سلام الله عليهم ، فحكمه القتل .
من شرب خمراً أو فقاعاً أو عصيراً قبل ذهاب ثلثيه ، أو أي نوع من
المسكرات ـ من أنواعه الحديثة أو القديمة ـ عالماً عامداً بالغاً ، وجب أن
يحد ثمانين جلدة عارياً على ظهره وكتفه ، ولو تكرر الحد ولم يرتدع قتل في
الرابعة . ولو شربها مستحلاً فهو مرتد يجب قتله .
وبائع الخمر يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل .
إذا سرق الرجل البالغ العاقل من الحرز ـ وهو المصون بقفل وصندوق
أو نحو ذلك ـ ما قيمته ربع مثقال من الذهب الخالص ، وجب ـ بعد المرافعة
عند الحاكم ، والثبوت بالاقرار مرتين ، أو البينة ـ أن تقطع أصابعه الأربع من
يده اليمنى ، فإن عاد بعد الحد قطعت رجله اليسرى من وسط القدم ، فإن
عاد ثالثاً خلد في السجن ، فإن سرق فيه قتل.
ولو تكررت السرقة قبل الحد كفى حد واحد ، والطفل والمجنون
يعزران ، والسارق يغرم ما سرق مطلقاً ، ويكتفى في الغرامة الإقرار مرة ،
وشهادة العدل الواحد مع اليمين .
والوالد لا يقطع بسرقة مال ولده ، والولد يقطع .
( 306 )
كل من شهر سلاحاً في بلد أو بر أو بحر للإخافة والسلب والنهب ،
وجب على ولي الأمر حده مخيراً بين : قتله ، وصلبه ، وقطعه من خلاف ـ
بقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى ـ أو نفيه من الأرض وفق الأية الشريفة :
(
إنما جزاء الذين يحاربون )
(1) إلى اخرها .
وإذا نفي الى بلد كتب بالمنع من مواكلته ومعاملته ومجالسته الى أن
يتوب .
واللص الذي يهجم على الدار محارب ، فإن قتل فدمه هدر.
ومن كابر امرأة على عرضها ، أو غلاماً ، فلهما دفعه ، فإن قتلاه فدمه
هدر .
ويعزر المختلس ، والمحتال ، وشاهد الزور بما يراه الحاكم من
العقوبة التي يرتدع بها هو وغيره .
من وطأ بهيمة وجب تعزيره ، فإن كان بالغاً وتكرر منه ذلك قتل في
الرابعة ، ثم إن كانت مأكولة اللحم حرم لحمها ولحم نسلها بعد الوطء ،
وتذبح ، وتحرق ، ويغرم قيمتها لصاحبها ، ولو اشتبهت اخرجت بالقرعة . ولو
كانت غير معدة للأكل كالخيل ونحوها بيعت في بلد آخر ويتصدق بثمنها ،
____________
(1) المائدة 5 : 33 .
( 307 )
ويغرم لصاحبها قيمتها إن لم تكن له. ويثبت بشهادة العدلين أو الإقرار
مرتين .
ومن زنى بميتة كمن زنى بحية ، وتغلظ العقوبة هنا ، ولو كانت زوجته
أو مملوكته عزر. ويثبت بأربعة كالزنا بالحي ، وكذا اللواط .
ومن استمنى بيده عزر.
وللانسان أن يدفع عن نفسه وحريمه وماله ما استطاع بالأسهل ، فإن
لم يندفع فبالأصعب متدرجاً .
ومن اطلع على دار قوم فزجروه فلم ينزجر فرموه بحجارة أو نحوها
فقضت عليه ، فدمه هدر.
( 308 )
( 309 )
قتل النفس المحرمة من أعظم الكبائر ، وهو الفساد الكبير في الأرض ،
ومن قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها ، وكذا الجناية على طرف.
ثم إن الجناية مطلقاً على نفس أو طرف : إما عمد ، أو شبيه العمد ،
أو خطأ محض .
