الأمر الأول
مقامات الزهراء
عليها السلام وفيه :

أـ مقامها عند الله تعالى
ب ـ مقامها عند الملائكة
ج ـ مقامها عند الأنبياء والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم
مقامها عند الأئمة عليهم السلام
هـ ـ مقامها عند العلماء والمحدثين
ت ـ مقامها يوم القيامة.


( 97 )

1 ـ مقامها عليها السلام عند الله تعالى

إنّ من المقامات التي خصت بها فاطمة الزهراء عليها السلام هو مقام الرضا أي ان الله يرضى لرضاها ويغضب لغضبها ، حيث جاءت الكثير من الروايات الشريفة المأثورة عن الرسول وأهل بيته عليهم السلام لتؤكد هذه المنقبة العظيمة للصديقة الشهيدة.
وهذا مما يدل على كونها ذو مقام عالي وشريف سامي لها عند الله تعالى : إذ لا معنى ان يرضى الله لشخص من دون أن يكون له عند الله منزلةً وكرامةً عليه ، وهذا مما يساعد عليه العرف العقلائي إضافة إلى الشواهد القرآنية الكثيرة على هذه المسألة ، فنحن نجد من خلال الممارسات الحياتية ان الكثير من الاصدقاء مثلاً يرضون لرضا شخص معين بالحق ويقبلون شفاعته وتوسطه أو رضاه عن شخص معين لحل مشكلة ما ، وكذلك الحال في الغضب ، وعلى هذا الاساس تكون فاطمة كريمة عند الله تعالى لعلو شأنها ومنزلتها عنده لذلك يرضى لرضاها ويغضب لغضبها.
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « يا فاطمة ان الله ليغضب لغضبك ويرضى لرضاك »(1).
وكذلك ما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم انه قال : « يا فاطمة أبشري فلك عند الله مقامٌ محمودٌ تشفعين فيه لمحبيك وشيعتك فتُشفعين »(2).
ويظهر أيضاً مقامها عند الباري عز وجل من خلال الحديث الطويل الذي يروى عن أهل بيت العصمة عن الله تعالى حيث يقول الباري عز وجل :
« يا فاطمة وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لقد آليت على نفسي من قبل أن أخلق السموات والأرض بألفي عام أن لا أعذب محبيك ومحبي عترتك بالنار »(3).
فأي منزلة ومقام لها عند الله تعالى بحيث يقسم الله تعالى بعزته وجلاله أن لا يعذب بالنار شيعة الزهراء ومحبيها ، وهذا الحديث له مقام عالي يثبته حديث آخر
____________
(1) المناقب : 3 | 106.
(2) كنز الفوائد : 1 | 150.
(3) سفينة البحار : 2 | 375.

( 98 )

ورد في شفاعة الزهراء عليها السلام في يوم القيامة واعطاء الكرامة العظمى لها آنذاك.
ومن المقامات الأخرى لها عليها السلام هو علة الايجاد أي أنها كانت علة الموجودات التي خلقها الباري عز وجل وكما ورد في الحديث الذي يقول فيه الباري عز وجل : « يا أحمد ! لولاك لم خلقت الأفلاك ، ولولا علي لم خلقتك ولولا فاطمة لما خلقتكما »(1).
ولا نريد الوقوف مع هذا الحديث الآن بل نترك بحثه إلى الفصول القادمة من هذا الكتاب ، وكثيرة هي المناقب والمقامات التي لها عند الله تعالى.

ب ـ مقامها عليها السلام عند الملائكة

في حديث طويل .. « ... فقالت الملائكة : إلهنا وسيدنا لمن هذا النور الزاهر ، الذي قد أشرقت به السموات والأرض ؟ فأوحى الله إليها : هذا نور اخترعته من نور جلالي لأمتي فاطمة ابنة حبيبي ، وزوجة وليّي وأخو نبيّي وأبو حججي على عبادي ، أُشهدكم ملائكتي أنّي قد جعلت ثواب تسبيحكم وتقديسكم لهذه المرأة وشيعتها ومحبيها إلى يوم القيامة »(2).
وهذا يعني انها عليها السلام لها مقام النور الزاهر عند الملائكة فهم يعرفونها في السماء بالنور الزاهر الذي أزهرت السماوات والأرض بنورها ولأجل ذلك سميت بالزهراء.

