أحسن تصور في مصادر السنيين عن شفاعة نبينا صلى الله عليه وآله
ـ حاول القاضي عياض في كتابه (الشفا ) أن يقدم أفضل صورةٍ عن شفاعة النبي صلى الله عليه وآله ولذلك لم يتقيد بروايات الصحاح ، وجمع روايات لم يصححوها ، وجرَّدها من كثير من الاِسرائيليات التي تفضل أنبياء بني إسرائيل على نبينا ، كما جرَّد بعض رواياتها من تجسيم الاسرائيليات ، وبقي في بعضها ، ولم يجردها من التهم التي تضمنتها لآدم وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام عندما يطلب الناس منهم الشفاعة يوم القيامة فيتكلمون عن خطاياهم وجرائمهم التي لم تغفر ! فجاءت صورة عياض قريبة إلى أحاديث أهل البيت عليهم السلام ، وكانت أحسن تصور قدمها عالمٌ سنيٌّ عن شفاعة النبي صلى الله عليه وآله .
وفيما يلي مقتطفات من كلامه من ص 216 وما بعدها :
ـ وعن أبي هريرة سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني قوله : عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً ، فقال : هي الشفاعة .
ـ وروى كعب بن مالك عنه صلى الله عليه وسلم : يحشر الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل ، ويكسوني ربي حلة خضراء ، ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن
( 404 )
أقول ، فذلك المقام المحمود .
ـ وعن ابن عمر رضي الله عنهما وذكر حديث الشفاعة قال : فيمشي حتى يأخذ بحلقة الجنة ، فيومئذ يبعثه الله المقام المحمود الذي وعده .
ـ وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لقائم المقام المحمود ، قيل وما هو ؟ قال : ذلك يوم ينزل الله تبارك وتعالى على كرسيه . . . !!
ـ وقال جابر بن عبد الله ليزيد الفقير : سمعت بمقام محمد يعني الذي يبعثه الله فيه : قال قلت نعم ، قال : فإنه مقام محمد المحمود ، الذى يخرج الله به من يخرج يعني من النار ، وذكر حديث الشفاعة في إخراج الجهنميين .
ـ وفي رواية أنس وأبي هريرة وغيرهما دخل حديث بعضهم فى حديث بعض قال صلى الله عليه وسلم : يجمع الله الاَولين والآخرين يوم القيامة فيلهمون فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا. ومن طريق آخر عنه ماج الناس بعضهم فى بعض ، وعن أبى هريرة : وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم ما لا يطيقون ولا يحتملون ، فيقولون ألا تنظرون من يشفع لكم فيأتون آدم فيقولون . . . . .
ـ وفي رواية : فآتي تحت العرش فأخر ساجداً ، وفى رواية فأقوم بين يديه فأحمده بمحامد لا أقدر عليها ، إلا أنه يلهمنيها الله ، وفي رواية : فيفتح الله عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي . . .

ـ وفي رواية قتادة عنه قال فلا أدري في الثالثة أو الرابعة فأقول يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن أي من وجب عليه الخلود . . .
ـ ومن طريق زياد النميري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أنا أول من تنفلق الاَرض عن جمجمته ولا فخر ، وأنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر ، ومعى لواء الحمد يوم القيامة ، وأنا أول من تفتح له الجنة ولا فخر ، فآتي فآخذ بحلقة الجنة ، فيقال من هذا ؟ فأقول محمد ، فيفتح لي فيستقبلني الجبار تعالى ! فأخر ساجداً . . .

( 405 )
ـ وفي رواية أنس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لاَشفعن يوم القيامة لاَكثر مما في الاَرض من حجر وشجر .
فقد اجتمع من اختلاف ألفاظ هذه الآثار أن شفاعته صلى الله عليه وسلم ومقامه المحمود من أول الشفاعات إلى آخرها ، من حين يجتمع الناس للحشر وتضيق بهم الحاجر ، ويبلغ منهم العرق والشمس والوقوف مبلغه ، وذلك قبل الحساب ، فيشفع حينئذ لاِراحة الناس من الموقف ، ثم يوضع الصراط ويحاسب الناس كما جاء في الحديث عن أبي هريرة وحذيفة ، وهذا الحديث أتقن ، فيشفع في تعجيل من لا حساب عليه من أمته إلى الجنة . . .
ثم يشفع فيمن وجب عليه العذاب ودخل النار منهم حسبما تقتضيه الاَحاديث الصحيحة ثم فيمن قال لا إله إلا الله . وليس هذا لسواه صلى الله عليه وسلم . . .

ـ وفي ص 207
أورد القاضي عياض أحاديث في أن نبينا صلى الله عليه وآله هو الشفيع الاَول قبل غيره من الاَنبياء منها :
أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا ، وأنا قائدهم إذا وفدوا ، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا ، وأنا شفيعهم إذا حبسوا ، وأنا مبشرهم إذا أبلسوا ، لواء الكرم بيدي وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر ، ويطوف عليَّ ألف خادم كأنهم لؤلؤ مكنون .
وعن أبي هريرة : وأكسى حلةً من حلل الجنة ، ثم أقوم عن يمين العرش ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري .
وعن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، وبيدى لواء الحمد ولا فخر ، وما نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي ، وأنا أول من تنشق عنه الاَرض ولا فخر .
ـ وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر ، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح لي فأدخلها
( 406 )
فيدخل معي فقراء المؤمنين ولا فخر ، وأنا أكرم الاَولين والآخرين ولا فخر .
وعن أنس رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم : أنا سيد الناس يوم القيامة ، وتدرون لم ذلك ؟ يجمع الله الاَولين والآخرين . . وذكر حديث الشفاعة .
ـ وفي حديث آخر : أما ترضون أن يكون إبراهيم وعيسى فيكم يوم القيامة ، ثم قال إنهما في أمتي يوم القيامة ، أما إبراهيم فيقول أنت دعوتي وذريتي فاجعلني من أمتك ، وأما عيسى فالاَنبياء إخوة بنو علاتٍ أمهاتهم شتى ، وإن عيسى أخي ليس بيني وبينه نبي ، وأنا أولى الناس به . . .
ـ قوله أنا سيد الناس يوم القيامة : هو سيدهم في الدنيا ويوم القيامة ولكن أشار صلى الله عليه وسلم لاِنفراده فيه بالسؤدد والشفاعة دون غيره ، إذ لجأ الناس إليه في ذلك فلم يجدوا سواه . والسيد هو الذى يلجأ الناس إليه في حوائجهم ، فكان حينئذ سيداً منفرداً من بين البشر لم يزاحمه أحد فى ذلك ولا ادعاه . انتهى .

* *

والنتيجة أن روايات الشفيع الاَول في مصادر السنيين متعارضة بشكل لا يمكن الجمع بينها فلا بد من ترجيح طائفة منها وإسقاط الاَخرى ، ولا شك في أن الاَرجحية للطائفة الموافقة لاَحاديث أهل البيت عليهم السلام وللعقل ، المخالفة لليهود .

* *

( 407 )
مسألتا : الذبيح وأول من يكسى كسوة الجنة يوم القيامة

يوجد مسألتان على الاَقل ترتبطان بمسألة الشفيع الاَول ، تغلب فيهما الاِسرائيليات في مصادر السنيين يناسب أن نتعرض لهما باختصار ، خاصة أن شفاعة إسحاق وإبراهيم عليهما السلام وردت في رواياتهما :
الاَولى منهما في تعيين الذبيح المذكور في القرآن ، وهل هو إسحاق أوإسماعيل؟
والثانية في أول من يكسى كسوة الجنة يوم القيامة ، هل هو إبراهيم أم نبينا صلى الله عليهما وآلهما !