والعمد واضح ، وشبيه العمد أن يكون عامداً في القتل مخطئاً في
قصده ، كمن قصد الفعل ولم يقصد القتل فقتل اتفاقاً ، فلو ضربه بما لا يقتل
غالباً للتأديب فمات ، أو سقاه دواء فقضى عليه فهو من شبيه العمد.
وأما الخطأ المحض فهو ما لم يقصد فيه القتل ولا الفعل ، كمن رمى
طائراً فأصاب انساناً ، أو رفع بندقيته فثارت وقتلت رجلاً ، ومن أوضح انواعه
فعل النائم ، أو الساهي الذي لا قصد له أصلاً ، وفعل المجنون ، والصبي
غير المميز ، بل والمميز ، لأن عمد الصبي خطأ شرعاً .
ولو قصد رجلاً فاصاب آخر وكلاهما محقون الدم فهو عمد محض ،
أما لو كان القصد الى غير المحقون فأصاب المحقون فهو من شبه العمد ،
ولا فرق في جميع ذلك بين المباشرة والتسبيب ، إذا أثر في انتساب الفعل
اليه ، كما لا فرق في الإنفراد والإشتراك .
ولا قصاص إلا في العمد المحض ، أما الخطأ وشبيه العمد ففيه
الدية . ويشترط في القصاص بلوغ الجاني ، وعقله ، فلا يقاد الصبي وإن بلغ
عشراً ، لا بصبي ، ولا ببالغ ، ولا مجنون وإن كان أدوارياً اذا جنى حال
جنونه ، لا بعاقل ولا بمجنون ، فإن عمدهما خطأ فيه الدية على العاقلة .
أما المجنى عليه فالأقوى اشتراط البلوغ والعقل فيه أيضاً ، فلو قتل
البالغ صبياً فالدية ، وقيل : يقاد به ، وكذا المجنون .
( 310 )
ويشترط اختياره إن كان في طرف ، أما في إلنفس فلا أثر للاكراه ، إذ
لا تقية في الدماء ، فلو اكره على القتل قتل ، ويحبس المكره حتى يموت .
وأن يكون المجنى عليه معصوم النفس ، فلو كان ممن أباح الشارع دمه فلا
قصاص . وأن لا يكون الجاني أباً أو جداً وإن علا ، فإنه لا يقاد الأب أو الجد
بالولد ، بل عليهما الدية لباقي الورثة .
ولا يقاد المسلم إلا بالمسلم ، كما لا يقاد الحر إلا بالحر ، ويقاد الحر
بالحرة ويرد وليها على أهله نصف ديته ، لأن ديته ضعف ديتها ، وتقاد الحرة
بالحر ، ولا يدفع أهلها شيئاً ، لأن الجاني لا يجني بأكثر من نفسه .
ودية الحر المسلم مائة من الابل ، أو مائتان من البقر ، أو ألف شاة ،
أو مائتا حلة ، كل حلة ثوبان ، أو ألف دينار ( خمسمائة ليرة عثمانية ) ، فإذا
أرضى أولياء الدم بها سقط القصاص ، ووجب دفعها اليهم في مدة سنة .
وفي شبه العمد تتعين الدية ، وتستوفى مدة سنتين ، وكذلك في
الخطأ ، ولكن في ثلاث سنوات ، كل سنة ثلث .
وجناية الطرف ـ كقطع يده أو رجله ، أو فقأ عينه وما أشبه ذلك ـ إن
كانت عمداً فالقصاص (
العين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن
بالسن والجروح قصاص)
(1).
وإن كانت خطأ أو شبهة فلكل واحد من الأعظاء أما الدية أو نصفها أو
أقل من النصف . وكل مفرد في الانسان كالأنف والذكر ففيه تمام الدية ، وكل
مثنى كالعينين واليدين والرجلين ففي واحد النصف وفي كليهما تمام الدية .
والدية في شبه العمد على الجافي ، وفي الخطأ على العاقلة ، والتفاصيل
موكولة إلى الموسوعات ، كما إننا لم نذكر كثيراً من كتب الفقه وأبوابه كالبيوع
____________
(1) المائدة 5 : 45 .