جـ مقامها عليها السلام عند الأنبياء والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم

أما عند الأنبياء فهذا ما يدل عليه الحديث المأثور عن أهل بيت العصمة عليهم السلام الذي يقول : ما تكاملت نبوة نبي من الأنبياء حتى أقر بفضلها ومحبتها وهي الصديقة الكبرى وعلى معرفتها دارت القرون الاولى ، حيث يظهر من هذا الحديث ان لها مقام سامي عند الأنبياء لأنه ما تكاملت نبوتهم حتى أقروا بمنزلتها ومقامها وفضلها
____________
(1) ملتقى البحرين : 14 ، فاطمة بهجة قلب المصطفى : 9 ، عن كشف اللآلي.
(2) تأويل الآيات : 1 | 137 | ح 16 ، البرهان : 1 | 392 ح 5.

( 99 )

ومحبتها ، واللطيف هنا انما الأقرار يكون عند من له الحق على الآخرين ، وعليه يكون الأنبياء أقروا لله تعالى ـ لأنه هو صاحب الحق عليهم ـ بفضلها ومحبتها ، أما عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فان مقامها رفيع ولو أردنا أن نكتب عن مقامها عند الرسول لاحتجنا إلى مجلدات في هذا الأمر ولكن على ما يسعنا المقام نقول : ان مقامها يظهر من خلال أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نفسه حيث تارة يقول فداك أبوك ومرة أخرى يقول لها اُم أبيها ، وأخرى بضعة مني ولحمها لحمي ودمها دمي ولكن الأهم من هذا كله فإنها عليها السلام يكفي من مقامها ومنزلتها عند الرسول صلى الله عليه وآله انه قال في حقها : « من عرف هذه فقد عرفها ، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد وهي بضعة مني وهي قلبي الذي بين جنبي فمن آذاها فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله »(1).
وأيضاً قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « ومن أنصفك فقد أنصفني ، ومن ظلمك فقد ظلمني ، لأنك منّي وأنا منك ، وأنت بضعة من وروحي التي بين جنبيّ ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم : « إلى الله أشكو ظالميك من امتي »(2).

د ـ مقامهاعليها السلام عند الأئمةعليهم السلام

ورد عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام أنه قال :
« نحن حجج الله على خلقه وجدتنا فاطمة حجة الله علينا »(3) وهذا الحديث من الأحاديث العظيمة الذي أعطى لفاطمة عليها السلام وعلى لسان حفيدها الحسن العسكري عليه السلام أكبر شهادة عظمى بحقها ، وسيأتي مفصلاً البحث حول هذا الحديث الشريف.
ويظهر من خلال حديث أخر عظم منزلة ومقام فاطمة عند الأئمة عليهم السلام حيث
____________
(1) كشف الغمة : 1 | 467 ، الفصول المهمة : 128 ، نور الأبصار : 52 ، ونزهة المجالس : 2 | 228.
(2) كشف الغمة : 1 | 498.
(3) تفسير أطيب البيان : 3 | 226.

( 100 )

خرج من الناحية الشريفة عن الإمام المهدي ( عجل الله تعالى فرجه الشريف ) أنه قال : « وفي ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي أسوة حسنة... »(1) فأي مقام يظهر لنا من خلال هذا التوقيع الشريف والذي بين فيه الإمام ( عجل الله تعالى فرجه الشريف ) أن له اسوة حسنة بفاطمة أي اتخذها قدوة له يتأسى بها في المعضلات والمصائب.
وهناك الكثير من المقامات التي اشتركت الزهراء عليها السلام مع الأئمة فيها من حديث كونهم الصراط المستقيم واشتراكها معهم فيه وكذلك كونهم الكلمات التي تلقاها آدم عليه السلام لتوبته واشتراكها معهم في المباهلة مع وفد نجران والذي تدل على أنها كانت قطب الرحى الذي دار في المباهلة وكونها الشجرة الطيبة واشتراكها في النور معهم والتطهير في آية التطهير ... الخ من المناقب والمقامات العالية لها عليها السلام ولقد تظافرت الروايات الشريفة على هذه المقامات.

هـ مقامها عليها السلام عند العلماء والمحدثين

1ـ قال ابن صبّاغ المالكي : ولنذكر طرفاً من مناقبها التي تشرف هذا النّسب من نسبها ، واكتسى فخراً ظاهراً من حسبها ، وهي فاطمة الزهراء بنت مَنْ أنزل عليه : سبحان الذي أسرى ، ثالثة الشمس والقمر ، بنت خير البشر ، الطاهرة الميلاد ، السيّدة بإجماع أهل السّداد(2).
2ـ قال الاُستاذ عبد الزهراء : ونحن حين نتناول الحديث عن الزهراء عليها السلام بصفتها غرس النبوّة ، وشجرة الإمامة ، فإنّما تنكشفُ لنا أبعادُ الرّسالة الإسلامية بطابع تجسيدي نلمسه في كل جانب من جوانب شخصيّتها عليها السلام ونحن نتابعها ، ففي قرانها بعليِّ بن أبي طالب عليه السلام تنجلي لنا الصورة الحيّة التي رسمها الإسلام للقرآن الذي ارتضاه خالق هذا الوجود ، وفي مواقفها البطولية بعد وفاة أبيها يتكشّف لنا المدى
____________
(1) البحار : 53 | 179 و 180 ، غيبة الطوسي : 172 ، الاحتجاج : 2 | 277 ، الزام المناصب : 1 | 439.
(2) الفصول المهمة : 143.

