الفصل العاشر
ولادة المذاهب المنحرفة من أفكار توسيع الشفاعة

عمل اليهود على إسقاط المحرمات من الاَديان
كان اليهود أسبق الاَمم إلى تحريف قانون العقوبة الاِلَهي ، فقد أسقطوا المحرمات عن أنفسهم تجاه الاَمم الاَخرى ، وخففوا قانون العقوبة الاِلَهي وشوشوه بالنسبة الى الجرائم الاَخرى التي يرتكبونها !
ومن الطبيعي أن يسرى ذلك إلى عقيدتهم بالله تعالى ، فصوروه بأنه قاسٍ عصبيُّ المزاج ، ولذا فإن عقوباته شديدة وغير منطقية ! وذلك واضح لمن قرأ صفحات قليلة من توراتهم .
وقد أخذ المسيحيون هذه الثقافة من اليهود ، وما زالوا. . وقد سمعت أن من المسائل الفكرية المطروحة أخيراً عند الكتاب الغربيين ، خاصةً في فرنسا ، موضوع: هل يجب أن يكون في الدين الاِلَهي محرماتٍ ، أم لا . .

( 342 )
ذلك أن اليهود والكتاب المتأثرين بهم يريدون من الكنيسة المسيحية أن تقدم ديناً بلا محرمات ، وتفتي بأن المهم هو الاِيمان الذي هو أمرٌ في القلب ، مهما كان عمل الناس !
وهذا بالضبط هو مذهب المرجئة الذي زرعه اليهود في عقائد المسلمين ، عن طريق بعض الصحابة !
أما زارعوه الجدد فليسوا كعب الاَحبار ولا وهب بن منبه ، بل هم ذراري النصارى واليهود الصرحاء! والمزروع فيهم ليسوا صحابة ، بل هم ذراري المسلمين المتغربين!

إخبار النبي صلى الله عليه وآله بظهور المرجئة والقدرية وتحذيره منهم
روت مصادر السنة والشيعة تنبؤ النبي صلى الله عليه وآله بظهور المرجئة والقدرية في أمته وتحذيره من خطرهم ، وأنهم لا تنالهم شفاعته ، لاَنهم يحرفون الاِسلام ويشوشون أمر الاَمة من بعده .

ـ فقد روى الهيثمي في مجمع الزوائد ج 7 ص 207 :
عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صنفان من أمتي لا يردا عليَّ الحوض ولا يدخلان الجنة ، القدرية والمرجئة . رواه الطبراني في الاَوسط ورجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفروي وهو ثقة . انتهى . وروى الترمذي شبيهاً به في ج 3 ص 308
ـ ورواه في كنز العمال ج 1 ص 119 عن حلية الاَولياء لاَبي نعيم عن أنس ، وعن مسند الطيالسي ، عن واثلة عن جابر . وروى نحوه في ج 1 ص 362 عن السلفي في انتخاب حديث القراء عن علي . ورواه ابن حبان في كتاب المجروحين ج 2 ص 112 عن عكرمة .

ـ وفي مجمع الزوائد ج 7 ص 203
عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله صلى عليه وسلم : ما بعث الله نبياً قط إلا وفي أمته قدرية ومرجئة يشوشون عليه أمر أمته . ألا وإن الله قد لعن القدرية
( 343 )
والمرجئة على لسان سبعين نبياً . رواه الطبراني وفيه بقية بن الوليد وهو لين ويزيد بن حصين لم أعرفه . انتهى .
ورواه ابن حبان عن أبي هريرة في كتاب المجروحين ج 1 ص 362 وفيه (أمته من بعده . . سبعين نبياً أنا آخرهم )

ـ وفي كتاب الخصال للصدوق ص 72
أخبرني الخليل بن أحمد قال : أخبرنا ابن منيع قال : حدثنا الحسن بن عرفة قال : حدثنا علي بن ثابت عن إسماعيل بن أبي إسحاق ، عن ابن أبي ليلى ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : صنفان من أمتي ليس لهما في الاِسلام نصيب : المرجئة والقدرية . انتهى .
ورواه في ثواب الاَعمال ص 212 . وقال في صحيفة الرضا ص278 : وبإسناده قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله : صنفان من أمتي ليس لهما في الاِسلام نصيب : المرجئة والقدرية . رواه في ثواب الاَعمال : 252 ح 3 بالاِسناد رقم 10 عنه البحار : 5 ـ 118 ح 52 . ورواه الشيخ حسن بن سليمان في المختصر : 135 بالاِسناد رقم 57 والكراجكي في كنزه : 51 بالاِسناد رقم 14 عنه البحار : 5 ـ 7 ح 8 . ورواه الصدوق في الخصال : 1 ـ 72 ح110 بإسناده عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله عنه البحار : 5 ـ 7 ح 7 .

ـ وفي دعائم الاِسلام ج 2 ص 511
وعنه صلى الله عليه وآله أنه قال : لا تجوز شهادة أهل الاَهواء على المؤمنين ، قال أبو جعفر عليه السلام : لا تجوز شهادة حروري ، ولا قدري ومرجئ ، ولا أموي ، ولا ناصب ، ولا فاسق ، يعني من باين بذلك وظهرت عداوته ونصبه ، فأما من كتم ذلك وأسره فظهر منه الخير وكان عدلاً في مذهبه ، جازت شهادته وعلى هذا العمل .

تعريف المرجئة ومذهبهم

ـ قال النووي فيشرح مسلم ج 1 جزء 1 ص 218
قال القاضي عياض : اختلف الناس فيمن عصى الله من أهل الشهادتين فقالت
( 344 )
المرجئة : لا تضره المعصية ، وقالت الخوارج : تضره ويكفر بها ، وقالت المعتزلة : يخلد في النار ، وقالت الاَشعرية : بل هو مؤمن .

ـ شرح المواقف ج 4 جزء 8 ص 312
في أن الله تعالى يعفو عن الكبائر . الاِجماع منعقد على أنه تعالى عفوٌّ ، وأن عفوه ليس في حق الكافر بل في حق المؤمنين ، فقالت المعتزلة : هو عفوٌّ عن الصغائر قبل التوبة ، وعن الكبائر بعدها . وقالت المرجئة : عفو عن الصغائر والكبائر مطلقاً !!

ـ تفسير الرازي ج 16 جزء 31 ص 203
قوله تعالى ( لا يصلاها إلا الاَشقى ) إن المرجئة يتمسكون بهذه الآية في أنه لا وعيد إلا على الكفار ! قال القاضي : ولا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها ، ويدل على ذلك ثلاثة أوجه : أحدها أنه يقتضي أن لا يدخل النار إلا الاَشقى الذي كذب وتولى . . . وثانيهما أن هذا إغراء بالمعاصي . . . وثالثهما . . . معلوم من حال الفاسق أنه ليس بأتقى . . . الخ .

ـ وقال في هامش بحار الاَنوار ج 8 ص 364
الوعيدية : فرقة من الخوارج يكفِّرون أصحاب الكبائر ، والكبيرة عندهم كفرٌ يخرج به عن الملة ، ويقابلهم المرجئة وهم يقولون : إنه لا يضر مع الاِيمان معصية ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة ، وليس العمل على مذهبهم ، وإن كان من الاِيمان . فعليه معنى الاِرجاء تأخير العمل عن النية والعقد .