( 311 )
مثل : السلف ، والصرف ، وبيع الثمار ، وبيع الحيوان ، ومثل : الاجارة ،
والرهن ، والعارية ، والوديعة ، والمزارعة ، والمساقاة ، والمسابقة والضمان ،
والحوالة ، والكفالة ، والإقرار ، والكفارات ، وكثير من أمثالها .
ولم يكن الغرض هنا إلا الإشارة واللمحة ، والنموذج والنفحة ، وما
ذكرناه في هذه الوجيزة هو رؤوس عناوين من عقائد الإمامية وفقهائها ، وهو
أصغر صورة مصغرة تحكي عن معتقداتها ومناهجها ، في فروعها واصولها ،
وقواعدها وأدلتها ، وثقافة عقولها ومداركها ، وسعة علومها ومعارفها .
فيا علماء الدين ، ويا رجال المسلمين ، هل رأيتم فيما ذكرناه عن هذه
الطائفة ما يوجب هدم الاسلام ، أو ما هو مأخوذ من اليهودية والنصرانية ، أو
المجوسية والزرادشتية ؟ !
وهل في شيء من تلك المباحث ما فيه شذوذ عن أصل قواعد
الاسلام ، وخروج عن منطقة الكتاب والسنة ؟! ليحكم المنصفون منكم
والعارفون ، وليرتدع عن إفكهم الجاهلون .
وعسى أن يجمع الله الشمل ، ويلم الشعث ، وتزول الوحشة ، ويتحد
الاخوان تحت راية القرآن ، ويعيدوا مجدهم الغابر ، وعزهم الداثر ، وأنهم لن
ينالوا ذلك ، ولن يبلغوا العز والحياة ، حتى يميتوا بينهم النزعات المذهبية ،
والنزعات الطائفية .
ولا زلت أقول : يلزم أن تكون المذاهب عندنا محترمة ، ونحن فوق
المذاهب ، نعم ، وفوق ذلك كله ما هو البذرة والنواة لحياة الأمم ، هو أن
يخلص كل لأخيه المودة ، ويبادله المحبة ، ويشاركه في المنفعة ، فينفعه
وينتفع به ، ولا يستبد ويستأثر عليه ، فيحب لأخيه ما يحب لنفسه ، جداً
وحقيقة ، لا مخادعة ومخاتلة .
وتحقق هذه السجايا بحقائقها وإن أوشك أن يعد ضرباً من الخيال ،
( 312 )
ونوعا من المحال ، ولكن ليس هو على الله بعزيز ، ولا يأس من روح الله ، وأن
يبعث في هذه الأمة اليائسة من لدنه روحاً جديدة ، فتحيا بعد الموت ،
وتبصر بعد العمى ، وتصحو بعد السكر إن شاء الله تعالى .
( 313 )
مما يشنع به الناس على الشيعة ويزدرى به عليهم أيضاً أمران :
الأول: قولهم بـ ( البداء ) تخيلاً من المشنعين أن البداء الذي تقول به
الشيعة هو عبارة عن أن يظهر ويبدو لله عز شأنه أمراً لم يكن عالماً به
(1) ! !
وهل هذا إلا الجهل الشنيع ، والكفر الفظيع ، لاستلزمه الجهل على الله
تعالى ، وأنه محل للحوادث والتغيرات ، فيخرج من حظيرة الوجوب إلى مكانة
الإمكان ، وحاشا الإمامية ـ بل وسائر فرق الإسلام ـ من هذه المقالة التي هي
عين الجهالة بل الضلالة ، اللهم إلا ما ينسب إلى بعض المجسمة من
المقالات التي هي أشبه بالخرافات منها بالديانات ، حتى قال بعضهم فيما
ينسب إليه : اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما شئتم .
