابن لعبد الله بن عباس فقال لي : يا كريب قم فانظر هل اجتمع لابني أحد ؟ فقلت نعم . فقال ويحك كم تراهم أربعين ؟ قلت : لا ،بل هم أكثر . قال : فاخرجوا بابني فأشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما من أربعين من مؤمن يشفعون لمؤمن ، إلا شفعهم الله .

ـ وروى ذلك أحمد بشروط أشد قال في ج 1 ص 277
عن كريب مولى ابن عباس عن عبد الله بن عباس أنه مات ابن له بقديد أو بعسفان فقال : يا كريب أنظر ما اجتمع له من الناس ؟ قال فخرجت فإذا ناس قد اجتمعوا له فأخبرته ، قال يقول هم أربعون ؟ قال نعم ، قال أخرجوه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً ، إلا شفعهم الله فيه . ورواها الديلمي في فردوس الاَخبار ج 4 ص 318 ح 6469
المؤشر الخامس : يشير إلى احتمال اختلاط الحديث بغيره . .
ـ ففي مسند أحمد ج 3 ص 303 عن جابر قال : قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كن له ثلاث بنات يؤويهن ويرحمهن ويكفلهن ، وجبت له الجنة البتة . قال قيل يا
( 226 )
رسول الله فإن كانت اثنتين ؟ قال : وإن كانت اثنتين . قال فرأى بعض القوم أن لو قالوا له واحدة لقال واحدة . انتهى .

ـ وفي مسند أحمد ج 4 ص 212
عن الحرث بن أفيش قال : كنا عند أبي برزة ليلة فحدث ليلتئذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما من مسلمين يموت لهما أربعة أفراط ، إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته . قالوا يا رسول الله وثلاثة ؟ قال : وثلاثة . قالوا : واثنان ؟ قال : واثنان . انتهى .
فيحتمل أن يكون الاَمر اشتبه على الخليفة فجعل أجر ( وجبت الجنة ) لمن ربي ثلاث بنات أو اثنتين ـ جعله لمن شهد ثلاثة أو اثنان على جنازته ، لتشابه العدد فيهما ووحدة التعبير بـ ( وجبت )
ولا يرد الاِشكال على رواية تربية البنات تربية إسلامية كيف جعلت سبباً قطعياً لدخول الجنة ، لاَنها تجعل الجزاء للاَب أو الاَم على عمل يقومان به ، بينما رواية الشهادة للجنازة تجعل لصاحبها الجنة مجاناً مهما كان فاجراً بمجرد قول غيره !
كما تجعل له النار مجاناً بمجرد قول غيره ، مهما كان صالحاً !!
على أنه يمكن القول إن الله تعالى جعل ثواب تربية ثلاث بنات أو اثنتين الجنة ليعالج مشكلة في مجتمع كانوا يئدون بناتهم ، وإذا بشر أحدهم بالاَنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم . . وأن هذا الثواب قد يشمل في عصرنا الاَزواج الذين يئدون أطفالهم بطرق أخرى ، خوفاً من الفقر أو طلباً للراحة من الاَطفال .
وفي أحاديث أهل البيت عن الاِمام الصادق عليه السلام أن المسلمين قد سألوا النبي صلى الله عليه وآله عن تربية البنت الواحدة كما تقدم ، فقد روى في الكافي ج 6 ص 6 عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن الحكم ، عن عمر بن يزيد ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : من عالَ ثلاث بنات أو ثلاث أخوات
( 227 )
وجبت له الجنة . فقيل : يا رسول الله واثنتين ؟ فقال : واثنتين . فقيل : يا رسول الله وواحدة ؟ فقال : وواحدة . انتهى .

ـ وفي مسند أحمد ج 1 ص 223
عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من ولدت له ابنة فلم يئدها ولم يهنها ولم يؤثر ولده عليها يعني الذكر ، أدخله الله بها الجنة . انتهى .

والنتيجة : أن هذه المؤشرات تفتح باب البحث للشك في أحاديث ( وجبت وجبت ) للجنازة ، وتضغط عليها لتكون منسجمةً مع اليقينيات العقلية والشرعية غير ناقضة لها .
ومادام الباب مفتوحاً للتخلص من منطقها اليهودي ، فلا معنى للتشبث بها بحجة الدفاع عن البخاري وعن الخليفة عمر !!

رأي أهل البيت عليهم السلام في الشهادة للجنازة
لا أثر في أحاديث أهل البيت عليهم السلام لروايات ( وجبت ) ولا لمنطقها ! بل نجد الترغيب في الدعاء للميت والشفاعة به إلى الله تعالى ، والاَمل بأن يستجيب الله تعالى ويشمل هذا الميت برحمته . . كل ذلك على حسب قوانين الجزاء والشفاعة التي يعلمها عز وجل بأصولها وتفاصيلها وتطبيقاتها ، ولا نعرف نحن منها إلا القليل .