المسألة الاَولى

رأي الشيعة أن الذبيح هو اسماعيل عليه السلام كما سيأتي .
وقالت اليهود إن الذبيح هو إسحاق وليس اسماعيل .
قال السيد جعفر مرتضى في ( الصحيح ) من السيرة ج 2 ص 47 :
السؤال الذي يلح في طلب الاِجابة عليه هو : من أين جاء هذا الاَمر الغريب : أن الذبيح هو إسحاق ؟
والجواب : هو ما قاله ابن كثير وغيره ( إنما أخذوه والله أعلم من كعب الاَحبار أو من صحف أهل الكتاب ، وليس في ذلك حديث صحيح عن المعصوم حتى نترك من أجله ظاهر الكتاب . (1)
فاليهود إذن قد أرادوا ترويج عقيدتهم بين المسلمين ، وتخصيص هذه الفضيلة بجدهم إسحاق حسب زعمهم . ولكن اليهود أنفسهم قد فاتهم أن التوراة المتدوالة نفسها متناقضة في هذا الاَمر ، فإنها في حين تقول ( خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق . وإذهب إلى أرض المريا وأصعده هناك محرقة على . .الخ . (2) فقد عبرت هنا بكلمة وحيدك الدالة على أن إسحاق هو أكبر ولد إبراهيم ، ولكنها تعود فتكذِّب
( 408 )
نفسها وتنص على أن إسحاق لم يكن وحيداً وإنما ولِدَ وعمرُ إسماعيل أربعة عشر سنة . انتهى .
وقال في هامشه :
(1) البداية والنهاية ج 1 ص 161 و 159 وراجع السيرة الحلبية ج 1 ص 38 عن ابن تيمية .
(2) سفر التكوين : الاِصحاح 22 الفقرة 1 ـ 33 ولتراجع سائر فقرات الاِصحاح أيضاً .
(3) سفر التكوين الاِصحاح 16 فقرة 15ـ 16 نص على أن عمرَ إبراهيم حين ولادة إسماعيل 86 سنة . وفي سفر التكوين الاِصحاح 17 والاِصحاح 18 نص على أنه ولد له إسماعيل وهو ابن 99 أو مئة سنة . انتهى .
أما السنيون فقد تحيروا تحيراً شديداً في من هو الذبيح ، وروت مصادرهم روايات ( صحيحة ) متناقضة ! فقد روى الحاكم مثلاً عدة روايات في أن الذبيح المذكور في القرآن هو اسماعيل ، وصحح بعضها على شرط الشيخين !

ـ قال الحاكم في ج 2 ص 430
عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل : وإن من شيعته لاِبراهيم ، قال من شيعة نوح إبراهيم على منهاجه وسنته . بلغ معه السعي : شب حتى بلغ سعيه إبراهيم في العمل . فلما أسلما : ما أمرا به .
وتله للجبين : وضع وجهه إلى الاَرض فقال لا تذبحني وأنت تنظر عسى أن ترحمني فلا تجهز علي ، إربط يدي إلى رقبتي ثم ضع وجهي على الاَرض ، فلما أدخل يده ليذبحه فلم يحرك المدية حتى نودي : أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا فأمسك يده ورفع .
قوله فديناه بذبح عظيم : بكبش عظيم متقبل . وزعم ابن عباس أن الذبيح اسمعيل ، هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . انتهى .

وقال في ج 2 ص 554
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : الذبيح اسمعيل . هذا حديث صحيح على
( 409 )
شرط الشيخين ولم يخرجاه . انتهى .

وروى في الصفحة التي بعدها :
عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال : المفدى اسمعيل ، وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود . انتهى .
ثم روى الحاكم عدة رواياتٍ في أن الذبيح هو إسحاق ، وأنه هو الذي يشفع للموحدين ! ولم يذكر فيها شيئاً عن شفاعة نبينا صلى الله عليه وآله وصحح بعضها أيضاً على شرط الشيخين ! قال في ج 2 ص 557 عن إحدى رواياته : قال الحاكم : سياقة هذا الحديث من كلام كعب بن ماتع الاَحبار ، ولو ظهر فيه سندٌ لحكمتُ بالصحة على شرط الشيخين ، فإن هذاإسنادٌ صحيحٌ لا غبار عليه !

ـ وقال في ص 559
حدثنا إسمعيل بن الفضل بن محمد الشعراني ، ثنا جدي ، ثنا سنيد بن داود ، ثنا حجاج بن محمد ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الاَحوص ، عن عبد الله قال عبد الله قال : الذبيح إسحاق . هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وحدثنا محمد بن عمرو الاَويسي ، عن أبي الزبير ، عن جابر رضي الله عنه قال : لما رأى إبراهيم في المنام أن يذبح إسحاق أخذ بيده . فذكره بطوله . . . قال الحاكم : وقد ذكره الواقدي بأسانيده . وهذا القول عن أبي هريرة ، وعبد الله بن سلام ، وعمير بن قتادة الليثي ، وعثمان بن عفان ، وأبي بن كعب ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عمرو ، والله أعلم . وقد كنت أرى مشائخ الحديث قبلنا وفي سائر المدن التي طلبنا الحديث فيها ، وهم لا يختلفون أن الذبيح إسمعيل ، وقاعدتهم فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم : أنا ابن الذبيحين ، إذ لا خلاف أنه من ولد إسمعيل ، وأن الذبيح الآخر أبوه الاَدنى عبد الله بن عبد المطلب . والآن فإني أجد مصنفي هذه الاَدلة يختارون قول من قال إنه إسحاق . انتهى .