أما البداء الذي تقول به الشيعة ـ والذي هو من أسرار آل محمد صلى
الله عليه وآله وغامض علومهم ، حتى ورد في أخبارهم الشريفة أنه : ما عبد
الله بشيء مثل القول بالبداء ، وأنه : ما عرف الله حق معرفته ولم يعرفه
بالبداء
(2) ، الى كثير من أمثال ذلك ـ فهو : عبارة عن إظهار الله جل شأنه أمراً
يرسم في ألواح المحو والإثبات ، وربما يطلع عليه بعض الملائكة
المقربين ، أو أحد الأنبياء والمرسلين ، فيخبر الملك به النبي والنبي يخبر به
امته ( ثم )
(3) يقع بعد ذلك خلافه ، لأنه جل شأنه محاه وأوجد في الخارج
____________
(1) راجع ما كتبناه في مقدمتنا التحقيقية حول تحريف أحد الكتاب لهذه العبارة بصلافة عجيبة .
(2) انظر كتاب الكافي 1 : 113 ( باب البداء ).
(3) في نسخنا : لم ، ومعها لا يستقيم السياق ، فاثبتنا ما رأيناه صواباً .
( 314 )
غيره.
وكل ذلك كان جلت عظمته يعلمه حق العلم ، ولكن في علمه
المخزون المصون الذي لم يطلع عليه لا ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، ولا
ولي ممتحن ، وهذا المقام من العلم هو المعبر عنه في القرآن الكريم بـ ( أم
الكتاب ) المشار اليه وإلى المقام الأول بقوله تعالى : (
يمحوا الله ما يشاء
ويثبت وعنده أم الكتاب )
(1) .
ولا يتوهم الضيف أن هذا الإخفاء والإبداء يكون من قبيل الإغراء
بالجهل وبيان خلاف الواقع ، فإن في ذلك حكماً ومصالح تقصر عنها
العقول ، وتقف عندها الألباب .
وبالجملة : فالبداء في عالم التكوين كالنسخ في عالم التشريع ، فكما
أن لنسخ الحكم وتبديله بحكم اخر مصالح وأسرار بعضها غامض وبعضها
ظاهر ، فكذلك في الإخفاء والإبداء في عالم التكوين ، على أن قسماً من
البداء يكون من إطلاع النفوس المتصلة بالملأ الأعلى على الشيء وعدم
اطلاعها على شرطه أو مانعه ، ( مثلاً ) اطلع عيسى عليه السلام أن العروس
يموت ليلة زفافه ولكن لم يطلع على أن ذلك مشروط بعدم صدقة أهله .
فاتفق أن امه تصدقت عنه ، وكان عيسى عليه السلام أخبر بموته ليلة
عرسه فلم يمت ، وسئل عن ذلك فقال : لعلكم تصدقتم عنه ، والصدقة قد
تدفع البلاء المبرم
(2). وهكذا نظائرها.
وقد تكون الفائدة الامتحان وتوطين النفس كما في قضية أمر إبراهيم
بذبح اسماعيل .
____________
(1) الرعد 13 : 39.
(2) روى نحوها الشيخ الصدوق في أماليه : 404|13 ، فراجع .
( 315 )
ولولا البداء لم يكن وجه للصدقة ، ولا للدعاء ، ولا للشفاعة ، ولا لبكاء
الأنبياء والأولياء وشدة خوفهم وحذرهم من الله ، مع أنهم لم يخالفوه طرفة
عين ، إنما خوفهم من ذلك العلم المصون المخزون الذي لم يطلع عليه
أحد ، ومنه يكون البداء .
وقد بسطنا بعض الكلام في البداء وأضرابه ، من القضاء والقدر ، ولوح
المحبر والإثبات ، في الجزء الأول من كتابنا ( الدين والاسلام ) فراجع إذا
شئت.