ـ وروى في الكافي ج 1 ص 403
محمد بن الحسن ، عن بعض أصحابنا ، عن علي بن الحكم ، عن الحكم بن مسكين ، عن رجل من قريش من أهل مكة قال : قال سفيان الثوري : إذهب بنا إلى جعفر بن محمد ، قال فذهبت معه إليه فوجدناه قد ركب دابته ، فقال له سفيان : يا أبا عبد الله حدثنا بحديث خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله في مسجد الخيف ، قال : دعني حتى
( 345 )
أذهب في حاجتى فإني قد ركبت فإذا جئت حدثتك ، فقال : أسألك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وآله لما حدثتني ، قال : فنزل فقال له سفيان : مر لي بدواة وقرطاس حتى أثبته ، فدعا به ثم قال : أكتب : بسم الله الرحمن الرحيم . خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله في مسجد الخيف : نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ، وبلغها من لم تبلغه .
يا أيها الناس ليبلغ الشاهد الغائب ، فرب حامل فقه ليس بفقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ثلاث لا يغلُّ عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، والنصيحة لاَئمة المسليمن ، واللزوم لجماعتهم ، فإن دعوتهم محيطةٌ من ورائهم ، المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم ، وهم يد على من سواهم ، يسعى بذمتهم أدناهم .
فكتبه سفيان ثم عرضه عليه ، وركب أبو عبد الله عليه السلام . وجئت أنا وسفيان ، فلما كنا في بعض الطريق قال لي : كما أنت حتى أنظر في هذا الحديث ، قلت له : قد والله ألزم أبو عبد الله رقبتك شيئاً لا يذهب من رقبتك أبداً !
فقال : وأي شيء ذلك ؟
فقلت له : ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، قد عرفناه ، والنصيحة لاَئمة المسلمين ، من هؤلاء الاَئمة الذين يجب علينا نصيحتهم ؟ معاوية بن أبي سفيان ويزيد بن معاوية ومروان بن الحكم ؟ وكل من لا تجوز الصلاة خلفهم؟! وقوله : واللزوم لجماعتهم ، فأي الجماعة ؟ مرجئ يقول : من لم يصل ولم يصم ولم يغتسل من جنابة وهدم الكعبة ونكح أمه فهو على إيمان جبرئيل وميكائيل؟! أو قدري يقول : لا يكون ما شاء الله عز وجل ويكون ما شاء إبليس ؟! أو حروري يتبرأ من علي بن أبي طالب ويشهد عليه بالكفر ؟! أو جهمي يقول إنما هي معرفة الله وحده ليس الاِيمان شيء غيرها ؟!
قال : ويحك وأي شيء يقولون ؟!
فقلت يقولون : إن علي بن أبي طالب والله الاِمام الذي وجب علينا نصيحته ، ولزوم جماعتهم : أهل بيته . قال : فأخذ الكتاب فخرَّقه ، ثم قال . لا تخبر بها أحداً .

( 346 )

المرجئة ولدوا من عهد الخليفة عمر

رأينا كيف وسعت دولة الخلافة القرشية شفاعة النبي صلى الله عليه وآله حتى شملت كل من يشهد بالتوحيد فقط ولو لم يشهد بالنبوة . .
ثم وسعتها إلى جميع الخلق ، كما تقدم من رواياتهم وكلام ابن تيمية .
ثم استغنت عن شفاعة الاَنبياء جميعاً ، وأوجبت الجنة بأعمال وكلمات بسيطة .
ثم استغنت عن كل ذلك ، وقالت بفناء النار ونقل أهلها إلى الجنة !!
ولعل الخليفة عمر وكعب الاَحبار رائدي هذه الاَفكار ومن تابعهم عليها لم يلتفتوا إلى خطورتها الزائدة ، وأنها تمثل مشروعاً خطيراً لاِسقاط كل المحرمات وتعويم الاِيمان ، في أمة نهضت بالاِسلام والاِيمان وأخذت تفتح بلاد الاِمبراطورية الفارسية والرومانية ، بلداً بعد آخر . . وهي بأمسِّ الحاجة إلى حفظ شخصية جنودها وجديتهم ، وعدم التساهل في مفاهيم إيمانهم .
على أي حال فالذي وقع في حياة الاَمة ، أن هذه الاَفكار بمساعدة فكرة الجبر وأن الله تعالى قد فرغ من الاَمر وكتب كل شيء وانتهى الاَمر ولا بداء . . سرعان ما أثمرت مذهبين عقائديين مواليين للسلطة هما : المرجئة والقدرية ، وقد تبنتهما السلطة وأيدت علماءهما وهيأت لهم الظروف لنشر أفكارهم في الاَمة .
ويتلخص مذهب المرجئة بمقولتهم المشهورة ( الاِيمان لا تضر معه معصية ) فالاِيمان عندهم مجرد القول بالشهادتين ، وبذلك يضمن الاِنسان دخول الجنة مهما كان عمله !!
ويتلخص مذهب القدرية أو الجبرية : بأن مسؤولية الاِنسان عن أعماله وجرائمه محدودة أو منتفية ، لاَن الخير والشر من الله تعالى ، وكل شيء مكتوب ومقدر منه تعالى !!
ومن الواضح أن هذين المذهبين هما نفس الاَفكار والاَحاديث التي رأيناها في
( 347 )
توسيع الشفاعة وتوسيع دخول الجنة ، لكن بصيغة ( ممذهبة ) .
كما أن أحدهما مكمل للآخر في تخفيف مسؤولية الاِنسان ، لاَن جوهرهما واحد وهو ( تعويم ) قانون العقوبة الاِلَهي ، بل تطمين الناس بأنه قد تم شطبه !!
وقد مر معنا في بحث توسيعات الشفاعة ما رواه السيوطي في الدر المنثور ج 2 ص 116 عن البيهقي ، وادعاؤهم أن النبي صلى الله عليه وآله قال لعمر : يا عمر إنك لا تسأل عن أعمال الناس ، ولكن تسأل عن الفطرة ! وهذا نفس ما يقوله المرجئة !

ـ وفي سنن الترمذي ج 3 ص 87
أن النبي صلى الله عليه وآله سمع ذات يوم رجلاً يقول : الله أكبر الله أكبر ، فقال : على الفطرة . فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، قال : خرجت من النار ! انتهى . ونحوه في صحيح مسلم ج2 ص 4 ومسند أحمد ج 3 ص 241 وكنز العمال ج 8 ص 366
بل وجدنا نفس تعبير ( الاِيمان لا تضر معه خطيئة ) في عدة روايات في مسند أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص ج 2 ص 170 قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لقي الله لا يشرك به شيئاً لم تضره معه خطيئة ! انتهى .
وقال عنه في مجمع الزوائد ج 1 ص 19 : رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح ماخلا التابعي فإنه لم يسم ، ورواه الطبراني فجعله من رواية مسروق عن عبد الله بن عمرو . وقال في كنز العمال ج 1 ص 81 إنه صحح ! انتهى .
ومصدر ابن عمرو إما أن يكون الخليفة عمر ، وإما أن يكون أخذه من أحاديث (العِدْلَيْن ) أي الكيسين الكبيرين اللذين أخذهما بعد معركة اليرموك من الشام من رايات اليهود وكتبهم ، وكان يحدث المسلمين منهما !!

أول من تصدى لمذهب المرجئة علي عليه السلام

ـ روى الصدوق في علل الشرائع ج 2 ص 602
حدثنا الحسين بن أحمد رحمه الله عن أبيه عن محمد بن أحمد قال : حدثنا أبو عبد الله
( 348 )
الرازي ، عن علي بن سليمان بن راشد ، بإسناده رفعه إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال : يحشر المرجئة عمياناً ، إمامهم أعمى ، فيقول بعض من يراهم من غير أمتنا : ماتكون أمة محمد إلا عمياناً ! فأقول لهم : ليسوا من أمة محمد ، لاَنهم بدَّلوا فبدل ما بهم ، وغيَّروا فغير ما بهم .

ـ وروى في الخصال ص 611
حدثنا أبي رضي الله عنه قال : حدثنا سعد بن عبد الله قال : حدثني محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني ، عن القاسم بن يحيى ، عن جده الحسن بن راشد ، عن أبي بصير ومحمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : حدثني أبي عن جدي عن آبائه عليهم السلام أن أمير المؤمنين عليه السلام علم أصحابه في مجلس واحد أربع مائة باب مما يصلح للمسلم في دينه ودنياه .
قال عليه السلام : إن الحجامة تصحح البدن وتشد العقل ، والطيب في الشارب من أخلاق النبي صلى الله عليه وآله وكرامة الكاتبين ، والسواك من مرضات الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وآله ومطيبة للفم ، والدهن يلين البشرة ويزيد في الدماغ ويسهل مجاري الماء ويذهب بالقشف ويسفر اللون ، وغسل الرأس يذهب بالدرن وينفي القذاء ، والمضمضة والاِستنشاق سنة وطهور للفم والاَنف ، والسعوط مصحة للرأس وتنقية للبدن وسائر أوجاع الرأس ، والنورة نشرة وطهور للجسد ، واستجادة الحذاء وقاية للبدن وعون على الطهور والصلاة . وتقليم الاَظفار يمنع الداء الاَعظم . . .الخ .
وهو حديث طويل فيه تعليمات هامة دينية ودنيوية ، وقد جاء فيه عن المرجئة : علموا صبيانكم ما ينفعهم الله به ، لا تغلب عليهم المرجئة برأيها . . . انتهى .
وقال في هامشه : قال العلامة المجلسي رحمه الله : إعلم أن أصل هذا الخبر في غاية الوثاقة والاِعتبار على طريقة القدماء ، وإن لم يكن صحيحاً بزعم المتأخرين ،
واعتمد عليه الكليني رحمه الله وذكر أكثر أجزائه متفرقة في أبواب الكافي ، وكذا غيره من أكابر المحدثين .

