النوع الثالث : نظرية فداء المسلمين باليهود والنصارى !
ـ روى مسلم في ج 8 ص 104
عن أبي موسى الاَشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان يوم القيامة دفع الله عز وجل إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً فيقول هذا فكاكك من النار !! ورواه ابن ماجة ج 2 ص 1434 عن أنس وزاد في أوله ( إن هذه الاَمة مرحومة عذابها بأيديها ) وقال في هامشه : في الزوائد : له شاهد في صحيح مسلم من حديث أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه . وقد أعلَّه البخاري .

ـ وقال السيوطي في الدر المنثور ج 5 ص 251
وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمتي ثلاثة أثلاث ، فثلث يدخلون الجنة بغير حساب ، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ثم يدخلون الجنة ، وثلث يمحصون ويكسفون ، ثم تأتي الملائكة فيقولون وجدناهم يقولون لا إلَه إلا الله وحده فيقول الله : أدخلوهم الجنة بقولهم لا إلَه إلا الله وحده واحملوا خطاياهم على أهل التكذيب ، وهي التي قال الله :
( 245 )
وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم وتصديقاً في التي ذكر الملائكة قال الله تعالى : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فجعلهم ثلاثة أنواع فمنهم ظالم لنفسه ، فهذا الذي يكسف ويمحص ، ومنهم مقتصد وهو الذي يحاسب حساباً يسيراً ، ومنهم سابق بالخيرات فهو الذي يلج الجنة بغير حساب ولا عذاب بإذن الله ، يدخلونها جميعاً لم يفرق بينهم ، يحلون فيها من أساور من ذهب إلى قوله لغوب . انتهى . ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ج 7 ص 95 وقال : رواه الطبراني وفيه سلامة بن رونج وثقه ابن حبان وضعفه جماعة وبقية رجاله ثقات.
ـ وقال النبهاني في جامع الثناء على الله ص 41
روى الاِمام أحمد ، عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يجمع الله الاَمم في صعيد واحد يوم القيامة ، فإذا بدأ الله يصدع بين خلقه مثَّل لكل قوم ما كانوا يعبدون فيتبعونه حتى يقحموهم النار ، ثم يأتينا ربنا عز وجل ونحن على مكان رفيع فيقول : من أنتم ؟ فنقول : نحن المسلمون ، فيقول : ما تنتظرون ؟ فنقول : ننتظر ربنا ! فيقول : وهل تعرفونه إن رأيتموه ؟ فنقول : نعم ، فيقول كيف تعرفونه ولم تعرفوه ؟ فنقول : نعم ، إنه لا عدل له فيتجلى لنا ضاحكاً !! فيقول : أبشروا يا معشر الاسلام فإنه ليس منكم أحد إلا جعلت في النار يهودياً أو نصرانياً مكانه !! انتهى
وما ذكره النبهاني رواه أحمد في ج 4 ص 407 و 408 ورواه أيضاً في ج 4 ص 391 وص398 وص 402 وص 410 بروايات متعددة ، وفي كنز العمال ج 1 ص 73 وص 86 وج12 ص 159 وص 170 ـ 172 وج 4 ص 149 عن مصادر متعددة .
وما تدعيه هذه الروايات من رفع جرائم أحد ووضعها على ظهر أحد لا علاقة له بجرمه . . أمرٌ لا يقبله دينٌ ولا عقل ، ويرده قوله تعالى ( لا تزرُ وازرةٌ وزرَ أخرى ) .
أما الذين قال الله تعالى إنهم يحملون أثقالاً مع أثقالهم ، فإنهم الُمضِلُّون الذين يحملون من أثقال الذين أضلوهم ، لأنهم شركاء في كفرهم ومعاصيهم ، ثم لا ينقص
( 246 )
من أثقال الضالين شيء ، لا أن جرائمهم تسقط كما تدعي هذه الرواية !!
والظاهر أن هذه المقولات ردةُ فعلٍ من بعض المسلمين على زعم اليهود بأنهم لا تمسهم النار إلا أياماً معدودة ثم يخلفهم فيها المسلمون ، كما تقدم في فصل الشفاعة عند اليهود ! فاخترع لهم أبو موسى الأشعري أو غيره نظرية فداء المسلم من النار بيهودي أو نصراني ! كما يفعل المجرم الشاطر فيفدي نفسه من مشكلة تحصل له في الدنيا بأن يجعلها في رقبة غيره زوراً وبهتاناً ! !

النوع الرابع : إسقاط المحرمات عن أهل بدر
ـ قال البخاري في صحيحه ج 5 ص 10
عن علي رضي الله عنه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد والزبير وكلنا فارس قال : إنطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين ، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلنا : الكتاب ! فقالت : ما معنا كتاب ! فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتاباً ، فقلنا : ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لتخرجن الكتاب أو لنجردنك ، فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجته ، فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر : يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ماحملك على ما صنعت ؟ قال حاطب : والله مابي أن لا أكون مؤمناً بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم أردت أن تكون لي عند القوم يدٌ يدفع الله بها عن أهلي ومالي ، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله . فقال: صدق ، ولا تقولوا له إلا خيراً ، فقال عمر : إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلاَضرب عنقه ، فقال : أليس من أهل بدر ؟ فقال : لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ماشئتم فقد وجبت لكم الجنة ، أو فقد غفرت لكم . فدمعت عينا
( 247 )
عمر وقال : الله ورسوله أعلم . انتهى .
ورواه مسلم في صحيحه ج 7 ص 168 وقال ( وليس في حديث أبي بكر وزهير ذكر الآية وجعلها إسحاق في روايته من تلاوة سفيان )
ورواه أبو داود في سننه ج 1 ص 597 وج 2 ص 403 والترمذي ج 5 ص 83 والحاكم ج 3 ص 134 وص 301 وج 4 ص 77 والبيهقي في سننه ج 9 ص 146 والدارمي في ج 2 ص 313 ورواه أحمد في ج 1 ص 80 وص 105وص 331 وج 2 ص 109 وص 295 . . . الخ .
ـ ورواه البخاري أيضاً في مواضع عديدة أخرى وجدنا منها سبعة : في ج 4 ص 19 وقال بعده ( قال سفيان وأي إسناد هذا ! ) وفي ج 4 ص 39 وفي ج 5 ص 89 وفي ج 6 ص 60 وفيه ( قال عمرو ونزلت فيه يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي عدوكم . قال لا أدري الآية في الحديث أو قول عمرو ) وفي ج 7 ص 134 وفي ج 8 ص 55 .
والموضعان الآخران روى البخاري فيهما طعناً على علي عليه السلام قال في ج 4 ص 38 :
عن أبي عبد الرحمن وكان عثمانياً فقال لابن عطية وكان علوياً : إني لأعلم ما الذي جرأ صاحبك على الدماء ! سمعته يقول : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم والزبير فقال إئتوا روضة كذا وتجدون بها امرأة أعطاها حاطب كتاباً. . . فقال : وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : إعملوا ما شئتم ! فهذا الذي جرأه . انتهى .وروى نحوه في ج 8 ص 54
ومن الواضح أن البخاري أعجبه قول أبي عبد الرحمان العثماني حتى رواه مرتين بدون تعليق !
وجوابه : أن علياً عليه السلام لم يكن يعتقد بهذه المقولة التي نسبوها الى النبي صلى الله عليه وآله عن أهل بدر .. وأن حروبه الداخلية الثلاثة على تأويل القرآن كانت بعهدٍ معهودٍ اليه من رسول الله صلى الله عليه وآله كما رواه البخاري نفسه وغيره !

