ردة فعل الخوارج على توسيع الدولة للشفاعة
من الواضح للباحث أن بذور تفكير الخوارج ولدت في عهد الخليفة عمر ، وكانت تأخذ شكل اعتراضات على عدم تطبيق الخليفة للقرآن ، كما نلاحظ في أسئلة الوفد المصري ( الدر المنثور ج 2 ص 145 )
ثم نمت في عهد الخليفة عثمان . .
ثم أخذت شكل اتجاه فكري في فهم الدين ، وشكل حزب سياسي معارض في عهد الاِمام علي عليه السلام
ثم استمرت مذهباً وحزباً مسلحاً في معارضة الاَمويين والعباسيين وتكفيرهم وقتالهم . .
ومن أبرز صفات الخوارج الفكرية : جمودهم في فهم الدين ، وميلهم إلى إصدار الاَحكام الكلية بدون شروط ولا تفاصيل ولا استثناءات ، وتكفيرهم من خالفهم من فرق المسلمين ، وفتواهم بهدر دمائهم ووجوب جهادهم .
وهذا المنحى الذهني يقع في الجهة المضادة لمذهب المرجئة الذي تتبناه السلطة ، المنحى المتساهل في أداء الواجبات وترك المحرمات ، المفرط في تأميل
( 371 )
الناس بالشفاعة والجنة مهما عصوا. . ماعدا المعارضين للدولة طبعاً .
لقد ساعد مذهب الاِرجاء الدولة وأتباعها في تخفيف المسؤولية المشددة في القرآن و السنة على الحكام ، ولكنه سبب ردات فعلٍ في الاَمة فظهرت فئات تنكر أصل الشفاعة التي تتذرع بها الدولة ، وتكذب كل أحاديثها وتؤول كل آياتها . . ولم يكن ذلك منحصراً بالخوارج ، وإن اشتهروا به .
بل تدل روايات السنيين على أن ردود الفعل على توسيع الشفاعة بدأت من زمن الخليفة عمر ، ولكنه لم يستطع أن يؤدب أصحابها بالسوط ، إما لاَنه لم يعرفهم بالضبط ، أو لسبب آخر ، فخطب محذراً منهم بشدة !

ـ قال في مجمع الزوائد ج 7 ص 207
عن ابن عباس قال : خطب عمر بن الخطاب فحمد الله وأثنى عليه فقال : ألا إنه سيكون من بعدكم قوم يكذبون بالرجم وبالدجال وبالشفاعة !
وروى نحوه في مسند أحمد ج 1 ص 23 وفي الدر المنثور ج 3 ص 60 : عن سعيد بن منصور والبيهقي عن ابن عباس وفي كنز العمال ج 1 ص 387 وج 5 ص 429 وص 431 وفيه ( قال أمر عمر بن الخطاب منادياً فنادى أن الصلاة جامعة ، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال . . . ) .
ويظهر من النص التالي أن بني أمية أفرطوا في التأكيد على الشفاعة أيضاً ، ففي فردوس الاَخبار للديلمي ج 1 ص 116 ح 254 : عن معاوية : إشفعوا إليّ تؤجروا ، فإن الرجل ليسألني الحاجة فأرده كي تشفعوا له فتؤجروا ! . انتهى .
أما الخوارج فقد ثبت أنهم كانوا يقولون : إن مرتكب المعصية الكبيرة أو الصغيرة كافر ، وإذا مات ولم يتب فهو مخلد في النار ، وأنه لا شفاعة لاَحد أبداً ولا خروج من النار !
وأول من تصدى لرد مقولتهم الاَئمة من أهل البيت عليهم السلام ثم تبعهم غيرهم .

( 372 )

ـ قال البرقي في المحاسن ج 1 ص 184
عن علي بن أبي حمزة قال : قال رجل لاَبي عبد الله عليه السلام : إن لنا جاراً من الخوارج يقول : إن محمداً صلى الله عليه وآله يوم القيامة همه نفسه فكيف يشفع ؟! فقال أبو عبد الله عليه السلام : ما أحدٌ من الاَولين والآخرين إلا وهو يحتاج إلى شفاعة محمدٍ صلى الله عليه وآله يوم القيامة .

ـ وقال العياشي في تفسيره ج 2 ص 314
عن عبيد بن زرارة قال : سئل أبو عبدالله عليه السلام عن المؤمن هل له شفاعة ؟ قال : نعم ، فقال له رجل من القوم : هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد يومئذ ؟ قال : نعم إن للمؤمنين خطاياً وذنوباً ، وما من أحد إلا ويحتاج إلى شفاعة محمدٍ صلى الله عليه وآله يومئذ .
قال : وسأله رجل عن قول رسول الله صلى الله عليه وآله : أنا سيد ولد آدم ولا فخر ؟ قال : نعم ، يأخذ حلقة باب الجنة فيفتحها فيخر ساجداً فيقول الله : إرفع رأسك إشفع تشفع أطلب تعط ، فيرفع رأسه ثم يخر ساجداً فيقول الله : إرفع رأسك إشفع تشفع واطلب تعط ، ثم يرفع رأسه فيشفع فيشفع ، ويطلب فيعطى .

ـ وفي تفسير القمي ج 2 ص 201
قال : حدثني أبي ، عن ابن أبي عمير ، عن معاوية بن عمار ، عن أبي العباس المكبر قال : دخل مولى لامرأة علي بن الحسين عليه السلام على أبي جعفر عليه السلام يقال له أبو أيمن فقال : يا أبا جعفر يغرون الناس ويقولون شفاعة محمد شفاعة محمد ؟!
فغضب أبو جعفر عليه السلام حتى تربَّدَ وجهه ، ثم قال : ويحك يا أبا أيمن ! أغرَّك أن عفَّ بطنك وفرجك ؟! أما لو قد رأيت أفزاع القيامة لقد احتجت إلى شفاعة محمد صلى الله عليه وآله ! ويلك ! فهل يشفع إلا لمن وجبت له النار ؟!
ثم قال : ما أحد من الاَولين والآخرين إلا وهو محتاج إلى شفاعة محمد صلى الله عليه وآله يوم القيامة .
ثم قال أبو جعفرعليه السلام : إن لرسول الله صلى الله عليه وآله الشفاعة في أمته ، ولنا الشفاعة في شيعتنا ، ولشيعتنا الشفاعة في أهاليهم .

( 373 )
ثم قال : وإن المؤمن ليشفع في مثل ربيعة ومضر ، فإن المؤمن ليشفع حتى لخادمه ويقول : يارب حق خدمتي كان يقيني الحر والبرد . ورواه في بحار الاَنوار ج 8 ص 38 وفي تفسير نور الثقلين ج 4 ص 102 و334

ـ وفي الاَدب المفرد للبخاري ص 224
عن طلق بن حبيب قال : كنت أشد الناس تكذيباً بالشفاعة فسألت جابراً فقال : يا طلق سمعت النبي يقول : يخرجون من النار بعد الدخول .

ـ وقال السيوطي في الدر المنثور ج 6 ص 286
وأخرج ابن مردويه عن صهيب الفقير قال : كنا بمكة ومعي طلق بن حبيب ، وكنا نرى رأي الخوارج ، فبلغنا أن جابر بن عبد الله يقول في الشفاعة فأتيناه فقلنا له : بلغنا عنك في الشفاعة قول الله مخالف لك فيها في كتابه ! فنظر في وجوهنا فقال : من أهل العراق أنتم ؟! قلنا نعم ، فتبسم وقال : وأين تجدون في كتاب الله ؟ قلت : حيث يقول : ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ، ويريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ، وكلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها ، وأشباه هذا من القرآن .
فقال : أنتم أعلم بكتاب الله أم أنا ؟ قلنا بل أنت أعلم به منا . قال : فوالله لقد شهدت تنزيل هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وشفاعة الشافعين ، ولقد سمعت تأويله من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الشفاعة لنبيه في كتاب الله ، قال في السورة التي تذكر فيها المدثر : ما سلككم في سقر ؟ قالوا لم نك من المصلين الآية . ألا ترون أنها حلت لمن مات لم يشرك بالله شيئاً ؟!.

ـ وفي تفسير الطبري ج 4 ص 141
عن الاَشعث الحملي قال قلت للحسن : يا أبا سعيد أرأيت ما تذكر من الشفاعه حق هو ؟ قال : نعم حق .