( 410 )
فقد بين الحاكم أنه يوجد عند السنيين اتجاهان في تعيين الذبيح : قول بأنه اسماعيل ، وهو الاِتجاه الشعبي عند الناس وعند مشايخ الحديث الاَكثر تقديساً للنبي صلى الله عليه وآله واختلاطاً بالناس ، ولم يكن عندهم شكٌّ ولا خلافٌ بأن الذبيح اسماعيل .
وقول بأنه إسحاق ، وهو اتجاه ( مصنفي هذه الاَدلة ) أي مجموعات الاَحاديث التي أمرت دولة الخلافة بتصنيفها ، وكانت تكتبها على دفاتر وتبعث بها الى الآفاق ، ومن راجع قصص دفاتر الزهري والعلماء الذين صنفوا الحديث برعاية الدولة ، يعرف أن مقصود الحاكم هؤلاء المصنفين ! ثم أشار الحاكم إلى أن هذه الاَحاديث أوجبت عليه أن يتوقف فيما هو مشهور عند مشائخ الحديث ، وأن يميل إلى اتجاه المصنفين ، وأن الذبيح إسحاق وليس إسماعيل !
ثم أورد رواية عن وهب ابن منبه ( اليهودي المقبول في مصادرهم ) تؤكد أن الذبيح إسحاق وأنه هو شفيع الموحدين !! قال الحاكم :
عن وهب بن منبه قال : حديث إسحاق حين أمر الله إبراهيم أن يذبحه : وهب الله لاِبراهيم إسحاق في الليلة التي فارقته الملائكة ، فلما كان ابن سبع أوحى الله إلى إبراهيم أن يذبحه ويجعله قرباناً ، وكان القربان يومئذٍ يتقبل ويرفع ، فكتم إبراهيم ذلك إسحاق وجميع الناس وأسرَّه إلى خليل له ، فقال العازر الصديق وهو أول من آمن بابراهيم وقوله ، فقال له الصديق : إن الله لا يبتلي بمثل هذا مثلك ولكنه يريد أن يجربك ويختبرك ، فلا تسوأن بالله ظنك ، فإن الله يجعلك للناس إماماً ولا حول ولا قوة لاِبراهيم وإسحاق إلا بالله الرحمن الرحيم . فذكر وهب حديثا طويلاً إلى أن قال وهب : وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : لقد سبق إسحاق الناس إلى دعوة ما سبقها إليه أحد ! ويقومن يوم القيامة فليشفعن لاَهل هذه الدعوة ، وأقبل الله على إبراهيم في ذلك المقام فقال :
إسمع مني يا إبراهيم أصدق الصادقين . وقال لاِسحاق : إسمع مني يا أصبر الصابرين ، فإني قد ابتليتكما اليوم ببلاءٍ عظيمٍ لم أبتل به أحداً من خلقي ، ابتليتك يا
( 411 )
إبراهيم بالحريق فصبر صبراً لم يصبر مثله أحد من العالمين ، وابتليتك بالجهاد فيَّ وأنت وحيدٌ وضعيفٌ فصدقت وصبرت صبراً وصدقاً لم يصدق مثله أحد من العالمين ، وابتليتك يا إسحاق بالذبح فلم تبخل بنفسك ولم تعظم ذلك في طاعة أبيك ، ورأيت ذلك هنيئاً صغيراً في الله كما يرجو من أحسن ثوابه ويسر به حسن لقائه ، وإني أعاهدكما اليوم عهداً لا أحبسن به : أما أنت يا إبراهيم فقد وجبت لك الجنة عليَّ فأنت خليلي من بين أهل الاَرض دون رجال العالمين ، وهي فضيلة لم ينلها أحد قبلك ولا أحد بعدك ، فخرَّ إبراهيم ساجداً تعظيماً لما سمع من قول الله متشكراً لله .
وأما أنت يا إسحاق فتمنَّ عليَّ بما شئت ، وسلني واحتكم ، أوتك سؤلك .
قال : أسألك يا إلَهي أن تصطفيني لنفسك ، وأن تشفعني في عبادك الموحدين ، فلا يلقاك عبدٌ لا يشرك بك شيئاً إلا أجرته من النار .
قال له ربه : أوجبت لك ما سألت وضمنت لك ولاَبيك ما وعدتكما على نفسي ، وعداً لا أخلفه ، وعهداً لا أحبسن به ، وعطاء هنيئاً ليس بمردود . انتهى .
والنتيجة أن الحاكم يشهد بأن الروايات القائلة بأن الذبيح اسماعيل صحيحة ومشهورة عند مشائخ الحديث وعامة الناس .
ويشهد أيضاً بأن الروايات القائلة بأن الذبيح إسحاق صحيحة أيضاً عند أهل المصنفات ، وهو يرجحها مع أنها مخالفة للمشهور !
لكن يبقى السؤال : من أين جاء هذان الاِتجاهان في المسألة !
أما البخاري فقد تهرب في صحيحه من تعيين الذبيح ولكنه اختار في تاريخه أنه إسحاق وليس إسماعيل رغم وجود عدة روايات صحيحة على شرطه تقول إنه اسماعيل ومن البعيد جداً أنه لم يرها !

ـ قال السيوطي في الدر المنثور ج 5 ص 282
وأخرج عبد بن حميد والبخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي
( 412 )
حاتم وابن مردويه عن العباس بن عبد المطلب قال : الذبيح إسحاق . انتهى .
بل يمكن القول إن البخاري اختار في صحيحه أيضاً أن الذبيح إسحاق لاَن الرواية اليتيمة التي رواها عن الموضوع اقتطعها وانتقاها من رواية مجاهد المتقدمة في مستدرك الحاكم ، وقد حذف منها أن الذبيح اسماعيل ! !

ـ قال البخاري في صحيحه ج 8 ص 70
باب رؤيا إبراهيم وقوله تعالى : فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى . . . . قال مجاهد : أسلما : سلما ما أمرا به ، وتله : وضع وجهه بالاَرض . انتهى .
ولابد أن البخاري لم يرتض رأي مجاهد في أصل هذه الرواية وغيرها بأن الذبيح اسماعيل ، ولذلك حذفه من تفسيره للآيات الذي نقله عنه ! ولكنه لم يشير إلى ما فعل مع الاَسف !
ووما يدل على أن رأي مجاهد القاطع بأن الذبيح اسماعيل : مارواه السيوطي في الدر المنثور ج 5 ص 280 قال :
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبى حاتم من طريق مجاهد ويوسف بن ماهك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : الذبيح اسمعيل عليه السلام .
ـ وأخرج عبد بن حميد وابن جرير من طريق يوسف بن مهران وأبي الطفيل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : الذبيح اسمعيل عليه السلام .
ـ وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير قالا : الذي أراد إبراهيم عليه السلام ذبحه اسمعيل عليه السلام .
ـ وأخرج ابن جرير عن الشعبي ومجاهد والحسن ويوسف بن مهران ومحمد بن كعب القرظي مثله . انتهى .
وأما مسلم ، فلم نجد فيه رواية تعين الذبيح ! ولو كان يرى أنه إسماعيل لذكره ،
( 413 )
لوجود روايات عديدة صحيحة على شرطه في ذلك ، ومن البعيد أنه لم يرها ! فلا بد أنه كالبخاري والحاكم رجح أن الذبيح إسحاق .
أما لماذا فعل أصحاب المصنفات والصحاح ذلك ؟
ولماذا أسقطوا الاَحاديث الصحيحة بأن الذبيح اسماعيل !
فالجواب : أنهم فعلوه لحاجة في نفس يعقوب !!
والحاجة التي في نفس يعقوب هنا : أن قريشاً تبنت القول بأن الذبيح هو إسحاق حتى لا تضطر إلى الاِعتراف بحديث ( أنا ابن الذبيحين ) لاَن هذا الحديث يعطي لعبد المطلب مقاماً شبيهاً بمقام إبراهيم عليه السلام وأنه كان ولياً ملهماً كالاَنبياء وأن الله تعالى امتحنه فأمره بذبح أحد أبنائه . . وإذا اعترفت بذلك ، فإن حق الحكم بعد النبي يجب أن يكون في ذرية عبد المطلب دون غيرهم من بيوتات قريش وقبائلها !!
فالاَفضل للقرشيين في تصورهم أن يقولوا إن عبد المطلب وأبا طالب وكل أسرة النبي الماضين ، كانوا كفاراً وأنهم في النار ، وأن ورثة سلطان النبي صلى الله عليه وآله هم جيل قريش الذين عاصروه من جميع قبائل قريش الثلاث والعشرين !
ولهذا نجد أن شخص (الخليفة ) يتدخل في هذا الموضوع ويصير راوياً ، ويقول إن النبي لم يقل إنه ابن الذبيحين ، ولكن بدوياً فقيراً تقرب إليه بهذه العبارة ، فتبسم لها النبي صلى الله عليه وآله ! وقد كان تبسمه اشتباهاً ورأياً رآه من عنده ولم ينزل عليه به وحي !!
ـ روى الحاكم في المستدرك ج 2 ص 554 عن : عبد الله بن سعيد الصنابحي قال : حضرنا مجلس معاوية بن أبي سفيان فتذاكر القوم اسمعيل وإسحاق بن إبراهيم فقال بعضهم : بل إسحاق الذبيح فقال معاوية : سقطتم على الخبير كنا عند رسول الله فأتاه الاَعرابي فقال : يا رسول الله خلفت البلاد يابسة والماء يابساً هلك المال وضاع العيال فعد علي بما أفاء الله عليك يابن الذبيحين فتبسم رسول الله ولم ينكر عليه !!
فقلنا يا أميرالمؤمنين وما الذبيحان قال إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله إن سهل الله أمرها أن ينحر بعض ولده فأخرجهم فأسهم بينهم فخرج السهم لعبد الله
( 414 )
فأراد ذبحه فمنعه أخواله من بني مخزوم وقالوا : أرض ربك وافد ابنك . قال ففداه بمائة ناقة فهو الذبيح واسمعيل الثاني . انتهى .
وفي ظني أن الراوي تصرف في القسم الاَخير من كلام معاوية ، لاَنه في القسم الاَول نفى مسألة الذبيح من أصلها ! ولا بد أن تكون بقية حديث معاوية في نفي الذبيحين بلسان معاوية أو عن لسان النبي صلى الله عليه وآله !
لقد التقت مصلحة القرشيين في هذه المسألة مع مصلحة اليهود ! وكعب الاَحبار وجماعته حاضرون لاغتنام هذه الفرصة ، ليثبتوا أن الذبيح اسحاق ، وليس إسماعيل ، وينقضوا على الشفاعة للموحدين فيأخذوها من النبي صلى الله عليه وآله ، ويجعلوها لاِسحاق !!
ويتضح عمل كعب في الموضوع من الرواية التالية التي رواها عبد الرزاق في تفسيره ج 2 ص 123 عن الزهري عن القاسم بن محمد في قوله : إني أرى في المنام أني أذبحك ، قال : اجتمع أبو هريرة وكعب فجعل أبو هريرة يحدث كعباً عن النبي (ص ) وجعل كعب يحدث أبا هريرة عن الكتب ! ! فقال : أبو هريرة قال النبي ( ص ) : إن لكل نبي دعوة مستجابة وإني خبأت دعوتي شفاعة لاَمتي يوم القيامة فقال له كعب : أنت سمعت هذا من رسول الله ! قال نعم .
قال كعب : فداه أبي وأمي أفلا أخبرك عن إبراهيم إنه لما رأى ذبح ابنه إسحاق قال الشيطان : إن لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهما أبدا فخرج إبراهيم بابنه ليذبحه فذهب الشيطان فدخل على سارة فقال : أين ذهب إبراهيم بابنك قالت : غدا به لبعض حاجته فقال : إنه لم يغد به لحاجة إنما ذهب ليذبحه . قالت : ولم يذبحه ! قال: يزعم أن ربه أمره بذلك ! قالت : فقد أحسن أن يطيع ربه في ذلك فخرج الشيطان في أثرهما فقال للغلام أين يذهب بك أبوك قال لحاجته قال إنما يذهب بك ليذبحك ! قال لم يذبحني قال يزعم أن ربه أمره بذلك ! قال والله لئن كان أمره بذلك ليفعلن .
( 415 )
قال فتركه ولحق بإبراهيم فقال : أين غدوت بابنك فقال لحاجة قال : فإنك لم تغد به لحاجة إنما غدوت لتذبحنه ! قال ولم أذبحه قال تزعم أن ربك أمرك بذلك ! قال : فوالله لئن كان أمرني بذلك لافعلن . قال : فتركه ويئس أن يطاع . انتهى .