( 248 )
بل ثبت عندنا أن كل مواقفه وأعماله كانت بعهد ووصية من النبي صلى الله عليه وآله .
وعلى فرض تسليمنا مايراه البخاري ، فالسؤال موجهٌ اليه : مادام الذي جرَّأَ علياً عليه السلام على سفك دماء المسلمين بزعمك ، أنه رفع القلم عن أهل بدر ، وأن علياً عليه السلام معذورٌ لذلك !
فما هو عذر عدوه معاوية في خروجه على الخليفة الشرعي وقتاله إياه وسفكه لدماء المسلمين ؟
وما عذرك في الدفاع عن معاوية وتوثيقه والرواية عنه ؟
إلا أن يكون البخاري قد عدَّ معاوية بدرياً لاَنه شهدها مع أبيه أبي سفيان في صف المشركين !!
ومن أشرف المواقف السنية في هذا الموضوع موقف الحافظ ابن الجوزي ، حيث رد مقولة المغفرة المطلقة لاَهل بدر ، وفسرها بأنها مغفرة مامضى من ذنوبهم لا ما سيأتي ، ثم رد على رواية البخاري بقوله :
ثم دعنا من معنى الحديث ، كيف يحل لمسلم أن يظن في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فعل ما لا يجوز اعتماداً منه على أنه سيغفر له ؟ ! حوشي من هذا ، وإنما قاتل بالدليل المضطر له الى القتال ، فكان على الحق ، ولا يختلف العلماء أن علياً لم يقاتل أحداً إلا والحق مع علي ، كيف وقد قال رسول الله (ص) : اللهم أدر الحق معه كيفما دار ! فقد غلط أبو عبد الرحمن غلطاً قبيحاً ، حمله عليه أنه كان عثمانياً ! انتهى . ( الصحيح في السيرة ج 5 ص 141 عن صيد الخاطر ص 385 )

* *
وينبغي أن نشير أولاً إلى أن ما رووه من قول النبي صلى الله عليه وآله ( لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة أو فقد غفرت لكم ) معناه القطع بذلك وليس الاِحتمال والرجاء . . فعلى هذا تعامل العلماء السنيون مع الحديث ، وقد صرح بالقطع واليقين حديث آخر رواه الحاكم وصححه قال في المستدرك ج 4
( 249 )
ص77 : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله قال : إن الله تعالى اطلع على أهل بدر فقال : إعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم . هذا حديث صحيح الاِسناد ولم يخرجاه بهذا اللفظ على اليقين ( إن الله اطلع عليهم فغفر لهم ) إنما أخرجاه على الظن وما يدريك لعل الله تعالى اطلع على أهل بدر . انتهى .
وروى مفاده في دلائل النبوة للبيهقي ج 3 ص 153 قال: عن جابر بن عبد الله : أن عبداً لحاطب بن بلتعة جاء إلى رسول الله يشكو حاطباً فقال : يا رسول الله ليدخلن حاطب النار ! فقال رسول الله ( ص ) : جُذِبْت ، لا يدخلها فإنه شهد بدراً والحديبية !. انتهى .
ولكن هذه الاَحاديث الصحيحة عندهم بمقاييس الجرح والتعديل وأحكامه ، يواجهها حكم العقل وآيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وآله القطعية المتفق عليها عند الجميع ! إذ لا يمكن لعاقل أن يقبل أن الصحابة من أهل بدر أو كل الصحابة كما تقول روايات أخرى . . مبشرون بالجنة ، وأعمالهم مغفورة مهما كانت ، وولايتهم فريضة من الله تعالى على المسلمين بعد ولاية الله تعالى وولاية رسوله صلى الله عليه وآله ! وأن من لايتولاهم أو ينتقصهم فهو في النار محروم من الشفاعة والجنة ورائحة الجنة ، وخارج عن ربقة الاِسلام . . . إلى آخر الاَحكام التي ذكروها للصحابة ، وجعلوها جزء من شريعة الاِسلام المقدسة ، بل جزء من عقائده الاَساسية !!
تقول لهم : يا إخواننا إن الصحابة أنفسهم قد سبَّ بعضهم بعضاً ، وتبرأ بعضهم من بعضهم ، وكفَّر بعضهم بعضاً ، وقاتل بعضهم بعضا وقتل بعضهم بعضاً ! فمن المحق ومن المبطل ؟ ومن المظلوم ومن الظالم ؟ ومن يستحق الشفاعة منهم ومن يستحق الحرمان ؟
فيقولون : لا تخوضوا في موضوع الصحابة ، فكلهم عدول وكلهم في الجنة !
تقول لهم : لقد علَّمنا النبي صلى الله عليه وآله أن نخوض في أمرهم ، فقد ثبت في الصحاح أنه صلى الله عليه وآله أخبر بأن بعضهم يدخل النار وأنهم لا يرونه ولا يراهم في الآخرة ، وأن
( 250 )
بعضهم يردون عليه الحوض ، فيذودهم عنه ويطردهم كما تطرد الاَباعر الغريبة !!
فيقولون : لا تخوضوا في موضوع الصحابة ، فكلهم عدول وكلهم في الجنة !
وترجمة كلامهم : أنك يجب عليك في موضوع الصحابة أن تعطل عقلك ، وتعطل آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وآله حتى تحافظ على إيمانك بالصحابة وتتمسك بهم !
ولكن التناقض لا فرق فيه بين صغير وكبير ، فإذا قبلنا به لحل مشكلة الصحابة ، فلنقبل به لحل مشكلة الاَديان ، ولنقل بصحة التثليث والتوحيد ، والاِيمان والكفر ، والوثنية والاِسلام . . ولنحلَّ به مشكلة إبليس ونقول إنه عدو الله وولي الله معاً !!
العقل يقول : إذا تناقض أمران أو شخصان في القول ولم يمكن الجمع بين قوليهما ، فلا يمكن أن يكون كلا القولين حقاً ، لاَنه تناقض مستحيل .
وإذا تناقضا في الفعل واقتتلا فلا يمكن أن يكون كل منهما على الحق ، لاَنه تناقض مستحيل . . ولا معنى للقبول بالتناقض إلا تعطيل العقل والتنازل عن قوانين العلية والبدهيات ! وإذا عطلنا العقل ، فلا يبقى إيمان بالله ورسله وكتبه ، ولا صحابة ولا مصحوبون !
إن ما ننعاه على اليهود والنصارى بأن عندهم عقائد لا يقبلها العقل ، وأنهم يقبلون ما يناقض عقولهم من أجلها . . يجب أن ننعاه على أنفسنا ، لاَننا نزعم أن الله تعالى أمرنا بإطاعة صحابة نبينا المتناقضين في أقوالهم وأفعالهم ، إلى حد كسر العظم وقطع الرقاب !
ولاَننا نقرأ قول الله تعالى ( ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل . . ) ثم ندعي أن الله تعالى قد سلَّمَ أمة نبيه صلى الله عليه وآله من بعده الى صحابة متشاكسين في الفقه والعقائد والسياسة الى حد التناقض والتكفير والحرب !!