( 349 )
أقول : عدم صحة السند عند المتأخرين لمقام القاسم بن يحيى ، والظاهر أن أصل الرواية في كتابه ، قال الشيخ في الفهرست : القاسم بن يحيى الراشدي له كتاب فيه آداب أمير المؤمنين عليه السلام ، والراشدي نسبة إلى جده الحسن بن راشد البغدادي مولى المنصور الدوانيقي الذي كان وزيراً للمهدي وموسى وهارون الرشيد . قال ابن الغضائري : ضعيف . وقال البهبهاني في التعليقة : لا وثوق بتضعيف ابن الغضائري إياه ، ورواية الاَجلة سيما مثل أحمد بن محمد بن عيسى عنه تشير إلى الاِعتماد عليه ، بل الوثاقة وكثرة رواياته والاِفتاء بمضمونها يؤيده . ويؤيد فساد كلام ابنالغضائري في المقام ، عدم تضعيف شيخ من المشايخ العظام الماهرين بأحوال الرجال إياه ، وعدم طعن من أحد ممن ذكره في ترجمته وترجمة جده وغيرها ، والعلامة ؛ تبع ابن الغضائري بناء على جواز عثوره على مالم يعثروا عليه ، وفيه ما فيه . انتهى . ورواه ابن شعبة الحراني مرسلاً في تحف العقول ص 104
ـ هذا وقد صرح القاضي النعماني المغربي المتوفى سنة 363 بأن اسم المرجئة أول ما أطلق على المتخلفين عن بيعة علي عليه السلام ونصرته على الفئة الباغية ، وهو يدل على أن بعض الصحابة تمسكوا بفكرة كعب وعمر التي تكتفي لدخول الجنة بالتوحيد بدون عمل ، فيكون مذهب المرجئة قد تمت ولادته بعد وفاة عمر بقليل وفي حياة كعب الاَحبار !

ـ قال القاضي النعماني في شرح الاَخبار ج 2 ص 82
فأما المتخلفون عن الجهاد مع علي صلوات الله عليه ، وقتال من نكث بيعته ومن حاربه وناصبه ، فإنه تخلف عنه في ذلك من المعروفين من الصحابة : سعد بن أبي وقاص وكان أحد الستة الذين سماهم عمر للشورى ، وعبدالله بن عمر بن الخطاب ، ومحمد بن سلمة ، واقتدى بهم جماعة فقعدوا بقعودهم عنه ، ولم يشهدوا شيئاً من حروبه معه ولا مع من حاربه . وهذه الفرقة هم أصل المرجئة وبهم اقتدوا، وذهب إلى ذلك من رأيهم جماعة من الناس وصوبوهم فيه وذهبوا إلى ما ذهبوا إليه ، فقالوا
( 350 )
في الفريقين في علي عليه السلام ومن قاتل معه وفي الذين حاربوه وناصبوه ومن قتل من الفريقين : إنهم يخافون عليهم العذاب ويرجون لهم الخلاص والثواب ، ولم يقطعوا عليهم بغير ذلك وتخلفوا عنهم . والاِرجاء في اللغة التأخير فسموا مرجئة لتأخيرهم القول فيهم ، وتأخرهم عنهم ولم يقطعوا عليهم بثواب ولا عقاب ، لاَنهم زعموا أنهم كلهم موحدون ولا عذاب عندهم على من قال : لا إله إلا الله ، فقدموا المقال وأخروا الاَعمال فكان هذا أصل الاِرجاء ثم تفرق أهله فرقاً إلى اليوم يزيدون على ذلك من القول وينقصون . انتهى .

ـ وقال في شرح الاَخبار ج 1 ص 365
ثم هذه الفرق التي ذكرناها تتشعب ويحدث في أهلها الاِختلاف إلى اليوم وأصلها ست فرق : شيعة وعامة وخوارج ومعتزلة ومرجئة وحشوية .
فالشيعة : هم شيعة علي صلوات الله عليه القائلون بإمامته ، وهم أقدم الفرق وأصلها الذي تفرعت عنه ، ورسول الله صلوات الله عليه وآله سماها بهذا الاِسم . وقال : شيعة عليٍّ هم الفائزون . وقال لعلي عليه السلام : أنت وشيعتك . . في آثار كثيرة رويت عنه . وسنذكر في هذا الكتاب ما يجري ذكره إن شاء الله تعالى . وغير ذلك من الفرق محدثةٌ أحدثت بعد النبي صلوات الله عليه وآله . انتهى .

* *

ويدل النصان التاليان على وجود المرجئة على شكل مذهب متكامل في عصر الاِمام الباقر عليه السلام المتوفى سنة 94 هجرية ، أي في الجيل الاَول من التابعين بعد الصحابة مباشرة .

ـ قال الصدوق في ثواب الاَعمال ص 213
وحدثني محمد بن موسى بن المتوكل قال : حدثني محمد بن جعفر قال : حدثني أحمد بن محمد العاصمي قال : حدثني علي بن عاصم الهمداني ، عن
( 351 )
محمد بن عبد الرحمن المحرري ، عن يحيى بن سالم ، عن محمد بن سلمة ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : ما الليل بالليل ولا النهار بالنهار أشبه من المرجئة باليهود ، ولا من القدرية بالنصرانية .

ـ وفي علل الشرائع ج 2 ص 528
وبهذا الاِسناد عن محمد بن أحمد ، عن ابن عيسى ، عن عثمان بن سعيد قال : حدثنا عبدالكريم الهمداني ، عن أبي ثمامة قال : دخلت على أبي جعفر عليه السلام وقلت له : جعلت فداك إني رجل أريد أن ألازم مكة وعليَّ دينٌ للمرجئة فما تقول ؟ قال : قال إرجع ( وأد ) دينك وانظر أن تلقى الله تعالى وليس عليك دين ، فإن المؤمن لا يخون . انتهى .

* *

أما في عصر الاِمام الصادق عليه السلام وما بعده فقد كان للمرجئة وجودٌ واسع وصولةٌ ، وانتشر مذهبهم حتى شمل أكثر الرواة وعلماء الدولة . . كما اتسع تصدي أهل البيت عليهم السلام لاَفكارهم، ففي دعائم الاِسلام للقاضي النعمان ج 1 ص 3 قال : روينا عن جعفر بن محمد أنه قال : الاِيمان قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالاَركان ، وهذا الذي لا يصح غيره ، لا كما زعمت المرجئة أن الاِيمان قولٌ بلا عمل ، ولا كالذي قالت الجماعة من العامة إن الاِيمان قولٌ وعملٌ فقط ، وكيف يكون ما قالت المرجئة إنه قول بلا عمل وهم والاَمة مجمعون على أن من ترك العمل بفريضة من فرائض الله عز وجل التي افترضها على عباده منكراً لها أنه كافر حلال الدم ما كان مصراً على ذلك ، وإن أقر بالله ووحده وصدق رسوله بلسانه ، إلا أنه يقول هذه الفريضة ليست مما جاء به ، وقد قال الله عز وجل : وويلٌ للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة، فأخرجهم من الاِيمان بمنعهم الزكاة ، وبذلك استحل القوم أجمعون بعد رسول الله صلى الله عليه وآله دماء بني حنيفة وسبي ذراريهم ، وسموهم أهل الردة إذ منعوهم الزكاة . انتهى .

