التمحيص وحل العقدة:

وإذا أردنا أن نسير على ضوء الحقائق ، ونعطي المسألة حقها من التمحيص والبحث عن سر ذلك الارتباك وبذرته الأولى ـ التي نمت وتأثلت ـ لا نجد حلاً لتلك العقدة إلا : أن الخليفة عمر قد اجتهد برأيه لمصلحة راها بنظره للمسلمين في زمانه وأيامه ، اقتضت أن يمنع من استعمال المتعة منعاً مدنياً لا دينياً ، لمصلحة زمنية ، ومنفعة وقتية ، ولذا تواتر النقل عنه أنه قال : متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا احرمهما واعاقب عليهما(1). ولم يقل أن رسول الله صلى الله عليه وآله حرمهما أو نسخهما ، بل نسب التحريم إلى نفسه ، وجعل العقاب عليهما منه لا من الله سبحانه .
وحيث أن أبا حفص الحريص على نواميس الدين ، الخشن على إقامة شرائع الله ، أجل مقاماً ، وأسمى إسلاماً ، من أن يحرم ما أحل الله ، أو يدخل في الدين ما ليس من الدين ، وهو يعلم أن حلال محمد حلال الى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، والله سبحانه يقول في حق نبيه الكريم : ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منهُ الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين )(2) فلا بد من أن يكون مراده المنع الزمني ، والتحريم المدني ، لا الديني ، ولكن بعض معاصريه ، ومن بعده من المحدثين البسطاء ، لما غفلوا عن تلك النكتة الدقيقة ، واستكبروا من ذلك الزعيم العظيم ـ القائم على حراسة الدين ـ أن يحرم ما
____________
(1) انظر : السنن الكبرى للبيهقي 7 : 206 ، زاد المعاد لابن قيم الجوزي 3 : 463 ، المبسوط للسرخسي 27:4 .
(2) الحاقة 69 : 44 ـ 47 .

( 264 )

أحل الله ، ويجترى على حرمات الله ، اضطروا إلى استخراج مصحح ، فلم يجدوا إلا دعوى النسخ من النبي بعد الإباحة ، فارتبكوا ذلك الارتباك ، واضطربت كلماتهم ذلك الاضطراب ، ولو أنهم صححوا عمل الخليفة بما ذكرناه لأغناهم عن ذلك التكلف والارتباك .
ويشهد لما ذكرناه ما سبق من رواية مسلم عن جابر : كنا نتمتع بالقبضة من التمر والدقيق على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأبي بكر ، حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث (1) الحديث .
فانه يدل دلالة واضحة أن عمر نهى عن المتعة من اجل قضية في واقعة استنكر الخليفة منها ، فرأى من الصالح للاُمة النهي عنها ، وإن كنا لم نعثر على شيء من شأن القضية ، ولكن أبا حفص كان معلوماً حاله في الشدة والتنمر ، والغلظة والخشونة في عامة اموره ، فربما يكون قد استنكر شيئاً في واقعة خاصة أوجب تأثره وتهيجه الشديد الذي بعثه على المنع المطلق خوف وقوع أمثاله ، اجتهاداً منه ورأياً تمكن في ذهنه ، وإلا فأمر المتعة وحليتها بعد : نص القران ، وعمل النبي ، والصحابة طول زمن النبي ، ومدة خلافة أبي بكر ، وبرهة من خلافة عمر ، أوضح من أن يحتاج إلى شيء من تلك المباحث والهنابث (2) ، وتلك المداولات العريضة الطويلة .
____________
(1) في شرح مسلم المسمى باكمال المعلم للوشتاني الآبي قوله في شأن عمرو بن حريث : قيل : كان نهيه عن ذلك في آخر خلافته ، وقيل : في أثنائها. وقال [ أي عمر بن الخظاب ] : لا يؤتى برجل تمتع وهو محصن إلا رجمته ، ولا برجل تمتع وهو غير محصن إلا جلدته . وقضية عمرو بن حريث : أنه تمتع على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ودام ذلك حتى لخلافة عمر ، فبلغه ذلك فدعاها فسألها فقالت : نعم ، قال : من شهد ؟ قال عطاء : فأراها قالت أمها وأباها ، قال : فهلا غيرهما . فنهى عن ذلك . إنتهى « منه قدس سره » .
(2) الهنابث : جمع هنبثة ، وهي الامر الشديد .
الصحاح 1 : 296 .

( 265 )