ـ قال المفيد في الاِفصاح ص 49
فإن قال : أليس قد روى أصحاب الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : خير القرون
( 251 )
القرن الذي أنا فيه ، ثم الذين يلونه (1) .
وقال عليه السلام : إن الله تعالى اطلع على أهل بدر فقال: إعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم (2) . وقال عليه السلام : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم (3) .
فكيف يصح مع هذه الاَحاديث أن يقترف أصحابه السيئات أو يقيموا على الذنوب والكبائر الموبقات ؟ !
قيل له : هذه أحاديث آحاد ، وهي مضطربة الطرق والاِسناد ، والخلل ظاهر في معانيها والفساد ، وما كان بهذه الصورة لم يعارض الاِجماع ، ولا يقابل حجج الله تعالى وبيناته الواضحات ، مع أنه قد عارضها من الاَخبار التي جاءت بالصحيح من الاِسناد ، ورواها الثقات عند أصحاب الآثار ، وأطبق على نقلها الفريقان من الشيعة والناصبة على الاِتفاق ، ما ضمن خلاف ما انطوت عليه فأبطلها على البيان :
فمنها : ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم . فقالوا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن إذن ؟ ! (4) .
وقال صلى الله عليه وآله في مرضه الذي توفي فيه : أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها ، الآخرة شر من الاَولى (5) .
وقال صلى الله عليه وآله في حجة الوداع لاَصحابه : ألا وإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب ، ألا لاَعرفنكم ترتدون بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ، ألا إني قد شهدت وغبتم (6) .
وقال عليه السلام لاَصحابه أيضاً : إنكم محشورون إلى الله تعالى يوم القيامة حفاة عراة ، وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب أصحابي؟ فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم (7) .
وقال عليه السلام : أيها الناس بينا أنا على الحوض إذ مُرَّ بكم زمراً ، فتفرق بكم الطرق فأناديكم : ألا هلموا إلى الطريق ، فيناديني مناد من ورائي : إنهم بدلوا بعدك ،
( 252 )
فأقول:ألا سحقاً ألا سحقاً (8) .
وقال عليه السلام : ما بال أقوام يقولون : إن رحم رسول الله صلى الله عليه وآله لا تنفع يوم القيامة ؟ ! بلى والله إن رحمي لموصولة في الدنيا والآخرة ، وإني أيها الناس فرطكم على الحوض ، فإذا جئتم قال الرجل منكم : يا رسول الله أنا فلان بن فلان ، وقال الآخر : أنا فلان بن فلان ، فأقول : أما النسب فقد عرفته ، ولكنكم أحدثتم بعدي فارتددتم القهقرى (9) .
وقال عليه السلام وقد ذكر عنده الدجال : أنا لفتنة بعضكم أخوف مني لفتنة الدجال (10).
وقال عليه السلام : إن من أصحابي من لا يراني بعد أن يفارقني (11) .
في أحاديث من هذا الجنس يطول شرحها ، وأمرها في الكتب عند أصحاب الحديث أشهر من أن يحتاج فيه إلى برهان ، على أن كتاب الله عز وجل شاهدٌ بما ذكرناه ، ولو لم يأت حديث فيه لكفى في بيان ما وصفناه : قال الله سبحانه وتعالى : وما محمدٌ إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً ، وسيجزى الله الشاكرين ، فأخبر تعالى عن ردتهم بعد نبيه صلى الله عليه وآله على القطع والثبات ، وقال جل اسمه : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب ، فأنذرهم الله سبحانه من الفتنة في الدين ، وأعلمهم أنها تشملهم على العموم إلا من خرج بعصمة الله من الذنوب .
وقال سبحانه وتعالى : أ.ل .م . أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين . أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون . وهذا صريح في الخبر عن فتنتهم بعد النبي صلى الله عليه وآله بالاِختبار ، وتمييزهم بالاَعمال .
وقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه . . إلى آخر الآية ، دليل على ما ذكرناه .
وقوله تعالى : أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ، يزيد ما شرحناه .