( 374 )

ـ وفي فتح القدير للشوكاني ج 5 ص 567
وأخرج بن المنذر عن طريق حرب بن شريح قال : قلت لاَبي جعفر محمد بن علي بن الحسين : أرأيت هذه الشفاعة التي يتحدث بها أهل العراق أحقٌّ هي ؟ قال : إي والله .

ـ وفي دلائل النبوة للبيهقي ج 1 ص 25
عن شبيب بن أبي فضالة المالكي : لما بنى مسجد الجامع ذكروا عند عمران بن حصين الشفاعة فقال رجل من القوم : إنكم تحدثونا بأحاديث لم نجد لها أصلاً في كتاب الله ، وعمران يقول أنتم أخذتم هذا الشأن منا ، وأخذنا نحن عن نبي الله .

ـ وفي الجواهر الحسان للثعالبي ج 1 ص 356
قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به . . . قالت المعتزله : إذا كان صاحب كبيرة فهو في النار ولا بد ، وقالت الخوارج إذا كان صاحب كبيره أو صغيره فهو في النار مخلد .

ـ وفي تطهير الجنان لابن حجر ص 38
إن قلت : في هذا الحديث ( كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا رجل يموت كافراً أو يقتل مؤمناً متعمداً ) دليل للمعتزلة والخوارج قبحهم الله تعالى على أن الكبيرة لا تغفر ؟
قلت : لا دليل لهم فيها أبداً ، لقوله تعالى : ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها ، لوجوب حملها على المستحل . . . بدليل قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، وهو مخصص أيضاً بقوله تعالى : إن الله يغفر الذنوب جميعاً . . . قد ضل . . . فرقٌ من فرق الضلالة القائلون بأن مرتكب الكبيرة إذا مات بلا توبة يخلد ، وهؤلاء المعتزلة والخوارج ، والفرق بينهما إنما هو من حديث إن الميت فاسقاً هل هو كافر أو لا مؤمن ولا كافر ؟ فالخوارج على الاَول والمعتزلة على الثاني .

( 375 )

ـ وفي مقالات الاِسلاميين للاَشعري ج 1 ص 124
وأما الوعيد فقول المعتزلة فيه وقول الخوارج قولٌ واحد ، لاَنهم يقولون أن أهل الكبائر الذين يموتون على كبائرهم في النار خالدون .

ـ وفي مقالات الاِسلاميين ج 1 ص 86 ـ 87
وأجمعوا ( الخوارج ) على أن كل كبيرة كفر إلا النجدات ، فإنها لاتقول ذلك . وأجمعوا أن الله سبحانه يعذب أصحاب الكبائر عذاباً دائماً إلا النجدات .
والاَزارقة ( من الخوارج ) تقول إن كل كبيرة كفر ، وإن الدار دار كفر يعنون دار مخالفيهم ، وإن كل مرتكب معصية كبيرة ففي النار خالداً مخلداً ، ويكفرون علياً رضي الله عنه في التحكيم .

ـ وقال في شرح المواقف ج 4 جزء 8 ص 334
إن مرتكب الكبيره من أهل الصلاة . . . مؤمن . . . ذهب الخوارج إلى أنه كافر ، والحسن البصري إلى أنه منافق ، والمعتزلة إلى أنه مؤمن ولا كافر .

ـ وقال الرازي في تفسيره ج 1 جزء 3 ص 238
إن المعصية عند المعتزلة وعندنا لا توجب الكفر ، أما عندنا فلاَن صاحب الكبيرة مؤمن ، وأما عند المعتزلة فلاَنه وإن خرج عن الاِيمان فلم يدخل في الكفر ، وأما عند الخوارج فكل معصية كفر .

ـ وقال الرازي في تفسيره ج 6 جزء 12 ص 5
قالت الخوارج : كل من عصى الله فهو كافر . . . احتجوا بهذه الآية ( ومن لم يحكم...) وقالوا إنها نص في أن كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر ، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله ، فوجب أن يكون كافراً .

ـ وقال الرازي في ج 15 جزء 30 ص 239
إن الخوارج احتجوا بهذه الآية ( إما شاكراً وإما كفورا ) على أنه لا واسطة بين
( 376 )
المطيع والكافر قالوا : لاَن الشاكر هو المطيع والكفور هو الكافر ، والله تعالى نفى الواسطة وذلك يقتضي أن يكون كل ذنب كفراً .

ـ وقال النووي في شرح مسلم ج 1 جزء 1 ص 218
قال القاضي عياض : اختلف الناس فيمن عصى الله من أهل الشهادتين ، فقالت المرجئة : لا تضره المعصية ، وقالت الخوارج : تضره ويكفر بها ، وقالت المعتزلة : يخلد في النار ، وقالت الاَشعرية : بل هو مؤمن . .

ـ وقال المجلسي في بحار الاَنوار ج 8 ص 62
وقال النووي في شرح صحيح مسلم : قال القاضي عياض : مذهب أهل السنة جواز الشفاعة عقلاً ، ووجوبها سمعاً بصريح الآيات وبخبر الصادق ، وقد جاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين ، وأجمع السلف الصالح ومن بعدهم من أهل السنة عليها . ومنعت الخوارج وبعض المعتزلة منها ، وتعلقوا بمذاهبهم في تخليد المذنبين في النار ، واحتجوا بقوله تعالى: فما تنفعهم شفاعة الشافعين وأمثاله وهي في الكفار .
وأما تأويلهم أحاديث الشفاعة بكونها في زيادة الدرجات فباطل ، وألفاظ الاَحاديث في الكتاب وغيره صريحة في بطلان مذهبهم وإخراج من استوجب النار .
( راجع شرح مسلم للنووي ج 2 جزء 3 ص 35 )

ـ وفي شرح مسلم للنووي ج 2 جزء 3 ص 50
رأي الخوارج . . أنهم يرون أن أصحاب الكبائر يخلدون في النار .

ـ وفي إرشاد الساري للقسطلاني ج 1 ص 115
لا ينسب إلى الكفر باكتساب المعاصي والاِتيان بها إلا بالشرك أي بارتكابه ، خلافاً للخوارج القائلين بتكفيره بالكبيرة ، والمعتزلة القائلين بأنه لا مؤمن ولا كافر .

( 377 )

ـ وفي فتاوي ابن باز ج 2 ص 27
وذهب الخوارج إلى أن صاحب المعصية مخلد في النار وهو بالمعاصي كافر أيضاً ووافقهم المعتزلة بتخليده في النار .

ـ وفي فتاوي ابن باز ج 3 ص 367
قول أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة . . . المعاصي التي دون الشرك لا تحبط الاَعمال الصالحة ولا تبطل ثوابها . .

* *


ـ وفي بحار الاَنوار ج 8 ص 364
قال العلامة رحمه الله في شرحه على التجريد : أجمع المسلمون كافة على أن عذاب الكافر مؤبد لا ينقطع ، واختلفوا في أصحاب الكبائر من المسلمين ، فالوعيدية على أنه كذلك ، وذهبت الاِمامية وطائفة كثيرة من المعتزلة والاَشاعرة إلى أن عذابه منقطع . والحق أن عقابهم منقطع لوجهين :
الاَول ، أنه يستحق الثواب بإيمانه لقوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره .
والاِيمان أعظم أفعال الخير فإذا استحق العقاب بالمعصية فإما يقدم الثواب على العقاب وهو باطل بالاِجماع ، لاَن الثواب المستحق بالاِيمان دائم على ما تقدم ، أو بالعكس وهو المراد ، والجمع محال .
الثاني ، يلزم أن يكون من عبد الله تعالى مدة عمره بأنواع القربات إليه ثم عصى في آخر عمره معصية واحدة مع بقاء إيمانه مخلداً في النار كمن أشرك بالله مدة عمره ، وذلك محال لقبحه عند العقلاء . انتهى .