كيف والذي يظهر من فلي نواصي التاريخ ، والاستطلاع في ثنايا القضايا ، أن عقد المتعة كان مستعملاً في زمن الرسالة ، حتى عند أشراف الصحابة ورجالات قريش ، ونتجت منه الذراري والأولاد الأمجاد.
فهذا الراغب الأصفهاني ـ من عظماء علماء السنة ـ يحدثنا ـ وهو الثقة الثبت ـ في كتابه السابق الذكر ما نصه : أن عبدالله بن الزبير عير ابن عباس بتحليله المتعة ، فقال له ابن عباس : سل امّك كيف سطعت المجامر بينها وبين أبيك .
فسألها فقالت : والله ما ولدتك إلا بالمتعة(1).
وأنت تعلم من هي ام عبدالله بن الزبير ، هي أسماء ذات النطاقين ، بنت أبي بكر الصديق ، اخت عائشة ام المؤمنين ، وزوجها الزبير من حواري رسول الله ، وقد تزوجها بالمتعة ، فما تقول بعد هذا أيها المكابر المجادل ؟ !
ثم أن الراغب ذكر عقيب هذه الحكاية رواية اخرى فقال : سأل يحيى ابن أكثم شيخاً من أهل البصرة فقال له : بمن اقتديت في جواز المتعة ؟
فقال : بعمر بن الخطاب .
فقال له : كيف وعمر كان من أشد الناس فيها ؟!
قال : نعم ، صح الحديث عنه أنه صعد المنبر فقال : يا أيها الناس ، متعتان أحلهما الله ورسوله لكم وأنا احرمها عليكم واعاقب عليهما ، فقبلنا شهادته ولم نقبل تحريمه .انتهى(2) .
وقريب منها ما ينقل عن عبدالله بن عمر(3).
____________
(1) محاضرات الادباء 3 : 214 .
(2) محاضرات الادباء 3 : 214 .
(3) سنن الترمذي 3 : 185|824 .

( 266 )

ولكن في عبارة شيخ أهل البصرة من الشطح والتجاوز ما لا يرتضيه كل مسلم ، والعبارة الشائعة عن أبي حفص أخف وألطف من ذلك ، وهي قوله : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وأنا احرمهما. وإذا كان مراده ما أوعزنا اليه ، وكشفنا حجابه ، وحللنا عقدته ، يهون الأمر ، وتخف الوطأة .
وبعد ما انتهينا في الكتابة إلى هنا ، وقفنا على كلام لبعض الأعاظم من علمائنا المتقدمين ، وهو المحقق محمد بن إدريس الحلي ، من أهل القرن السادس ، وجدناه يتفق مع كثير مما قدمناه ، فأحببنا نقله هنا ليتأكد البيان ، وتتجلى الحجة .
قال في كتابه ( السرائر ـ الذي هو من جلائل كتب الفقه والحديث ـ ما نصه : النكاح المؤجل مباح في شريعة الاسلام ، مأذون فيه ، مشروع في الكتاب والسنة المتواترة بإجماع المسلمين ، إلا أن بعضهم ادعى نسخه ، فيحتاج في دعواه الى تصحيحها ، ودون ذلك خرط القتاد. وأيضا فقد ثبت بالأدلة الصحيحة : أن كل منفعة لا ضرر فيها في عاجل ولا في اجل مباحة بضرورة العقل ، وهذه صفة نكاح المتعة ، فيجب إباحته بأصل العقل .
فإن قيل : من أين لكم نفي المضرة عن هذا النكاح في الآجل ، والخلاف في ذلك ؟
قلنا : من ادعى ضرراً في الاجل فعليه الدليل .
وأيضاً فقد قلنا : إنه لا خلاف في إباحتها من حيث أنه قد ثبت بإجماع المسلمين : أنه لا خلاف في إباحة هذا النكاح في عهد النبي صلى الله عليه واله بغير شبهة ، ثم ادعي تحريمها من بعد ونسخها ، ولم يثبت النسخ ، وقد ثبتت الإباحة بالإجماع ، فعلى من ادعى الحظر والنسخ الدلالة .
فإن ذكروا الأخبار التي رووها في أن النبي صلى الله عليه وآله حرمها


( 267 )

ونهى عنها.
فالجواب عن ذلك: إن جميع ما يروونه من هذه الأخبار ـ إذا سلمت من المطاعن والضعف ـ أخبارآحاد ، وقد ثبت أنها لا توجب علماً ولا عملاً في الشريعة ، ولا يرجع بمثلها عما علم وقطع عليه .
وأيضا قوله تعالى بعد ذكر المحرمات من النساء : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة )(1) .
ولفظة ( استمتعتم ) لا تعدو وجهين : إما أن يراد بهما الانتفاع أو الالتذاذ الذي هو أصل موضوع اللفظة ، أو العقد المؤجل المخصوص الذي اقتضاه عرف الشرع .
ولا يجوز أن يكون المراد هو الوجه الأول لأمرين :
أحدهما: إنه لا خلاف بين محصلي من تكلم في اصول الفقه في أن لفظ القرآن إذا ورد وهو محتمل الأمرين : أحدهما : وضع اللغة ، والاخر : عرف الشريعة ، فإنه يجب حمله على عرف الشريعة ، ولهذا حملوا كلهم لفظ : صلاة ، وزكاة ، وصيام ، وحج ، على العرف الشرعي دون الوضع اللغوي . . .
وأيضاً فقد سبق إلى القول بإباحة ذلك جماعة معروفة الأقوال من الصحابة والتابعين : كأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، وابن عباس ، ومناظراته لابن الزبير معروفة رواها الناس كلهم ، ونظم الشعراء فيها الأشعار فقال بعضهم :
____________
(1) النساء 4 : 24 .