( 352 )

ـ قال الكليني فيالكافي ج 2 ص 40
محمد بن الحسن ، عن بعض أصحابنا ، عن الاَشعث بن محمد ، عن محمد بن حفص بن خارجة قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : وسأله رجل عن قول المرجئة في الكفر والاِيمان ، وقال إنهم يحتجون علينا ويقولون كما أن الكافر عندنا هو الكافر عند الله ، فكذلك نجد المؤمن إذا أقر بإيمانه أنه عند الله مؤمن ! فقال : سبحان الله وكيف يستوي هذان ؟! والكفر إقرارٌ من العبد ، فلا يكلف بعد إقراره ببينة ، والاِيمان دعوى لا يجوز إلا ببينة ، وبينته عمله ونيته ، فإذا اتفقا فالعبد عند الله مؤمن . والكفر موجود بكل جهة من هذه الجهات الثلاث من نيةٍ أو قولٍ أو عملٍ ، والاَحكام تجري على القول والعمل ، فما أكثر من يشهد له المؤمنون بالاِيمان ويجري عليه أحكام المؤمنين وهو عند الله كافر ، وقد أصاب من أجرى عليه أحكام المؤمنين بظاهر قوله وعمله .

ـ وقال في الاِيضاح ص 44
ومنهم المرجئة الذين يروي عنهم أعلامهم مثل إبراهيم النخعي وإبراهيم بن يزيد التيمي ، ومن دونهما مثل سفيان الثوري وابن المبارك ووكيع وهشام وعلي بن عاصم، عن رجالهم أن النبي صلى الله عليه وآله قال : صنفان من أمتي ليس لهما في الاِسلام نصيب: القدرية والمرجئة . فقيل له : ما المرجئة قالوا : الذين يقولون : الاِيمان قول بلا عمل . وأصل ما هم عليه أنهم يدينون بأن أحدهم لو ذبح أباه وأمه وابنه وبنته وأخاه وأخته وأحرقهم بالنار أو زنى أو سرق أو قتل النفس التي حرم الله أو أحرق المصاحف أو هدم الكعبة أو نبش القبور أو أتى أي كبيرة نهى الله عنها . . أن ذلك لا يفسد عليه إيمانه ولا يخرجه منه ، وأنه إذا أقر بلسانه بالشهادتين أنه مستكمل الاِيمان إيمانه كإيمان جبرئيل وميكائيل صلى الله عليهما ، فعل ما فعل وارتكب ما ارتكب ما نهى الله عنه !
ويحتجون بأن النبي صلى الله عليه وآله قال : أمرنا أن نقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله .
( 353 )
وهذا قبل أن يفرض سائر الفرائض وهو منسوخ . وقد روى محمد بن الفضل ، عن أبيه ، عن المغيرة بن سعيد ، عن أبيه ، عن مقسم ، عن سعيد بن جبير قال : المرجئة يهود هذه الاَمة . وقد نسخ احتجاجهم قول النبي صلى الله عليه وآله حين قال : بني الاِسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم شهر رمضان .

كان المرجئة خداماً لبني أمية ومبررين لجرائمهم

ـ الكافي ج 2 ص 409
محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن مروك بن عبيد ، عن رجل ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : لعن الله القدرية ، لعن الله الخوارج ، لعن الله المرجئة ، لعن الله المرجئة . قال قلت : لعنت هؤلاء مرة مرة ولعنت هؤلاء مرتين !
قال : إن هؤلاء يقولون : إن قتلتنا مؤمنون ! فدماؤنا متلطخة بثيابهم إلى يوم القيامة ، إن الله حكى عن قوم في كتابه : لن نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين . . قال كان بين القاتلين والقائلين خمسمائة عام فألزمهم الله القتل برضاهم ما فعلوا . انتهى .
ومعنى كلام الاِمام الصادق عليه السلام : أن المرجئة زعموا أن قتلة الاِمام الحسين عليه السلام مؤمنون من أهل الجنة ولا يعاقبون على جريمتهم ! وبذلك صار المرجئة شركاءلبني أمية في الجريمة ، لاَن من رضي بعمل قوم فقد شركهم فيه !
ويدل النص التالي على أن المرجئة كانوا يجادلون المعارضين لبني أمية ليأخذوا عليهم مستمسكاً للخليفة لكي يضطهدهم !

ـ وقال الكليني في الكافي ج 8 ص 270
عن عبد الحميد بن أبي العلاء قال : دخلت المسجد الحرام فرأيت مولى لاَبي عبد الله عليه السلام فملت إليه لاَسأله عن أبي عبدالله ، فإذا أنا بأبي عبد الله ساجداً فانتظرته طويلاً فطال سجوده عليَّ ، فقمت وصليت ركعات وانصرفت وهو بعد ساجد ،
( 354 )
فسألت مولاه متى سجد ؟ فقال : قبل أن تأتينا ، فلما سمع كلامي رفع رأسه ثم قال : أبا محمد أدن مني فدنوت منه فسلمت عليه ، فسمع صوتاً خلفه فقال : ما هذه الاَصوات المرتفعة ؟ فقلت : هؤلاء قوم من المرجئة والقدرية والمعتزلة ، فقال : إن القوم يريدوني فقم بنا ، فقمت معه فلما أن رأوه نهضوا نحوه فقال لهم : كفوا أنفسكم عني ولا تؤذوني وتعرضوني للسلطان ، فإني لست بمفتٍ لكم ، ثم أخذ بيدي وتركهم ومضى ، فلما خرج من المسجد قال لي يا أبا محمد والله لو أن إبليس سجد لله عز ذكره بعد المعصية والتكبر عمر الدنيا ما نفعه ذلك ولا قبله الله عز ذكره ما لم يسجد لآدم ، كما أمره الله عز وجل أن يسجد له .
وكذلك هذه الاَمة العاصية المفتونة بعد نبيها صلى الله عليه وآله وبعد تركهم الاِمام الذي نصبه نبيهم صلى الله عليه وآله لهم فلن يقبل الله تبارك وتعالى لهم عملاً ، ولن يرفع لهم حسنة حتى يأتوا الله عز وجل من حيث أمرهم، ويتولوا الاِمام الذي أمروا بولايته ويدخلوا من الباب الذي فتحه الله عز وجل ورسوله لهم .
يا أبا محمد إن الله افترض على أمة محمد صلى الله عليه وآله خمس فرائض : الصلاة والزكاة والصيام والحج وولايتنا ، فرخص لهم في أشياء من الفرائض الاَربعة ، ولم يرخص لاَحد من المسلمين في ترك ولايتنا ، لا والله مافيها رخصة .

تورُّط أصحاب المذاهب الاَربعة في الاِرجاء

للمرجئة في المذاهب الاَربعة وفي الصحاح الستة مكانةٌ محترمةٌ حتى أن بعض أئمة المذاهب أنفسهم اتهموا بأنهم مرجئة . . قال في هامش كتاب المجروحين ج 3 ص63 : هناك تعليقات كثيرة على المخطوطة هاجمت ابن حبان لتحامله على أبي حنيفة ، ومما هوجم من أجله والد أبي حنيفه بأنه كان خبازاً واعتبر المعلق ذلك غيبة تخرج عن حد الرأي في المحدث .
ونشير هنا إلى أن جد أبي حنيفة كان أحد أمراء بلاد الاَفغان ( مرزبان ) واختلفت أقوال حفيده في مسألة أسر جده ثم عتقه ، قال أحدهما : والله ما وقع لنا رقٌّ قط .