ـ وفي بحار الاَنوار ج 8 ص 370
وقال شارح المقاصد : اختلف أهل الاِسلام فيمن ارتكب الكبيرة من المؤمنين ومات قبل التوبة ، فالمذهب عندنا عدم القطع بالعفو ولا بالعقاب بل كلاهما في مشيئة الله تعالى ، لكن على تقدير التعذيب نقطع بأنه لا يخلد في النار بل يخرج
( 378 )
البتة، لا بطريق الوجوب على الله تعالى ، بل مقتضى ما سبق من الوعد وثبت بالدليل كتخليد أهل الجنة .
وعند المعتزلة القطع بالعذاب الدائم ، من غير عفو ولا إخراج من النار ، وما وقع في كلام البعض من أن صاحب الكبيرة عند المعتزلة ليس في الجنة ولا في النار فغلطٌ نشأ من قولهم : إن له المنزلة بين المنزلتين ، أي حالة غير الاِيمان والكفر .
وأما ما ذهب إليه مقاتل بن سليمان وبعض المرجئة من أن عصاة المؤمنين لا يعذبون أصلاً وإنما النار للكفار تمسكاً بالآيات الدالة على اختصاص العذاب بالكفار مثل : قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى ، إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين .
فجوابه : تخصيص ذلك العذاب بما يكون على سبيل الخلود .
وأما تمسكهم بمثل قوله عليه السلام : من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق ، فضعيف ، لاَنه إنما ينفي الخلود لا الدخول .
لنا وجوه : الاَول ، وهو العمدة : الآيات والاَحاديث الدالة على أن المؤمنين يدخلون الجنة البتة ، وليس ذلك قبل دخول النار وفاقاً ، فتعين أن يكون بعده وهو مسألة انقطاع العذاب ، أو بدونه وهو مسألة العفو التام ، قال الله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره . من عمل صالحاً منكم من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة .

تبادل المواقع بين الخوارج والمرجئة !

يحسن هنا أن نسجل أمراً طريفاً نلاحظه في عصرنا ، وهو تبادل المواقع بين ورثة الخوارج ، وورثة الخلافة الاَمويين والمرجئة !
فورثة الخوارج ( الاَباضيون ) تنازلوا عن العنف الفكري وسجلوا ليونتهم العقائدية والفقهية تجاه فرق المسلمين . . بينما ورثة الخلافة الاَموية ( التكفير
( 379 )
والهجرة والوهابيون ) تخلوا عن أفكار الليونة والتسامح ، وتبنوا مذهب العنف والشدة ، وأفتوا بكفر كل فرق المسلمين ، ماعدا فرقتهم ! ولعلهم يتخلون أيضاً عن شمول الشفاعة لكل المسلمين ويحصرونها بفرقتهم . . كما يشم ذلك من فكرهم !
وهكذا تتغير المواقع الفكرية والسياسية مع العصور من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار . . وسبحان من لا يتغير .

المعتزلة مثقفون متوسطون بين الدولة والخوارج

ـ قال ابن ناصر الدين في توضيح المشتبه ج 8 ص 204
ولد واصل سنة ثمانين بالمدينة وكان يجلس إلى الحسن البصري ، فلما ظهر بين أهل السنة القول من الخوارج بتكفير أهل الكبائر ، ومن المرجئة بجعلهم إيمان أهل الكبائر كإيمان جبرئيل وميكائيل ، أبدع واصل ( بن عطاء مولى بني ضبة ) قوله في المنزلة بين المنزلتين . . . مات واصل سنة إحدى وثلاثين ومئة .

الصغائر تغفر والكبائر لا تغفر إلا بالتوبة

ـ مقالات الاِسلاميين للاَشعري ج 1 ص 270
واختلفت المعتزلة . . في الصغائر والكبائر . . فقال قائلون منهم : كل ما أتى فيه الوعيد فهو كبير ، وكل ما لم يأت فيه الوعيد فهو صغير . . وقال جعفر بن ميثر : كل عمد كبير وكل مرتكب لمعصية متعمداً لها فهو مرتكب لكبيرة . . .
واختلفت المعتزلة في غفران الصغائر . . . فقال قائلون : إن الله سبحانه يغفر الصغائر إذا اجتنبت الكبائر تفضلاً . . وقال قائلون : لا يغفر الصغائر إلا بالتوبة .

ـ وقال في شرح المواقف ج 8 ص 303
أوجب جميع المعتزلة والخوارج عقاب صاحب الكبيرة إذا مات بلا توبة ، ولم يجوزوا أن يعفو الله عنه ، لوجهين : الاَول أنه تعالى أوعد بالعقاب على الكبائر وأخبر
( 380 )
به أي بالعقاب عليها ، فلو لم يعاقب على الكبيرة وعفا لزم الخلف في وعيده والكذب في خبره ، وإنه محال .
الجواب : غايته وقوع العقاب فأين وجوبه الذي كلامنا فيه ، إذ لا شبهة في أن عد الوجوب مع الوقوع لا يستلزم خلفاً ولا كذباً .
قالت المعتزلة والخوارج : صاحب الكبيرة إذا لم يتب عنها مخلد في النار ولا يخرج منها أبداً . وعمدتهم في إثبات ما ادعوه دليل عقلي هو أن الفاسق يستحق العقاب بفسقه ، واستحقاق العقاب بل العقاب مضرة خالصة لا يشوبها ما يخالفها دائمة لا تنقطع أبداً . واستحقاق الثواب بل الثواب منفعة خالصة عن الشوائب دائمة. والجمع بينهما أي بين استحقاقهما محال ، كما أن الجمع بينهما محال .

ـ وقال في شرح المواقف ج 8 ص 334
مرتكب الكبيرة من أهل الصلاة أي من أهل القبلة مؤمن ، وقد تقدم بيانه في مسألة حقيقة الاِيمان وغرضنا هاهنا ذكر مذهب المخالفين والجواب عن شبهتهم : ذهب الخوارج إلى أنه كافر ، والحسن البصري إلى أنه منافق ، والمعتزلة إلى أنه لا مؤمن ولا كافر .
حجة الخوارج وجوه : الاَول قوله تعالى : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأؤلئك هم الكافرون ، فإن كلمة (من ) عامة في كل من لم يحكم بما أنزل ، فيدخل فيه الفاسق المصدق . وأيضاً فقد علل كفرهم بعدم الحكم ، فكل من لم يحكم بما أنزل الله كان كافراً ، والفاسق لم يحكم بما أنزل الله .
قلنا: الموصولات لم توضع للعموم ، بل هي للجنس تحتمل العموم والخصوص .

ـ وفي ثمرات الاَوراق بهامش المستطرف ص 13
المعتزلة طائفة من المسلمين يرون أن أفعال الخير من الله وأفعال الشر من الاِنسان وأن القرآن مخلوق محدث ليس بقديم وان الله تعالى غير مرئي يوم القيامة ، وأن المؤمن إذا ارتكب الذنب مثل الزنا وشرب الخمر كان في منزلة بين منزلتين .

( 381 )

ـ تأويلات أهل السنة للحنفي ج 1 ص 630
وقوله تعالى : ويكفر عنكم سيئاتكم ، فيه دليل على أن من السيئات ما يكفرها الصدقة . . . وهو نقض على المعتزلة لاَنهم لا يرون تكفير الكبائر بغير التوبة عنها ، ولا التعذيب على الصغائر . فأما إن كانت الآية في الكبائر فبطل قولهم ( لا يكفر بغير التوبة ) أو في الصغائر يبطل قولهم إنها مغفورة ، إذ وعدت بالصدقة لاَنهم يخلدون صاحب الكبيره في النار ، والله تعالى أطمع له تكفير السيئات بالصدقة .

وصاحب الكبيرة في النار ولا تشمله الشفاعة

ـ شرح المواقف ج 4 جزء 8 ص 312
أجمعت الاَمة على ثبوت أصل الشفاعة المقبولة له عليه الصلاة والسلام ، ولكن هي عندنا لاَهل الكبائر من الاَمة في إسقاط العقاب عنهم . . . وقالت المعتزلة : إنما هي لزيادة الثواب لا لدرأ العقاب ، لقوله تعالى : واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ، وهو عام في شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام وغيره .
الجواب : أنه لا عموم له في الاَعيان ، لاَن الضمير لقوم معينين هم اليهود ، فلا يلزم أن لا تنفع الشفاعة غيرهم .

ـ تأويلات أهل السنة ج 1 ص 590
قال المعتزلة : لا تكون الشفاعة إلا لاَهل الخيرات خاصة ، الذين لا ذنب لهم أو كان لهم ذنب فتابوا عنه .

ـ تفسير الرازي 11 جزء 22 ص 160
احتجت المعتزلة بقوله تعالى : ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ، على أن الشفاعة في الآخرة لا تكون لاَهل الكبائر ، لاَنه لا يقال في أهل الكبائر إن الله يرتضيهم .