( 268 )

أقول للشيخ لما طال مجلسه * ياصاح هل لك في فتوى ابن عباس

وعبدالله بن مسعود ، ومجاهد ، وعطاء ، وجابر بن عبدالله الأنصاري ، وسلمة بن الأكوع ، وأبي سعيد الخدري ، والمغيرة بن شعبة ، وسعيد بن جبير ، وابن جريح ، وأنهم كانوا يفتون بها . فادعاء الخصم الاتفاق على حضر النكاح المؤجل باطل . انتهى كلامه (1).
وكل ذي بصيرة يعرف ما فيه من المتانة والرصانة ، وقوة الحجة والمعارضة .
هذا كله في البحث عن المسألة من وجهتها الدينية والتاريخية ، والنظر اليها من حيث الدليل حسب القواعد الأصولية ، والطرق الشرعية . . . .
أما النظر فيها من الوجهة الأخلاقية والاجتماعية :
فأقول: أليس دين الإسلام هو الصوت الإلهي ، والنغمة الربوبية الشجية التي هبت على البشر بنسائم الرحمة ، وعطرت مشام الوجود بلطائف السعود ، وجاءت لسعادة الانسان لا لشقائه ، ولنعمته لا لبلائه ، هو الدين الذي يتمشى مع الزمان في كل أطواره ، ويدور مع الدهر في جميع أدواره ، ويسد حاجات البشر في نظم معاشهم ومعادهم ، وجلب صلاحهم ، ودرء فسادهم . ما جاء دين الاسلام ليشق على البشر ، ويلقيهم في حظيرة المشقة ، وعصارة البلاء والمحنة ، وكلفة الشقاء والتعاسة ، كلا ! بل جاء رحمة للعالمين ، وبركة على الخلق جميع ، ممهداً سبل الهناء والراحة ، ووسائل الرخاء والنعمة ، ولذا كان أكمل الأديان ، وخاتمة الشرائع ، إذ لم يدع نقصاً في نواميس سعادة البشر يأتي دين بعده فيكمله ، أو ثلمة في ناحية من نواحي الحياة فتأتي شريعة اخرى فتسدها .
____________
(1) السرائر2 : 618ـ 620.

( 269 )

ثم أوليس من ضرورات البشر ، منذ عرف الانسان نفسه ، وأدرك حسه ، ومن المهن التي لا ينفك عن مزاولتها ، والإندفاع اليها بدواع شتى وأغراض مختلفة هو السفر والتغرب عن الأوطان ، بداعي التجارة والكسب ، في طلب علم أو مال ، أو سياحة أو ملاحة ، أو غير ذلك من جهاد وحروب وغزوات ونحوها ؟
ثم أوليس الغالب في اولئك المسافرين لتلك الأغراض هم الشبان ، وما يقاربهم من أصحاء الأبدان ، وأقوياء الأجساد ، الراتعين بنعيم الصحة والعافية ؟
ثم أليس الصانع الحكيم ـ بباهر حكمته ، وقاهر قدرته ـ قد أودع في هذا الهيكل الانساني غريزة الشهوة ، وشدة الشوق والشبق إلى الأزواج ، لحكمة سامية ، وغاية شريفة ، وهي بقاء النسل ، وحفض النوع ، ولو خلي من تلك الغريزة ، وبلت أو ضعفت فيه تلك الجبلة لم يبق للبشر على مر الأحقاب عين ولا أثر.
ومن المعلوم أن حالة المسافرين المقوين لا تساعد على القران الباقي ، والزواج الدائم ، لما له غالباً من التبعات واللوازم ، التي لا تتمشى مع حالة المسافر ، فاذا امتنع هذا النحو من الزواج حسب مجاري العادات ، وعلى الغالب والمتعارف من أمر الناس ، وملك اليمين ، والتسري بالاماء والجواري المملوكة بأحد الأسباب ، قد بطل اليوم بتاتاً ، وكان متعذراً أو متعسراً من ذي قبل ، فالمسافر لا سيما من تطول أسفارهم في طلب علم أو تجارة ، أو جهاد أو مرابطة ثغر ، وهم في ميعة الشباب وريعان العمر ، وتأجج سعير الشهوة ، لا يخلو حالهم من أمرين : إما الصبر ومجاهدة النفس الموجب للمشقة التي تنجر إلى الوقوع في أمراض مزمنة ، وعلل مهلكة ، مضافا الى ما فيه من قطع النسل ، وتضييع ذراري الحياة المودعة فيهم ، وفي


( 270 )

هذا نقض للحكمة ، وتفويت للغرض ، وإلقاء في العسر والحرج وعظيم المشقة التي تأباه شريعة الاسلام ، الشريعة السمحة السهلة ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )(1) ( ما جعل عليكم في الدين من حرج ) (2)
وأما الوقوع في الزنا والعهار ، الذي ملأ الممالك والأقطار ، بالمفاسد والمضار .
ولعمر الله ، وقسماً بشرف الحق ، لو أن المسلمين أخذوا بقواعد الاسلام ، ورجعوا إلى نواميس دينهم الحنيف ، وشرائعه الصحيحة ( لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ) (3) ولعاد إليهم عزهم الداثر ، ومجدهم الغابر .
ومن تلك الشرائع : مشروعية المتعة ، فلوأن المسلمين عملوا بها على اصولها الصحيحة من : العقد ، والعدة ، والضبط ، وحفظ النسل منها ، لانسدت بيوت المواخير ، وأوصدت أبواب الزنا والعهار ، ولارتفعت ـ أو قلت ـ ويلات هذا الشر على البشر ، ولأصبح الكثير من تلك المومسات المتهتكات مصونات محصنات ، ولتضاعف النسل ، وكثرت المواليد الطاهرة ، واستراح الناس من اللقيط والنبيذ ، وانتشرت صيانة الأخلاق ، وطهارة الأعراق ، إلى كثير من الفوائد والمنافع التي لا تعد ولا تحصى .
ولله در عالم بني هاشم ، وحبر الأمة عبدالله بن عباس ( رض ) في كلمته الخالدة الشهيرة التي رواها ابن الأثير في ( النهاية ) والزمخشري في ( الفائق ) وغيرهما حيث قال : ما كانت المتعة إلا رحمة رحم الله بها اُمّة محمد
____________
(1) البقرة 2 :185.
(2) الحج 2 : 78 .
(3) الاعراف 7 : 96 .