ـ روى الكليني في الكافي ج 3 ص 188
عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن الحسن بن محبوب ، عن عبد الله بن غالب ، عن ثابت أبي المقدام قال : كنت مع أبي جعفر ( الباقر ) عليه السلام فإذا بجنازة لقوم من جيرته فحضرها وكنت قريباً منه، فسمعته يقول : اللهم إنك أنت خلقت هذه النفوس وأنت تميتها وأنت تحييها ، وأنت أعلم بسرائرها وعلانيتها منا ومستقرها ومستودعها . اللهم وهذا عبدك ولا أعلم منه شراً وأنت أعلم به ، وقد جئناك شافعين لبعد موته فإن كان مستوجباً فشفعنا فيه واحشره مع من كان يتولاه . انتهى .
( 228 )
ونحوه في الكافي ج 3 ص 185 ، ورواه الشيخ في تهذيب الاَحكام ج 3 ص 196 ورواه الحر العاملي في وسائل الشيعة ج 2 ص 237
وينبغي الاِلتفات إلى عبارة ( فإن كان مستوجباً فشفعنا فيه ) فهي تدل على وجود قانون استحقاق الشفاعة وعدم استحقاقها . وعبارة ( واحشره مع من كان يتولاه ) التي تدل على قانون ( يوم ندعو كل أناس بإمامهم ) وهما قانونان مترابطان .
أما منطق ( وجبت ) فيقول لو كان الميت فاجراً مثل فرعون ومدح كنازته شخصان ، لوجب أن يصير من أهل الجنة ويحشر يوم القيامة إلى جنب الاَنبياء عليهم السلام !
ـ هذا ، وقد روى في الكافي رواية صحيحة طريفة تتضمن أضواء مهمة على قانون الشفاعة قال في ج 3 ص 187
علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حماد بن عثمان ، عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : إن كان مستضعفاً فقل : اللهم اغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ، وإذا كنت لا تدري ما حاله فقل : اللهم إن كان يحب الخير وأهله فاغفر له وارحمه وتجاوز عنه ، وإن كان المستضعف منك بسبيل فاستغفر له على وجه الشفاعة لا على وجه الولاية . انتهى .
وروى في نفس الصفحة عن الاِمام الصادق عليه السلام أيضاً قال : الترحم على جهتين : جهة الولاية وجهة الشفاعة . ورواه في وسائل الشيعة ج 2 ص 237
ففي هذا الرواية منطق دقيق في التعامل مع الميت والشهادة له . . إن كنت لا تدري ما حاله ، أو كان مستضعفاً فكرياً لا يعرف الحق من الباطل ، أو كان معانداً يعرف الحق وينكره . . أو كان ممن يبغض أهل البيت عليهم السلام وينصب العداوة لهم . . وادع له على نحو الولاية ووحدة الاِمام الذي ستدعى أنت وإياه به يوم القيامة ، أو على جهة الشفاعة لاَرحامك إن لم يكن عارفاً بحق أهل بيت نبيه . . إلى آخر النقاط المنسجمة مع اليقينيات العقلية والشرعية .

( 229 )
قد يقال : يوجد في روايات أهل البيت عليهم السلام شبيه لرواية ( وجبت )
ـ فقد روى الكليني في الكافي ج 3 ص 173 عن أبي علي الاَشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن ابن فضال ، عن علي بن عقبة ، عن ميسر قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: من تبع جنازة مسلم أعطي يوم القيامة أربع شفاعات ولم يقل شيئاً إلا وقال الملك : ولك مثل ذلك . انتهى .
ورواه الصدوق في من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 161 والشيخ في تهذيب الاَحكام ج 1 ص 455 والحر في وسائل الشيعة ج 2 ص 288 وقال : ورواه في المجالس عن محمد بن الحسن عن الصفار عن أحمد بن محمد عن الحسن بن علي بن فضال . ورواه الشيخ بإسناده عن أبي علي الاَشعري مثله . انتهى .
ولكن الفرق كبير بين رواية تعطي حق الشفاعة لشخص على عمل يقوم به ، وبين رواية تعطي الجنة أو النار مجاناً بكلمة يقولها شخص أو اثنان بعد موته !!
وقد وجدنا في مصادر إخواننا السنيين رواية شبيهة بما مصادرنا في الدعاء للميت في الصلاة على جنازته رواها أحمد في مسنده ج 2 ص 256 قال : سمعت أبا هريرة ومر عليه مروان فقال : بعض حديثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو حديثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ثم رجع ، فقلنا الآن يقع به قال : كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنائز ؟ قال سمعته يقول : أنت خلقتها وأنت رزقتها وأنت هديتها للاِسلام ، وأنت قبضت روحها تعلم وعلانيتها ، جئنا شفعاء فاغفر لها . انتهى .