( 253 )
ولو ذهبنا إلى استقصاء ما في هذا الباب من آيات القرآن والاَخبار عن رسول الله صلى الله عليه وآله لانتشر القول فيه ، وطال به الكتاب .
وفي قول أنس بن مالك : دخل رسول الله صلى الله عليه وآله المدينة فأضاء منها كل شيَ ، فلما مات عليه السلام أظلم منها كل شيء ، وما نفضنا عن النبي صلى الله عليه وآله الاَيدي ونحن في دفنه حتى أنكرنا قلوبنا . (12) شاهد عدل على القوم بما بيناه .
مع أنا نقول لهذا السائل المتعلق بالاَخبار الشواذ المتناقضة ما قدمنا حكايته وأثبتنا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله الذين توهمت أنهم لا يقارفون الذنوب ولا يكتسبون السيئات ، هم الذين حصروا عثمان بن عفان وشهدوا عليه بالردة عن الاِسلام وخلعوه عن إمامة الاَنام . . . إلى آخر كلامه المفيد رحمه الله
وقال في هامشه :
( 1 ) مسند أحمد 2 : 228 سنن أبي داود 4 : 214 | 4657 صحيح مسلم 4 : 1962 | 210 وفيها : خير أمتي القرن . .
( 2 ) مسند أحمد 1 : 80 و 2 : 295 صحيح مسلم 4 : 1941 | 161 صحيح البخاري 6 : 363 | 383 سنن الدرامي 2 : 313
( 3 ) لسان الميزان 2 : 137 تفسير البحر المحيط 5 : 528 أعلام الموقعين 2 : 223 كنزالعمال 1 : 199/1002 كشف الخفاء ومزيل الاَلباس 1 | 132 . وانظر تلخيص الشافي 2 : 246
( 4 ) مسند أحمد 2 : 511 سنن ابن ماجة 2 :322/3994 صحيح البخاري 4 : 326 |249
( 5 ) مسند أحمد 3 : 489 مجمع الزوائد 9 : 24 سنن ابن ماجة 2 : 1310 | 3961 .
( 6 ) الجامع الصحيح للترمذي 4 : 461 | 2159 و 486 | 2193 صحيح البخاري 7 : 182 و 8 : 285/14 و 9 : 90|27 صحيح مسلم 3 : 1305 | 29 ـ 31 سنن أبي داود 4 : 221 | 4686 قطعة منه مسند أحمد 1 : 230 سنن النسائي 7 : 127 قطعة منه سنن الدارمي 2 : 69 قطعة منه .
( 7 ) صحيح البخاري 6 : 108 صحيح مسلم 4 : 2194 | 58 الجامع الصحيح للترمذي 4 :
( 254 )
615 | 2423 سنن النسائي 4 : 117
( 8 ) مسند أحمد 6 : 297 .
( 9 ) مسند أحمد 3 : 18 و 62 قطعة منه .
( 10 ) كنز العمال 14 : 322 | 28812
( 11 ) مسند أحمد 6 : 307 .
( 12 ) الجامع الصحيح للترمذي 5 : 588 | 3618 مسند أحمد بن حنبل 3 : 221 | 268 سنن ابن ماجة 1: 522 | 1631 . انتهى .

* *

النوع الخامس : حرمان من سب الصحابة من الشفاعة

ـ روى الديلمي في فردوس الاَخبار ج 2 ص 498 ح 3398
عن عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : شفاعتي مباحة إلا لمن سب أصحابي .

ـ وفي ج 1 ص 98 ح 196
عن عبد الرحمن بن عوف أيضاً وفيه : فشفاعتي محرمة على من شتم أصحابي . ورواه أبو نعيم في حلية الاَولياء كما ذكر في كنز العمال ج 14 ص 398
ـ وروى الشيرازي في الاَلقاب وابن النجار كما ذكر كنز العمال ج 14 ص 635 :
عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم الرجل أنا لشرار أمتي! فقال له رجل من مزينة : يا رسول الله أنت لشرارهم فكيف لخيارهم ؟ قال : خيار أمتي يدخلون الجنة بأعمالهم ، وشرار أمتي ينتظرون شفاعتي . ألا إنها مباحةٌ يوم القيامة لجميع أمتي إلا رجل ينتقص أصحابي ! ونقله كاندهلوي في حياة الصحابة ج 3 ص 45
ولا نقصد بنقد هذه الروايات الدفاع عن الذين يسبون بعض الصحابة ، فالسب والشتم وكل أنواع البذاءة في المنطق لا يمكن لعاقل أن يدافع عنها ، بل لا يرتكبها
( 255 )
عاقل في حالة سيطرة عقله على منطقه ، فضلاً عن الاَتقياء الاَبرار .
وإنما غرضنا بيان تهافت منطق هذه الاَحاديث في منح الشفاعة والحرمان منها ! فهذا المنطق يقول : يجوز للصحابي أن يحكم بفسق الصحابي الآخر أو كفره ، وأن يسبه ويهينه ويضربه ويحبسه ويشهر عليه سيفه ويقتله ، أو يكيد به ويقتله بالسم أو بالاِغتيال ، ويجوز له أن يستعمل كل أساليب السياسة والمناورة والمخادعة ضده ، وأن يجمع حوله الناس بالرشوة والتهديد . . وأن يخرج على إمام زمانه ويسبب انشقاقاً في الاَمة وحروبا يقتل فيها عشرات ألوف المسلمين ، وأن يرتكب كل المحرمات . . ولا بأس بذلك كله ، لاَنه مغفورٌ له مشمولٌ بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله أو مستحق للجنة بدون شفاعة !!
أما غير الصحابة من المسلمين فلو انتقد صحابياً ولو انتقاداً صغيراً . . فقد شمله مرسوم الحرمان النبوي من الشفاعة وصار مخلداً في النار !!
إنه منطق يستشكل في الحبة ويأكل القبة ! ولا يمكن أن يكون مما أنزله الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وآله !
بل إن صيغة الحديث ( لا تسبوا أصحابي ) وأمثاله يصعب تعقل صدورها عن النبي صلى الله عليه وآله لاَن مخاطبيه هم أصحابه ، فكيف يقول لهم : لا تسبوا أصحابي أو اقتدوا بأصحابي !