ـ وروى الطبري في تاريخه ج 1 ص 187
رواية معاوية وعدة روايات عن كعب الاَحبار في أن الذبيح إسحاق ، ومنها رواية عبد الرزاق بألفاظ مشابهة وزاد فيها : فلما أخذ إبراهيم إسحاق ليذبحه وسلم إسحاق أعفاه الله وفداه بذبح عظيم قال إبراهيم لاِسحاق قم أي بني فإن الله قد أعفاك فأوحى الله إلى إسحاق إني أعطيك دعوة أستجيب لك فيها قال إسحاق : اللهم فإني أدعوك أن تستجيب لي أيما عبد لقيك من الاَولين والآخرين لا يشرك بك شيئاً فأدخله الجنة . انتهى .
وبذلك يقول لنا كعب : إن الذبيح هو إسحاق جد اليهود وليس جد العرب ، ثم إنكم تزعمون أن محمداً يشفع في الموحدين ، وقد سبقه إلى ذلك إسحاق فلم يبق معنى لشفاعة نبيكم !

ـ وقال السيوطي في الدر المنثور ج 5 ص 282
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الاِيمان عن كعب رضي الله عنه أنه قال لاَبي هريرة : ألا أخبرك عن اسحاق قال بلى قال : لما رأى إبراهيم أن يذبح إسحاق . . . وذكر شفاعة اسحاق للموحدين بنحو رواية الطبري المتقدمة !

ـ وقال ابن خلدون في تاريخه ج 2 ص 38
واختلف في ذلك الذبيح من ولديه ، فقيل اسمعيل وقيل اسحاق وذهب إلى كلا القولين جماعة من الصحابة والتابعين فالقول باسمعيل لابن عباس وابن عمر والشعبي ومجاهد والحسن ومحمد بن كعب القرظي وقد يحتجون له بقوله صلى الله
( 416 )
عليه وسلم : أنا ابن الذبيحين ولا تقوى الحجة به لاَن عم الرجل قد يجعل أباه بضرب من التجوز لا سيما في مثل هذا الفخر !!
ويحتجون أيضاً بقوله تعالى : فبشرناها بإسحاق ومن وراء اسحاق يعقوب ولو كان ذبيحاً في زمن الصبا لم تصح البشارة بابن يكون له لاَن الذبح في الصبا ينافي وجود الولد ولا تقوم من ذلك حجة لاَن البشارة إنما وقعت على وفق العلم بأنه لا يذبح وأنما كان ابتلاء لاِبراهيم .
والقول بإسحاق للعباس وعمر وعلي وابن مسعود وكعب الاَحبار وزيد بن أسلم ومسروق وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء والزهري ومكحول والسدي وقتادة . انتهى .
وينبغي الاِلتفات هنا إلى أن أصل القول بأن الذبيح إسحاق من شخصين حسب رواية ابن خلدون وغيره :
الاَول : الخليفة عمر مؤسس الخلافة القرشية وصاحب مشروع عزل بني هاشم عن الخلافة .
والثاني : كعب الاَحبار حامل راية الثقافة الاِسرائيلية .
وقد ذكر الرواة المؤيدون للخلافة القرشية اسم علي والعباس، ورووا عنهما أن الذبيح إسحاق لاَنهما من أولاد عبد المطلب ، ومن المناسب الاِحتجاج بشهادتهما لسلب هذه المنقبة العظيمة عن عبد المطلب ، التي تجعله بنص الرسول صلى الله عليه وآله إبراهيم الثاني !
ويظهر أن قريشاً وكعباً لم يستطيعوا إقناع جمهور المسلمين بمقولتهم المخالفة لظاهر القرآن ، ولا إسكات بني هاشم ومنهم ابن عباس بأن الذبيح هو إسحاق ، وإن رووا ذلك عنهم ، فقد بقي عوام المسلمين مع ظاهر القرآن وفطرتهم ، وبقيت روايات أهل البيت الصريحة ، وروايات ابن عباس التي تقدمت في مستدرك الحاكم ج
( 417 )
2 ص 555 : قال : المفدى إسمعيل وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود . انتهى . بقي كل ذلك يتحدى رواة الخلافة القرشية واسرائيلياتها !

رأي أهل البيت عليهم السلام

تؤكد مصادر أهل البيت عليهم السلام أن الذبيح هو اسماعيل عليه السلام وقد قوى العلماء رواياته وضعفوا رواية أن الذبيح إسحاق حتى صار ذلك من مختصات مذهبنا . . ففي تفسير القمي ج 2 ص 226 : قال : وحدثني أبي عن صفوان بن يحيى وحماد عن عبدالله بن المغيرة عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألناه عن صاحب الذبح فقال : اسماعيل . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال : أنا ابن الذبيحين يعني اسماعيل وعبد الله بن عبد المطلب .