* *

النوع الثاني : شفاعة النبي للظالمين من الاَمة

قال الله تعالى : والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقاً لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير . ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه
( 230 )
ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ، ذلك هو الفضل الكبير . جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير . وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور . الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب . فاطر ـ 31 ـ 35
اتفق الجميع على أن موضوع الآية : الذين اصطفاهم الله تعالى وأورثهم الكتاب بعد النبي صلى الله عليه وآله بقرينة أن السياق قبلها عن الكتاب الموحى إلى نبينا صلى الله عليه وآله .
واتفقوا على أن الاَقسام الثلاثة للذين اصطفاهم هم من أهل الجنة بدليل السياق حيث انتقل الكلام بعد المصطفين إلى الكافرين .
والذي يتصل بموضوعنا من ذلك تعيين هؤلاء المصطفين ورثة الكتاب الاِلَهي . . فقد ذهب السنيون إلى أنهم جميع المسلمين ، وأنهم جميعاً في الجنة إما بالاِستحقاق أو بالشفاعة .
ومذهبنا أن هؤلاء المصطفين ورثة الكتاب هم ذرية النبي صلى الله عليه وآله من ابنته فاطمة عليها السلام وأن السابقين بالخيرات منهم هم الاَئمة المعصومون عليهم السلام والمقتصدين أتباعهم ، والظالمين لاَنفسهم مخالفوهم . . وفيما يلي تفصيل هذه الآراء :

قال كعب الاَحبار هم جميع المسلمين وهم في الجنة

الظاهر أن أقدم القائلين بهذا الرأي كعب الاَحبار وأنه اعتمد على استنتاجه الشخصي وليس على رواية عن النبي صلى الله عليه وآله فقد قال السيوطي في الدر المنثور ج 5 ص252 : وأخرج عبد بن حميد عن صالح أبي الخليل قال قال كعب : يلومني أحبار بني اسرائيل أني دخلت في أمة فرقهم الله ثم جمعهم ثم أدخلهم الجنة ! ثم تلا هذه الآية: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ، حتى بلغ جنات عدن يدخلونها قال قال : فأدخلهم الله الجنة جميعاً .
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عبد الله بن
( 231 )
الحارث أن ابن عباس سأل كعباً عن قوله : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا . . الآية ، قال : نجوا كلهم . ثم قال : تحاكت مناكبهم ورب الكعبة ثم أعطوا الفضل بأعمالهم .

ـ وفي تفسير الطبري ج 22 ص 88 ، عن كعب :
إن الظالم لنفسه من هذه الاَمة والمقتصد والسابق بالخيرات كلهم في الجنة ، ألم تر أن الله قال : ثم أورثنا الكتاب الذي اصطفينا . . .الخ . وروى أيضاً بعض ما تقدم في الدر المنثور .

وقال الخولاني إنه قرأ ذلك في كتب اليهود

ـ قال السيوطي في الدر المنثور ج 5 ص 252
وأخرج عبد بن حميد عن أبي مسلم الخولاني قال : قرأت في كتاب الله أن هذه الاَمة تصنف يوم القيامة على ثلاثة أصناف : صنف منهم يدخلون الجنة بغير حساب، وصنف يحاسبهم الله حساباً يسيراً ويدخلون الجنة ، وصنف يوقفون ويؤخذ منهم ما شاء الله ، ثم يدركهم عفو الله وتجاوزه .

عائشة وعثمان يوافقان كعباً على تفسيره

ـ روى الحاكم أن عائشة وافقت كعباً على تفسيره قال في المستدرك ج 2 ص 426
عقبة بن صهبان الحراني قال : قلت لعائشة رضي الله عنها : يا أم المؤمنين أرأيت قول الله عز وجل : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير ؟ فقالت عائشة رضي الله عنها : أما السبَّاق فمن مضى في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله فشهد له بالحياة والرزق . وأما المقتصد فمن اتبع آثارهم فعمل بأعمالهم حتى يلحق بهم . وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك ومن اتبعنا ، وكل في الجنة !! صحيح الاِسناد ولم يخرجاه . انتهى . ورواه في مجمع الزوائد ج 7 ص 96 . وقال عنه السيوطي في الدر المنثور ج 5
( 232 )
ص251 : وأخرج الطيالسي وعبد ابن حميد وابن أبي حاتم والطبراني في الاَوسط والحاكم وابن مردويه عن عقبة بن صهبان قلت لعائشة . . .الخ.
ـ وروى السيوطي في الدر المنثور أن الخليفة عثمان أيضاً وافق كعباً على تفسيره قال في ج 5 ص 252 :
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبى شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عثمان بن عفان أنه نزع بهذه الآية قال : إن سابقنا أهل جهاد ، ألا وإن مقتصدنا ناج أهل حضرنا ، ألا وإن ظالمنا أهل بدونا . انتهى . ورواه في كنز العمال ج 2 ص 485
وواضح من الروايتين أن عائشة وعثمان اعتمدا على كعب الاَحبار ، أو على فهمهما للآيات ، ولم يذكرا رواية عن النبي صلى الله عليه وآله .