( 382 )

ـ تفسير الرازي 11 جزء 22 ص 118
المعتزلة قالوا : الفاسق غير مرضي عند الله تعالى ، فوجب أن لا يشفع الرسول (ص) في حقه لاَن هذه الآية ( يومئذ لا تنفع الشفاعة ) دلت على أن المشفوع له لابد وأن يكون مرضياً عند الله .

ـ تفسير الرازي ج 12 جزء 23 ص 66
أما قوله ( وما للظالمين من نصير ) احتجت المعتزلة بهذه الآية في نفي الشفاعة .

وقال في ج 14 جزء 27 ص 33
احتج الكعبي بهذه الآية على أن تأثير الشفاعة في حصول زيادة الثواب للمؤمنين، لا في إسقاط العقاب عن المذنيين .

ـ وقال في ج 4 جزء 7 ص 10
قال القفال : إنه لا يأذن في الشفاعة لغير المطيعين . . . وأقول إن هذا القفال عظيم الرغبة في الاِعتزال . . . ومع ذلك فقد كان قليل الاِحاطة بأصولهم . وذلك لاَن من مذهب البصريين أن العفو عن صاحب الكبيرة حسن في العقول . . إلا أن السمع دل... لا يقع ، وإذا كان كذلك كان الاِستدلال العقلي على المنع من الشفاعة في حق العصاة خطأ على قولهم .

ـ وفي إرشاد الساري للقسطلاني ج 8 ص 340
قوله تعالى : ومن يعمل سوءاً يجز به ، استدل بهذه الآية المعتزلة على أنه تعالى لا يعفو عن شيء من السيئات .

ـ وفي إرشاد الساري ج 9 ص 447
المعصية لا تخرج المسلم عن الاِيمان ، خلافاً للمعتزلة المكفرين بالذنب ، القائلين بتخليد العاصي بالنار .

ـ وفي معجم الاَدباء للحموي ج 9 جزء 17 ص 81
قال عبدالعزيز بن محمد الطبري : كان أبو جعفر ( الطبري ) يذهب في جل
( 383 )
مذاهبه إلى ما عليه الجماعة من السلف . . . وكان يذهب إلى مخالفة أهل الاِعتزال في جميع ماخالفوا فيه الجماعة ، من القول بالقدر وخلق القرآن وإبطال رؤية الله في القيامة ، وفي قولهم بتخليد أهل الكبائر في النار ، وإبطال شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي قولهم إن استطاعة الاِنسان قبل فعله .

ـ وفي طبقات الشافعية للسبكي ج 3 ص 347
يصف تحول الاَشعري من الاِعتزال إلى خط الدولة ( أهل السنة والجماعة ) قام علي بن اسماعيل بن أبي بشر على الاِعتزال أربعين سنة حتى صار للمعتزلة إماماً . . . وهو الذي قال : تكافأت عندي الاَدلة ولم يترجح عندي شيء على شيء فاستهديت الله فهداني إلى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذه وانخلعت من جميع ما كنت أعتقده . . ودفع الكتب التي ألفها على مذاهب أهل السنة للناس . . وأخذ في نصرة الاَحاديث في الرؤية والشفاعة . انتهى .
هذا وقد تقدمت نصوص عن رأي المعتزلة في آراء المرجئة والخوارج في هذا الفصل وفي تعريف الشفاعة في الفصل الاَول .

* *

( 384 )

( 385 )


الفصل الحادي عشر
المزيد من تأثير الاِسرائيليات على أحاديث الشفاعة


اتفق الجميع نظرياً على أن الشفاعة من مختصات نبينا صلى الله عليه وآله

قد يستشكل على أحاديث اختصاص الشفاعة بنبينا صلى الله عليه وآله الواردة في مصادر الفريقين ، بأنها تنافي الاَحاديث الصحيحة التي تثبت الشفاعة لغير نبينا صلى الله عليه وآله .
والجواب : أن وجه الجمع بين الاَحاديث أن باب الشفاعة إنما يفتح يوم القيامة إكراماً لنبينا صلى الله عليه وآله . . وكل من يشفع من الملائكة والاَنبياء والاَوصياء والعلماء والشهداء والمؤمنين ، فإنما يشفع بإجازته وبالسهم الذي يعطيه إياه شفيع المحشر صلى الله عليه وآله !
فلا منافاة بين أحاديث اختصاصه بالشفاعة صلى الله عليه وآله وبين مادل على ثبوتها لغيره من الاَنبياء عليهم السلام إلا ما دل منها على أن لغيره شفاعة مستقلة أو أنه يشفع قبله كما في أحاديث الاِسرائيليات الآتية .

( 386 )

ـ من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 240
قال النبي صلى الله عليه وآله : أعطيت خمساً لم يعطها أحدٌ قبلي : جعلت لي الاَرض مسجداً وطهوراً ، ونصرت بالرعب ، وأحل لي المغنم ، وأعطيت جوامع الكلم ، وأعطيت الشفاعة . ورواه في وسائل الشيعة ج 2 ص 438 وفي سائل الشيعة ج 3 ص 422 وفي مستدرك الوسائل ج 2 ص 529

ـ علل الشرائع ج 1 ص 127
حدثنا أبوالحسين محمد بن علي بن الشاه قال : حدثنا أبوبكر محمد بن جعفر بن أحمد البغدادي بآمد قال : حدثنا أبي قال : حدثنا أحمد بن السخت قال : حدثنا محمد بن الاَسود الوراق عن أيوب بن سليمان عن حفص بن البختري عن محمد بن حميد عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله :
أنا أشبه الناس بآدم وإبراهيم أشبه الناس بي خلقه وخلقه .
وسماني الله من فوق عرشه عشرة أسماء وبين الله وصفي وبشرني على لسان كل رسول بعثه الله إلى قومه .
وسماني ونشر في التوراة باسمي وبث ذكري في أهل التوراة والاِنجيل وعلمني كتابه ورفعني في سمائه وشق لي إسماً من أسمائه فسماني محمداً وهو محمود .
وأخرجني في خير قرن من أمتي وجعل اسمي في التوراة أحيد فبالتوحيد حرم أجساد أمتي على النار .
وسماني في الاِنجيل أحمد فأنا محمود في أهل السماء .
وجعل أمتي الحامدين وجعل اسمي في الزبور ماحي محى الله عز وجل بي من الاَرض عبادة الاَوثان .
وجعل اسمي في القرآن محمداً فأنا محمود في جميع القيامة في فصل القضاء لا يشفع أحد غيري .

( 387 )

وسماني في القيامة حاشراً يحشر الناس على قدمي .
وسماني الموقف أوقف الناس بين يدي الله عز وجل .
وسماني العاقب أنا عقب النبيين ليس بعدي رسول .
وجعلني رسول الرحمة ورسول الملاحم والمقتفي قفيت النبيين جماعة وأنا المقيم الكامل الجامع ومن علي ربي وقال لي يا محمد صلى الله عليك فقد أرسلت كل رسول إلى أمته بلسانها وأرسلتك إلى كل أحمر وأسود من خلقي ونصرتك بالرعب الذي لم أنصر به أحداً وأحللت لك الغنيمة ولم تحل لاَحد قبلك وأعطيتك لك ولاَمتك الاَرض كلها مسجداً وترابها طهوراً وأعطيتك ولاَمتك التكبير وقرنت ذكرك بذكري حتى لا يذكرني أحد من أمتك إلا ذكرك مع ذكري فطوبى لك يا محمد ولاَمتك .

ـ تفسير القمي ج 1 ص 194
ثم قال حكاية عن قريش : وقالوا لولا أنزل عليه ملك ، يعني رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولو أنزلنا ملكاً لقضي الاَمر ثم لا ينظرون ، فأخبر عز وجل أن الآية إذا جاءت والملك إذا نزل ولم يؤمنوا هلكوا ، فاستعفى النبي صلى الله عليه وآله من الآيات رأفةً ورحمةً على أمته ، وأعطاه الله الشفاعة .

* *

ـ صحيح البخاري ج 1 ص 86
جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الاَرض مسجداً وطهوراً ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لاَحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة .

( 388 )
ورواه أيضاً في ص ج 1 جزء 1 ص 113 وج 2 جرء 2 ص 105 ونحوه في مسلم ج 2 ص 63 وفي سنن النسائي ج 1 ص 209 وفي سيرة ابن هشام ج 2 ص 234 وفي مسند أحمد ج 5 ص 149

ـ وفي ج 4 ص 417 منه :
عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعطيت خمساً : بعثت إلى الاَحمر والاَسود ، وجعلت لي الاَرض طهوراً ومسجداً ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي ، ونصرت بالرعب شهراً ، وأعطيت الشفاعة وليس من نبي إلا وقد سأل شفاعة وإني أخبأت شفاعتي ثم جعلتها لمن مات من أمتي لم يشرك بالله شيئاً . ونحوه في ج 1 ص 301 وفي الدر المنثور ج 3 ص204 وج 5 ص 237 وسنن الدارمي ج 1 ص 322 وسنن البيهقي ج 9 ص 4 وتفسير الطبري ج 3 ص 2 وصفة الصفوة لابن الجوزي جزء 1 و 2 ص 76 وتفسيرالمنار لرشيد رضا ج 9 ص 300
ـ ولكن الهيثمي ضعف روايته في مجمع الزوائد ج 8 ص 259 فقال :
ابن يزيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فضلت على الاَنبياء بخمس : بعثت إلى الناس كافة ، ودخرت شفاعتي لاَمتي ، ونصرت بالرعب شهراً أمامي وشهراً خلفي ، وجعلت لي الاَرض مسجداً وطهوراً ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لاَحد قبلي . رواه الطبراني وفيه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة وهو متروك .

* *

نبينا صلى الله عليه وآله أول شافع يوم القيامة
في مصادرنا نصوص واضحة صريحة في أن نبينا صلى الله عليه وآله هو خطيب المحشر والشفيع الاَول قبل الاَنبياء ، بل هو شفيع الاَنبياء صلوات الله عليهم جميعاً. . وقد تقدم بعضها آنفاً وفي تفسير قوله تعالى ( عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً ) وفي
( 389 )
بعضها أن الله تعالى قد أذن لنبينا صلى الله عليه وآله بالشفاعة وهو في الدنيا فلا يحتاج إلى إذن يوم القيامة .

ـ في تفسير القمي ج 2 ص 201
قال : حدثني أبي ، عن ابن أبي عمير ، عن معاوية بن عمار ، عن أبي العباس المكبر قال : دخل مولى لامرأة علي بن الحسين عليه السلام على أبي جعفر عليه السلام يقال له أبو أيمن فقال : يا أبا جعفر يغرون الناس ويقولون شفاعة محمد شفاعة محمد فغضب أبو جعفر عليه السلام حتى تربد وجهه ثم قال : ويحك يا أبا أيمن أغرك أن عف بطنك وفرجك ! أما لو قد رأيت أفزاع القيامة لقد احتجت إلى شفاعة محمد صلى الله عليه وآله ! ويلك فهل يشفع إلا لمن وجبت له النار ثم قال : ما أحد من الاَولين والآخرين إلا وهو محتاج إلى شفاعة محمد صلى الله عليه وآله يوم القيامة .
ثم قال أبو جعفر عليه السلام : إن لرسول الله صلى الله عليه وآله الشفاعة في أمته ولنا الشفاعة في شيعتنا ولشيعتنا الشفاعة في أهاليهم .
ثم قال : وإن المؤمن ليشفع في مثل ربيعة ومضر فإن المؤمن ليشفع حتى لخادمه ويقول : يا رب حق خدمتي كان يقيني الحر والبرد . ورواه في بحار الاَنوار ج 8 ص 38 وفي تفسير نور الثقلين ج 4 ص 334 ، وقد تقدم ذلك في الرد على الخوارج .

ـ الصحيفة السجادية ج 2 ص 290
اللهم أنزل محمداً في أشرف منازل الاَبرار ، اللهم اجعل محمداً أول شافع وأول مشفع ، وأول قائل وأنجح سائل . . . اللهم أحسن عنا جزاءه ، وعظم حباءه ، وأكرم مثواه ، وتقبل شفاعته في أمته ، وفي من سواهم من الاَمم ، واجعلنا ممن تشفعه فيه ، واجعلنا برحمتك ممن يرد حوضه يوم القيامة . ونحوه في المقنعة ص 411

ـ الصحيفة السجادية ج 2 ص 30
اللهم فارفعه بما كدح فيك إلى الدرجة العليا من جنتك ، حتى لا يساوى في
( 390 )
منزلة، ولا يكافأ في مرتبة ، ولا يوازيه لديك ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، وعرفه في أهله الطاهرين وأمته المؤمنين من حسن الشفاعة أجل ما وعدته ، يا نافذ العدة ، يا وافي القول ، يا مبدل السيئات بأضعافها من الحسنات ، إنك ذو الفضل العظيم . ونحوه في المقنعة ص 125

ـ تهذيب الاَحكام ج 3 ص 121
اللهم إني أسألك من فضلك بأفضله . اللهم واجعل محمداً صلى الله عليه وآله أدنى المرسلين منك مجلسا ، وأفسحهم في الجنة عندك منزلاً ، وأقربهم اليك وسيلة ، واجعله أول شافع وأول مشفع ، وأول قائل وأنجح سائل ، وابعثه المقام المحمود الذي يغبطه به الاَولون والآخرون يا أرحم الراحمين .

ـ تأويل الآيات ج 2 ص 37
قال علي بن إبراهيم : روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال : لا يقبل الله الشفاعة يوم القيامة لاَحد من الاَنبياء والرسل حتى يأذن في الشفاعة لرسول الله صلى الله عليه وآله فإن الله قد أذن له في الشفاعة من قبل يوم القيامة فالشفاعة له ولاَمير المؤمنين وللاَئمة من ولده ثم بعد ذلك للاَنبياء عليهم السلام أجمعين . ( ورواه في تفسير القمي ج 2 ص 201 ونحوه في تفسير نور الثقلين ج 4 ص 334 ) .

ـ بحار الاَنوار ج 16 ص 326
الاَمالي : أبو عمرو عبد الواحد بن محمد بن مهدي ، عن ابن عقدة ، عن الحسن بن جعفر بن مدرار ، عن عمه طاهر ، عن الحسن بن عمار ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن الحارث ، عن علي عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول من تنشق الاَرض عنه ولا فخر ، وأنا أول شافع وأول مشفع ( أمالي ابن الشيخ 170 ) .

ـ بحار الاَنوار ج 16 ص 304
عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً . عسى من الله واجبة ، والمقام بمعنى البعث
( 391 )
فهو مصدر من غير جنسه ، أي يبعثك يوم القيامة بعثاً أنت محمود فيه ، ويجوز أن يجعل البعث بمعنى الاِقامة أي يقيمك ربك مقاماً يحمدك فيه الاَولون والآخرون ، وهو مقام الشفاعة يشرف فيه على جميع الخلائق يسأل فيعطى ويشفع فيشفع ، وقد أجمع المفسرون على أن المقام المحمود هو مقام الشفاعة وهو المقام الذي يشفع فيه للناس ، وهو المقام الذي يعطى فيه لواء الحمد فيوضع في كفه وتجتمع تحته الاَنبياء والملائكة ، فيكون صلى الله عليه وآله أول شافع وأول مشفع .

ـ بحار الاَنوار ج 8 ص 47
تفسير العياشي : عن عيص بن القاسم عن أبي عبد الله عليه السلام إن أناساً من بني هاشم أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله فسألوه أن يستعملهم على صدقات المواشي وقالوا : يكون لنا هذا السهم الذي جعله للعاملين عليها فنحن أولى به فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يابني عبدالمطلب إن الصدقة لا تحل لي ولا لكم ، ولكني وعدت الشفاعة ـ ثم قال : والله أشهد أنه قد وعدها ـ فما ظنكم يا بني عبد المطلب إذا أخذت بحلقة الباب أتروني مؤثرا عليكم غيركم ؟ ثم قال : إن الجن والاِنس يجلسون يوم القيامة في صعيد واحد، فإذا طال بهم الموقف طلبوا الشفاعة فيقولون : إلى من ؟ فيأتون نوحاً فيسألونه الشفاعة فقال : هيهات قد رفعت حاجتي ، فيقولون : إلى من إلى إبراهيم ، فيأتون إلى إبراهيم فيسألونه الشفاعة فيقول : هيهات قدر رفعت حاجتي ، فيقولون : إلى من فيقال : إيتوا موسى فيأتونه فيسألونه الشفاعة فيقول : هيهات قد رفعت حاجتي ، فيقولون إلى من ؟ فيقال إيتوا محمداً ، فيأتونه فيسألونه الشفاعة فيقوم مدلاً حتى يأتي باب الجنة فيأخذ بحلقة الباب ثم يقرعه ، فيقال : من هذا ؟ فيقول : أحمد فيرحبون ويفتحون الباب ، فإذا نظر إلى الجنة خر ساجداً يمجد ربه بالعظمة ، فيأتيه ملك فيقول : إرفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع ، فيرفع رأسه ، فيدخل من باب الجنة فيخر ساجداً ويمجد ربه ويعظمه فيأتيه ملك فيقول : إرفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع ، فيقوم فما يسأل شيئاً إلا أعطاه إياه .انتهى .