* *

وأخيراً ، فإن أحاديث فضل الصحابة ووجوب مودتهم وموالاتهم وحرمة بغضهم وانتقاصهم وانتفادهم . . يصعب فهمها بل لايمكن فهمها إلا بالمقارنة مع الآيات والاَحاديث المشابهة الواردة في حق أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله مثل قوله تعالى : قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ، وقوله : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا . . وأحاديث : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي
( 256 )
أهل بيتي ، وأهل بيتي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ، ولا يؤمن أحدكم حتى يحبهم لحبي ، وعشرات غيرها متفق على صدورها عن النبي صلى الله عليه وآله وقد ركز فيها الاِسلام مكانة عترة النبي من بعده حتى أنه حرم عليهم الصرف من المصارف العامة وجعل لهم مالية خاصة هي الخمس !
والباحث المتتبع يجد أن كل حديث قاله النبي صلى الله عليه وآله في أهل بيته . . نبت مقابله حديث في أصحابه ! حتى أن حديث الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، نبت مقابله : أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة ، وحديث إحفظوني في أهل بيتي نبت مقابله : إحفظوني في أصحابي . .
وقانون الحرمان من الشفاعة لمن ينتقص الصحابة ، ما هو إلا نبتةٌ قريشية مقابل قانون حرمان النواصب من الشفاعة الذي ثبت عند الجميع ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .

* *

النوع السادس : الدخول الى جهنم
لتحليل القسم الاِلَهي بأن يملأها

ـ روى البخاري في صحيحه ج 2 ص 72
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار ، إلا تحلة القسم . ورواه أيضاً في ج 7 ص 224
ورواه مسلم ج 8 ص 39 وفيه ( فتمسه النار )
ورواه ابن ماجة ج 1 ص 512 والنسائي ج 4 ص 22 و25 بعدة روايات وفي بعضها : فتمسه النار .. والترمذي ج 2 ص 262 وأحمد ج 2 ص 240 وص 276 وص 473 وص 479 والبيهقي في سننه ج 4 ص 67 وج 7 ص 78 والهيثمي في مجمع الزوائد ج 1 ص 163 وج 5
( 257 )
ص 287 والهندي في كنزالعمال ج 3 ص 284 وص 293 وج 4 ص 323 وج 10 ص 216 والسيوطي في الدر المنثور ج 4 ص 280 وفي عدد من رواياته : تمسه النار . وفي عدد آخر : يلج النار وفي أكثرها ( تحلة القسم ) .
ورغم التفاوت في صيغ هذه الروايات إلا أنها تتفق على أن هذا الوالد الذي تحمل ألم خسارة أولاده الثلاثة يستحق الجنة حتى لو كان مذنباً ، لكن يجب على هذا المسكين أن يدفع ضريبة يمين الله تعالى ، ويدخل النار مدة قليلة تحلةً لقسم الله تعالى حتى لا يكون الله حانثاً بقسمه ، ثم له من الله تعالى وَعْدُ شََرفٍ أن ينقله الى الجنة !!
فما هي قصة هذا القسم ؟ وما ذنب هذا الوالد وغيره من المساكين الذين أدخلتهم صحاح السنيين في جهنم لا لشيء إلا لتحليل يمين الله تعالى !
حاولت بعض الروايات أن تجعل القسم قوله تعالى ( وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً . ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً ) مريم 70 ـ 71 وقالوا إن هذا القضاء الاِلَهي الحتمي هو القسم وهو عام للجميع .
ولكنه تفسير من الرواة لاَن الصحاح لم ترو حديثاً يفسر القسم بذلك !

ـ قال البيهقي في سننه ج 10 ص 64 :
قال أبو عبيد : نرى قوله تحلة القسم يعني قول الله تبارك وتعالى : وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً ، يقول فلا يردها إلا بقدر ما يبر الله قسمه فيه . وفيه : أنه أحل للرجل يحلف ليفعلن كذا وكذا ثم يفعل منه شيئاً دون شيَ ، يبري في يمينه . انتهى .
ولكن تفسيرهم هذا لا يصح :
أولاً ، لما ذكره البيهقي من أنه يفتح الباب للناس للتلاعب بأيمانهم ، ولا تبقى قيمة ليمين ! فإذا كان الله تعالى يستعمل الحيلة الشرعية للتحلل من يمينه ويسميها (
( 258 )
تحلة القسم ) فلا حرج على عباده أن يلعبوا بأيمانهم !!
وثانياً ، لا يوجد في آية الورود قسم ، بينما ورد في كل روايات الصحاح أن سبب دخول هذا الاَب ( تحلَّةَ القسم ) .
وثالثاً ، إن المؤمنين الذين يردون جهنم ويشرفون عليها في طريق عبورهم الى الجنة لا تمسهم نارها ، بينما ورد في عدد من صيغ الحديث التعبير بتمسه النار تحلة القسم .
ورابعاً ، أن الورود المذكور في الآية أمرٌ عامٌ شاملٌ ، وليس من البلاغة استثناء هذا الوالد من استحقاق الجنة ، مع أن حال في الورود حال غيره !!
وخامساً ، ورد في صيغة البخاري وغيره تعبير بالولوج وهو الدخول المحقق في النار ، بينما الورود أعم من الدخول في النار والاِشراف عليها عند المرور على الصراط .