الثاني : من الأمور التي يشنع بها بعض الناس على الشيعة ويزدرى
عليهم بها قولهم ( بالتقية ) جهلاً منهم أيضاً بمعناها وبموقعها وحقيقة مغزاها ،
ولو تثبتوا في الأمر ، وتريثوا في الحكم ، وصبروا وتبصروا لعرفوا أن التقية التي
تقول بها الشيعة لا تختص بهم ، ولم ينفردوا بها ، بل هو أمر ضرورة العقول ،
وعليه جبلة الطباع ، وغرائز البشر. وشريعة الاسلام في اسس أحكامها ،
وجوهريات مشروعيتها ، تماشي العقل والعلم جنباً إلى جنب ، وكتفاً إلى
كتف ، رائدها العلم ، وقائدها العقل ، ولا تنفك عنهما قيد شعرة ، ومن
ضرورة العقول وغرائز النفوس : أن كل انسان مجبول على الدفاع عن نفسه ،
والمحافظة على حياته ، وهي أعز الأشياء عليه ، وأحبها إليه .
نعم قد يهون بذلها في سبيل الشرف ، وحفظ الكرامة ، وصيانة
الحق ، ومهانة الباطل ، أما في غير أمثال هذه المقاصد الشريفة ، والغايات
المقدسة ، فالتغرير بها ، وإلقاؤها في مظان الهلكة ، ومواطن الخطر ، سفه
وحماقة لا يرتضيه عقل ولا شرع ، وقد أجازت شريعة الاسلام المقدسة
للمسلم في مواطن الخوف على نفسه أو عرضه إخفاء الحق ، والعمل به
سراً ، ريثما تنتصر دولة الحق وتغلب على الباطل ، كما أشار اليه جل شأنه
( 316 )
بقوله : (
إلا أن تتقوا منهم تقاة )
(1) ، وقوله : (
إلا من أكره وقلبه مطمئن
بالإيمان )
(2) .
وقصة عمار وأبويه ، وتعذيب المشركين لهم ولجماعة من الصحابة ،
وحملهم لهم على الشرك وإظهارهم الكفر مشهورة
(3).
والعمل بالتقية له أحكامه الثلاثة :
فتارة : يجب ، كما إذا كان تركها يستوجب تلف النفس من غير فائدة .
واخرى : يكون رخصة ، كما لو كان في تركها والتظاهر بالحق نوع
تقوية له ، فله أن يضحي بنفسه ، وله أن يحافظ عليها.
وثالثة : يحرم العمل بها ، كما لو كان ذلك موجباً لرواج الباطل ،
وإضلال الخلق ، وإحياء الظلم والجور.
ومن هنا تنصاع لك شمس الحقيقة ضاحية ، وتعرف أن اللوم والتعيير
بالتقية ـ إن كانت تستحق اللوم والتعيير ـ ليس على الشيعة ، بل على من
سلبهم موهبة الحرية ، وألجأهم إلى العمل بالتقية .
تغلب معاوية على الأمة ، وابتزها الامرة عليها بغير رضا منها ، وصار
يتلاعب بالشريعة الاسلامية حسب أهوائه ، وجعل يتتبع شيعة علي ، ويقتلهم
تحت كل حجر ، ويأخذ على الظنة والتهمة
(4) ، وسارت على طريقته العوجاء ،
____________
(1) آل عمران 3 : 28 .
(2) النحل 16 : 106 .
(3) راجع : التبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي 6 : 428 ، مجمع البيان في تفسير القرآن
للشيخ الطبرسي 3 : 387 ، جامع البيان للطبري 14 : 122 ، التفسير الكبير للرازي 19 :
120 ، الكامل في التاريخ لابن الاثير 2 : 60 .
(4) روى ابن ابي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة ( 11 : 44 ) عن ابي الحسن علي
ابن محمد بن أبي سيف المدائني في كتاب الاحداث : أن معاوية بن ابي سفيان كتب نسخة
إلى عماله بعد عام الجماعة [ بل هو والله عام تفرق المسلمين وضياعهم ] : أن برئت الذمة
=
( 317 )
وسياسته الخرقاء الدولة المروانية ، ثم جاءت الدولة العباسية فزادت على
ذلك بنغمات ، اضطرت الشيعة الى كتمان أمرها تارة ، والتظاهر به اخرى ،
زنة ما تقتضيه مناصرة الحق ، ومكافحة الضلال ، وما يحصل به إتمام
الحجة ، وكي لا تعمى سبل الحق بتاتاً عن الخلق ، ولذا تجد الكثير من
رجالات الشيعة وعظمائهم سحقوا التقية تحت أقدامهم ، وقدموا هياكلهم
المقدسة قرابين للحق على مشانق البغي ، وأضاحي في مجازر الجور
والغي .