( 392 )
وقد تقدمت الاَحاديث بهذا المضمون ، وهي محل اتفاق في مصادر الطرفين ، وفيها دلالة على أن نبينا صلى الله عليه وآله هو أول من يتقدم للشفاعة يوم القيامة .

الاَحاديث الموافقة لمذهبنا في مصادر السنيين

في مصادر السنيين نوعان من الاَحاديث في هذا الموضوع : فمنها ما يوافق مصادرنا ، وقد روته صحاحهم كالذي رواه ابن ماجة ج 2 ص 724 : عن الطفيل بن أبي بن كعب ، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم ، غير فخر .

ـ والذي رواه مسلم في ج 1 ص 130
عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا أول الناس يشفع في الجنة ، وأنا أكثر الاَنبياء تبعاً. . .
عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا أكثر الاَنبياء تبعاً يوم القيامة ، وأنا أول من يقرع باب الجنة . . .
أنس بن مالك قال النبي صلى الله عليه وسلم : أنا أول شفيع في الجنة ، لم يصدَّق نبي من الاَنبياء ما صدِّقت ، وإن من الاَنبياء نبياً ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد .

ـ وروى في ج 7 ص 59
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، وأول من ينشق عنه القبر ، وأول شافع وأول مشفع . انتهى .

ـ وفي سنن الترمذي ج 5 ص 248
عن ابن عباس قال : جلس ناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه قال فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم فقال بعضهم : عجباً إن الله اتخذ من خلقه خليلاً اتخذ من إبراهيم خليلاً . وقال آخر : ماذا بأعجب من كلام موسى كلمه تكليماً . وقال آخر : فعيسى كلمة الله وروحه . وقال
( 393 )
آخر: آدم اصطفاه الله . فخرج عليهم فسلم وقال : قد سمعت كلامكم وعجبكم ، إن إبراهيم خليل الله وهو كذلك ، وموسى نجي الله وهو كذلك ، وعيسى روحه وكلمته وهو كذلك ، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك ، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول شافع وأول مشفع يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فحر ، وأنا أكرم الاَولين والآخرين ولا فخر . هذا حديث غريب . انتهى . وروى نحوه ابن ماجه ج 2 ص 1440 وأحمد في ج 3 ص 2

ـ وفي سنن الدارمي ج 1 ص 26
عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا أولهم خروجاً ، وأنا قائدهم إذا وفدوا ، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا ، وأنا مشفعهم إذا حبسوا ، وأنا مبشرهم إذا أيسوا. الكرامة والمفاتيح يومئذ بيدي ، وأنا أكرم ولد آدم على ربي .

ـ وفي فردوس الاَخبار ج 1 ص 80 ح 124
أنس بن مالك : أنا أول شفيع يوم القيامة ، وأنا أكثر الاَنبياء تبعاً يوم القيامة ، إن من الاَنبياء لمن يأتي يوم القيامة ما معه مصدق غير واحد . انتهى .

ـ وفي شعب الاِيمان للبيهقي ج 2 ص 132 وص 179
أبو هريرة قال قال رسول الله ( ص ) : أنا سيد ولد آدم ، وأول شافع وأول مشفع .

ـ وفي شعب الاِيمان ص 181
عن أنس قال : سمعت النبي ( ص ) يقول : إني أول الناس تنشق الاَرض عن جمجمتي يوم القيامه ، وأنا أول من يدخل الجنة . . . ونحوه في تهذيب الكمال ج 15 ص425 وج 22 ص 551 وسير أعلام النبلاء ج 8 ص 293 وكنز العمال ج 11 ص 404 فما بعدها بروايات متعددة ، وفي ج 14 ص 393 فما بعدها . وفيه في ج 11 ص 435 : أنا سيد المرسلين إذا بعثوا وسابقهم إذا وردوا ، ومبشرهم إذا أيسوا ، وإمامهم إذا سجدوا ، وأقربهم مجلساً إذا اجتمعوا ، أتكلم فيصدقني ، وأشفع فيشفعني ، وأسأل فيعطيني .

( 394 )

ـ وفي الدر المنثور ج 4 ص 93
وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال وأول ما يأذن الله عزوجل له يوم القيامة في الكلام والشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فيقال له قل تسمع وسل تعطه قال : فيخر ساجداً فيثني على الله ثناء لم يثن عليه أحد فيقال إرفع رأسك . . .

ـ وفي سيرة ابن كثير ج 1 ص 195
فروى الحافظ أبو القاسم بن عساكر من طريق أبي الحسن بن أبي الحديد . . . عن ابن عباس قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : فداك أبي وأمي أين كنت وآدم في الجنة ؟ قال : فتبسم حتى بدت نواجذه ، ثم قال : كنت في صلبه وركب بي السفينة في صلب أبى نوح ، وقذف بي في صلب أبى إبراهيم ، لم يلتق أبواي على سفاح قط ، لم يزل الله ينقلني من الاَصلاب الحسيبة إلى الاَرحام الطاهرة، صفياً مهذباً ، لا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما ، وقد أخذ الله بالنبوة ميثاقي وبالاِسلام عهدي ، ونشر في التوراة والاِنجيل ذكري ، وبين كل نبي صفتي تشرق الاَرض بنوري والغمام بوجهي ، وعلمني كتابه وزادني شرفاً في سمائه ، وشق لي اسماً من أسمائه فذو العرش محمود وأنا محمد وأحمد ، ووعدني أن يحبوني بالحوض والكوثر ، وأن يجعلني أول شافع وأول مشفع ، ثم أخرجني من خير قرن لاَمتي ، وهم الحمادون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .

ـ فتاوى ابن باز ج 1 ص 187
قال رسول الله : أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة ، وأنا أول شافع وأول مشفع. انتهى .

* *


الاَحاديث المتأثرة بالاِسرائيليات في مصادر السنيين

والنوع الثاني من أحاديث السنيين : أحاديث تجعل الشفاعة أولاً لاِبراهيم ، ثم لموسى ، ثم لعيسى عليهم السلام وتجعل نبينا الشفيع الرابع صلى الله عليه وآله ! !

( 395 )