ـ قال في تفسير التبيان ج 7 ص 143
واختلفوا في كيفية ورودهم اليها فقال قوم وهو الصحيح : إن ورودهم هو وصولهم إليها وإشرافهم عليها من غير دخول منهم فيها ، لاَن الورود في اللغة هو الوصول إلى المكان ، وأصله ورود الماء وهو خلاف الصدور عنه . ويقال : ورد الخبر بكذا تشبيهاً بذلك .
ويدل على أن الورود هو الوصول إلى الشيء من غير دخول فيه قوله تعالى : ولما ورد ماء مدين ، وأراد وصل اليه . وقال زهير :

فـلـما وردنَ الـماء زرقاً جـمـامـَه * وضـعـنَ عِـصـِيَّ الـحاضـرِ المتخيمِ
وقال قتادة وعبدالله بن مسعود : ورودهم إليها هو ممرهم عليها .
وقال عكرمة : يردها الكافر دون المؤمن ، فخص الآية بالكافرين .
وقال قوم شذاذ : ورودهم إليها دخولهم فيها ولو تحلة القسم . روي ذلك عن ابن عباس وكان من دعائه : اللهم أزحني من النار سالماً وأدخلني الجنة غانماً . وهذا
( 259 )
الوجه بعيد ، لاَن الله قال : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ، فبين تعالى أن من سبقت له الحسنى من الله يكون بعيداً من النار ، فيكف يكون مبعداً منها مع أنه يدخلها وذلك متناقض . فإذاً المعني بورودهم : إشرافهم عليها ووصولهم إليها. انتهى .
وعلى هذا يتعين أن يكون المقصود بتحلة القسم في هذه الاَحاديث المزعومة : قسمه تعالى بأن يملأ جهنم من الجنة والناس في قوله تعالى : ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ، وتمت كلمة ربك لاَملاَن جهنم من الجنة والناس أجمعين. هود 118 ـ 119 ويكون معنى الحديث : أن هذا الوالد يستحق الجنة ، ولكن بما أن الله تعالى أقسم أن يملأ النار ، وليس عنده ما يكفي لملئها ، فإن على هذا الوالد المسكين أن يدفع الضريبة من جلده !!
إن منطق هذا الحديث يصور الله تعالى كأنه حاكم دنيوي بنى سجناً وأقسم أن يملأه من المجرمين ، وعندما وجد أن السجن كبيرٌ لم يمتليَ بالمجرمين الموجودين، أمر شرطته أن يقبضوا على الناس من الشارع ويضعوهم في السجن حتى يملاَوه ويفي حضرة الحاكم بيمينه ، ولا يكون كاذباً !
وهو تصورٌ نجده عن الله تعالى في التوراة ولا نجده في القرآن . . الاَمر الذي يجعلنا نطمئن بأن فكرة إدخال الناس إلى النار لتحلة القسم فكرة توراتية أخذها المسلمون من اليهود ففي تفسير كنز الدقائق ج 2 ص 47 ، جاء في رد مقولات اليهود التي منها ( أنه تعالى وعد يعقوب أن لا يعذب أولاده إلا تحلة القسم ) !!
ولكن أين هذا المنطق من قوانين الحق والعدل الاِلَهي التي أقام الله تعالى عليها الكون والحياة ، وأنزلها في كتابه وأوحى بها إلى رسوله صلى الله عليه وآله فخضع لها العلماء والفلاسفة والمفكرون !

* *


( 260 )

النوع السابع : حرمان من الشفاعة بسبب صبغ الشعر
يمكن للباحث أن يتفهم أحاديث الحرمان من الشفاعة لمن ينتقد الصحابة ، ويفسرها بأنها محاولة لتسكيت المسلمين عن الصحابي الحاكم وجماعته . ولكن بعض الحرمانات الواردة في الصحاح لا يستطيع أن يفهم لها علة ولا معنى ، إلا بعد جهد جهيد ، مثل حرمانهم الذي يصبغ شعره ولحيته بالسواد من الشفاعة والجنة !
فقد روت ذلك الصحاح كما في النسائي ج 8 ص 138 قال : عن ابن عباس رفعه أنه قال قوم يخضبون بهذا السواد آخر الزمان كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة . انتهى .

ورواه أبو داود في ج 2 ص 291
وأحمد في ج 1 ص 273
والبيهقي في سننه ج 7 ص 311
ـ وروى الهيثمي في مجمع الزوائد ج 5 ص 163 روايةً شديدةً على المجرم الذي يصبغ شعره ولحيته بالسواد ، وقال إنها موثقة عند ابن حنبل وابن معين وابن حبان قال : عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من خضب بالسواد سوَّد الله وجهه يوم القيامة . رواه الطبراني وفيه الوضين بن عطاء وثقه أحمد وابن معين وابن حبان ، وضعفه من هو دونهم في المنزلة وبقية رجاله ثقات . انتهى .
وقد تحير في ذلك بعض أصحاب الصحاح . . ومن حقهم أن يتحيروا . . فمع أنهم عاشوا في القرن الثالث ولم يشهدوا القرن الأول ولا الثاني ، ولكن عهدهم كان قريباً نسبياً ، والمسألة واضحةٌ وضوح اللحى ! ومع ذلك وصلت اليهم أحاديث متناقضة فيها ! فمنها أحاديث تقول إن النبي صلى الله عليه وآله أمر بتغيير الشيب ومخالفة اليهود الذين يحرمون صبغ الشيب ، وأحاديث تقول إنه أمر بصبغه بالحناء ، أي باللون الاَحمر الذي تصبغ به العرب ونهى عن السواد لاَنه خضاب الكفار ! وأخرى تقول إنه أمر
( 261 )
بالسواد ، وأخرى تقول بالكتم والوسم الاَصفر . . . !
واختلفت رواياتهم في أن النبي صلى الله عليه وآله هل صبع شيبه أم لا ، فروايةٌ تقول إنه صبغه بالحناء ، ولكنهم رجحوا أخرى تقول لم يدركه الشيب إلا شعرات قليلة ولم يصبغها ،
ـ قال مسلم في صحيحه ج 7 ص 84 و85 : قال سئل أنس بن مالك عن خضاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لو شئت أن أعد شمطات كن في رأسه فعلت وقال : لم يختضب وقد اختضب أبو بكر وعمر بالحناء والكتم واختضب عمر بالحناء بحتا . انتهى .