( 101 )

البعيد الذي رسمه الإسلام للمرأة من حقوق وواجبات ، ومدى فاعليتها في بناء المجتمع الإسلامي. وعلى هذا الأساس تقاس سائر جوانب شخصية الزهراء عليها السلام(1).
3ـ قال العلامة محمد بن طلحة الشافعي : اعلم ـ أيّدك الله بروح منه ـ أن الأئمة الأطهار المعدودة مزاياهم في هذا المؤلّف ، والهداة الأبرار المقصودة سجاياهم بهذا الصنّف لهم برسول الله زيادة على اتصالهم به بواسطة فاطمة عليها السلام. فبواسطتها زادهم الله تعالى فضل شرف وشرف فَضْل ، ونيل قدر وقدر نيل ، ومحلَّ علوّ وعلوّ محلّ ، وأصل تطهير وتطهير أصل ... فانظر بنُور بصيرتك ـ أمدّك الله بهدايتها ـ إلى مدلول هذه الآية(2) وترتيب مراتب عباراتها وكيفيّة إشارتها إلى علوّ مقام فاطمة الزهراء في منازل الشرف وسمو درجتها ، وقد بيّن ذلك وجعلها بينه وبين عليًّ تنبيهاً على سرّ الآية وحكمتها ، فإن الله عزَّ وجل جعلها مُكتَفةً من بين يديها ومن خلفها ليظر بذلك الاعتناء بمكانتها . وحيث كان المراد من قوله « وأنفسَنا » نفس عليًّ مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعلها بينهما إذا الحراسة بالأحاطة بالأنفس أبلغ منها بالأنباء في دلالتها(3).
4ـ قال الحافظ أبو نعيم الإصفهاني : ومن ناسكات الأصفياء وصفيّات الأتقياء فاطمة ـ رضي الله تعالى عنها ـ السيّدة البتول ، البضعة الشبيهة بالرسول ، وأوّلهم بعد وفاته به لحوقاً ، كانت عن الدنيا ومُتعتها عازفةً ، وبغوامض عيوب الدنيا وآفاتها عرافة(4).
5ـ قال عبد الحميد ابن أبي الحديد : وأكرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة إكراماً عظيماً أكثر مما كان الناس يظنُّونه وأكثر من إكرام الرجال لبناتهم ، حتى خرج بها عن حدّ حبّ الآباء للأولاد ، فقال بمحضر الخاصّ والعامّ مراراً لا مرّة واحدة ، وفي مقامات مختلفة لا في مقام واحد : « انها سيدة نساء العالمين ، وإنها عديلة مريم بنت عمران ، وإنها إذا مرّت في الموقف في الموقف نادى مناد من جهة العرش : يا أهل الموقف غضُّوا أبصاركم
____________
(1) الزهراء : 12 ـ 13.
(2) يعني قوله تعالى : قل تعالوا نَدْع أبناءنا وأبناءَكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكُم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين : ( آل عمران : 61 ).
(3) مطالب السؤول : 6 و 7.
(4) حلية الأولياء : 2 | 49.

( 102 )