( 355 )
يراجع الاِمام الاَعظم : اتهام أبي حنيفة بالاِرجاء وأنه داعية إلى البدع ، غير مقبول من ابن حبان ومن شاركه هذا القول على إطلاقه ، ونلخص القول في ذلك بما جاء في كتاب اللكنوي ( الرفع والتكميل 154 ) :
جملة التفرقة بين اعتقاد أهل السنة وبين اعتقاد المرجئة : أن المرجئة يكتفون في الاِيمان بمعرفة الله ونحوه ويجعلون ما سوى الاِيمان من الطاعات وما سوى الكفر من المعاصي غير مضرة ولا نافعة ويتشبثون بظاهر حديث : من قال لا إله إلا الله دخل الجنة .
وأهل السنة يقولون : لا تكفي في الاِيمان المعرفة ، بل لا بد من التصديق الاِختياري مع الاِقرار اللساني ، وأن الطاعات مفيدة والمعاصي مضرة مع الاِيمان توصل صاحبها إلى دار الخسران .
والذي يجب علمه على العالم المشتغل بكتب التواريخ وأسماء الرجال أن ( يعرف أن ) الاِرجاء يطلق على قسمين : أحدهما الاِرجاء الذي هو ضلال . وثانيهما الاِرجاء الذي ليس بضلال ، ولا يكون صاحبه عن أهل السنة والجماعة خارجاً .
ولهذا ذكروا أن المرجئة فرقتان : مرجئة الضلالة ، ومرجئة أهل السنة . وأبو حنيفة وتلامذته وشيوخه وغيره من الرواة الاِثبات إنما عدوا من مرجئة أهل السنة لا من مرجئة الضلالة .
ثم يقول أيضاً في ختام مناقشته لهذا الموضوع 161 : وخلاصة المرام في هذا المقام أن الاِرجاء : قد يطلق على أهل السنة والجماعة من مخالفيهم المعتزلة الزاعمين بالخلود الناري لصاحب الكبيرة ، وقد يطلق على الاَئمة القائلين بأن الاَعمال ليست بداخلة في الاِيمان وبعدم الزيادة فيه والنقصان ـ وهو مذهب أبي حنيفه وأتباعه ـ من جانب المحدثين القائلين بالزيادة والنقصان وبدخول الاَعمال في الاِيمان . وهذا النزاع وإن كان لفظياً كما حققه المحققون من الاَولين والآخرين لكنه لما طال وآل الاَمر إلى بسط كلام الفريقين من المتقدمين والمتأخرين ، أدى
( 356 )
ذلك إلى أن أطلقوا الاِرجاء على مخالفيهم وشنعوا بذلك عليهم ، وهو ليس بطعن في الحقيقه ، على ما لا يخفى على مهرة الشريعة .
أقول : إذا عرفت هذا علمت أن قول ابن حبان في إطلاقه الاِرجاء على أبي حنيفة وأصحابه فيه اتهام غير محدد وتعمية تضلل الباحث ، وهو يقصد إلى ذلك قصداً ما كان يجدر به أن يقع في مثل ذلك . انتهى .
ولا كلام لنا في دفاعهم عن نسب أبي حنيفة وحسبه ، فقد كان على أتباعه أن يجعلوه من ملوك الاَفاغنة وأبناء المرازبة أو الاَكاسرة ، حتى يواجهوا به مذهب أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله ونسبهم الشامخ من عَلْيَا قريشٍ وذروة بني هاشم . .
ولكنا نسأل : من أين جاؤوا بهذا التقسيم للمرجئة إلى مرجئة من أهل السنة ومرجئة ضلالة ، وحكموا بأن أبا حنيفة من النوع الجيد لا الردىَ . .! فما هو الفرق العلمي والعقائدي بين هذين النوعين حتى نقبل الجيد ونترك الردىَ ؟!
وهل يكفي التخلص اللفظي من مذهب المرجئة بمثل قول اللكنوي المتقدم بأن مذهب أهل السنة (أن الطاعات مفيدة والمعاصي مضرة مع الاِيمان توصل صاحبها إلى دار الخسران ) مع أن الاَحاديث التي تشبث بها المرجئة على حد تعبيره ثابتة وصحيحة عندهم !

* *

تورُّط أصحاب الصحاح الستة في الاِرجاء

أما إذا نظرت إلى الصحاح فيأخذك العجب عندما تجد نسبةً كبيرةً من رواتها المحترمين مرجئة ! ! وهو موضوع يحتاج إلى دراسة مستقلة ولا يتسع المجال لاَكثر من إشارة إلى بعضهم :
فمنهم : الفأفاء ، وهو رأس في المرجئة متعصب لبني أمية مبغض لعلي عليه السلام بل مبغض للنبي صلى الله عليه وآله ! وكان يقرأ لخلفاء بني أمية القصائد في هجاء النبي ! وقد قتله
( 357 )
العباسيون في ثورتهم . . ومع ذلك فهو معتمدٌ عند ابن المديني شيخ البخاري ويقول عنه قتل مظلوماً ، ومعتمدٌ عند البخاري فقد روى عنه في الاَدب المفرد وكذلك عند مسلم والنسائي وابن ماجة والترمذي وأبي داود ! قال في تهذيب التهذيب ج 3 ص 83 : خالد بن سلمة بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي أبو سلمة ، ويقال أبو المقسم المعروف بالفأفاء الكوفي ، أصله حجازي ، روى عن عبدالله البهي وعيسى وموسى ابني طلحة بن عبيد الله ، وسعيد بن المسيب وأبي بردة بن أبي موسى والشعبي وغيرهم. وعنه أولاده عكرمة ومحمد وعبد الرحمن ، والسفيانان ، وشعبة، ومسعر ، وزائدة ، وزكرياء بن أبي زائدة وابنه يحيى بن زكرياء ، وحماد بن زيد ، وغيرهم . . وحدث عنه عمرو بن دينار ، ويحيى بن سعيد الاَنصاري ، وهما أكبر منه .
قال البخاري عن ابن المديني له نحو عشرة أحاديث .
وقال أحمد وابن معين وابن المديني ثقة ، وكذا قال ابن عمار ويعقوب بن شيبة والنسائي .
وقال أبو حاتم شيخ يكتب حديثه .
وقال ابن عدي : هو في عداد من يجمع حديثه ، ولا أرى بروايته بأساً .
وذكره ابن حبان في الثقات .
وقال ابن سعد : هرب من الكوفة إلى واسط لما ظهرت دعوة بني العباس ، فقتل مع ابن هبيرة .
وقال محمد بن حميد عن جرير : كان الفأفأ رأساً في المرجئة ، وكان يبغض علياً .
وقال يعقوب بن شيبة : يقال إن بعض الخلفاء قطع لسانه ثم قتله ، ذكره علي بنالمديني يوماً فقال : قتل مظلوماً .
وقال أبو داود عن الحسن بن علي الخلال : سمعت يزيد بن هارون يقول دخلت المسودة واسط سنة 132 فنادى مناديهم بواسط : الناس آمنون إلا ثلاثة : العوام بن حوشب ، وعمر بن ذر ، وخالد بن سلمة المخزومي . فأما خالد فقتل ، وأما العوام
( 358 )
فهرب وكان يحرض على قتالهم ، وكان عمر بن ذر يقص بهم ويحرض على قتالهم عندنا بواسط . له عند مسلم حديث واحد .
قلت : وقع في صحيح البخاري ضمناً حيث قال في الحيض وقالت عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه ، فإن مسلماً أخرجه من طريق خالد بن سلمة .
هذا وذكر ابن المديني في العلل الكبرى أن الفأفاء لم يسمع من عبد الله بن عمر ، وذكر ابن عائشة : أنه كان ينشد بني مروان الاَشعار التي هجي بها المصطفى صلى الله عليه وسلم !!. انتهى .
ومنهم : الحماني ، الذي روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة . . قال في تهذيب التهذيب ج 6 ص 109 : عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني أبو يحيى الكوفي ولقبه بشمين . أصله خوارزمي . روى عن يزيد بن أبي بردة ، والاَعمش ، والسفيانين ، وأبي حنيفة وجماعة . وعنه أبو بكر ومحمد بن خلف الحدادي ، والحسن بن علي الخلال ، وأحمد بن عمر الوكيعي ، وأبو كريب ، وموسى بن عبد الرحمن المسروقي ، وأبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة ، وسفيان بن وكيع ، والحسين بن يزيد الكوفي ، ومحمد بن عبد بن ثعلبة ، ويحيى بن موسى خت، وعمرو بن علي الفلاس ، وأبو سعيد الاَشج ، والحسن بن علي بن عفان العامري ، وغيرهم . قال ابن معين : ثقة .
وقال أبو داود : كان داعية في الاِرجاء !!
وقال النسائي : ليس بقوي ، وقال في موضع آخر : ثقة ، وذكره ابن حبان في الثقات . وقال ابن عدي : هو وابنه ممن يكتب حديثه . قال هارون الحمال مات سنة اثنتين ومائتين . قلت : وفيها أرخه ابن قانع وزاد في جمادى الاَولى وهو ثقة .
وقال ابن سعد وأحمد : كان ضعيفاً . وقال العجلي : كوفي ضعيف الحديث مرجئ . وقال البرقي : قال ابن معين : كان ثقة ، ولكنه ضعيف العقل !.انتهى .