( 271 )

صلى الله عليه وآله ، ولولا نهيه عنها ما زنى إلا شفا(1). وقد أخذها من عين صافية ، من استاذه ومعلمه ومربيه أمير المؤمنين عليه السلام .
وفي الحق إنها رحمة واسعة ، وبركة عظيمة ، ولكن المسلمون فوتوها على أنفسهم ، وحرموا من ثمراتها وخيراتها ، ووقع الكثير في حماة الخنا والفساد ، والعار والنار ، والخزي والبوار ( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير )(2) فلا حول ولا قوة إلا بالله .
ولكن مع هذا كله ألا تعجب حين ترى ما نشر في ( الاعتدال ) أيضاً ( 161 ) من المجلد الأول بعنوان : ( لم يبق إلا أن نتخذ من القلم إبرة تطعيم ، ونجعل المعاني مصلاً ) .
وذكر صورة كتاب ورد إليه من بغداد بتوقيع ( خادم العلماء ) ! ! على الجواب الذي تقدم في مبادئ هذه النسخة ، بتوقيع ( ابن ماء السماء ) يعيد فيه اشكال اختلاط الأنساب ، وضياع النسل ، وعقد عابر الطريق والمجهول ، ويقول : إن ابن ماء السماء لم يتعرض للمجهول الذي هو محل النظر ـ إلى أن قال : ـ فما يقول في تحليل المتعة الدورية التي يتناوبها ويتعاقبها ثلاثة أو أربعة بل وعشرة بحسب الساعات ! ! فما يقول في الولد إذا جاء من هذه الجهة ، فمن يتبع ، وبمن يلحق .
نعم ، من المعلوم حلية المتعة بجميع طرقها عند الشيعة ، ولكن تراهم يتحاشون ويتحاشى أشرافهم وسراتهم من تعاطيها بينهم ، فلم يسمع من يقول : حضرنا تمتع السيد الفلاني أو الفاضل الفلاني بالآنسة بنت السيد الفلاني ، كما يقال : حضرنا عقد نكاح الفاضل الفلاني بآنسة الفاضل ، بل
____________
(1) النهاية 2 : 488 ، الفائق 2 : 255 .
(2) البقرة 2 : 61 .

( 272 )

أكثر جريانها وتعاطيها في الساقطات والسافلات ! ! فهل ذلك إلا لقضاء الوطر وإن حصل منه النسل قهراً . وجدير من العلامة كاشف الغطاء ـ الذي قام بتهذيب أصل الشيعة وأصولها ـ أن يهذب أخلاق أهلها ! ! وينهض بهم إلى مراتب النزاهة ! ! وفقه الله لذلك .

بغداد : خادم العلماء


ونشر في جواب هذا الكتاب ما نصه :
ورد على إدارة مجلة الإعتدال كتاب من بغداد ، من كاتب مجهول يقول : إنه قرأ في العدد الثالث من المجلة جواباً لابن ماء السماء ، فوجده لا يناسب السؤال ، ولا يلائم المقال ، ثم أعاد الكاتب ما ذكره السيد الراوي من إختلاط الأنساب ، وضياع النسل ، الذي دفعه ابن ماء السماء بأقوى حجة ، وأجلى بيان ، وقد أوضح له : أن حكمة تشريع العدة هو حفظ النسل ، ومنع اختلاط المياه ، وهي كما أنها لازمة في الدائم ، كذلك تلزم في المنقطع ، فلا يجوز لأحد أن يتمتع بإمرأة تمتع بها غيره حتى تخرج من عدة ذلك الغير ، وإلا كان زانياً ، ومع اعتبار العدة ، فأين يكون إختلاط الأنساب وضياع النسل ؟!
ثم قال الكاتب : ولم يتعرض ابن ماء السماء للمجهول الذي هو محل النظر ، فما حال الولد إذا تمتع بها عابر الطريق والمجهول وأتت بعد فراقه بالولد ؟ فقول ابن ماء السماء ( والولد يتبع والده ) فليت شعري أين يجده وهو مجهول . انتهى .
وما أدري أن هذا الخادم لم ينظر إلى تمام كلام ابن ماء السماء ، أو نظر فيه ولم يفهمه ، وإلا فأي بيان أوضح في دفع هذا الاشكال من قوله ( صفحه 112 ) : ويجب على الزوج أن يتعرف حالها ، ويعرفها بنفسه ، حتى


( 273 )