أهل استحضرت ذاكرتك شهداء ( مرج عذراء ) ـ قرية من قرى الشام ـ
____________
=
ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته [ عليه وعليهم آلاف التحية والسلام ] . فقامت
الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر ، يلعنون علياً ويبرأون منه ، ويقعون فيه وفي أهل بيته
[ اي في اهل ذلك البيت الطاهرين الذين وأذهب الله عنه الرجس وطهرهم تطهيراً ، اولئك
الذين جعل الله تعالى أجر الرسالة والهداية مودتهم ، اولئك الذين جعلهم رسول الله صلى
الله عليه وآله عدلاء القرآن . . . و . . و ، ولكنك تجد من يعد معاوية من صحابة رسول الله
صلى الله عليه وآله العدول ، وخليفة له ، بل ويترحم عليه ، وتلك والله ام المصائب ، وعظيمة
العظائم ] .
واضاف : وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة ، لكثرة من بها من شيعة علي عليه
السلام ، فاستعمل عليها [ أي معاوية بن هند ] زياد بن سمية ، وضم اليه البصرة ، فكان يتبع
الشيعة وهو بهم عارف . . . فقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وأخافهم ، وقطع الايدي
والأرجل ، وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم ، وشردهم عن العراق ، فلم
يبق بها معروف منهم .
وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق : أن لا يجيزوا لاحد من شيعة علي وأهل بيته
شهادة ! ! .
ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البينة أنه
يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان ، واسقطوا عطائه ورزقه ! ! .
وشفع ذلك بنسخة اخرى : من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم [ أي أهل بيت رسول الله
صلى الله عليه وآله ] فنكلوا به ، واهدموا داره . . . .
( 318 )
وهم أربعة عشر من رجال الشيعة ، ورئيسهم ذلك الصحابي الذي أنهكه
الورع والعبادة حجر بن عدي الكندي الذي كان من القادة في فتح الشام ؟ .
قتلهم معاوية صبراً ، ثم صار يقول : ما قتلت أحداً إلا وأنا أعرف فيما
قتلته خلا حجر ، فإني لا أعرف بأي ذنب قتلته
(1)! !
نعم أنا أعرف معاوية بذنب حجر ، ذنبه ترك العمل بالتقية ، وغرضه
اعلان ضلال بني امية ، ومقدار علاقتهم من الدين .
وهل تذكرت الصحابي الجليل عمرو بن الحمق الخزاعي ،
وعبدالرحمن بن حسان العنزي الذي دفنه زياد في ( قس الناطف ) حياً
(2) ؟
أتراك تذكرت ميثم التمار ، ورشيد الهجري ، وعبدالله بن يقطر الذين
شنقهم ابن زياد في كناسة الكوفة
(3)؟
____________
(1) راجع تاريخ الطبري 5 : 253 ، الكامل في التاريخ 3 : 472 وغيرهما تجد هذه المأثرة
الخالدة من مآثر معاوية بن هند في قتله للصالحين والخيرين من رجال الأمّة ، وهداتها ،
واحكم بعد ذلك بما تشاء..
(2) روى الطبري في تاريخه ( 5 : 276 ) ، وابن الاثير في الكامل ( 3 : 456 ) وغيرهما ، واللفظ
للاول : ثم أقبل ( أي معاوية بن هند ) على عبد الرحمن العنزي فقال له : ايه يا أخا ربيعة ،
ما قولك في علي ؟ قال : دعني ولا تسألني فإنه خير لك ، قال : والله لا أدعك حتى تخبرني
عنه.