( 359 )
ومنهم : شعيب بن اسحاق مولى بني أمية الذي روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة . . قال في تهذيب التهذيب ج 4 ص 304 : شعيب بن إسحاق بن عبد الرحمن بن عبد الله بن راشد الدمشقي الاَموي ، مولى رملة بنت عثمان ، أصله من البصرة . روى عن أبيه وأبي حنيفة وتمذهب له ، وابن جريج والاَوزاعي ، وسعيد بن أبي عروبة ، وعبيد الله بن عمرو ، وهشام بن عروة ، والثوري وغيرهم . وعنه ابن ابنه عبد الرحمن بن عبد الصمد بن شعيب ، وداود بن رشيد ، والحكم بن موسى ، وأبو النضر الفراديسي ، وعمرو بن عون ، وإبراهيم بن موسى الرازي ، وإسحاق بن راهويه ، وسويد بن سعيد ، وأبو كريب محمد بن العلاء ، وهشام بن عمار ، وغيرهم .
وحدث عنه الليث بن سعد ، وهو في عداد شيوخه .
قال أبو طالب عن أحمد : ثقة ما أصح حديثه وأوثقه .
وقال أبو داود : ثقة وهو مرجىَ ، سمعت أحمد يقول : سمع من سعيد بن أبيعروبة بآخر رمق .
وقال هشام بن عمار عن شعيب : سمعت من سعيد سنة 144
وقال ابن معين ودحيم والنسائي : ثقة .
وقال أبو حاتم : صدوق .
وقال الوليد بن مسلم : رأيت الاَوزاعي يقربه ويدنيه .
قال دحيم : ولد سنة 18 ومات سنة 189 وكذا أرخه ابن مصفى وزاد في رجبوفيها أرخه غير واحد . ووقع في الكمال سنة 98 وهو وهم .
قلت : وفي سنة 89 أرخه ابن حبان في الثقات ، ونقل أبو الوليد الباجي عن أبي حاتم قال : شعيب ابن اسحاق ثقة مأمون . انتهى .
ومنهم : الغنوي الذي روى عنه مسلم والاَربعة . . قال في تهذيب التهذيب ج 1 ص411 : بشير بن المهاجر الغنوي الكوفي ، رأى أنس بن مالك ، وروى عن عبد الله
( 360 )
ابن بريدة والحسن البصري وعكرمة وغيرهم . وعنه ابن المبارك ، ووكيع ، وابن نمير ، والثوري ، وجعفر بن عون ، وأبو نعيم ، وخلاد بن يحيى ، وغيرهم . . . . وقال العجلي: كوفي ثقة ، وقال العقيلي : مرجىَ متهم متكلم فيه . وقال الساجي : منكر الحديث عنده . انتهى .

* *
وقد سجل ابن شاذان هذا التناقض على أصحاب الصحاح فقال في الاِيضاح ص502 : ومن جهة أخرى تروون عن المرجئة ويروون عنكم وتروون عن القدرية ويروون عنكم وتروون عن الجهمية ويروون عنكم فتقبلون منهم بعض أقاويلهم وتردون عليهم بعضها ، فلا الحق أنتم منه على ثقة ، ولا الباطل أنتم منه على يقين وأنتم عند أنفسكم أهل السنة والجماعة . . .

حب المستشرقين للمرجئة وحزنهم عليهم
قال الدكتور حسن إبراهيم في كتابه تاريخ الاِسلام ج 1 ص 416 عن المرجئة :
وهي طائفة المرجئة التي ظهرت في دمشق حاضرة الاَمويين بتأثير بعض العوامل المسيحية خلال النصف الثاني من القرن الاَول الهجري .
وقد سميت هذه الطائفة المرجئة من الاِرجاء هو التأخير ، لاَنهم يرجئون الحكم على العصاة من المسلمين إلى يوم البعث . كما يتحرجون عن إدانة أي مسلم مهما كانت الذنوب التي اقترفها . . . .
وهؤلاء هم في الحقيقة كتلة المسلمين التي رضيت حكم بني أمية ، مخالفين في ذلك الشيعة والخوراج . ومع هذا فإنهم يتفقون في العقيدة إلى حد ما مع طائفة المحافظين وهي أهل السنة ، وإن كانوا ـ كما يرى فون كريمر ـ قد ألانوا من شدة عقائد هؤلاء السنيين باعتقادهم ( أنه لا يخلد مسلم مؤمن في النار ) وعلى العموم
( 361 )
فهم يضعون العقيدة فوق العمل .
وكانت آراؤهم تتفق تماماً مع رجال البلاط الاَموي ومن يلوذ به ، بحيث لا يستطيع أحد من الشيعيين أو الخوارج أن يعيش بينهم ، في الوقت الذي تمكن فيه المسيحيون وغيرهم من المسلمين أن ينالوا الحظوة لديهم ، أو يشغلوا المناصب العالية ! . انتهى .
ويمكنك ملاحظة التناقض بين ما ذكره الدكتور والمستشرقون عن تقوى المرجئة وتحرجهم عن إدانة أي مسلم مهما كانت الذنوب التي اقترفها وحكمهم عليه بأنه من أهل الجنة بحكم عقيدتهم ، وبين تقواهم في أنهم كانوا يتعايشون مع الحكام الاَمويين والنصارى واليهود ولا يتعايشون مع من خالفهم من المسلمين .
ولعل السبب في ذلك أن الحكام الاَمويون أساتذتهم في عملية إسقاط المحرمات ، بينما اليهود والنصارى أساتذتهم في نظرية إسقاط المحرمات !!
ثم قال الدكتور حسن إبراهيم :
وبزوال الدولة الاَموية أفل نجم طائفة المرجئة ولم تصبح بعد حزباً مستقلاً ، ومع ذلك فقد ظهر من بينهم أبو حنيفة صاحب المذهب المشهور . انتهى .
ولكن حكمه بزوال المرجئة مع أسيادهم الاَمويين غير دقيق ، لاَنهم سقطوا سياسياً لا ثقافياً ، فقد بقيت أفكارهم ورواياتهم وعقائدهم في مصادر المسلمين . . ويكفي دليلاً على ذلك اتهام أبي حنيفة وغيره بأنهم منهم . . فإن خط المرجئة عاد إلى النفوذ والحكم بقرار من الدولة العباسية لكي تواجه به أهل البيت عليهم السلام
غاية الاَمر أن اسمهم صار الاَشعرية والحنابلة وأهل الحديث وأهل السنة ، فإن أكثرية هؤلاء من المرجئة !
ويكفي دليلاً على ذلك أن كبار علمائهم لا يستطيعون التفريق بين رأيهم في الشفاعة وبين رأي المرجئة ، وأن إطاعتهم للعباسيين كإطاعة المرجئة للاَمويين !

( 362 )
بل يمكن القول إنه بعد زوال العباسيين وكثير من الفرق لم ينته المرجئة ، لاَن أساس مذهبهم ومنبع أفكارهم الاَحاديث التي دخلت الصحاح كما رأيت ، ومن أراد أن يأخذ بها ويلتزم بلوازمها فلا بد له أن يكون مرجئاً ويقول بسقوط المحرمات عملياً ، ويكتفي بالشهادتين كما مر في توسيع الشفاعة !!