ـ وقد روى الجميع خضاب أبي بكر وعمر بالحناء والكتم كما في مسند أحمد ج 3 ص 100 وج3 ص 108 وص 160 وص 178
ولكن تحير أصحاب الصحاح كان على مستوى الرواية فقط ، أما الرأي السائدالمتبع عندهم فهو النهي المشدد عن الخضاب بالسواد ، لاَنه رأي الدولة من زمن أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية . . إلى آحر الخلافة الأموية !
ولذا جعل النسائي عنوان المسألة : النهي عن الخضاب بالسواد وقال في ج 8 ص 38
عن ابن عباس رفعه أنه قال : قوم يخضبون بهذا السواد آخر الزمان كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة .
عن أبي الزبير عن جابر قال أتي بأبي قحافة يوم فتح مكة ، ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد . . . ثم قال النسائي : والناس في ذلك مختلفون ، والله تعالى أعلم ، لعل المراد الخالص ، وفيه أن الخضاب بالسواد حرامٌ أو مكروهٌ ، وللعلماء فيه كلام ، وقد مال بعض إلى جوازه للغزاة ، ليكون أهيب في عين العدو ، والله تعالى أعلم .
أما الفقهاء فقد قننوا المسألة وأعطوها صيغتها الشرعية ، وأجمعوا على ذم الحضاب بالسواد ، ذمَّ تحريمٍ ، وربما وجد فيهم نادرٌ يقول بأنه ذم تنزيه !

( 262 )

ـ قال النووي في المجموع ج 1 ص 294
( فرع ) اتفقوا على ذم خضاب الرأس أو اللحية بالسواد ، ثم قال الغزالي في الاِحياء والبغوي في التهذيب وآخرون من الاَصحاب هو مكروه ، وظاهر عباراتهم أنه كراهة تنزيه ، والصحيح بل الصواب أنه حرام . وممن صرح بتحريمه صاحب الحاوي في باب الصلاة بالنجاسة ، قال إلا أن يكون في الجهاد ، وقال في آخر كتابه الاَحكام السلطانية : يمنع المحتسب الناس من خضاب الشيب بالسواد إلا المجاهد .
ودليل تحريمه حديث جابر رضي الله عنه قال : أتي بأبي قحافة والد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : غيروا هذا واجتنبوا السواد . رواه مسلم في صحيحه ، والثغامة بفتح الثاء المثلثة وتخفيف الغين المعجمة نبات له ثمر أبيض . وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة . رواه أبو داود والنسائي وغيرهما ، ولا فرق في المنع من الخضاب بالسواد بين الرجل والمرأة ، هذا مذهبنا . انتهى .

ـ وقال ابن قدامة في المغني ج 1 ص 76
وعن الحكم بن عمر الغفاري قال : دخلت أنا وأخي رافع على أمير المؤمنين عمر وأنا مخضوب بالحناء وأخي مخضوب بالصفرة ، فقال عمر بن الخطاب : هذا خضاب الاِسلام ، وقال لأخي رافع : هذا خضاب الاِيمان . ويكره ( وكره ) الخضاب بالسواد . قيل لاَبي عبدالله تكره الخضاب بالسواد قال إي والله . . . ! انتهى .

ـ وروى الحاكم قصة أخرى مشابهة وجعل رأي الخليفة عمر حديثاً مسنداً قال في المستدرك ج 3 ص 526 قال :
دخل عبدالله بن عمر على عبدالله بن عمرو وقد سوَّدَ لحيته ، فقال عبدالله بن عمر : السلام عليك أيها الشويب ! فقال له ابن عمرو : أما تعرفني يا أبا عبدالرحمن ؟
( 263 )
قال بلى أعرفك شيخاً فأنت اليوم شاب ! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : الصفرة خضاب المؤمن ، والحمرة خضاب المسلم ، والسواد خضاب الكافر . انتهى .
وقال عنه في مجمع الزوائد ج 5 ص 163 : رواه الطبراني وفيه من لم أعرفه . انتهى .
ـ وقد سئل الشيخ ابن باز في كما في فتاويه ج 4 ص 58 طبعة مكتبة المعارف بالرياض :
ـ مامدى صحة الاَحاديث التي وردت في صبغ اللحية بالسواد ، فقد انتشر صبغ اللحية بالسواد عند كثير ممن ينتسبون الى العلم ؟
فقال في جوابه : في هذا الباب أحاديث صحيحة كثيرة ، وذكر حديث حواصل الحمام ، وقال بعده : وهذا وعيدٌ شديد ، وفي ذلك أحاديث أخرى ، كلها تدل على تحريم الخضاب بالسواد ، وعلى شرعية الخضاب بغيره . انتهى .

* *

والمتتبع لنصوص المسألة يصل إلى قناعة بأن مرسوم الحرمان من الجنة مرسومٌ قرشي . . وسببه أن العرب ومنهم قريش كانوا يصبغون شيبهم بالحناء الذي يأتيهم من الهند ، وبعضهم يصبغونه بالورس والزعفران الذي يأتيهم من اليمن وإيران ( لاحظ مغني ابن قدامة ج 1 ص 76 )
وأول من خضب بالسواد من العرب عبد المطلب كما نص السهيلي في الروض الاَنف ج 1 ص 7 ونقله عنه النووي في المجموع ج 18 ص 254
ولا يبعد أنه صار بعد عبد المطلب رمزاً لبني هاشم . وسيأتي أن الاِسلام أقر عدة تشريعات سنَّها عبد المطلب بإلهامٍ من الله تعالى مثل : الطواف سبعاً ، والدية ، ومنها سنَّة الخضاب بالوسم .