الحسن البصري يرد تفسير كعب الاَحبار

ـ قال السيوطي في الدر المنثور ج 5 ص 252
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي عن كعب الاَحبار أنه تلا هذه الآية : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ، إلى قوله لغوب ، قال : دخلوها ورب الكعبة . وفي لفظ قال : كلهم في الجنة ، ألا ترى على أثره والذين كفروا لهم نار جهنم ، فهؤلاء أهل النار . فذكر ذلك للحسن فقال : أبت ذلك عليهم الواقعة !. وأخرج عبد بن حميد عن كعب في قوله : جنات عدن يدخلونها قال : دخلوها ورب الكعبة ، فأخبر الحسن بذلك فقال : أبت والله ذلك عليهم الواقعة . انتهى .
ويقصد الحسن البصري بذلك أن التقسيم الثلاثي للناس الذي ورد في سورة الواقعة يردُّ تفسير كعب وهو قوله تعالى : وكنتم أزواجاً ثلاثة . فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة . وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة . والسابقون السابقون . أولئك المقربون . الواقعة 7 ـ 11
وكلام البصري قوي لاَن الخطاب عنده في الآية للمسلمين ، ولو كان المقصود
( 233 )
بالمصطفيْن الذين أورثهم الله الكتاب كل المسلمين لكانوا جميعاً من أهل الجنة ، ولما بقي معنى لتقسيمات القرآن لهم في سورة الواقعة إلى أصحاب يمين وشمال وسابقين . فهذا التقسيم يدل على أن من المسلمين من يدخل النار .
وإن ناقشنا في استدلال الحسن البصري ، فتدل على رأيه الاَحاديث والاَدلة المتقدمة في الرد على مذاهب توسيع الشفاعة !

الخليفة عمر يميل إلى تفسير كعب

ـ روى السيوطي في الدر المنثور عن الخليفة عمر أنه خالف تفسير كعب الاَحبار ، وأن رأيه كان كما قال الحسن البصري . . قال في ج 5 ص 252 :
وأخرج ابن مردويه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله فمنهم ظالم لنفسه قال : الكافر . انتهى .
ويحتمل أن تكون هذه الرواية تفسيراً للآية 32 من سورة لقمان وهي قوله تعالى : وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور . ولكنها على أي حال تنطبق على موضوعنا لاَنها تفسر معنى ( الظالم لنفسه ) .
ولكن من البعيد أن تصح هذه الرواية ، لاَنه ورد عن عمر أنه كان يردد تفسير كعب، إلا أن نقول إنه كان يفسرها بذلك قبل أن يسمع تفسيرها من كعب !

ـ قال السيوطي في الدر المنثور ج 5 ص 252
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي في البعث عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا نزع بهذه الآية قال : ألا إن سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له . انتهى . (والشوكاني في فتح القدير ج 4 ص 441 ، ورواه في كنز العمال ج 2 ص 485
وقال في هامشه : نزع بهذه الآية ... ومنه الحديث : لقد نزعت بمثل ما في التوراة،
( 234 )
أي : جئت بما يشبهها اهـ . قلت : فكأن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يأتي برأيه بما يشبه ظاهر الآية ، ولا عجب فقد نزلت آيات توافق رأيه . انتهى .
غير أن معنى نزع بالآية : شرع فيها فقرأها أو فسرها ، لا أنه أتى بشبيهها ، كما زعم مهمش كنز العمال ، وأين الشبيه الذي أتى به عمر !
وغرضنا هنا تفسير عمر للآية بأن الظالم مغفور له ، وهو مؤشرٌ على أنه قبل تفسير كعب بأن المقصود بالآية كل المسلمين .
وتوجد رواية نقلها السيوطي قد يفهم منها أن عمر روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله

ـ قال في الدر المنثور ج 5 ص 252 :
وأخرج العقيلي وابن هلال وابن مردويه والبيهقي من وجه آخر عن عمر بن الخطاب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له ، وقرأ عمر : فمنهم ظالم لنفسه الآية. انتهى .
وروى السيوطي نحوها عن أنس ، ورواها في كنز العمال ج 2 ص 10 وفي ص 485 عن عمر وأضاف إلى رواتها : الديلمي في الفردوس والبيهقي في البعث والنشور . انتهى .
ولكن عمر لم يصرح فيها بأن النبي صلى الله عليه وآله كان يقصد كل الاَمة ، فقد يكون صلى الله عليه وآله قصد بقوله : سابقنا ومقتصدنا وظالمنا ، ذريته وأهل بيته الذين أورثهم الله الكتاب كما أورثه آل ابراهيم وآل عمران ، من نوع قوله صلى الله عليه وآله : المهدي منا ، بنا فتح الله وبنا يختم ، وشهيدنا خير الشهداء . .الخ . وهو في كلامه كثير صلى الله عليه وآله .
وعلى هذا الاِحتمال يبطل الاِستدلال بأن المقصود بورثة الكتاب كل الاَمة ، لاَنه يحتمل أن يكونوا بعضها. . خاصة بعد أن نصت أن بعض الاَحاديث على أنهم بعض الاَمة وليس كلها :