* *
وأخيراً فقد نقل الدكتور المذكور تأسف المستشرق فون كريمر على ضياع تاريخ المرجئة بعد زوالهم قال في ج 1 ص 418 :
ويقول فون كريمر : ومما يؤسف له كثيراً أنه ليس لدينا غير القيل من الاَخبار الصحيحة عن هذه الطائفة ، فقد استمروا طوال ذلك العصر وذاقوا حلوه ومره ، وقد ضاعت جميع المصادر التاريخية العربية عن الاَمويين ، حتى أن أقدم المصادر التاريخية التي وصلت إلينا إنما ترجع إلى عهد العباسيين ، ومن ثَمَّ كان لزوماً علينا أن نستقي معلوماتنا عن المرجئة من تلك الشذرات المبعثرة في مؤلفات كتاب العرب في ذلك العصر الثاني . انتهى .
وهو تأسف ظاهره علمي وواقعه البكاء على المرجئة لما اشتهر عنهم وعن الاَمويين من تفضيلهم التعايش مع المسيحيين واليهود على التعايش مع من خالفهم من المسلمين . . وهو تأسف يجعلنا نلمس صدق قول الاِمام محمد الباقر عليه السلام عن المرجئة بأنهم أشبه باليهود من الليل بالليل ، وذلك لجرأتهم على إسقاط قانون العقوبة الاِلَهي ، وقولهم إن المسلم مهما ارتكب من جرائم فلن تمسه النار حتى أياماً معدودة ، فليس غريباً أن يحبهم ويتأسف عليهم المستشرقون من اليهود والنصارى !

* *

المرجئة والجبرية شقيقان لاَب وأم

مع أن مذهب المرجئة مذهبٌ في الثواب والعقاب ولا علاقة له بالقضاء والقدر
( 363 )
والجبر والتفويض . . ومع أن النسبة بين المرجئة وبين القدرية والمفوضة عمومٌ من وجه ، لاَن المرجئ في الاَعمال قد يكون مفوضاً أو قدرياً ، كما أن القدري والمفوض قد يكون مرجئاً أو غير مرجئ . .
ولكن ذلك كله في مقام الاِثبات والنظرية ، أما في مقام الثبوت والتطبيق فالاَعم الاَغلب في المرجئة أنهم قدرية جبرية ، والسبب في ذلك أن الاَحاديث التي استندوا إليها في القول بالاِرجاء أو ( تشبثوا ) بها على حد تعبير اللكنوي رافقتها أحاديث الجبر التي تنسب أفعال الاِنسان إلى الله تعالى وتحمله مسؤوليتها ، لكي ترفعها عن الاِنسان ، كما رأيت في أحاديث توسيع الشفاعة وفناء النار !
وبما أن مسائل القضاء والقدر متعددة ، لذا نكتفي هنا بإعطاء تصورٍ كلي عنها ليتضح ارتباطها بموضوع الشفاعة والاِرجاء فنقول :
ورد تعريف القدر الاِلَهي في نص بديع عن الاِمام الرضا عليه السلام بأنه ( الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء ) كما سيأتي . وقد وقع الخلاف بين المسلمين في مسائله العديدة ، وتكونت على أساس آرائهم مذاهبهم العقائدية .

ـ قال السيد الطباطبائي في هامش الكافي ج 1 ص 157
واعلم أن البحث عن القضاء والقدر كان في أول الاَمر مسألة واحدة ثم تحول ثلاث مسائل أصلية الأولى : مسألة القضاء وهو تعلق الاِرادة الاِلَهية الحتمية بكل شيء والاَخبار تقضي فيها بالاِثبات . . .
الثانية : مسألة القدر وهو ثبوت تأثير ماله تعالى في الاَفعال والاَخبار تدل فيها أيضاً على الاِثبات .
الثالثة : مسألة الجبر والتفويض والاَخبار تشير فيها إلى نفي كلا القولين وتثبت قولاً ثالثاً وهو الاَمر بين الاَمرين لا ملكاً لله فقط من غير ملك للاِنسان ولا بالعكس بل ملكاً في طول ملك وسلطنة في ظرف سلطنة .
واعلم أيضاً أن تسمية هؤلاء بالقدرية مأخوذة مما صح عن النبي صلى الله عليه وآله ( إن القدرية
( 364 )
مجوس هذه الاَمة الحديث ) فأخذت المجبرة تسمي المفوضة بالقدرية لاَنهم ينكرون القدر ويتكلمون عليه والمفوضة تسمي المجبرة بالقدرية لاَنهم يثبتون القدر. والذي يتحصل من أخبار أئمة أهل البيت عليهم السلام أنهم يسمون كلتا الفرقتين بالقدرية ويطلقون الحديث النبوي عليهما .
أما المجبرة فلانهم ينسبون الخير والشر والطاعة والمعصية جميعاً إلى غير الاِنسان كما أن المجوس قائلون بكون فاعل الخير والشر جميعاً غير الاِنسان وقوله عليه السلام في هذا الخبر مبني على هذا النظر .
وأما المفوضة فلانهم قائلون بخالقين في العالم هما الاِنسان بالنسبة إلى أفعاله والله سبحانه بالنسبة إلى غيرها كما أن المجوس قائلون بإله الخير وإله الشر وقوله عليه السلام في الروايات التالية ( لا جبر ولا قدر ) ناظر إلى هذا الاِعتبار . انتهى .
ونضيف إلى ما ذكره السيد الطباطبائي رحمه الله : مسألة البداء ، وهي هل أن تقدير الله تعالى في كل الاَمور حتمي عليه ، فلا يمكنه تغيير شيَ منه ، لاَنه فرغ من الاَمر على حد تعبير بعض المسلمين ، أو لاَن يده مغلولة على حد تعبير اليهود . . أم أن القدر مفتوح له تعالى ، وله الحق والقدرة على البداء والتغيير كما يشاء ، لاَنه فرغ من الاَمر ولم يفرغ منه على حد تعبير أهل البيت عليهم السلام .

القدرية المفوضة ( الذين ينفون القدر )

محور الخلاف في مسألة القدر هو : سلطة الله تعالى على أفعال الاِنسان وحركة الطبيعة والكون ، وفعله فيها .
فالذين ينفون هذه السلطة يسمون ( المفوضة ) لاَنهم يزعمون أن الاِنسان مفوضٌ في أعماله ، ولا دخل لله تعالى ولا لسلطته فيها .
وقد يكون المفوضة مؤمنين بوجود الله تعالى ، ولكنهم يقولون إنه فوض ذلك إلى الاِنسان وقوانين الطبيعة . .

( 365 )
وقد يكونون ملحدين دهريين أو مشككين ، ويعبر عنهم بالمفوضة أيضاً ، لاَنهم ينفون سلطة الله تعالى وفاعليته في أفعال الاِنسان وحركة الطبيعة .
وهم في عصرنا فئات الماديين من الملحدين والطبيعيين وأكثر العلمانيين ، وبعض المتأثرين بالثقافة الغربية من المسلمين .
والتفويض في القدر مرفوض كلياً عند أهل البيت عليهم السلام ومنه التفويض الذي يذهب إليه أكثر المعتزلة أيضاً . قال في شرح المواقف ج 8 ص 146 : وقالت المعتزلة أي أكثرهم : هي ( الاَفعال الاِختيارية ) واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاِستقلال بلا إيجاب بل باختيار .

ـ وقال الكليني في الكافي ج 1 ص 157
علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن إسماعيل بن مرار ، عن يونس بن عبد الرحمن
قال : قال لي أبو الحسن الرضا عليه السلام :
يا يونس ، لا تقل بقول القدرية فإن القدرية لم يقولوا بقول أهل الجنة ، ولا بقول
أهل النار ، ولا بقول إبليس !
فإن أهل الجنة قالوا : الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
وقال أهل النار : ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين .
وقال إبليس : رب بما أغويتني .
فقلت : والله ما أقول بقولهم ولكني أقول : لا يكون إلا بما شاء الله وأراد وقدروقضى .
فقال : يا يونس ليس هكذا ، لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى .
يايونس تعلم ما المشيئة ؟
قلت : لا .
قال : هي الذكر الاَول .
فتعلم ما الاِرادة ؟

( 366 )
قلت : لا .
قال : هي العزيمة على ما يشاء .
فتعلم ما القدر ؟
قلت : لا .
قال : هو الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء .
قال ثم قال : والقضاء هو الاِبرام وإقامة العين .
قال : فاستأذنته أن أقبل رأسه وقلت : فتحت لي شيئاً كنت عنه في غفلة . انتهى .

ـ وفي مجمع الزوائد ج 7 ص 205
عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القدرية مجوس هذه الاَمة ، إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم . رواه الطبراني في الاَوسط وفيه زكريا بن منظور وثقه أحمد بن صالح وغيره وضعفه جماعة . انتهى . ورواه البيهقي في سننه ج 10 ص 202 وقال : أخرجه أبو داود في كتاب السنن هكذا . انتهى .
فهذان النصان يردَّان على القدرية المفوضة .
وينبغي الاِلتفات إلى أن اسم المرجئة لا يستعمل في الاَحاديث في ضد معناه ، بينما يستعمل اسم القدرية للمؤمن بالقدر ولمنكر القدر . . ويعرف ذلك من سياق الكلام .