ـ وفي تفسير التبيان ج 8 ص 517
واختلفوا في الذبيح فقال ابن عباس وعبد الله بن عمر ومحمد بن كعب القرطي وسعيد بن المسيب والحسن في إحدى الروايتين عنه والشعبي : إنه كان إسماعيل وهو الظاهر في روايات أصحابنا ويقويه قوله بعد هذه القصة وتمامها : وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين فدل على أن الذبيح كان اسماعيل . ومن قال : إنه بشر بنبوة إسحاق دون مولده فقد ترك الظاهر لاَن الظاهر يقتضي البشارة بإسحاق دون نبوته .
ويدل أيضاً عليه قوله : فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ولم يذكر اسماعيل . فدل على أنه كان مولوداً قبله .
وأيضاً فإنه بشره بإسحاق وأنه سيولد له يعقوب فكيف يأمره بذبحه مع ذلك ؟ وأجابوا عن ذلك بأن الله لم يقل إن يعقوب يكون من ولد إسحاق .
وقالوا أيضاً يجوز أن يكون أمره بذبحه بعد ولادة يعقوب . والاَول هو الاَقوى على ما بيناه . وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : أنا ابن الذبيحين ولا خلاف أنه كان من ولد اسماعيل والذبيح الآخر عبد الله أبوه . انتهى .

( 418 )

ـ وفي تفسير نور الثقلين ج 4 ص 421
في أمالي شيخ الطائفة قدس سره بإسناده إلى سليمان بن يزيد قال : حدثنا علي بن موسى قال : حدثني أبي عن أبيه عن أبي جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال : الذبيح اسماعيل عليه السلام .
وفي مهج الدعوات في دعاء مروي عن أمير المؤمنين عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله : يا من فدى اسماعيل من الذبح .

ـ وفي مستدرك الوسائل ج 16 ص 98
وفي العيون : عن أحمد بن الحسن القطان عن أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي عن علي بن حسن بن فضال عن أبيه قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن معنى قول النبي صلى الله عليه وآله : أنا ابن الذبيحين قال : يعني إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام وعبد الله بن عبدالمطلب . . . إلى أن قال : وأما الآخر فإن عبدالمطلب كان تعلق بحلقة باب الكعبة ودعا الله عز وجل أن يرزقه عشرة بنين ونذر لله عز وجل أن يذبح واحداً منهم متى أجاب الله دعوته فلما بلغوا عشرة قال : قد وفى الله تعالى لي فلافين لله عز وجل فأدخل ولده الكعبة وأسهم بينهم فخرج سهم عبد الله . . الخبر .
ـ ابن شهر آشوب في المناقب : تصور لعبد المطلب أن ذبح الولد أفضل قربة لما علم من حال اسماعيل فنذر أنه متى رزق عشرة أولاد ذكوراً أن ينحر أحدهم في الكعبة شكراً لربه فلما وجدهم عشرة قال لهم : يا بني ما تقولون في نذري فقالوا: الاَمر إليك ونحن بين يديك . . الخبر . انتهى .

بحث في إيمان عبد المطلب ورواية أنا ابن الذبيحين

نظراً لاَهمية هذه المسألة وارتباطها بشفاعة النبي وشخصية أبيه وجده صلى الله عليه وآله . . نستعرضها بشكل موجز ، ونبين ظلامة عبد المطلب في مصادر السنيين :
فقد روت مصادرهم بأسانيد صحيحة عن لسان أصدق الصادقين الناطق بإلهام
( 419 )
رب العالمين صلى الله عليه وآله ، نقاطاً ملفتة في مدح عبد المطلب ، توجب الاِعتقاد بأن شخصيته شخصية ربانية ، وتوجب رفض الروايات التي تعارضها وتتهمه بالشرك وعبادة الاَصنام !
فمن هذه الاَحاديث :
أنه عندما انهزم المسلمون في حنين وتركوا نبيهم صلى الله عليه وآله بين سهام الكفار ورماحهم وسيوفهم في أشد ظروف الخطر ، ولم يبق معه إلا الملائكة وعلي وبعض بني هاشم . . ترجل صلى الله عليه وآله للحرب وافتخر على الكفار بأمرين : نبوته ، وأنه ابن عبد المطلب وباهاهم بذلك بين يدي الله تعالى وقاتلهم !
والنبي العادي لا يفتخر بجده وآبائه إذا كانوا كفاراً ، فكيف بسيد الاَنبياء والمرسلين وأتقى الموحدين صلى الله عليه وآله !

ـ قال البخاري في صحيحه ج 5 ص 98
عن أبي إسحاق قال سمعت البراء وجاءه رجل فقال : يا أبا عمارة أتوليت يوم حنين ! فقال أما أنا فأشهد على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يول ولكن عجل سرعان القوم فرشقتهم هوازن وأبو سفيان بن الحرث ( بن عبد المطلب ) آخذ برأس بغلته البيضاء ( وهو ) يقول : أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب

ـ وقال البخاري في ج 3 ص 220
قال : لا والله ما ولى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن ولى سرعان الناس ، فلقيهم هوازن بالنبل ، والنبي صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء ، وأبو سفيان بن الحر ث آخذ بلجامها ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول :

أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب

ـ وقال في ج 4 ص 28
. . . فلما غشيه المشركون نزل فجعل يقول : أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب قال : فما رؤي من الناس يومئذ أشد منه ! ورواه مسلم في ج 5 ص 168 و 169

( 420 )

ـ وقال البخاري في صحيحه ج 4 ص 161
باب من انتسب إلى آبائه في الاِسلام والجاهلية . وقال ابن عمرو وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الكريم ابن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله . وقال البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنا ابن عبد المطلب .
ومن هذه الاَحاديث :
ما دل أن الله تعالى جعل في شريعته الخالدة مالية خاصة لاَبناء عبد المطلب إلى يوم القيامة ، فحرم عليهم الصدقات لاَنها أوساخ الناس ، وجعل لهم بدلها الخمس . وإن شخصاً يكون في ذريته أبرار وأخيار بهذا المستوى إلى يوم القيامة ، يستبعد أن يكون مشركاً عابداً للاَصنام !

ـ قال النسائي في سننه ج 7 ص 134
عن مجاهد قال الخمس الذي لله وللرسول كان للنبي صلى الله عليه وسلم وقرابته لا يأكلون من الصدقة شيئاً . . . قال الله جل ثناؤه : واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل .

ـ وقال أبو داود في سننه ج 2 ص 26
حدثنا حسين بن علي العجلي ، ثنا وكيع ، عن الحسن بن صالح ، عن السدي ، في ذي القربى قال : هم بنو عبد المطلب .

ـ وقال النسائي ج 5 ص 105
باب استعمال آل النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة . . . أخبرنا عمرو بن سواد بن الاَسود بن عمرو عن ابن وهب قال حدثنا يونس عن ابن شهاب عن عبدالله بن الحرث بن نوفل الهاشمي أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب أخبره أن أباه ربيعة بن الحرث قال لعبد المطلب بن ربيعة بن الحرث والفضل بن العباس بن عبد المطلب ائتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولا له استعملنا يا
( 421 )
رسول الله على الصدقات ، فأتى علي بن أبي طالب ونحن على تلك الحال فقال لهما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستعمل منكم أحداً على الصدقة ، قال عبد المطلب : فانطلقت أنا والفضل حتى أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لنا : إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس ، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد !

ـ وفي صحيح مسلم ج 3 ص 118
عن النبي صلى الله عليه وآله قال : إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد ، إنما هي أوساخ الناس . . . وقال أيضاً : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أدعوا لي محمية بن جزء ، وهو رجل من بني أسد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على الاَخماس . انتهى .
ونحوه في سنن أبي داود ج 2 ص 28 ومسند أحمد ج 4 ص 166 والبيهقي في سننه ج 7 ص 31 ـ وشبهه في ج 6 ص 338
وروى إحدى رواياته الحاكم في المستدرك ج 3 ص 484 وقال : هذا حديث صحيح الاِسناد ولم يخرجاه . وروى نحوه في كنز العمال ج 6 ص 458 بعدة روايات .
ومعنى قوله ادعوا لي محمية : أدعوا لي المسؤول عن الاَخماس التي هي شرعاً لبني عبد المطلب ، حتى أعطي هؤلاء منها . وهو يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله نفذ في حياته الحكم الشرعي في الخمس ، وجعل له مسؤولاً هو محمية بن جزء ، ولكن ذلك انتهى بوفاته ، ولم يبق له أثرٌ عند خلفاء قريش !

* *

وقد يشكل على هذا التشريع الاِسلامي : بأنه قد أسس الطبقية في المجتمع الاِسلامي ، وجعل أسرة النبي صلى الله عليه وآله من بني هاشم وعبد المطلب ، أسرة مميزة اجتماعياً ومالياً ، بل ومترفعة على غيرها ، فهي لا تأكل من أموال بيت المال التي تتجمع من الزكوات والضرائب لاَنها أوساخ الناس ، بل لها ماليتها الخاصة في موارد الدولة .

( 422 )
وقد اختلف الفقهاء في موارد مالية بني عبد المطلب هذه ، فحصرها فقهاء الخلافة القرشية بغنائم الحرب وجعلوا خمسها لذوي قربى النبي من بني هاشم . . وعممها فقهاء الشيعة لكل مايغنم في الحرب والكسب ، مما زاد على مصارف المسلم السنوية. . فقد يقال إن هذه الاَموال تشكل ميزانية دولة ، فكيف يجعلها الله تعالى لاسرة النبي صلى الله عليه وآله ؟ !
والجواب : أولاً ، أن الخمس ليس لاَغنياء بني هاشم ، بل هو مختص بفقرائهم المؤمنين .
وثانياً ، إن الاِهتمام بالفقراء من أسر الاَنبياء والنابغين أمر حضاري ، فلو أن مجلس العموم البريطاني مثلاً أقرَّ قانوناً بإعطاء أبناء آينشتاين من أموال الدولة ما يكفي لمعيشة فقراءهم ، بسبب أنهم من ذرية عالم نابغ ، ويؤمل أن ينبغ منهم آخرون . . لرأى فيه المعترضون على الخمس الاِسلامي عملاً عصرياً صحيحاً ، واهتماماً جيداً من دولة متحضرة !
فما هو الاِشكال في أن تهتم الشريعة الخاتمة بذرية سيد الاَنبياء وأسرته صلى الله عليه وآله وتجعل لهم ميزانية من أزكى الموارد ، لمن كان منهم مؤمناً محتاجاً .
وثالثاً ، إن الذي يشكل على تشريع الخمس لآل النبي صلى الله عليه وآله عليه أن يرجع إلى القرآن ليرى ما هو أعظم من الخمس ، فإن نبينا صلى الله عليه وآله هو الوحيد من بين الاَنبياء الذي أوجب الله تعالى على أمته إعطاءه أجراً على تبليغ الرسالة ، وجعل هذا الاجر : مودة آله فقال ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ) ولذا أفتى كل فقهاء المذاهب بنفاق الناصبي الذي يكره آل النبي صلى الله عليه وآله ، وأفتى بعضهم بكفره !
إن المتأمل في آيات القرآن وتاريخ الاَديان ، لا مفر له من القول بأن الله تعالى من الاَصل قد اختار الاَنبياء وأسرهم لتبليغ الدين الاِلَهي ، وإقامة الحكم به في المجتمعات البشرية . فالاَسرة المختارة أساسٌ في نظام الدين الاِلَهي ، ولكنها أسرة
( 423 )
مصطفاة من الله العليم بشخصيات عباده ، الحكيم في اختيار أنبيائه وأوليائه . . لا كالاَسر التي يختارها الناس بأهوائهم ، أو بعلمهم المحدود ، أو الاَسر التي تتسلط بالقوة وتفرض نفسها على الناس !
قال الله تعالى : إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين . ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم . آل عمران 33 ـ 34

ـ وقال عن جمهرة أسر الاَنبياء :
ـ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم .
ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين . وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين . وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلا فضلنا على العالمين . ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون .
أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين . الاَنعام ـ 83 ـ 89

ـ وقال عن دعاء زكريا بالذرية الطيبة :
هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء . آل عمران ـ 38

ـ وقال عن ذرية نبينا صلى الله عليه وآله وكثرتهم :
وكذلك أنزلناه حكماً عربياً ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق . ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية وما كان
( 424 )
لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب . الرعد 37 ـ 38
ـ إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الاَبتر . الكوثر 1 ـ 3

ـ وقال عن دعاء الملائكة للذريات المؤمنة :
الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم . ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم . وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم . غافر 7 ـ 9

ـ وقال عن نظام الذرية والاَسر في الآخرة أيضاً :
والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار . جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب . سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار . الرعد ـ 22 ـ 24
ـ متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين . والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين . الطور 20 ـ 21 انتهى .
فنظام الاَسرة والذرية نظام طبيعي في بني آدم ، وقد أقره الله تعالى واستفاد منه في الدين الاِلَهي .
وإذا كانت البشرية قد عانت الويلات والمآسي وأنواع الظلم والاِضطهاد من نظام الاَسر الفاسدة المتجبرة . . فإن ذلك يرجع إلى فساد تلك الاَسر ولا يصح أن يكون سبباً لرفض بنية الاَسرة وفكرتها . . فهذه البنية تختزن إيجابيات كبرى لحمل الرسالة واستمرارها كما أن فيها خطر سلبيات كبرى أيضاً وأن تتحول إلى ملك عضوض . .
( 425 )
وقد تحدث القرآن عن الاَجيال التي فسدت من أسر الاَنبياء وأتباعهم فقال تعالى :
أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً . فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا . إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً . مريم 58 ـ 60
لكن عندما يختار الله تعالى أسرة كأسرة نبينا صلى الله عليه وآله ويصطفيها فليس معناه أنه يختار كل أفرادها على علاتهم بل معناه أنه يختارها بصورة عامة بسبب علمه بأنه سيوجد منها أفراد معصومون يختارهم لهداية الاَمة وقيادتها .
ولو فكرت فيما نقلته الصحاح من قول النبي صلى الله عليه وآله في حديث الثقلين ( ولقد أخبرني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ) لما وجدت له معنى إلا أن الله تعالى أخبر نبيه بأنه سيكون من عترته شخص معصوم يواصل خط نبوته في كل عصر إلى يوم القيامة ! فالاختيار لبني عبد المطلب كليٌّ عام لاَنهم معدن النبي صلى الله عليه وآله ومعدن الاَئمة من عترته عليهم السلام ولاَنهم الاَفضل بالمقايسة مع غيرهم من الاَسر ، فهي أقلهم سلبيات وأكثرهم إيجابيات . . وهو اختيار ترافقه تشريعات حازمة شرعها الله تعالى بشأنهم تتلخص بما يلي :
ـ أن المودة والاِحترام لجميع بني هاشم ، بشرط الاِسلام والاِيمان .
ـ أن الخمس لفقرائهم المؤمنين بمقدار كفايتهم وتمشية أمور معيشتهم .
ـ أن وجوب الاِطاعة فقط لاَولي الاَمر المعصومين منهم عليهم السلام الذين هم الاَئمة الاِثنا عشر لاغير . . وقد تقدم في الفصل الثامن تفسير آية المصطفين الذين أورثهم الله الكتاب بعد نبينا صلى الله عليه وآله ، وأنهم محصورون في ذرية فاطمة الزهراء عليها السلام ، وأن الصالحين منهم ثلاثة أنواع : سابق بالخيرات وهم الائمة عليهم السلام ومقتصد وظالم لنفسه .