لتعبر فاطمة بنت محمد ». وهذا من الأحاديث الصحيحة ، وليس من الأخبار المستضعفة. وإنّ إنكاحه عليّاً إيّاها ما كان إلا بعد أن أنكحه الله تعالى إيّاها في السماء بشهادة الملائكة ؛ وكم قال لا مرّة : « يؤذيني ما يؤذيها ، ويغضبني ما يغضبها ، وإنها بضعة مني ، يريبني ما رابها »(1).
6ـ قال الاُستاذ توفيق أبو علم : كانت ـ رضي الله عنها ـ كريمة الخليفة ، شريفة الملكة ، نبيلة النفس ، جليلة الحس ، سريعة الفهم ، مرهفة الذهن ، جزلة المروءَة ، غرّاء المكارم ، فيّاحة نفّاحة ، جرئية الصدر ، رابطة الجأش ، حميّة الأنف ، نائية عن مذاهب العجب ... وكانت في الذروة العالية من العفاف والتصادق ، طاهرة الذيل ، عفيفة المئزر ، عفيفة الطرف ... إنّها سليلة شرف لا منازع لها فيه من واحدة من بنات حوّاء فمن تراه ... واكتفائها بشرفها كأنّها في عزلة بين أبناء آدم وحوّاء(2).
7ـ قال الاُستاذ عباس محمود العقاد المصري : في كل دين صورةُ الاُنوثية الكاملة المُدّسة يتخشّع بتقديسها المؤمنون ، كأنّما هي آية الله فيما خلق من ذكر واُنثى ؛ فإذا تقدّست في المسيحية صورة مريم العذراء ، ففي الإسلام لا جرم تتقدّس صورةُ فاطمة البتول(3).
8 ـ قال الدكتور علي إبراهيم حسن : وحياة فاطمة هي صفحة فذّة من صفحات التاريخ ، نلمس فيها ألوان العظمة ، فهي ليست كبلقيس أو كليو بطرة ، استمدّت كلٌّ عظمتها من عرش كبير وثروة طائلة وجمال نادر. وهي ليست كعائشة نالت شهوتها لما انّصفت به من جرأة جعلتها تقود الجيوش ، وتتحدّى الرجال ، ولكنّا أمام شخصية استطاعت أن تخرج إلى العالم وحولها هالة من الحكمة والجلال ، حكمة ليس مرجعها الكتب والفلاسفة والعلماء ، وإنما تجارب الدهر المليء بالتقلبات والمفاجأت ، وجلال ليس مستمداً من ملك أو ثراء ، وانما من صميم النفس ...(4).
____________
(1) شرح نهج البلاغة : 9 | 193.
(2) أهل البيت : 132 ، 133.
(3) أهل البيت لتوفيق أبو علم : 128.
(4) فاطمة الزهراء عليها السلام للعلامة دخيل : 171.

( 103 )

9ـ قال العلامة الإربلي : فنلبدأ الآن بذكر فاطمة عليها السلام التي زاد إشراق هذا النسب بإشراق أنوارها ، واكتسب فخراً ظاهراً من فخارها ، واعتلى على الأنساب بعلوّ منارها ، وشرف قدره بشرف محلّها ومقدارها ، فهي مشكاة النبوة التي أضاء لألاؤها ، وتشعشع ضياؤها ، وسحت بسحب الغرّ أنواؤها ، وعقيلة الرسالة التي علت السبع الشداد مراتب علا وعلاء ، ومناصب آل وآلاء ، ومناسب سناً وسناء ، الكريمة الكريمة الأنساب ، الشريفة الشريفة الأحساب ، الطاهرة الظاهرة الميلاد ، الزهراء الزهراء الأولاد ، السيدة باجماع أهل السداد ، الخيرة من الخير : ثالثة الشمس والقمر ، بنت خير البشر ، اُم الأئمة الغرر ، الصافية من الشوب والكدر ، الصفوة على رغم من ججد أو كفر ، الحالية بجواهر الجلال ، الحالّة في أعلى رتب الكمال ، المختارة على النساء والرجال ، صلى الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبينها السادة الأنجاب ، وارثي النبوة والكتاب ، وسلّم وشرّف وكرّم وعظّم(1).
10ـ وقال أيضاً : إن فاطمة عليها السلام هي سليلة النبوة ورضيعة درّ الكرم والاُبوة ، ودرّة صدف الفخار ، وغرّة شمس النهار ، وذُبالة(2) مشكاة الأنوار ، وصفوة الشرف والجود ، وواسطة قلادة الوجود ، نقطة دائرة المفاخر ، قمر هالة المآثر ، الزهرة الزهراء ، والغُرَّة الغرّاء ، العالية المحل ، الحالّة في رتبة آل عُلاء السامية ، المكانة المكينة في عالم السماء ، المضيئة النور ، المنيرة الضياء ، المستغنية باسمها عن حدِّها ووَسمها ، قُرّة عين أبيها ، وقرار قلب أُمِّها ، الحالية بجواهر عُلاها ، العاطلة من زخرف دنياها ، أمة الله وسيدة النساء ، جمال الآباء وشرف الأبناء ، يفخر آدم بمكانها ، ويبوح نوح بشدّة شأنها ، ويسموا إبراهيم بكونها من نسله ، وينجحُ إسماعيل على إخوته إذ هي فرع أصله ، وكانت ريحانة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين أهله ، فما يجاريها في مَفْخر إلا مغلّب(3) ، ولا يباريها في مجد إلا مؤنّب(4) ، ولا يجحد حقّها إلا مأفون(5) ، ولا يصرف عنها وجه
____________
(1) كشف الغمة : 1 | 484.
(2) الذُّبالة : الفتيلة.
(3) علّبه : أثّر فيه وخدشه.
(4) التأنيب : المبالغة في التوبيخ.
(5) المأفون : الضعيف الرأي.