القدرية الجبرية ( الذين يثبتون القدر )

أما الذين يثبتون فعل الله تعالى في حركة الكون وأفعال الاِنسان فيسمون ( القدرية ) لاَنهم يؤمنون بوجود سلطة لله تعالى على أفعال الاِنسان وحركة الطبيعة بشكل من الاشكال ، وهؤلاء منهم من يفرط في إثبات الفعل الاِلَهي في أفعال الاِنسان فينسبون أفعال الاِنسان إلى الله تعالى نسبةً كاملة فيسمون ( الجبرية ) وهم أكثر المرجئة ، ولعلهم أكثر إخواننا السنة ، وإن لم يصرحوا بذلك . . والسبب في ذلك
( 367 )
وجود أحاديث ثبتت عندهم عن الخليفة عمر ومن تبعه من الصحابة توجب القول بذلك ، وهي نقطة التقاء شديدة بينهم وبين المرجئة وقد أشرنا إلى أن السبب في جبرية المرجئة أن أحاديث الاِرجاء التي صحت عندهم رافقتها أحاديث الجبر مرافقة الاَخت لاَختها ، بل كانت نفسها في بعض الاَحيان . . ومن هنا قلنا إن الاِرجاء والجبر أخوان شقيقان لاَب وأم .

ـ قال في شرح المواقف ج 8 ص 146
المقصد الاَول في أن أفعال العباد الاِختيارية واقعة بقدرة الله سبحانه وتعالى وحدها ، وليس لقدرتهم تأثير فيها بل الله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرةً واختياراً ، فإذا لم يكن هناك مانعٌ أوجد فيه فعله المقدور مقارناً لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقاً لله إبداعاً وإحداثاً ، ومكسوباً للعبد ، والمراد بكسبه إياه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاً له ! وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الاَشعري .انتهى .
وأقدم الاَحاديث في الجبر مروية عن الخليفة عمر وكعب الاَحبار ، وقد تقدم عدد منها في توسيع الشفاعة وفناء النار ، ونذكر فيما يلي بعضها :

ـ روى أحمد في مسنده ج 1 ص 29
عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أرأيت ما نعمل فيه أقد فرغ منه أو في شيء مبتدأ أو أمر مبتدع ؟ قال : فيما قد فرغ منه . فقال عمر ألا نتكل ؟ فقال : إعمل يا ابن الخطاب فكل ميسر ، أما من كان من أهل السعادة فيعمل للسعادة ، وأما أهل الشقاء فيعمل للشقاء !
ورواه في ج 2 ص 77 ، ونحوه في الترمذي ج 4 ص 352 ونحوه الحاكم ج 2 ص 462 وقال : هذا حديث صحيح الاِسناد ولم يخرجاه .
ورواه في مجمع الزوائد ج 7 ص 194 عن أبي بكر وعن عمر وقال : رواه البزار ورجاله رجال الصحيح . ورواه في كنز العمال بعدة روايات في ج 1 ص 128 وص 339

( 368 )

ـ ورواه البخاري بصيغة أخرى تذكر أن الله تعالى يتحمل مسؤولية خطيئة آدم عليه السلام ، عيناً كما في التوراة ! . . قال في صحيحه ج 4 ص 131
عن أبي هريرة : قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : احتج آدم وموسى فقال له موسى : أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة ؟ فقال له آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه ثم تلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فحج آدم موسى مرتين ! انتهى .
ورواه بصيغة أخرى أيضاً فيها تعنيفٌ لآدم قال في ج 7 ص 214 فيها ( فقال له موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة ) ، وروى نحوه أيضاً في ج 8 ص 203
فهذه النصوص الصحيحة عندهم تقول بالجبر في أفعال الاِنسان ، وفي تكوين الكون معاً .

القدر عند أهل البيت عليهم السلام : لا جبر ولا تفويض

أما مذهب أهل البيت عليهم السلام فهو يثبت القدر ويؤمن بسلطة الله تعالى على أفعال الاِنسان وفعله فيها ، ولكنه يقول لا تصح نسبة المعصية إليه تعالى وإن كان الاِقدار عليها منه تعالى ، أما نسبتها التي تستلزم تحمل مسؤوليتها فهي لفاعلها الذي هو الاِنسان . .
فالاِنسان في هذا المذهب ليس مجبوراً في أفعاله الاِختيارية ولا مفوضاً إليه ، ولا مجرد مجرى لافعاله كمجرى النهار ، بل حاله من نوع آخر يوجد فيه القدر الاِلَهي بشكل كامل لصغير الاَمور وكبيرها ويوجد فيه حرية الاِنسان ومسؤوليته . وهذا معنى ( لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين ) .
وقد أكد أهل البيت عليهم السلام على هذا النوع من القدر ، وقاوموا المفوضة لاِنكارهم سلطان الله تعالى على صغير الاَمور وكبيرها . كما قاوموا القائلين بالجبر في أفعال الاِنسان لاَنهم ينسبون المعاصي إلى الله تعالى ، وينسبون إليه الظلم بمجازاة الاِنسان
( 369 )
عليها ! وكذلك القائلين بالجبر في الخلق والتكوين والتخطيط ، لاَنهم يريدون تصوير الكون بأنه آلة وضع الله مخططها وأطلقها ولا يمكنه البداء والتغيير والتبديل فيها وهم اليهود الذين قالوا ( يد الله مغلولة ) والمسلمون الذين قلدوهم فقالوا ( فرغ من الاَمر ) .

ـ روى الصدوق في معاني الاَخبار ص 18
عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال في قول الله عز وجل : وقالت اليهود يد الله مغلولة ، لم يعنوا أنه هكذا ولكنهم قالوا: قد فرغ من الاَمر فلا يزيد ولا ينقص ، فقال الله جل جلاله تكذيباً لقولهم : غُلَّتْ أيديهم ولُعِنُوا بما قالو بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء . ألم تسمع الله عز وجل يقول : يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب .

ـ وقال الحويزي في تفسير نور الثقلين ج 2 ص 514
في عيون الاَخبار في باب مجلس الرضا عليه السلام مع سليمان المروزي قال الرضا عليه السلام بعد كلام طويل لسليمان : ومن أين قلت ذلك وما الدليل على أن إرادته علمه ؟ وقد يعلم ما لا يريده أبداً وذلك قوله تعالى : ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك فهو يعلم كيف يذهب به ولا يذهب به أبداً ؟
قال سليمان : لاَنه قد فرغ من الاَمر فليس يزيد فيه شيئاً .
قال الرضا عليه السلام : هذا قول اليهود ، فكيف قال : أدعوني أستجب لكم ؟
قال سليمان : إنما عنى بذلك أنه قادر عليه !
قال : أفيعد بما لا يفي به ؟! فكيف قال : يزيد في الخلق ما يشاء ؟ وقال عز وجل : يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ، وقد فرغ من الاَمر ؟!
فلم يَحِرْ جواباً .
وفي هذا المجلس أيضاً قال الرضا عليه السلام :
يا سليمان إن من الاَمور أموراً موقوفة عند الله تعالى ، يقدم منها ما يشاء ويؤخر ما يشاء .

( 370 )
يا سليمان إن علياً عليه السلام كان يقول : العلم علمان ، فعلم علمه الله ملائكته ورسله فإنه يكون ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ورسله .
وعلم عنده مخزونٌ لم يطلع عليه أحداً من خلقه ، يقدم منه ما يشاء ويؤخر ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء . انتهى .
وبذلك يتضح أن البداء الذي يؤكد أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله على أنه جزءٌ من الاِسلام، وأنه ما عبد الله بشيَ كما عبد به ، إنما هو نفي الجبرية على الله تعالى ، ونفي زعم اليهود أن يده مغلولة بحجة أنه فرغ من الاَمر !
ويتضح منه أن الذين يشنعون على الشيعة بعقيدة البداء . . لم يفهموها !