إذا ولدت ولداً ألحق به ، كي لا تضيع الأنساب ، كذلك المتمتع بها إذا انتهى أجلها يجب عليها أن تعتد وأن يتعرف حالها وتعرف حاله ونسبه كي تلحق الولد به بعد فصاله أينما كان .
فاين المجهول الذي لم يتعرض له ابن ماء السماء أيها الكاتب المجهول ؟ !
وإذا كنت لا تفهم هذا البيان ـ مع هذا الوضوح والجلاء ـ فلم يبق إلا أن نتخذ من القلم إبرة تطعيم ، ونجعل المعاني مصلاً نحقن بها دماغك ، عساك تحس بها وتفهمها.
وأما قولك : فما قولكم في المتعة الدورية التي يتناوبها ويتعاقبها الثلاثة وإلأربعة بل والعشرة بحسب الساعات ! ! فمن يتبع الولد وبمن يلحق ؟
فاللازم ( أولاً ) أن تدلنا على كتاب جاهل من الشيعة ذكر فيه تحليل هذا النحو من المتعة ، فضلاً عن عالم من علمائهم ، وإذا لم تدلنا على كتابة منهم أو كتاب ، فاللازم أن تحد حد المفتري الكذاب . . . كيف وإجماع الإمامية على لزوم العدة في المتعة ، وهي على الأقل خمسة وأربعون يوماً ، فأين التناوب والتعاقب عليها حسب الساعات ؟ !
وإن كنت تريد أن بعض العوام والجهلاء ، الذين لا يبالون بمقارفة المعاصي ، وانتهاك الحرمات ، قد يقع منهم ذلك ، فهذا مع أنه لا يختص بعوام الشيعة ، بل لعله في غيرهم أكثر ، ولكن لا يصح أن يسمى هذا تحليلاً ، إذ التحليل ما يستند إلى فتوى علماء المذهب ، لا ما يرتكبه عصاتهم وقساتهم ، وهذا النحومن المتعة عند علماء الشيعة من الزنا المحض الذي يجب فيه الحد ، ولا يلحق الولد بواحد ، كيف وقد قال سيد


( 274 )

البشر : « الولد للفراش وللعاهر الحجر »(1).
أما تحاشي أشراف الشيعة وسراتهم من تعاطيها فهو عفة وترفع ، واستغناء واكتفاء بما أحل الله من تعدد الزوجات الدائمة مثنى وثلاث ورباع ، فإن أرادوا الزيادة على ذلك جاز لهم التمتع باكثر من ذلك ، كما يفعله بعض أهل الثروة والبذخ من رؤساء القبائل وغيرهم .
وعلى كل فإن تحاشي الأشراف والسراة لا يدل على الكراهة الشرعية ، فضلاً عن عدم المشروعية ، ألا ترى أن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم كانوا كثيراً ما يتسرون بالإماء ، ويتمتعون بملك اليمين ، ويلدن لهم الأولاد الأفاضل . .. ؟ أما اليوم فالأشراف والسراة يأنفون من ذلك ، مع أنه حلال بنص القرآن العزيز.
كما أن تحاشي الأشراف والسراة من الطلاق ، بحيث لم نسمع أن شريفاً طلق زوجة له ، لا يدل على عدم مشروعية الطلاق .
أما قولك : وجدير من العلامة كاشف الغطاء ـ الذي قام بتهذيب أصل الشيعة واصولها ـ أن يهذب أخلاق أهلها وينهض بهم الى مراتب النزاهة .
فهو حق ، وما في الحق مغضبة ، وهو ـ دامت بركاته ـ لا يزال قائماً بوظيفته من التهذيب والإرشاد ، ليس للشيعة فقط ، بل لعامة المسلمين ، والجميع في نظره على حد سواء. ولكن لا تختص هذه الوظيفة به ـ أيده الله ـ بل تعم سائر علماء المسلمين ، ولعل وجوبها على علماء العواصم التي تكثر فيها المنكرات ، ويجاهر فيها بالكبائر أشد وأأكد ، والمسؤولية عليهم ألزم وأعظم .
ولولا أننا لا نريد أن نحيد عن خطة هذه الصحيفة ( الاعتدال ) لسردنا
____________
(1) صحيح البخاري 5 : 192 ، سنن ابي داود 2 : 282|2273 ، سنن ابن ماجة 2 : 647| 2006و 2007 ، سنن الترمذي 3 : 463|1157 .

( 275 )

من أحوال سائر الطوائف ما يتجلى لكل أحد أن عوام الشيعة الإمامية ـ فضلاً عن خواصهم ـ أعف وأنزه ، وأتقى وأبر ، بيد أننا ـ حسب تعاليم استاذنا العلامة الأكبر كاشف الغطاء ـ نتباعد عن كل ما يشم منه رائحة النعرات الطائفية ، والنزعات المذهبية ، ونسعى ـ حسب إرشاده ـ الى توحيد الكلمة ، ورفض الفواصل والفوارق بين الأمم الاسلامية .
ولا يزال يعلمنا ـ وهو العلامة المصلح ـ أن دين الاسلام دين التوحيد لا دين التفريق ، وشريعته شريعة الوصل لا التمزيق ، وأن صالح المسلمين أجمعين قلع شجرة التشاجر والخلاف فيما بينهم من أصلها.
ولا يزال يوصينا ويقول : أيها المسلمون ، نزهوا قلوبكم عن نية السوء وألسنتكم عن بذيء القول والهمز واللمز ، وأقلامكم عن طعن بعضكم في بعض . . إذاً تسعدون وتعيشون كمسلمين حقاً ، وكما كان آباؤكم من قبل ، رجال صدق في القول ، وإخلاص في العمل .
هذه هي ( مراتب النزاهة ) يا خادم العلماء ، لا ما جئتنا به منذ اليوم ، وكنا نظن أن هذه المباراة والمناظرات في قضية المتعة قد انتهى دورانها، وغسلت أدرانها ، باجوبة ابن ماء السماء ، ولكن المسمي نفسه بـ ( خادم العلماء ) قد شاء ـ أو شاءت له الجهالة ـ أن يثير غبارها ، ويعيد شرارها ، ويستدل على الحقيقة أستارها ، والحقيقة نور تمزق الحجب والستور ، وتأبى إلا الجلاء والظهور ، حتى من معلم ( الجهلاء ). انتهى .