قال : أشهد أنه كان من الذاكرين الله كثيراً ، ومن الأمرين بالحق ، والقائمين بالقسط ،
والعافين عن الناس .
قال : فما قولك في عثمان ؟
قال : هو أول من فتح باب الظلم وارتج أبواب الحق .
قال : قتلت نفسك ، قال : بل اياك قتلت . . .
فبعث به معاوية إلى زياد وكتب إليه : أما بعد فإن هذا العنزي شر من بعثت ! ! فعاقبه
عقوبته التي هو أهلها ، واقتله شر قتلة ! ! .
فلما قدم به على زياد بعث به إلى قس الناطف ، فدفن به حياً .
(3) نعم ، إن التأريخ يحدثنا بوضوح عن وحشية وقساوة الدول المتلاحقة وظلمها للشيعة بشكل
=
( 319 )
هؤلاء ـ والمئات من أمثالهم ـ هانت عليهم نفوسهم العزيزة في سبيل
نصرة الحق ، ونطحوا صخرة الباطل وما تهشمت رؤوسهم حتى هشموها ، وما
عرفوا أين زرع التقية وأين واديها ، بل وجدوا العمل بها حراماً عليهم ، ولو
سكتوا وعملوا بالتقية لضاعت البقية من الحق ، وأصبح دين الاسلام دين
معاوية ويزيد وزياد وابن زياد ، دين المكر ، دين الغدر ، دين النفاق ، دين
الخداع ، دين كل رذيلة ، وأين هذا من دين الاسلام الذي هو دين كل
فضيلة ، اُلك ضحايا الاسلام ، وقرابين الحق .
ولا يغيبن عنك ذكر ( الحسين ) وأصحابه سلام الله عليهم ، الذين هم
سادة الشهداء ، وقادة أهل الإباء.
نعم . . . هؤلاء وجدوا العمل بالتقية حراماً عليهم ، وقد يجد غيرهم
العمل بها واجباً ، ويجد الآخرون العمل بها رخصة وجوازاً ، حسب اختلاف
المقامات ، وخصوصيات الموارد .
يخطر على بالي من بعض المرويات : أن مسيلمة الكذاب ظفر
برجلين من المسلمين ، فقال لهما : إشهدا أني رسول الله وأن محمّداً رسول
الله .
فقال أحدهما : أشهد أن محمد رسول الله وانك مسيلمة الكذاب.
فقتله ، فشهد الآخر بما أراد منه فأطلقه .
____________
=
لا تصدقه العقول ، حتى لقد نالهم من الظلم والقتل الذريع المتلاحق الذي أجبرهم على
اللجوء إلى التقية ـ التي أباحها الشارع المقدس عند الضرورة ـ حفاظاً على البقية الباقية
منهم ، وليس لهم من دون ذلك حيلة ولا ملجأ ، وكان ينبغي أن يلقى اللوم على من أجبرهم
على اللجوء الى هذا الامر الا اليهم . وأنا أدعوك أخي القارئ الكريم إلى مطالعة كتاب
« الشيعة والحاكمون » للشيخ محمد جواد مغنية رحمه الله تعالى للاطلاع عن كثب على
بعض جوانب المأساة التي أحاطت بالشيعة ابان تلك العصور.
( 320 )
ولما بلغ خبرهما إلى النبي صلى الله عليه وآله قال : أما الأول فقد
تعجل الرواح الى الجنة ، وأما الآخر فقد أخذ بالرخصة ، ولكل أجره
(1) .
فيا أيُّها المسلمون ، لا تحوجوا إخوانكم الى العمل بالتقية وتعيروهم
بها ، ونساله تعالى أن يختم لنا ولكم بالحسنى ، ويجمع كلمتنا على الحق
والهدى إن شاء الله .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
____________
(1) انظر : مجمع البيان في تفسير القرآن 1 : 430 ، تفسير الحسن البصري 2 : 428 .