( 426 )
ومن الاَمور الطريفة أن الذين ينتقدون الشيعة لتمسكهم بمودة أهل البيت وولايتهم عليهم السلام ويقولون إن مذهب التشيع مذهب أسري ، ينسون أنهم أسريون أكثر منا ! فنحن نعتقد أن الخلافة في هذه الاَمة إلى يوم القيامة مخصوصة في ذرية النبي عملاً بنصه صلى الله عليه وآله . . بينما هم يقولون إن النبي صلى الله عليه وآله لم ينص على أحد ، وبعضهم يقول إنه على أن الخلافة في قريش إلى يوم القيامة ، لاَنهم قبيلة النبي صلى الله عليه وآله .
فنحن أسريون بالنص ، وهم قبليون بغير نص ، أو بنص !
ونطاق ولائنا نحن لبني هاشم وعبد المطلب بصورة عامة ، ولاثني عشر إماماً منهم بصورة خاصة . . بينما نطاق ولائهم لبضع وعشرين قبيلة ، هم مجموعة قبائل قريش ، ومنهم أئمة الشرك ، والكفر ، والنفاق !
وقد روينا ورووا أن علياً عليه السلام بعد أن فرغ من مراسم تغسيل النبي والصلاة عليه ودفنه صلى الله عليه وآله بلغه أن بعض زعماء قريش ذهبوا الى السقيفة حيث كان رئيس الاَنصار مريضاً ، واحتجوا على الاَنصار بأنهم قوم النبي صلى الله عليه وآله وعشيرته وأولى منهم بسلطانه ! فقال علي عليه السلام فيما قال : احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة ! !
وغرضنا هنا أن نوضح أن جميع المسلمين ماعدا من شذ قد أجمعوا على أن نظام الحكم في الاِسلام بعد النبي صلى الله عليه وآله إما أن يكون أسرياً مخصوصاً بعترته صلى الله عليه وآله ، أو قبلياً مخصوصاً بقبائل قريش الثلاث والعشرين أو الخمس والعشرين .
فنحن نقول إنه نظامٌ أسري بالنص واختيار الله تعالى كما قال ( ذريةٌ بعضها من بعض ) ، والسنة يقولون إنه نظامٌ قبلي باختيار الناس لكن من داخل قريش ، ولا يجب أن يكون الحاكم عندهم من أسرة النبي عليه السلام ، بل لعله يستحبون أن يكون من غيرها !
ومن الاَحاديث والنصوص الدالة على إيمان عبد المطلب :
ما ثبت في الحديث والتاريخ من كرامات بل معجزات لعبد المطلب ، في حملة أبرهة لهدم الكعبة تدل على توحيده وإيمانه ويقينه ، وعلى أنه كان يعرف أن الله
( 427 )
تعالى سيرسل عليهم طيراً أبابيل ، وكان يرسل بعص أولاده إلى الجبل لينظروا هل جاء سرب الطيور من قبل البحر !
ورووا كذلك مخاطبته للفيل وجواب الفيل له بالاِشارة بأنه لن يدخل إلى محيط الكعبة . . . إلى آخر ما اتفق عليه المؤرخون والمحدثون مما لا يمكن أن يصدر إلا عن ولي مقرب !
ومن هذه الاَحاديث والنصوص :
ما دل على الكرامة التي أكرمه الله بها بأن أعاد نبع زمزم على يده وما رافق ذلك من آيات فقد كان الله تعالى أكرم بهذا النبع جده اسماعيل وأمه هاجر ثم نضب وعفي على مر الزمن حتى أعاده الله تعالى على يد عبد المطلب عن طريق الرؤيا الصادقة التي لا تكون إلا للاَنبياء والاَوصياء وكبار الاَولياء .
ومن هذه الاَحاديث والنصوص :
ما دل على معرفته بنبوة حفيده صلى الله عليه وآله ، واهتمامه الخاص به ورعايته المميزة له في طفولته وصباه ، وتوصيته به إلى أرشد أبنائه أبي طالب ، وإخباره إياه بأمره . . . إلى آخر ما اتفق عليه المؤرخون والمحدثون ، مما لا يمكن أن يصدر إلا عن ولي مقرب !
ومن هذه الاَحاديث والنصوص :
ما دل على المكانة الدينية التي كانت لعبد المطلب في قلوب قبائل العرب وجماهير ها والتي لم يكن لاَحد مثلها حتى لرؤساء قبائلهم . . . كل ذلك مع حسد قريش له وعمل رؤسائها للحط من مكانته خاصة بنو عبد الدار أصحاب لواء قريش الذين قادوا معركة بدر وبنو المغيرة الذين كان يرأسهم أبو جهل وبنو أمية الذين كان يرأسهم صخر .
وقد نصت مصادر التاريخ على هذه المكانة وأن طابعها كان تقديساً دينياً غير وثني بل مرتبطاً بالكعبة وزمزم وإسماعيل وإبراهيم عليهم السلام . ويلاحظ ذلك من مواقف
( 428 )
عقلاء العرب وأصحاب الاَذهان الحرة منهم واحترامهم للنبي صلى الله عليه وآله باعتباره ابن عبدالمطلب لاَن عبد المطلب عندهم وارث أمجاد اسماعيل وإبراهيم وبركتهما !

ـ روى النسائي في سننه ج 4 ص 124
عن أبي هريرة قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ( إذ ) جاء رجل من أهل البادية قال : أيكم ابن عبد المطلب
قالوا : هذا الامغر المرتفق . قال حمزة : الاَمغر الاَبيض مشرب حمرة .
فقال : إني سائلك فمشتد عليك في المسألة .
قال : سل عما بدا لك .
قال : أسألك بربك ورب من قبلك ورب من بعدك آلله أرسلك .
قال : اللهم نعم .
قال : فأنشدك به آلله أمرك أن تصلي خمس صلوات في كل يوم وليلة .
قال : اللهم نعم .
قال : فأنشدك به آلله أمرك أن تأخذ من أموال أغنيائنا فترده على فقرائنا .
قال : اللهم نعم .
قال : فأنشدك به آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من إثني عشر شهراً .
قال : اللهم نعم .
قال : فأنشدك به آلله أمرك أن يحج هذا البيت من استطاع إليه سبيلا .
قال : اللهم نعم .
فقال : فإني آمنت وصدقت وأنا ضمام بن ثعلبة . انتهى .
ورواه البخاري مختصراً في صحيحه ج 1 ص 23 وأبو داود في سننه ج 1 ص 117 ـ 118 ويفهم من هذا النص أن لعبدالمطلب وأولاده مكانة خاصة في قلوب المتفكرين من العرب . .
بل يشير النص التالي في صحيح البخاري إلى أن أولاد بني عبد المطلب لهم
( 429 )
مميزات نورانية خاصة . ففي ج 5 ص 140 : أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه فقال الناس : يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصبح بحمد الله بارئاً فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب فقال له : أنت والله بعد ثلاث عبد العصا وإني والله لاَرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يتوفى من وجعه هذا إني لاَعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت . . . !! ورواه البخاري أيضاً في ج 7 ص 136
ومن هذه الاَحاديث والنصوص :
ما دل على العاطفة النبوية الجياشة التي كانت تفيض من قلب نبينا صلى الله عليه وآله على بني هاشم وبني عبد المطلب وذريتهما وأحاديث ذلك كثيرة صحيحة مليئة بالدلالات لمن تأملها وجرد ذهنه عن ستار التلقين القرشي ضد عبد المطلب .