ـ قال السيوطي في الدر المنثور ج 5 ص 251 :
وأخرج الطبراني والبيهقي في البعث عن أسامة بن زيد رضي الله عنه : فمنهم ظالم لنفسه
( 235 )
ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلهم من هذه الاَمة ، وكلهم في الجنة . انتهى . ونقله في كنز العمال ج 2 ص 486
ويؤيد ذلك ما رواه الهيثمي في مجمع الزوائد ج 7 ص 96 عن أسامة بن زيد قال : فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ، الآية ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : كلهم من هذه الاَمة . رواه الطبراني وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو سيء الحفظ . انتهى .
وتعبير كلهم من الاَمة يدل على أنهم ليسوا كل الاَمة ، ويكون هذا الحديث من ابن أبي ليلى السيء الحفظ على حد تعبير الهيثمي معقولاً أكثر من كلام غيره !

* *

إلى هنا يبدو أنه لا مشكلة في تفسير ورثة الكتاب ببعض الاَمة وهم ذرية النبي صلى الله عليه وآله . . وأن هؤلاء الذرية كلهم مقبولون بشرط أن لا يدعوا الناس إلى أنفسهم كما سيأتي، وأن الذين يمثلون خط جدهم هم السابقون منهم صلى الله عليه وعليهم.
لكن تبقى مجموعة روايات في مصادر السنيين تؤكد على تفسير كعب وتنسبه إلى النبي صلى الله عليه وآله ! لكنها تصطدم بسورة الواقعة على حد قول الحسن البصري ، كما تصطدم بحكم العقل والاَدلة المتقدمة التي لا تسمح بالقول إن كل مسلم في الجنة !!
وأول سؤال عن هذه الروايات : أين كانت عندما فسر كعب وعائشة وعثمان وعمر آيات ورثة الكتاب الاِلَهي ، وكانت موضوعاً مهما يطرحه كعب الاَحبار مع اليهود ، ويطرحه الخليفة عمر في مجلسه أو على منبر الجمعة ؟ !
إن عدم احتجاج أحد بها ، يوجب الشك في سندها ، أو القول بأن النبي صلى الله عليه وآله كان يتحدث عن اصطفاء الله تعالى لذريته من أولاد فاطمة وورثة خطه في الاَمة عليهم السلام وقال كلهم من هذه الاَمة ، فرواها الراوي ( كل هذه الاَمة ) ويوجد لذلك نظائر ! فكم من ميزة للعترة الطاهرة جعلت بسبب بساطة الرواة ، لكل الاَمة !

( 236 )
ومما يؤيد ذلك وجود روايات مترددة في جعل هؤلاء المصطفين مجموع الاَمة ..
ـ كالذي رواه أحمد ج 3 ص 78 : عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ، قال : هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة ، وكلهم في الجنة !ورواه الترمذي في ج 5 ص 41 وقال ( هذا حديث غريب حسن ) ورواه في الدر المنثور ج 5 ص251 عن الطيالسي وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري . . . انتهى .
ـ وقريب منه ما رواه الهيثمي في مجمع الزوائد ج 10 ص 378 والطبراني كما في الدر المنثور ج 5 ص 252 عن ابن عباس ، وكذا شهادة البراء بن عازب التي نقلها الهيثمي عن سعيد بن منصور ، والبيهقي في البعث وجاء فيها ( أشهد على الله أنه يدخلهم الجنة جميعاً ) .
فكل هذه الروايات تنص على أنهم من أهل الجنة ، وأنهم من هذه الاَمة لا كلها . . الاَمر الذي يوجب الشك في تعبير أنهم : كل الاَمة !
هذا ، وقد ارتكب الحاكم خطأً في ميله إلى تصحيح حديث نسبوه إلى أبي الدرداء في تفسير الآية يقول إن الظالمين من المسلمين يحاسبون حساباً يسيراً ثم يدخلون الجنة بالشفاعة !