ـ روى الحاكم في المستدرك ج 4 ص 496 حديثاً طويلاً عن الدجال ويأجوج ومأجوج وأشراط الساعة والقيامة والشفاعة ، وصححه على شرط الشيخين ، وفيه أمورٌ وتفصيلاتٌ غير معقولة ، جاء فيه :
عن أبي الزعراء قال كنا عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فذكر عنده الدجال فقال عبد الله بن مسعود : تفترقون أيها الناس لخروجه على ثلاث فرق ، فرقة تتبعه وفرقة تلحق بأرض آبائها بمنابت الشيح ، وفرقة تأخذ شط الفرات يقاتلهم ويقاتلونه حتى يجتمع المؤمنون بقرى الشام ، فيبعثون اليهم طليعة فيهم فارس على فرس أشقر وأبلق قال فيقتتلون فلا يرجع منهم بشر . . . .
قال : ثم تقوم الساعة على شرار الناس ثم يقوم ملك بالصور بين السماء والاَرض فينفخ فيه . والصور قَرْنٌ ، فلا يبقى خلق في السماوات والاَرض إلا مات إلا من شاء ربك . . .
قال : ثم يقوم ملك بالصور بين السماء والاَرض فينفخ فيه فينطلق كل نفس إلى جسدها حتى يدخل فيه ثم يقومون فيحيون حياة رجل واحد قياماً لرب العالمين . قال : ثم يتمثل الله تعالى إلى الخلق فيلقاهم فليس أحد يعبد من دون الله شيئاً إلا وهو مرفوع له يتبعه ، قال فيلقى اليهود فيقول من تعبدون ؟ قال فيقولون نعبد عزيراً قال هل يسركم الماء ؟ فيقولون نعم ، إذ يريهم جهنم كهيئة السراب ! قال ثم قرأ عبد الله : وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً ، قال ثم يلقى النصارى فيقول من تعبدون؟ فيقولون المسيح ، قال فيقول هل يسركم الماء ؟ قال فيقولون نعم ، قال فيريهم جهنم كهيئة السراب ! ثم كذلك لمن كان يعبد من دون الله شيئاً . قال : ثم قرأ عبد الله : وقفوهم إنهم مسؤولون .
قال : ثم يتمثل الله تعالى للخلق حتى يمر على المسلمين قال فيقول من تعبدون؟ فيقولون نعبد الله ولا نشرك به شيئاً ، فينتهرهم مرتين أو ثلاثاً فيقول من تعبدون ؟ فيقولون نعبد الله ولا نشرك به شيئاً . قال فيقول هل تعرفون ربكم ؟ قال
( 396 )
فيقولون سبحانه إذا اعترف لنا عرفناه ! قال فعند ذلك يكشف عن ساقٍ فلا يبقى مؤمن إلا خر لله ساجداً ، ويبقى المنافقون ظهورهم طبقاً واحداً كأنما فيها السفافيد ! قال فيقولون: ربنا فيقول قد كنتم تدعون إلى السجود وأنتم سالمون .
قال ثم يأمر بالصراط فيضرب على جهنم فيمر الناس كقدر أعمالهم زمراً كلمح البرق ثم كمر الريح ثم كمر الطير ثم كأسرع البهائم ، ثم كذلك حتى يمر الرجل سعياً ثم مشياً ، ثم يكون آخرهم رجلاً يتلبط على بطنه !
قال فيقول أي رب لماذا أبطأت بي ؟ فيقول لم أبطىَ بك ، إنما أبطأ بك عملك .
قال ثم يأذن الله تعالى في الشفاعة فيكون أول شافع روح القدس جبريل عليه الصلاة والسلام ، ثم إبراهيم خليل الله ، ثم موسى ، ثم عيسى عليهما الصلاة والسلام قال : ثم يقوم نبيكم رابعاً ، لا يشفع أحد بعده فيما يشفع فيه ، وهو المقام المحمود الذي ذكره الله تبارك وتعالى : عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً .
قال فليس من نفس إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة أو بيت في النار . . .
قال : ثم يشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون والمؤمنون فيشفعهم الله .
قال ثم يقول الله : أنا أرحم الراحمين فيخرج من النار أكثر مما أخرج من جميع الخلق برحمته ، قال ثم يقول : أنا أرحم الراحمين ، قال ثم قرأ عبدالله : ما سلككم في سقر ؟ قالوا لم نك من المصلين ، ولم نك نطعم المسكين ، وكنا نخوض مع الخائضين ، وكنا نكذب بيوم الدين ، قال فعقد عبد الله بيده أربعاً ثم قال : هل ترون في هؤلاء من خير ؟ ما ينزل فيها أحد فيه . هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . انتهى .
ورواه البيهقي في البعث والنشور ص 326 والديلمي في فردوس الاَخبار ج 1 ص 54 وص 80 والنيسابوري في الوسيط ج4 ص 387 وابن منظور في مختصر تاريخ دمشق ج 1 جزء 2 ص 170 . وغيرهم .
أما الهيثمي فقد روى في مجمع الزوائد ج 9 ص 31 حديث أنه صلى الله عليه وآله أول شافع ،
( 397 )
ووصفه لاَنه موضوع ، وقال عن بعض طرقه في ج 8 ص 254 ( وفيه صالح بن عطاء بن خباب ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات )
ولكنه في نفس الوقت ردَّ الحديث الذي صححه الحاكم على شرط الشيخين في ج10 ص 330 وقال ( رواه الطبراني وهو موقوف ، مخالف للحديث الصحيح وقول النبي : أنا أول شافع ) ! فيبدو أنه اطلع على طريق آخر صحيح للحديث ، غير الطريقين اللذين ضعفهما . ولكنا لم نطلع عليه .

البخاري يفضل أنبياء بني إسرائيل على نبينا صلى الله عليه وآله

أما البخاري فقد روى في تاريخه الذي ألفه قبل صحيحه أن نبينا صلى الله عليه وآله هو الشفيع الاَول ، وتوقف في رواية أنه الشفيع الرابع ، لوجود ما يعارضها.

ـ قال في تاريخه ج 4 ص 286 :
عن جابر بن عبد الله : قال النبي صلى الله عليه وسلم : أنا قائد المسلمين ، ولا فخر ، وأنا خاتم النبيين ولا فخر ، وأنا أول شافع ومشفع ولا فخر .

ـ وقال في تاريخه ج 5 ص 221
عبد الله بن هانيء أبو الزعراء الكوفي سمع ابن مسعود رضي الله عنه سمع منه سلمة بن كهيل يقال عن أبي نعيم إنه الكندي روى عن ابن مسعود رضي الله عنه في الشفاعة : ثم يقوم نبيكم رابعهم والمعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنا أول شافع . ولا يتابع في حديثه . انتهى .
ولكنه في صحيحه لم يرو هذه الرواية ولا غيرها مما ينص على أن نبينا صلى الله عليه وآله أول شافع !
نعم ، روى أن الشفاعة من مختصات نبينا صلى الله عليه وآله دون الاَنبياء عليهم السلام :

قال في ج 1 ص 113
جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعطيت خمساً لم
( 398 )
يعطهن أحد من الاَنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الاَرض مسجداً وطهوراً وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة ، وأعطيت الشفاعة . انتهى .

ـ وروى في ج 5 ص 226
رواية الشفاعة المعروفة في المصادر وأن الاَنبياء عليهم السلام يهابون التقدم للشفاعة للخلق ، ويطلبون من نبينا صلى الله عليه وآله أن يشفع إلى الله تعالى فيتقدم ويشفع . . وهي تدل على أنه صلى الله عليه وآله الشفيع الاَول ، قال فيها : إذهبوا إلى محمد فيأتون محمداً فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم الاَنبياء وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، إشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى إلى مانحن فيه ! فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي عز وجل ثم يفتح الله عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي ، ثم يقال يا محمد إرفع رأسك ، سل تعطه واشفع تشفع .انتهى .
والى هنا يبدو أنه لامشكلة . .
ولكن البخاري روى في صحيحه ما يعارض ذلك ، ويجعل درجة نبي الله موسى عليه السلام في درجة نبينا صلى الله عليه وآله أو أفضل منه ! فقد روى أن النبي صلى الله عليه وآله نهى المسلمين أن يفضلوه على موسى ، وقال إنه عندما يبعث من قبره يجد موسى جالساً عند العرش قبله !!

ـ قال البخاري في صحيحه ج 7 ص 193
عن أبي هريرة قال : استبَّ رجلان ، رجلٌ من المسلمين ورجلٌ من اليهود ، فقال المسلم : والذي اصطفى محمداً على العالمين ، فقال اليهودي والذي اصطفى موسى على العالمين ، قال فغضب المسلم عند ذلك فلطم وجه اليهودي ، فذهب اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تخيروني على موسى ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق ، فإذا موسى باطشٌ بجانب العرش ، فلا أدري أكان
( 399 )
موسى فيمن صعق فأفاق قبلي ؟ أو كان ممن استثنى الله ؟ ! .انتهى .
ـ ورواه في صحيحه في سبعة مواضع أخرى على الاَقل ! في ج 3 ص 89 ، وج 4 ص 126 ، وج 5 ص 196 ، وج 6 ص 34 ، وج 8 ص 48 ، وص 177 ، وص 192 ، وهي رواياتٌ متفاوتة في دلالتها على تفضيل موسى ، ولكن مجموعها كافٍ في الدلالة عليه ، مهما حاول الشراح تأويلها !
فقد نصت الرواية المذكورة كما رأيت على نهي النبي صلى الله عليه وآله عن تفضيله على موسى ، ووردت هذه العبارة ( لا تخيروني على موسى ) في رواية البخاري الاَخرى ج 7 ص 193 وفي ج 8 ص 192 وكذا في مسلم ج 7 ص 101 ، وسنن أبي داود ج 2 ص 407 ، وأحمد ج 2 ص 264 . وورد في رواية ج 5 ص 196 ( قال لا تخيروني من بين الاَنبياء )
كما نصت على أن موسى عليه السلام مستثنى دون نبينا صلى الله عليه وآله من الصعقة التي يقول الله تعالى عنها : ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الاَرض ، إلا من شاء الله ، ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون . الزمر ـ 68 ، وهذا امتيازٌ له على جميع الاَنبياء ! وروى مثلها في ج 8 ص 192 .