ماذا يصنع رواة الخلافة القرشية بهذه الاَحاديث
تدل الاَحاديث من مصادر الجميع على أن الاِسلام أقر سنَّة عبد المطلب في صبغ الشيب بالسواد فقد روى ابن ماجة في سننه ج 2 ص 1197 عن صهيب قال : قال
( 264 )
رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أحسن ما اختضبتم به لَهَذَا السواد ، أرغب لنسائكم فيكم ، وأهيب لكم في صدور عدوكم . انتهى .
وقالوا بعده : هذا الحديث معارض لحديث النهي عن السواد ، وهو أقوى إسناداً وأيضاً النهي يقدم عند المعارضة ، وفي الزوائد : إسناده حسن . انتهى .
وإذا صح ما ذكره رواة قريش من أن النهي دائماً أقوى من الرخصة ، وأن الخضاب بالسواد حرام وصاحبه لا يشم رائحة الجنة ! فهل يلتزمون بأن الاِمام الحسين عليه السلام سيد شباب أهل الجنة لا يشم رائحتها !

ـ فقد روى البخاري في صحيحه ج 4 ص 216
عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين بن علي فجعل في طست فجعل ينكته وقال في حسنه شيئاً فقال أنس : كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مخضوباً بالوسمة ! انتهى . والوسمة هي السواد .

ـ وفي مجمع الزوائد ج 5 ص 162
عن محمد بن علي أنه رأى الحسن بن علي رضي الله عنه مخضوباً بالسواد على فرس ذنوب . رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ، خلا محمد بن إسماعيل بن رجاء وهو ثقة . وعن سليم قال : رأيت جرير بن عبدالله يخضب رأسه ولحيته بالسواد . رواه الطبراني وسليم والراوي عنه لم أعرفهما .
وعن محمد بن علي أن الحسين بن علي رضي الله عنه كان يخضب بالسواد . رواه الطبراني ورجاله رجال الذي قبله ، وقد روى عنهما من طرق وهذه أصحها ورجالها رجال الصحيح .
وعن عبد الرحمن بن بزرج قال : رأيت الحسن والحسين ابني فاطمة يخضبان بالسواد ، وكان الحسين يدع العنفقة . رواه الطبراني وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف ، وبقية رجاله ثقات .

( 265 )
وعن عبدالله بن أبي زهير قال : رأيت الحسين بن علي يخضب بالوسمة . رواه الطبراني وعبد الله بن أبي زهير لم أعرفه ، وبقية رجاله ثقات . انتهى .
وجرير بن عبدالله المذكور هو البجلي من كبار أصحاب علي عليه السلام ومن قادة جيشه وقد حمل عدداً من رسائله إلى معاوية .
فيتضح من ذلك أن أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم كانوا يخضبون شيبهم بالسواد . وأن النهي عن السواد نهي قرشي لا نبوي ، وغرضه إبعاد الناس عن التشبه ببني هاشم المعارضين للدولة !
بل ماذا يصنع الشيخ ابن باز بإمامه الزهري الذي روى عنه البخاري نحو 1200 رواية في صحيحه ، فقد كان ـ بعد أن خفَّت حدة المسألة في القرن الثاني ـ يصبغ شيبه بالسواد ، ويقول إن النبي أمر بتغيير الشيب ولم يحدد لون الصبغ !

ـ قال أحمد في مسنده ج 2 ص 309 :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن اليهود والنصارى لا يصبعون فخالفوهم . قال عبد الرزاق في حديثه : قال الزهري : والاَمر بالاِصباغ ، فأحلكها أحب الينا . قال معمر : وكان الزهري يخضب بالسواد . انتهى .

رأي أهل البيت عليهم السلام

ـ روى الكليني في الكافي ج 6 ص 481
عن : أحمد بن محمد ، عن سعيد بن جناح ، عن أبي خالد الزيدي ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : دخل قوم على الحسين بن علي صلوات الله عليهما فرأوه مختضباً بالسواد فسألوه عن ذلك ، فمد يده إلى لحيته ثم قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وآله في غزاة غزاها أن يختضبوا بالسواد ، ليقووا به على المشركين .

ـ وفي الكافي ج 6 ص 483
عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبدالله ، عن عدة من أصحابه ، عن علي بن
( 266 )
أسباط ، عن عمه يعقوب بن سالم قال : قال أبو عبدالله عليه السلام : قتل الحسين صلوات الله عليه وهو مختضب بالوسمة .

ـ وفي الكافي ج 6 ص 480
محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن مسكين بن أبي الحكم ، عن رجل ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله فنظر إلى الشيب في لحيته فقال النبي صلى الله عليه وآله : نورٌ ، ثم قال : من شاب شيبةً في الاِسلام كانت له نوراً يوم القيامة . قال فخضب الرجل بالحناء ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله فلما رأى الخضاب قال : نورٌ وإسلامٌ ، فخضب الرجل بالسواد ، فقال النبي صلى الله عليه وآله : نورٌ وإسلامٌ وإيمانٌ ، ومحبةٌ إلى نسائكم ، ورهبةٌ في قلوب عدوكم .

ـ وفي الكافي ج 6 ص 480
محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن فضال ، عن الحسن بن الجهم قال: دخلت على أبي الحسن ( الرضا ) عليه السلام وقد اختضب بالسواد فقلت : أراك قد اختضبت بالسواد ؟ فقال : إن في الخضاب أجراً ، والخضاب والتهيئة مما يزيد الله عز وجل في عفة النساء ، ولقد ترك النساء العفة بترك أزواجهن لهن التهيئة !

ـ وفي من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 122
قال الصادق عليه السلام : الخضاب بالسواد أنسٌ للنساء ، ومهابةٌ للعدو .

ـ وفي وسائل الشيعة ج 1 ص 403
محمد بن الحسين الرضي الموسوي في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه سئل عن قول رسول الله صلى الله عليه وآله : غيروا الشيب ، ولا تشبهوا باليهود فقال : إنما قال ذلك والدين قلٌّ ، وأما الآن وقد اتسع نطاقه ، وضرب بجرانه فامرؤٌ وما اختار . انتهى .
ويفهم من هذا الحديث أن الاَمر بتغيير الشيب ليس للوجوب ، بل هو لاِثبات الرخصة في مورد توهم الحظر والتحريم ، كما يعتقد اليهود .