قال البخاري في صحيحه ج 2 ص 204
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة استقبله أغيلمة بني عبد المطلب فحمل واحداً بين يديه وآخر خلفه . . ورواه في ج 7 ص 67
فهل كانت هذه العاطفة النبوية والحفاوة المحمدية بأطفال كافرين ! أم بأطفال آباؤهم طلقاء أسلموا لتوهم تحت السيف !
كلا بل كانت عاطفة على غصون شجرة مباركة يحملون إرث أجدادهم الاَنبياء والاَوصياء ، ولم يظهر منهم إلى الآن انحراف عنها !!
وروى البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله تعمد في حجة الوداع أن يوعي الاَمة على ظلم قريش للنبوة ، ولكل بني هاشم وعبد المطلب !

ـ قال البخاري في ج 2 ص 158
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم من الغد يوم النحر وهو
( 430 )
بمنى : نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر . يعني بذلك المحصب ، وذلك أن قريشاً وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب أو بني المطلب ، أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى .
ثم لاحظ ذلك التعبير النبوي المليء بالعاطفة والحنان والاِيمان بنوعية أبناء عبدالمطلب المميزة حيث قال صلى الله عليه وآله كما حديث الكافي الآتي ( فما ظنكم يا بني عبدالمطلب إذا أخذت بحلقة باب الجنة أتروني مؤثراً عليكم غيركم ! ) .
ـ ويؤيده ما رواه ابن شبة في تاريخ المدينة ج 2 ص 264 قال :
حدثنا أبوحذيفة قال حدثنا سفيان عن أبيه عن أبي الضحى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء العباس رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنك تركت فينا ضغائن منذ صنعت الذي صنعت ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لن يبلغوا الخير أو قال الاِيمان حتى يحبوكم لله ولقرابتي أيرجو سؤلهم شفاعتي عن مراد ولا يرجو بنو عبد المطلب شفاعتي انتهى . وروى نحوه غيره .
ومن هذه الاَحاديث :
ما دل على أن أولاده سادة أهل الجنة هم بنو عبد المطلب السبعة من بني عبدالمطلب ! فقد روى ابن ماجة في سننه ج 2 ص 1368 : حدثنا هدية بن عبدالوهاب ثنا سعد بن عبد الحميد بن جعفر عن علي بن زياد اليمامي عن عكرمة بن عمار عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : نحن ولد عبد المطلب سادة أهل الجنة : أنا وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين والمهدي . انتهى . وهو حديث صحيح عند إخواننا السنة وقد أورنا مصادره وطرقه العديدة في معجم أحاديث الاِمام المهدي عليه السلام فزادت على مئة مصدر . وصحح العديد منها علماء الجرح والتعديل .

* *

( 431 )
إن المجموعة الواحدة من هذه النصوص تكفي الباحث السوي الذهن ، لاَن يعيد النظر في الاَحكام التي أصدرتها الخلافة القرشية وفقهاؤها على عبد المطلب . . ! فكيف بهذه المجموعات الثمانية مجتمعة ، ومثلها معها !
وإذا أنهار البناء القرشي ضد عبد المطلب ، انهارت الجدران القرشية الاَخرى وانكشفت محاصرتهم الجديدة لبني هاشم وبني عبد المطلب . . التي أحكموها أكثر من محاصرتهم لهم في شعب أبيطالب ، لاَنهم فعلوها هذه المرة باسم الاِسلام فطالت قروناً ، وعمت أجيالاً ، إلا من رحم ربك من أصحاب البصائر !

عبد المطلب عليه سيماء الاَنبياء وبهاء الملوك

اتفقت أحاديث أهل البيت عليهم السلام على أن عبد المطلب رضوان الله عليه مؤمن بالله الواحد الاَحد على ملة جده إبراهيم ولي من أولياء الله ملهم بواسطة الملائكة والرؤية الصادقة . . بل يحتمل الناظر في هذه الاَحاديث أن عبد المطلب كان من الاَنبياء وأنه كان مأموراً أن يعبد ربه على دين إبراهيم ويأمر أولاده بذلك .
ـ وقد روت ذلك مصادرنا وبعض مصادر السنيين قال السيوطي في الدر المنثور ج 5 ص 98:
وأخرج ابن أبي عمر العدني في مسنده والبزار وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن مجاهد في قوله : وتقلبك في الساجدين قال : من نبي إلى نبي حتى أخرجت نبياً . انتهى .

ـ قال المجلسي في بحار الاَنوار ج 31 ص 155
روي عن جعفر بن محمد عليه السلام أنه قال : يبعث الله عبد المطلب يوم القيامة وعليه سيماء الاَنبياء وبهاء الملوك .

ـ وروى الكليني في الكافي ج 4 ص 58
عن أحمد بن إدريس عن محمد بن عبدالجبار ومحمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعاً عن صفوان بن يحيى عن عيص بن القاسم عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
( 432 )
إن أناساً من بني هاشم أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله فسألوه أن يستعملهم على صدقات المواشي وقالوا : يكون لنا هذا السهم الذي جعله الله للعاملين عليها فنحن أولى به فقال رسول صلى الله عليه وآله الله : يا بني عبد المطلب إن الصدقة لا تحل لي ولا لكم ولكني قد وعدت الشفاعة ـ ثم قال أبو عبد الله عليه السلام : والله لقد وعدها ـ فما ظنكم يا بني عبد المطلب إذا أخذت بحلقة باب الجنة أتروني مؤثرا عليكم غيركم !
ثم قال : إن الجن والاِنس يجلسون يوم القيمة في صعيد واحد فإذا طال بهم الموقف طلبوا الشفاعة فيقولون : إلى من فيأتون نوحا فيسألونه الشفاعة فيقول : ههيات قد رفعت حاجتي فيقولون إلى من فيقال : إلى إبراهيم فيأتون إلى إبراهيم فيسألونه الشفاعة فيقول : هيهات قد رفعت حاجتي فيقولون إلى من فيقال : إيتوا موسى فيأتونه فيسألونه الشفاعة فيقول : هيهات قد رفعت حاجتي فيقولون : إلى من فيقال : إيتوا عيسى فيأتونه ويسألونه الشفاعة فيقول : هيهات قد رفعت حاجتي فيقولون : إلى من فيقال إيتوا محمداً فيأتونه فيسألونه الشفاعة فيقوم مدلاً حتى يأتي باب الجنة فيأخذ بحلقة الباب ثم يقرعه فيقال : من هذا ؟ فيقول : أحمد فيرحبون ويفتحون الباب فإذا نظر إلى الجنة خر ساجداً يمجد ربه ويعظمه فيأتيه ملك فيقول : إرفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع فيرفع رأسه فيدخل من باب الجنة فيخر ساجداً ويمجد ربه ويعظمه فيأتيه ملك فيقول : إرفع رأسك وسل تعط وأشفع تشفع فيقوم فما يسأل شيئاً إلا أعطاه إياه .
ورواه في تهذيب الاَحكام ج 4 ص 58 وتفسير العياشي ج 2 ص 93 وتفسير نور الثقلين ج2 ص 235 ووسائل الشيعة ج 6 ص 185 ومستدرك الوسائل ج 7 ص 119 وتفسير نور الثقلين ج 3 ص 210
هذا وقد تكفلت مصادر الحديث والتفسير عندنا بإثبات إيمان عبد المطلب وجميع آباء النبي صلى الله عليه وآله ، وقد وافقنا على ذلك عدد من العلماء السنيين منهم السيوطي والفخر الرازي والشعراني . . وغيرهم .