( 104 )

إخلاصه إلا مغبون (1) .
11 ـ قال العلامة الخبير ابن شهر آشوب ( ره ) : وقلنا الصدّيقة بالأقوال ، والمباركة بالأحوال ، والطاهرة بالأفعال ، الزكية بالعدالة ، والرضية بالمقالة ، والمرضية بالدلالة ، المحدثة بالشفقة ، والحرّة بالنفقة ، والسيّدة بالصدقة ، الحصان بالمكان ، والبتول في الزمان ، والزهراء بالإحسان ، مريم الكبرى في الستر ، وفاطم بالسرّ . وفاطمة بالبرّ ، النوريّة بالشهادة ، والسماوية بالعبادة ، والحانية بالزهادة ، والعذراء بالولادة ، الزاهدة الصفيّة ، العابدة الرضيّة ، الراضية المرضيّة ، المتهجّدة الشريفة ، القانتة العفيفة ، سيدة النسوان ، وحبيبة حبيب الرحمن ، المحتجبة عن خزّان الجنان ، وصفيّة الرحمن ، ابنة خير المرسلين ، وقرّة عين سيّد الخلائق أجمعين ، وواسطة العقد بين سيّدات نساء العالمين ، والمتظلّمة بين يدي العرش يوم الدين ، ثمرة النبوّة ، وام الأئمة وزهرة فؤاد شفيع الامة ، الزهراء المحترمة ، والغرّاء المحتشمة ، المكرّمة تحت القبّة الخضراء ، والإنسيّة الحوراء ، والبتول العذراء ، ستّلا النساء (2) ، وارثة سيد الأنبياء ، وقرينة سيد الأوصياء ، فاطمة الزهراء ، الصدّيقة الكبرى ، راحة روح المصطفى ، حاملة البلوى من غير فزع ولا شكوى ، وصاحبة شجرة طوبى ، ومن أنزل في شأنها وشأن زوجها وأولادها سورة هل أتى ، ابنة النبي ، وصاحبة الوصي ، وام السبطين ، وجدّة الأئمة ، وسيدة نساء الدنيا والآخرة ، زوجة المرتضى ، ووالدة المجتبى ، وابنة المصطفى ، السيدة المفقودة ، الكريمة المظلومة الشهيدة ، السيدة الرشيدة ، شقيقة مريم ، وابنة محمد الأكرم ، المفطومة من كل شرّ . المعلومة بكل خير ، المنعوتة في الإنجيل ، الموصوفة بالبرّ والتبجيل ، درّة صاحب الوحي والتنزيل ، جدّها الخليل ، ومادحها الجليل ، وخاطبها المرتضى بأمر المولى جبرئيل (3) .
12 ـ قال المحقق الشهير الحاج ملاّ محمد باقر صاحب الخصائص الفاطمية : سبحانك اللهم فاطر السموات العلى ، وفالق الحب والنوّى ، أنت الذي فطرت اسماً من
____________
(1) المصدر : 454 .
(2) أي سيّدتهنّ .
(3) المناقب : 3 | 357 ، 358 .

( 105 )

اسمك ، واشتققته من نورك ، فوهبت اسمك بنورك حتى يكون هو المظهر لظورك ، فجعلت ذلك الاسم جرثومة لجملة أسمائك ، وذلك النور ارومة (1) لسيّدة إمائك ، وناديت في الملأ الأعلى : أنا الفاطر وهي فاطمة ، وبنورها ظهرت الأشياء من الفاتحة إلى الخاتمة . فاسمها اسمك ، ونورها نورك ، وظهورها ظهورك ، ولا إليه غيرك ، وكل كمالٍ ظلّك ، وكل وجودٍ ظلّ وجودك ، فلما فطرتها فطمتها عن الكدورات البشرية ، واختصصتها بالخصائص الفاطمية ، مفطومة عن الرعونات (2) العنصريّة ، ونزّهتها عن جميع النقائص ، مجموعة من الخصائل المرضيّة بحيث عجزت العقول عن إدراكها ، والناس فطموا عن كنه معرفتها ، فدعا الأملاك في الأفلا ك بالنوريّة السماوية ، وبفاطمة المنصورة ... ام السبطين وأكبر حجج الله على الخافقين ، ريحانه سدرة المنتهى ، وكلمة التقوى ، والعروة الوثقى ، وستر الله المرخى ، والسعيدة العظمى ، والمريم الكبرى ، والصلواة الوسطى ، والإنسيّة الحوراء التيم بمعرفتها دارت القرون الاولى .
وكيف احصي ثناها وإنّ فضائلها لا تحصى ، وفواضلها لا تقضى ؟! البتول العذراء ، والحرّة البيضاء ، ام أبيها ، وسيدة شيعتها وبنيها ، ملكة الأنبياء ، الصدّيقة فاطمة الزهراء ، نعم ما قال :
خجلاّ من نور بهجتها تتوارى الشمس في الافق * وحياءً من شمائلها يغطّى الغصن في الورق (3)