( 276 )

الفذلكة:

وفذلكة تلك الأبحاث : أن الزواج ـ الذي هو علقة بين المرء والمرأة ، وربط خاص له آثار خاصة ـ يحدث بالعقد الخاص من الإيجاب والقبول بشرائط معلومة .
فان وقع العقد مرسلاً مطلقاً ، غيرمقيد بمدة ، حدثت الزوجية بطبيعتها المرسلة المطلقة الدائمة المؤبدة ، التي لا ترتفع إلا برافع من طلاق ونحوه .
وإن قيد العقد بأجل معين ، من يوم أو شهر أو نحوهما ، حدثت الزوجية الخاصة المحدودة ، وطبيعة الزوجية فيهما سواء ، لا يختلفان إلا في الضيق والسعة ، والطول والقصر ، ويشتركان في كثير من الاثار ، ويمتاز كل منهما عن الآخر في بعضها . وليس الاختلاف من اختلاف الحقيقة ، بل من اختلاف النوع أو التشخص ، كاختلاف الزنجي والرومي في كثير من اللوازم مع وحدة الحقيقة .
ونظير الزوجية المطلقة والمقيدة في الشرع : الملكية التي تحدث بعقد البيع ، وهي عبارة عن علقة تحدث بين الإنسان وعين ذات مالية من الأعيان ، فإن أطلق العقد حدثت الملكية المطلقة اللازمة الدائمة المؤبدة ، التي لا ترتفع إلا برافع اختياري كبيع أو هبة ، أو صلح أو اضطراري ، كفلس أو موت .
وإن قيدت بخيار فسخ أو الإنفساخ حدثت الملكية المقيدة الجائزة المحدودة إلى زمن الفسخ أو الإنفساخ ، وكل هذه المعاني والاعتبارات امور يتطابق عليها العقل والشرع ، والعرف والإعتبار.
فما هذا النكير والنفير ، والنبز والتعبير على الشيعة في أمر المتعة يا علماء الاسلام ، ويا حملة الأقلام !


( 277 )

لبث قليلاً يلحق الهيجا حمل (1).
أفهل في هذا مقنع مع اختصاره لكم في كف الخصام ، وحصول الوئام ، والإنقياد للحق والاستسلام .
فوعزة الحق ، وشرف الحقيقة ، إني لم أتعصب فيما كتبت إلا للحق ، ولم أتحامل إلا على الباطل ، وحسبنا الله عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير.
ولنكتف من مباحث عقود النكاح وأحكامه بهذا القدر. أما نكاح الإماء ، وأحكام الأولاد ، وا لنفقات ، والعدد ، والنشوز ، وأمثالها من المباحث العريضة الطويلة ، فهي موكولة إلى محالها من كتب الإمامية التي برعوا وأبدعوا فيها ، بين مختصر حوى تمام الفقه من الطهارة إلى الحدود والديات في خمسين ورقة بقطع الربع ، وبين مطول ( كالجوامع ) و ( الحدائق ) الذي جمع الفقه في عشرين مجلداً مثل ( البخاري ) و ( صحيح مسلم ). وبين الطرفين أوساط ومتوسطات لا تعد ولا تحصى .
____________
(1) صدر بيت شعري ذهب مثلاً ، وهو:
لبث قليلاً يلحق الهيجا حمل * ما أحسن الموت إذا حان الأجل

ويضرب مثلاً لمن ناصره من ورائه .
والهيجاء : الحرب . وحمل : اسم رجل شجاع كان يستظهر به في الحرب ، ولعله ـ كما قيل ـ حمل بن بدر ، صاحب الغبراء.
انظر المستقصى في أمثال العرب 2 : 278 / 969 ، جمهرة الأمثال 2 : 206|1546 .