ـ قال في المستدرك ج 2 ص 426 :
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في قوله عز وجل : فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ، قال : السابق والمقتصد يدخلان الجنة بغير حساب ، والظالم لنفسه يحاسب حساباً يسيراً ثم يدخل الجنة . ثم قال الحاكم : وقد اختلفت الروايات عن الاَعمش في إسناد هذا الحديث فروي عن الثوري ، عن الاَعمش ، عن أبي ثابت ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، وقيل عن شعبة ، عن
( 237 )
الاَعمش ، عن رجل من ثقيف ، عن أبي الدرداء . وقيل ، عن الثوري أيضاً ، عن الاَعمش قال : ذكر أبو ثابت ، عن أبي الدرداء. وإذا كثرت الروايات في الحديث ظهر أن للحديث أصلاً . انتهى .
وحسب ماذكره السيوطي فقد ارتكب البيهقي نفس الخطأ أيضاً قال في الدر المنثور ج 5 ص 251 : وأخرج الفريابي وأحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن أبي الدرداء . . . ثم قال السيوطي : قال البيهقي : إن كثرت الروايات في حديث ظهر أن للحديث أصلاً .
والخطأ هو تطبيق قاعدة أن (كثرة الروايات في إسناد حديث تدل على أن له أصلاً ) على هذا الحديث الذي نسب بثلاث نسب إلى أبي الدرداء كلها بلفظ قيل ، وإحداها عن رجل من ثقيف عن أبي الدرداء ، أو رجل لم يسم ! فهذا ليست كثرة إسناد ، بل كثرة تردد في الاِسناد وعدم قطع به ، وكثرة الاِحتمالات من هذا النوع ككثرة أسماء السنور لا تزيد في قيمته !
وقد كان الهيثمي أدق من الحاكم عندما علق صحة الحديث على احتمال أن يكون الرجل المجهول ابن عمير فقال في مجمع الزوائد ج 7 ص 96 : رواه الطبراني عن الاَعمش عن رجل سماه ، فإن كان هو ثابت بن عمير الاَنصاري كما تقدم عند أحمد فرجال الطبراني رجال الصحيح . انتهى .
وقصده بما تقدم ماذكره في نفس المجلد ص 95 حيث قال ( رواه أحمد بأسانيد رجال أحدها رجال الصحيح ، وهي هذه إن كان علي بن عبد الله الاَزدي سمع من أبي الدرداء فإنه تابعي ) انتهى .
فأين كثرة الاَسانيد إلى أبي الدرداء ! بل أين السند الواحد القطعي !
وأخيراً ، نلاحظ في بعض روايات تفسير الآية بكل الاَمة ضعفاً لا يتفق مع بلاغة الحديث النبوي وقوة منطقه ، كحديث عوف بن مالك الذي سيأتي في نظرية الفداء المزعومة من النار .

( 238 )
قال أهل البيت عليهم السلام لا يمكن أن تشمل الآية كل الاَمة

ـ الاِعتقادات للصدوق ص 87
وسئل الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ، قال : الظالم لنفسه هنا من لم يعرف حق الاِمام ، والمقتصد من عرف حقه ، والسابق بالخيرات بإذن الله هو الاِمام .
وسأل إسماعيل أباه الصادق عليه السلام قال : ما حال المذنبين منا ؟ فقال عليه السلام : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ، من يعمل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيرا .

ـ الاِحتجاج ج 2 ص 138
وعن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن هذه الآية : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ؟ قال : أي شيء تقول ؟ قلت : إني أقول إنها خاصة لولد فاطمة . فقال عليه السلام : أما من سل سيفه ودعا الناس إلى نفسه إلى الضلال من ولد فاطمة وغيرهم فليس بداخل في الآية ، قلت : من يدخل فيها ؟ قال : الظالم لنفسه الذي لا يدعو الناس إلى ضلال ولا هدى ، والمقتصد منا أهل البيت هو العارف حق الاِمام ، والسابق بالخيرات هو الاِمام .

ـ بصائر الدرجات ص 44
حدثنا أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد ، عن يحيى الحلبي ، عن ابن مسكان ، عن ميسر ، عن سورة بن كليب ، عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال في هذه الآية : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا . . الآية ، قال : السابق بالخيرات الاِمام فهي في ولد علي وفاطمة عليهم السلام .

ـ شرح الاَخبار ج 2 ص 505
حماد بن عيسى بإسناده ، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام أنه سئل عن قول
( 239 )
الله عز وجل : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ، ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات . قال : فينا أنزلت أورث الله عز وجل الكتاب الاَئمة منا ، وقوله : فمنهم ظالم لنفسه يعني منهم من لا يعرف إمام زمانه ولا يأتم به فهو ظالم لنفسه بذلك ، وقوله : ومنهم مقتصد ، يعني من هو منهم في النسب ممن عرف إمام زمانه وائتم به واتبعه فاقتصد سبيل ربه بذلك ، والسابق بالخيرات هو الاِمام منا .

ـ شرح الاَخبار ج 3 ص 472
الرازي قال : قال أبو جعفر محمد بن علي عليه السلام : ما يقول من قبلكم في هذه الآية : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها . . .؟ قال قلت يقولون : نزلت في أهل القبلة . قال : كلهم ؟ ! قلت كلهم . قال فينبغي أن يكونوا قد غفر لهم كلهم ؟ ! قلت : يابن رسول الله فيمن نزلت ؟ قال : فينا . قلت : فما لشيعتكم ؟ قال : لمن اتقى وأصلح منهم الجنة ، بنا يغفر الله ذنوبهم ، وبنا يقضي ديونهم ، ونحن باب حطتهم كحطة بني إسرائيل .