ـ وجاء في ج 8 ص 177
( فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ) وزاد في ج 5 ص 196 وج 8 ص 48 ( فلا أدري أفاق قبلي ، أم جُزِيَ بصعقة الطور )

ـ وفي ج 5 ص 196
( قال إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الآخرة ، فإذا أنا بموسى متعلق بالعرش ) وفي رواية أخرى في غير البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله أول ما ينفض رأسه من التراب يرى موسى جالساً عند العرش !!
قد يقال : إن رواية البخاري لا تدل على أن موسى أفضل من نبينا صلى الله عليه وآله لاَنها تنص على أن استثناءه من الصعقة إنما هو بسبب صعقته في الطور ولا علاقة له بالاَفضلية .

( 400 )
والجواب : أن الرواية واردةٌ أساساً في مقام بيان أفضلية موسى ، أو بالاَقل عدم أفضلية نبينا عليه ، فهذا هو موضوع الخلاف بين المسلم واليهودي ، وهو موضوع الحديث ، وموضوع النهي المزعوم من النبي صلى الله عليه وآله عن تفضيله على موسى !!
وقد يقال : لو سلمنا أن الرواية تدل على مساواة موسى لنبينا صلى الله عليه وآله أو أفضليته عليه، فهي لاتدل على أن موسى هو الشفيع الاَول .
والجواب : أن مقام الشفاعة الاَول إنما أعطي لنبينا صلى الله عليه وآله بسبب أنه أفضل الاَنبياء صلوات الله عليهم جميعاً ، فإذا ثبت أن موسى أفضل منه ، فلا يبعد أن يكون هو رئيس المحشر وشفيعه . .الخ .
وقد حاولت بعض الروايات أن تحل المسألة مع الاِسرائيليات حلاً سلمياً ، فتجعل الاَفضلية لموسى ، وتحتفظ بدرجة الشفيع الاَول لنبينا صلى الله عليه وآله كالتي رواها الطبري في تفسيره ج 24 ص 20 قال : عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبي الله قال : : أتاني ملكٌ فقال يا محمد إختر نبياً ملكاً أو نبياً عبداً ، فأومأ اليَّ أن تواضع ، قال نبياً عبداً ، قال فأعطيت خصلتين : أن جعلت أول من تنشق عنه الاَرض ، وأول شافع ، فأرفع رأسي فأجد موسى آخذاً بالعرش ، فالله أعلم أصُعِقَ بعد الصعقة الاَولى ، أم لا . انتهى .
ولكنها على أي حالٍ محاولاتٌ في مصلحة تصديق الاِسرائيليات التي لا نثق بها !
ومن جهة أخرى . . فإن تأويل الروايات الواردة في موسى على نبينا وآله وعليه السلام حتى لو أمكن فهو لا يحل المشكلة ، لاَنه توجد في صحاح إخواننا ومصادرهم روايات مشابهة عن كبار أنبياء بني إسرائيل ، فهي تفضلهم على نبينا صلى الله عليه وآله أو تجعلهم في درجته ، فلا بد من معالجتها جميعاً !
ويحاول العلماء السنيون حل المشكلة بالتأويلات والاِحتمالات البعيدة ، حتى لا يقعوا في محذور رد الاَحاديث الصحيحة أو تكذيب رواتها. . والدخول في هذا البحث يخرجنا عن موضوعنا ، وإن كان من بحوث السيرة المهمة ، لكن نكتفي بذكر نماذج من هذه الاَحاديث :

( 401 )
فمنها حديث الحاكم المتقدم الصحيح على شرط الشيخين ، الذي يعطي الشفاعة في الموحدين ليعقوب عليه السلام قبل نبينا صلى الله عليه وآله بحجة أن يعقوب هو الذبيح !!
ومنها حديث البخاري المتقدم في ج 4 ص 133 حيث جاء فيه ( فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الاَرض إلا من شاء الله ، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث ، فإذا موسى آخذٌ بالعرش ، فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور ، أم بعث قبلي . ولا أقول إن أحداً أفضل من يونس بن متى !) ومثله في مسلم ج 7 ص 100

ـ وفي البخاري ج 4 ص 125 :
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى ، ونسبه إلى أبيه .

ـ وفي ج 4 ص 132 :
عن ابن عباس أيضاً ، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : لا يقولن أحدكم إني خير من يونس ، زاد مسدد يونس بن متى . ونحوه في ج 4 ص 132 و ج 4 ص 133 و ج 5 ص 185 وص 193 بروايتين ، وفي ج 8 ص 213
وقد صرحت رواية مسلم ج 7 ص 102 بأنه حديث قدسي !! وأنه يشمل كل الناس حتى نبينا صلى الله عليه وآله قال :
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يعني الله تبارك وتعالى : لا ينبغي لعبد لي ـ وقال ابن المثنى لعبدي ـ أن يقول أنا خير من يونس بن متى عليه السلام ) ! وروى نحوه في ص 103
أما ابن ماجة فقد شدد على الموضوع فروى في ج 2 ص 1428 عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال ( ومن قال : أناخير من يونس بن متى فقد كذب ! . في الزوائد : إسناده صحيح رجاله ثقات .
وروى نحو ما في البخاري أبو داود في سننه ج 2 ص 406 والترمذى ج1 ص 118 وج 5 ص 51

( 402 )

ـ وعلل أفضلية يونس في كنز العمال ج 12 ص 476
فروى عن عدة مصادر ، عن علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا ينبغي لاَحدٍ ـ وفي لفظ لعبدٍ ـ أن يقول أنا خيرٌ من يونس بن متى ، سبح الله في الظلمات !

* *

أما رواياتهم عن نبي الله داود عليه السلام فقد تكون أكثر صراحةً بتفضيله على نبينا صلى الله عليه وآله !!

ـ ففي مجمع الزوائد ج 8 ص 206
عن أبي الدرداء قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر داود صلى الله عليه وسلم قال : كان أعبد البشر . رواه البزار في حديث طويل وإسناده حسن .

ـ وفي كنز العمال ج 12 ص 476
عن ابن عساكر ، عن أنس أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا خير الناس ، قال : ذاك إبراهيم ! قال : يا أعبد الناس ، قال : ذاك داود !!. وفي ج 3 ص 671 ( إن أخي داود كان أعبد البشر )

ـ وفي صحيح البخاري ج 6 ص 31 ونحوه في ج 4 ص 135
قال سألت مجاهداً عن سجدة( سورة ) ( ص ) فقال سألت ابن عباس : من أين سجدت ( يعني لماذا ) فقال : أو ما تقرأ : ومن ذريته داود وسليمان أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ، فكان داود ممن أُمِرَ نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به ، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم !!

* *

ونفس المشكلة تجدها في رواياتهم عن يحيى عليه السلام ، فقد روى الهندي في كنز العمال ج 11 ص 521 عن مسند أحمد وطبقات ابن سعد وغيرهما ، عن ابن عباس : ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة ، إلا يحيى بن زكريا ، فإنه لم يهم بها ولم يعملها )

( 403 )

ـ وفي كنز العمال ج 11 ص 522 عن ابن عساكر : لا ينبغي لاَحد أن يقول أنا خير من يحيى بن زكريا ، ما همَّ يخطيئة ولا جالت في صدره امرأة .

* *
والنتيجة : أنه لابد للباحث من القول بأن روايات بني اسرائيل وجدت طريقها الى مصادر إخواننا السنيين في عقيدة الشفاعة ، وبقيت ضعيفة في بعض الحالات ، ولكنها في حالاتٍ أخرى صارت الى صفِّ الروايات الاِسلامية وبستواها من الصحة.. وأحياناً صارت أقوى منها وحلت محلها !!

* *