( 278 )


الطلاق:

لقد استجليت من كلماتنا التي مرت عليك قريباً : أن حقيقة الزواج هي عبارة عن علقة وربط خاص يحدث بين الرجل والمرأة ، يصير ما هو فرد من كل منهما ـ بلحاظ نفسه ـ زوجاً بلحاظ انضمام الأخر اليه ، وارتباطه به ، وملابسته معه ملابسة صيرت كلاً منهما قريناً للآخر ، وعدلاً له ، ومتكافئاً معه ، مثل اقتران العينين واليدين ، بل السمعين والبصرين . وبعد أن كان كل منهما مبايناً للآخر ومنفصلاً عنه ، أحدث العقد الخاص ذلك الربط ، وتلك الملابسة التي لا ملابسة فوقها ، ولا يعقل ـ بل لا يمكن ـ أن توجد عبارة تشير الى حقيقة ذلك الربط وعميق آثاره أعلى من قوله تعالى : ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن )(1) وهي من آيات الإعجاز والبلاغة ، وفوائد القرآن ومخترعاته ، ولا يتسع المقام لتعداد ما تضمنته من دقائق المعاني ، وأسرار البيان ، وعجيب الصنعة.
وعرفت أن من شأن ذلك الربط وطبيعته ـ مع إرسال العقد وإطلاقه ـ أن يبقى ويدوم إلى الموت ، بل وما بعد الموت ، إلا أن يحصل له رافع يرفعه ، وعامل يزيله ، ولما كانت الحاجة والضرورة ، والظروف والأحوال قد تستوجب حل ذلك الربط ، وفك تلك العقدة ، ويكون من صالح الطرفين أو أحدهما ذلك ، لذلك جعل الشارع الحكيم أسباباً رافعة ، وعوامل قاطعة ، تقطع ذلك الحبل ، وتفصل ذلك الوصل.
فإن كانت النفرة والكراهة من الزوج ، فالطلاق بيده ، وإن كانت من الزوجة فالخلع بيدها ، وإن كان منهما فالمباراة بيدهما . ولكل واحد منها
____________
(1) البقرة 2 : 187 .

( 279 )

أحكام وشروط ، ومواقع خاصة لا تتعداها ، ولا يقوم سواها مقامها .
ولكن لما كان دين الاسلام ديناً اجتماعياً ، وأساسه التوحيد والوحدة ، وأهم مقاصده الاتفاق والإلفة ، وأبغض الأشياء اليه التقاطع والفرقة ، لذلك ورد في كثير من الأحاديث ما يدل على كراهة الطلاق والردع عنه ، ففي بعض الأخبار ( ما من حلال أبغض إلى الله من الطلاق )(1) .
فكانت الحاجة والسعة على العباد ، وجعلهم في فسحة من الأمر تقتضي بتشريعه ، والرحمة والحكمة ، وإرشاد العباد إلى مواضع جهلهم بالعاقبة ( فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً )(2) كل ذلك يقتضي التحذير منه ، والردع عنه ، والأمر بالتروي والتبصر فيه .
ونظراً لهذه الغاية ، جعل الشارع الحكيم للطلاق قيوداً كثيرة ، وشرط فيه شروطاً عديدة ، حرصاً على تقليله وندرته ( والشيء إذا كثرت قيوده ، عز وجوده ).
فكان من أهم شرائطه ـ عند الإمامية ـ : حضور شاهدين عدلين ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) (3) فلو وقع الطلاق بدون حضورهما كان باطلاً ، وفي هذا أبدع ذريعة ، وأنفع وسيلة ، إلى تحصيل الوئام ، وقطع مواد الخصام بين الزوجين ، فإن للعدول وأهل الصلاح مكانة وتاثيراً في النفوس ، كما أن من واجبهم الإصلاح والموعظة ، وإعادة مياه صفاء الزوجين المتخاصمين إلى مجاريها ، فاذا لم تنجع نصائحهم ومساعيهم في كل حادثة ، فلا أقل من التخفيف والتلطيف ، والتأثير في عدد كثير.
____________
(1) أنظر : الكافي 6 : 54|2 و 3 .
(2) النساء 4 : 19 .
(3) الطلاق 65 : 2 .

( 280 )

وقد ضاعت هذه الفلسفة الشرعية على إخواننا من علماء السنة ، فلم يشترطوا حضور العدلين ، فاتسعت دائرة الطلاق عندهم ، وعظمت المصيبة فيه ، وقد غفل الكثير منا ومنهم عن تلك الحكم العالية ، والمقاصد السامية ، في أحكام الشريعة الإسلإمية ، والأسرار الإجتماعية ، التي لو عمل المسلمون بها لأخذوا بالسّعادة من جميع أطرافها ، ولما وقعوا في هذا الشقاء التعيس ، والعيش الخسيس ، واختلال النظام العائلي في أكثر البيوت .
ومن أهم شرائط الطلاق أيضاً : أن لا يكون الزوج مكرهاً ومتهيجاً ، أو في حال غضب وانزعاج ، وأن تكون الزوجة طاهرة من الحيض ، وفي طهر لم يواقعها فيه .
وقد اتفقت الإمامية أيضاً على أن طلاق الثلاث واحدة ، فلو طلقها ثلاثاً لم تحرم عليه ، ويجوز له مراجعتها ، ولاتحتاج إلى محلل . نعم ، لو راجعها ثم طلقها وهكذا ثلاثاً حرمت عليه في الطلاق الثالث ، ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره ، ولو طلقها ثم راجعها تسع مرات مع تخلل المحلل حرمت عليه في التاسعة حرمة مؤبدة .
وقد خالف في طلاق الثلاث الأكثر من علماء السنة ، فجعلوا قول الزوج لزوجته : أنت طالق ( ثلاثاً ) يوجب تحريمها ، ولا تحل إلا بالمحلل ، مع أنه قد ورد في الصحاح عندهم ما هو صريح في أن الثلاث واحدة ، مثل ما في البخاري بسنده عن ابن عباس قال : كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم . فأمضاه عليهم (1).
____________
(1) لم أجده في صحيح البخاري ، بل في صحيح مسلم 2 : 15/1099 ، وفي مسند أحمد 1 : 314.