ـ الثاقب في المناقب ص 566
وعنه قال : كنت عند أبي محمد عليه السلام فسألته عن قول الله تعالى : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ؟ فقال عليه السلام : كلهم من آل محمد عليهم السلام الظالم لنفسه الذي لا يقر بالاِمام ، والمقتصد العارف بالاِمام والسابق بالخيرات بإذن الله : الاِمام .

ـ البحار ج 23 ص 218
روى السيد ابن طاووس في كتاب سعد السعود من تفسير محمد بن العباس بن مروان قال : حدثنا علي بن عبدالله بن أسد ، عن إبراهيم بن محمد ، عن عثمان بن سعيد ، عن إسحاق بن يزيد الفراء ، عن غالب الهمداني ، عن أبي إسحاق السبيعي قال : خرجت حاجاً فلقيت محمد بن علي فسألته عن هذه الآية : ثم أورثنا الكتاب . .
( 240 )
الآية ؟ فقال : ما يقول فيها قومك يا أبا إسحاق ؟ يعني أهل الكوفة ، قال : قلت يقولون إنها لهم ، قال : فما يخوفهم إذا كانوا من أهل الجنة ؟ ! قلت : فما تقول أنت جعلت فداك ؟ فقال : هي لنا خاصة يا أبا إسحاق ، أما السابق بالخيرات فعلي بن أبي طالب والحسن والحسين والشهيد منا أهل البيت ، وأما المقتصد فصائم بالنهار وقائم بالليل ، وأما الظالم لنفسه ففيه ما جاء في التائبين وهو مغفور له .
يا أبا إسحاق بنا يفك الله عيوبكم ، وبنا يحل الله رباق الذل من أعناقكم ، وبنا يغفر الله ذنوبكم ، وبنا يفتح الله وبنا يختم لا بكم ، ونحن كهفكم كأصحاب الكهف ، ونحن سفينتكم كسفينة نوح ، ونحن باب حطتكم كباب حطة بني إسرائيل .