13 ـ قال المحقق البارع السيد كاظم القزويني : فاطمة ، وما أدراك من فاطمة ! شخصية إنسان تحمّل طابع الانوثة لتكون آية على قدرة الله البالغة واقتداره البديع العجيب ، فإن الله تعالى خلق محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليكون آية قدرتة في الأنبياء ، ثم خلق منه بضعته وابنته فاطمة الزهراء لتكون علامةً وآيةً على قدرة الله في إيداع مخلوق أنثى تكون كتلة من الفضائل ، ومجموعة من المواهب فلقد أعطى الله تعالى فاطمة الزهراء أوفر حظ من العظمة ، وأوفى نصيب من الجلالة بحيث لا يمكن لأيّة أنثى لأيّة أنثى أن تبلغ تلك
____________
(1) الارومة : أصل الشجرة .
(2) الرّعونة : الاسترخاء ، الحمق ، والمراد هنا الأول .
(3) الخصائص الفاطمية : 1 .

( 106 )

المنزلة ، فهي من فصيلة أولياء الله الذين اعترفت لهم السماء بالعظمة قبل أن يعرفهم أهل الأرض ، ونزلت في حقّهم آيات محكمات في الذكر الحكيم تتلى آناء الليل وأطراف النهار منذ نزولها إلى يومنا هذا وإلى أن تقوم القيامة . شخصية كلما ازداد البشر نضجاً وفهماً للحقائق واطّلاعاً على الأسرار ظهرت عظمة تلك الشخصية بصورة أوسع ، وتجلت معانيها ومزاياها بصورٍ أوضح . إنّها فاطمة الزهراء الله يثني عليها , ويرضى لرضاها ، ويغضب لغضبها ، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينوّه بعظمتها وجلالة قدرها ، وأمير المؤمنين عليه السلام ينظر إليها بنظر الإكبار والإعظام ، وأئمة أهل البيت عليه السلام ينظرون إليها نظر التقديس والإحترام (1) .

ت ـ مقامها عليها السلام يوم القيامة

إن أفضل مقام تعطى فاطمة عليها السلام يوم القيامة هو مقام الشفاعة الكبرى والذي من خلال هذه المنزلة يظره قدر ومقام فاطمة عند الله تعالى يوم القيامة وأمام الخلائق جميعاً ، فلقد ورد في تفسير فرات ... فإذا صارت عند باب الجنة تلتفت فيقول الله عزوجل : يا بنت حبيبي ، ما التفاتك وقد أمرت بك إلى جنتي ؟
فتقول : يا رب ! أحببت أن يعرف قدري في مثل هذا اليوم ، فيقول الله : يا بنت حبيبي ارجعي فانظري من كان في قلبه حب لك أو لأحد من ذريتك خذي بيده فأدخليه الجنة .
قال أبو جعفر عليه السلام ـ والله ـ يا جابر إنها ذلك اليوم لتلتقط شيعتها ومحبيها كما يلتقط الطير الحب الجيد من الحب الرديء . فاذا صار شيعتها معها عند باب الجنة يلقي الله في قلوبهم أن يلتفتوا فإذا التفتوا فيقول الله عز وجل :
يا أحبائي ما التفاتكم وقد شفعت فيكم فاطمة بنت حبيبي ؟
فيقولون : يا رب أحببنا أن يعرف قدرنا في مثل هذا اليوم ؛ فيقول الله : يا أحبائي
____________
(1) فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد : 13 و 14 .
( 107 )

ارجعوا وانظروا من أحبكم لحب فاطمة ، انظروا من أطعمكم لحب فاطمة انظروا من كساكم لحب فاطمة ، انظروا من سقاكم شربة في حب فاطمة ، انظروا من ردّ عنكم غيبة في حب فاطمة ، خذوا بيده وأدخلوه الجنة .
قال أبو جعفر عليه السلام : ـ والله ـ لا يبقى في الناس إلا شاك أو كافر أو منافق ، فإذا صاروا بين الطبقات ، نادوا كما قال الله تعالى : ( فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم ) فيقولون : ( فلو أنّ لنا كرة فنكون من المؤمنين ) .
قال أبو جعفر عليه السلام : هيهات هيهات منعوا ما طلبوا ( ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه وانهم لكاذبون ) .