( 281 )

والكتاب الكريم أيضاً صريح في ذلك لمن تأمله ( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) إلى أن قال جل شأنه : ( فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره )(1) وفي هذا كفاية .
هذا مجمل من أسباب الفراق ، والتفصيل موكول إلى محله .
وهناك أسباب اخرى للفرقة : كالعيوب الموجبة للفسخ في الزوج مثل : العنن ، والجنون ، والجذام ، ونحوها. وفي الزوجة : كالرتق ، والقرن ، ونحوهما ، وكالظهار ، والإيلاء ، مما تجده مستوفى في كتب الفقه ، كما تجد فيها تفاصيل العدد وأقسامها ، من عدة الوفاة ، وعدة الطلاق ، ووطء الشبهة ، وملك اليمين.
والعدة تجب على الزوجة في وفاة الزوج مطلقاً ، حتى اليائسة والصغيرة وغير المدخول بها .
أما في الطلاق ، فتجب على ما عدا هذه الثلاث ، فموت الزوج مطلقا ، والوطء الغير المحرم مطلقاً يوجبان العدة مطلقاً ، إلا في اليائسة والصغيرة .
أما الوطء المحرم ـ كالزنا ـ فلا عدة فيه ، لأن الزاني لا حرمة لمائه .
وعدة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام إن كانت حائلاً ، وفي الحامل أبعد الأجلين .
وعدة الطلاق ثلاثة قروء ، أو ثلاثة أشهر ، وفي الحامل وضع الحمل ، وللأمة نصف الحرة .
والطلاق إذا لم يكن ثلاثاً ولا خلعياً فللزوج أن يرجع بها مادامت في العدة ، فاذا خرجت من العدة فقد ملكت أمرها ، ولا سبيل له عليها إلا بعقد
____________
(1) البقرة 2 : 9 2 2 ـ 0 23 .

( 282 )

جديد.
ولا يعتبر عندنا في الرجعة حضور الشاهدين كما يعتبر ان في الطلاق ، وأن استحب ذلك(1).ولا يعتبر فيها لفظ مخصوص ، بل يكفي كل ما دل عليها حتى الاشارة ، وتعود زوجته له كما كانت .
____________
(1) أهدى الينا هذا العام العلامة المتبحر الاستاذ أحمد محمد شاكر ، القاضي الشرعي بمصر ـ إيده الله ـ مؤلفه الجليل : ( نظام الطلاق في الاسلام ) فراقني وأعجبني ، ووجدته من أنفس ما أخرجه هذا العصر من المؤلفات ، فكتبت اليه كتابا نشره هو ـ حفظه الله ـ في مجلة ( الرسالة ) الغراء ( عدد 157 ) بعد تمهيد مقدمة قال فيها :
ومن أشرف ما وصل إلي وأعلاه ، كتاب كريم من صديقي الكبير ، واستاذي الجليل ، شيخ الشريعة ، وإمام مجتهدي الشيعة بالنجف الأشرف ، العلامة الشيخ محمد حسين ال كاشف الغطاء ، فقد تفضل ـ حفظه الله ـ بمناقشة رأيي في مسألة من مسائل الكتاب ، وهي ( مسألة اشتراط الشهود في صحة مراجعة الرجل مطلقته ) فإنني ذهبت إلى : اشتراط حضور شاهدين حين الطلاق ، وأنه اذا حصل الطلاق في غير حضرة الشاهدين لم يكن طلاقاً ، ولم يعتد به . وهذا القول وإن كان مخالفاً للمذاهب الأربعة المعروفة ، إلا أنه يؤيده الدليل ، ويوافق مذهب الأئمة من أهل البيت والشيعة الامامية .
وذهبت أيضاً إلى اشتراط حضور شاهدين حين المراجعة ، وهو يوافق أحد قولين للامام الشافعي يخالف مذهب أهل البيت والشيعة ، واستغربت من قولهم أن يفرقوا بينهما ، والدليل واحد فيهما ، فرأى الاستاذ ـ بارك الله فيه ـ أن يشرح لي وجهة نظرهم في التفريق بينهما فقال :

بسم الله الرحمن الرحيم
وله الحمد والمجد
من النجف الأشرف ( 8 صفر1355 ) الى مصر.
لفضيلة الاستاذ العلامة ، المتبحر النبيل ، الشيخ أحمد محمد شاكر المحترم أيده الله .
سلامة لك وسلام عليك .
وصلتني هديتك الثمينة ( رسالة نظام الطلاق في الاسلام ) فامعنت النظر فيها مرة ، بل مرتين ، إعجاباً وتقديراً لما حوته من غور النظر ، ودقة البحث ، وحرية الفكر ، وإصابة هدف الحق والصواب ، وقد استخرجت لباب الأحاديث الشريفة ، وأزحت عن محيا الشريعة الوضاء أغشية الأوهام ، وحطمت قيود التقليد الذميمة ، وهياكل الجمود بالأدلة القاطعة ،