ـ وقال ابن شعبة الحراني في تحف العقول ص 425
لما حضر علي بن موسى عليهما السلام مجلس المأمون وقد اجتمع فيه جماعة علماء أهل العراق وخراسان . فقال المأمون : أخبروني عن معنى هذه الآية : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا . . الآية ؟
فقالت العلماء : أراد الله الاَمة كلها .
فقال المأمون : ما تقول يا أبا الحسن ؟
فقال الرضا عليه السلام : لا أقول كما قالوا ولكن أقول : أراد الله تبارك وتعالى بذلك العترة الطاهرة عليهم السلام .
فقال المأمون : وكيف عنى العترة دون الاَمة ؟
فقال الرضا لنفسه : ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير . ثم جعلهم كلهم في الجنة فقال عز وجل : جنات عدن يدخلونها ، فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم . ثم قال الرضا عليه السلام : هم الذين وصفهم الله في كتابه فقال : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ، وهم الذين قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، يا أيها الناس لا تعلموهم
( 241 )
فإنهم أعلم منكم .
قالت العلماء : أخبرنا يا أبا الحسن عن العترة هم الآل أو غير الآل ؟
فقال الرضا عليه السلام : هم الآل .
فقالت العلماء : فهذا رسول الله يؤثر عنه أنه قال : أمتي آلي ، وهؤلاء أصحابه يقولون بالخبر المستفيض (!!) الذي لا يمكن دفعه : آل محمد أمته !
فقال الرضا عليه السلام : أخبروني هل تحرم الصدقة على آل محمد ؟
قالوا : نعم .
قال عليه السلام : فتحرم على الاَمة ؟
قالوا : لا .
قال عليه السلام : هذا فرق بين الآل وبين الاَمة ، ويحكم أين يذهب بكم أصرفتم عن الذكر صفحاً أم أنتم قوم مسرفون ، أما علمتم أنما وقعت الرواية في الظاهر على المصطفين المهتدين دون سائرهم !
قالوا : من أين قلت يا أبا الحسن ؟
قال عليه السلام : من قول الله : لقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ، فصارت وراثة النبوة والكتاب في المهتدين دون الفاسقين . أما علمتم أن نوحاً سأل ربه فقال : رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق ، وذلك أن الله وعده أن ينجيه وأهله ، فقال له ربه تبارك وتعالى : إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين .
فقال المأمون : فهل فضل الله العترة على سائر الناس ؟
فقال الرضا عليه السلام : إن الله العزيز الجبار فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابهُ.
قال المأمون : أين ذلك من كتاب الله ؟
قال الرضا عليه السلام : في قوله تعالى إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران
( 242 )
على العالمين ذرية بعضها من بعض ، وقال الله في موضع آخر : أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً ، ثم رد المخاطبة في أثر هذا إلى سائر المؤمنين فقال : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الاَمر منكم يعني الذين أورثهم الكتاب والحكمة وحسدوا عليهما بقوله : أم يحسدون الناس على ما آتيهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً ، يعني الطاعة للمصطفين الطاهرين ، والملك هاهنا الطاعة لهم .
قالت العلماء : هل فسر الله تعالى الاِصطفاء في الكتاب ؟
فقال الرضا عليه السلام : فسر الاِصطفاء في الظاهر سوى الباطن في اثني عشر موضعاً . فأول ذلك قول الله : وأنذر عشيرتك الاَقربين ، وهذه منزلة رفيعة وفضل عظيم وشرف عال حين عنى الله عز وجل بذلك الآل فهذه واحدة .
والآية الثانية في الاِصطفاء قول الله : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ، وهذا الفضل الذي لا يجحده معاند ، لاَنه فضل بين .
والآية الثالثة ، حين ميز الله الطاهرين من خلقه أمر نبيه في آية الاِبتهال فقال : قل يا محمد تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ، فأبرز النبي صلى الله عليه وآله علياً والحسن والحسين وفاطمة عليهم السلام فقرن أنفسهم بنفسه . فهل تدرون ما معنى قوله : وأنفسنا وأنفسكم ؟
قالت العلماء : عنى به نفسه .
قال أبو الحسن عليه السلام : غلطتم ، إنما عنى به علياً عليه السلام ، ومما يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله حين قال : لينتهين بنو وليعة أو لاَبعثن إليهم رجلاً كنفسي ، يعني علياً عليه السلام . فهذه خصوصية لا يتقدمها أحد ، وفضل لا يختلف فيه بشر ، وشرف لا يسبقه إليه خلق ، إذ جعل نفس علي عليه السلام كنفسه ، فهذه الثالثة .
وأما الرابعة : فإخراجه الناس من مسجده ما خلا العترة ، حين تكلم الناس في
( 243 )
ذلك وتكلم العباس فقال : يارسول الله تركت علياً وأخرجتنا ! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : ما أنا تركته وأخرجتكم ، ولكن الله تركه وأخرجكم . وفي هذا بيان قوله لعلي عليه السلام : أنت مني بمنزلة هارون من موسى .
قالت العلماء : فأين هذا من القرآن ؟
قال أبوالحسن عليه السلام : أوجدكم في ذلك قرآناً أقرؤه عليكم .
قالوا : هات .
قال عليه السلام : قول الله عز وجل : وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة ، ففي هذه الآية منزلة هارون من موسى ، وفيها أيضاً منزلة علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله . ومع هذا دليل ظاهر في قول رسول الله صلى الله عليه وآله حين قال : إن هذا المسجد لا يحل لجنب ولا لحائض إلا لمحمد وآل محمد صلى الله عليه وآله
فقالت العلماء : هذا الشرح وهذا البيان لا يوجد إلا عندكم معشر أهل بيت رسول الله !
قال أبو الحسن عليه السلام : ومن ينكر لنا ذلك ؟ ! ورسول الله صلى الله عليه وآله يقول : أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد مدينة العلم فليأتها من بابها ، ففيما أوضحنا وشرحنا من الفضل والشرف والتقدمة والاِصطفاء والطهارة ما لا ينكره إلا معاند ، ولله عز وجل الحمد على ذلك . فهذه الرابعة .
وأما الخامسة ، فقول الله عزوجل : وآت ذا القربى حقه ، خصوصية خصهم الله العزيز الجبار بها ، واصطفاهم على الاَمة ، فلما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله قال : أدعوا لي فاطمة فدعوها له فقال : يا فاطمة ، قالت : لبيك يا رسول الله ، فقال : إن فدكاً لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، وهي لي خاصة دون المسلمين . وقد جعلتها لك لما أمرني الله به فخذيها لك ولولدك ، فهذه الخامسة .
وأما السادسة : فقول الله عز وجل : قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى فهذه خصوصية للنبي صلى الله عليه وآله دون الاَنبياء ، وخصوصية للآل دون غيرهم . وذلك أن الله
( 244 )
حكى عن الاَنبياء في ذكر نوح عليه السلام : يا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوماً تجهلون ، وحكى عن هود عليه السلام قال : لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ، وقال لنبيه صلى الله عليه وآله : قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى .
ولم يفرض الله مودتهم إلا وقد علم أنهم لا يرتدون عن الدين أبداً ولا يرجعون إلى ضلالة أبداً . . . إلى آخر الحديث .
ورواه في بشارة المصطفى ص 228 وفي بحار الاَنوار ج 25 ص 220

* *