( 108 )

الأمر الثاني
ظلامات فاطمة الزهراء عليها السلام

نـبذوا العــهد والكــتاب ومـا جـا * ء بـه فـي الوصـيّ خـلف الظـهور
عـدلوا عـن أبـي الهــداة المـياميـ * ن إلى بـــيعة الأثــيم الكـــفور
قــدموا الرجس بــالولاية للأمـــر * عـــلى أهــل آيــة التــطهير
لست تـدري لم أحـرقوا البـاب بـالنا * ر أرادوا إطـــفاء ذاك النــــور
لست تدري ما صـدر فاطم مـا المسـ * ـمار مـا حـال ضــلعها المكسـور
ما سقوط الجـنين مـا حـمره العـين * ومــا بـال قـرطـــها المـنثور
دخـلوا الـدار وهـي حسـرى بمرأى * مـن عــليّ ذاك الأبـي الغــيور
واســتداروا بغــياً عـلى أسـد الله * فأضــحى يــقاد قــود البعــير
يـنظر النـاس مـا بـهم مـن مـعين * ويــنادي ومــاله مــن نــصير
والبـتول الزهــراء فـي إثرهم تعـ * ـثر فــي ذيــل بـردها المجرور
بأنــينٍ يــوهيم الصــفا بشـجاه * وحـنين يـذيب صــمّ الصــخور
ودعــتهم : خـلّوا ابـن عـمي عليّاً * أو لأشكــو إلى السـميع البــصير
مـا رعـوها بـل روعـوها ومـرّوا * بـــعلي مـــلبّباً كـــالأسير
بــعض هــذا يـريك ممّن تـولّى * بــارز الكــفر ليس بــالمستور


( 109 )

تمهيد :

جاء الدين الإسلامي الحنيف ليمثل عصارة الأديان السماوية المتعددة وخلال الفترات المتعاقبة حيث قدم النظام الأشمل والأكمل للحياة وعلى كافة المستويات سواء الإجتماعية أو الإقتصادية أو السياسية وهذا ما نراه واضحاً جلياً في أدنى تأمل للنظرية الإسلامية المتمثلة في طرفي العقيدة والشريعة ، وكان من جملة ما أكدت عليه الرسالة السماوية المتمثلة في بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو حرمة الظلم ومعاونة الظالمين ذلك ان الله تبارك وتعالى قد حرم على نفسه الظلم وكما ورد في الحديث القدسي : « يا عبادي اني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا » .
فالإسلام دين المساواة والعدل ولا يرضى بالظلم والبغي ، حيث أنزل الله تعالى في كتابه الكريم الكثير من الآيات القرآنية المباركة التي تدل دلالة قطعية واضحة البراهان على ضرورة العدل بين الرعية وعدم البغاء والظلم فيما بينهم ، حيث اعتبرت هذه الضرورة من الواجبات المهمة على كافة الأصعدة والمجالات الحياتية ، فنرى من خلال الضرورة من الواجبات المهمة على كافة الأصعدة المجالات الحياتية ، فنرى من خلال مراجعة الأحكام الشرعية التي أقرتها الشريعة الإسلامية أن الكثير منها قد لوحظ فيه عدم الظلم للآخرين والتعدي على حقوقهم ، كل هذه التأكيد لكي تسير الإنسانية في الطريق الذي ارتضاء الله تبارك وتعالى لها ولكي تصل إلى شاطيء الأمان والكمال وضمن الأهداف المحددة من خلال الرسالة المحمدية السمحاء .
ونجد من خلال استقراء القرآن الكريم أن أكثر الآيات القرآنية الواردة في المقام قد تكون صريحة في تحريم الظلم سواء كان ذلك بذكر لفظة الظلم بصورة مباشرة أو عن طريق ذكر نقيضه الذي هو العدل وكما سيتبين من خلال مطالعة الآيات القرآنية التالية :


( 110 )

* حيث جاء قوله تعالى ( ان الله لا يظلم مثقال ذرة ) (1) ليؤكد على حقيقة اختصت لها الشيعة مع بعض الفرقة الدينية الآخرى ألا وهي مسألة العدل حيث أقرت الشيعة بأن من أصول الدين هو العدل وهو أن الله ليس بظالم ولا يظلم أحداً فهو العدل لهذا نجد في هذه الآية القرآنية أن الله قد حرم على نفسه الظلم فلا يظلم عباده بل هو المفيض عليهم رحمته الربانية ونعمته الالهية .
* وجاء قوله تعالى ( ما للظالمين من نصير ) (2) ليؤكد على مسألة أخرى بحيث انها من الأهمية قد ذكرها الله تعالى ليذكر بها البشرية بأن الظالمين ليس لهم نصير ولا تنصرهم السماء وبنفس الوقت قد أكد الله في آية أخرى وطلب من المؤمنين بأن لا ينصروا الظالمين باي شكل من الأشكال ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ) (3) .
وهكذا جاءت الكثير من الآيات القرآنية الكريمة حاملة بين طياتها التأكيد على هذا الأمر المهم والضروري لتكامل البشرية .
وقد يرد وينقدح سؤال مهم في ذهن كل إنسان واعي وفاهم للأمور الإسلامية أنه إذا كان هذا الحال في حرمة الظلم وعدم معونة الظالمين فما المفهوم من الظلم وأي ضابطة نرجع اليها في معرفة الظلم وتعريفه معناه ؟
فنقول ان الظلم من الأمور التي يدرك الذهن ويفهمها بأدنى تأمل ذلك أنه من الأمور الفطرية والعقلية هو قبح الظلم وأنه يأباه العقل والناس جميعاً مشتركين في هذه المسألة أعني قبح الظلم ، ومع ذلك كله نعطي بعض التعاريف للظلم لكي لا يرد أي استيضاح حوله في حالة عدم فهم معناه .
* الظلم لغة : أما لغة فقد جاء في لسان العرب (4) : الظلم وضع الشيء في غير موضعه . وأصل الظلم الجور ومجاوزة الحد ، ويقال ظلمه يظلمه ظلماً ومظلمة ، فالظلم
____________
(1) النساء : 40 .
(2) الحج : 71 .
(3) هود : 113 .
(4) لسان العرب لابن منظور : 15 | 226 .

( 111 )

مصدر حقيقي وهو ظالم وظلوم والظلمة هم المانعون أهل الحقوق حقوقهم ، والظلامة ما تظلمه وهي المظلمة . وتظالم القوم : ظلم بعضهم بعضاً وفي المفردات للراغب الاصفهاني (1) : والظلم عند أهل اللغة وكثيرون أهل العلم : وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة وإما بعدول عن وقته أو مكانه .
وقال الفيروز آبادي (2) والظلم يقال في مجاوزة الحق ويقال في الكثير والقليل .
أما عرفاً : فالظلم معناه بخس النسا أشياءهم وحقوقهم والاعتداء على الغير باي صورة كانت سواء قولاً أو عملاً .
وأما شرعاً : الظلم وضع الشيء في غير موضعه الشرعي (3) والظلم أصله الجور ومجاوزة الحد ومعناه الشرعي وضع الشيء في غير موضعه الشرعي (4) وهكذا يتبين لمن يقصد السؤال في معرفة الظلم ويدقق في مقولات علماء اللغة وغيرهم من أهل الشرع واللغة وأهل المعرفة في هذا المقام ، ولنعم ما قال الحكيم أرسطو في هذا المقام حيث أطلق هذه الكلمات ليعبر عن طبيعة الفطرة الإنسانية في هذه المسألة ( الظلم من طبع النفوس ، وانما يصدها عن ذلك إحدى علتين : إما علة دينية لخوف معاد أو علة سياسية لخوف سيف ) . فيكون مقال القائل أن النفوس لا تظهر هذا الظلم للعلتين المتقدمتين ، ولكن نقول إذا فقدتا هاتين العلتين فماذا سيكون الحال ، قطعاً عند ذلك يسقط الواعز النفسي للإنسان فيكون من أعتى الظالمين .
إذن بعد هذه المقدمة التي ارتأينا أن نقدمها لكي يتضح الحال والمقام في الظلم وقبحه وحرمته ندخل في هذا الفصل لكي نعيش القصة والحديث التأريخي الذي لا يزال يأكل بنفوس المسلمين وإلى وقتنا الحاضر ألا وهو حدث ظلامات فاطمة الزهراء بضعة النبي الهادي المختار تلك التي لم يترك في المسلمين آنذاك من أهله ومن ذريته إلا هذه الميمونة الطاهرة ذو النسل المبارك ام الحسنين عليهما السلام .
____________
(1) المفردات في غريب القرآن للراغب الاصفهاني : 315 .
(2) بصائر ذوي التمييز للفيروز ابادي : 4 | 230 .
(3) صحيح البخاري بشرح العسقلاني : 5 | 95 .
(4) عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني : 12 | 238 .

( 112 )

فتعال معي أيها القاري العزيز لنروي لك تلك الظلامات ونغوص في أعماق التاريخ لنجد ما يطالعنا به القوم من الظلامات التي أطبقت عليها الخاصة والعامة على ثبوتها وصدورها ولكن اتباع الأهواء والصدود عن الحق هو الذي جعل الكثير منهم يأخذ هذه الأحداث مأخذاً تاريخياً ليس فيه أي فائدة وليس له أي علاقة لا بأصول الدين ولا بالعقيدة وانما هو مجرد حدث لا يضر من عرفه ولا ينفع من جهله ، وأنى لهم بالمعرفة الحقة والنور المستبين ذلك أن ( ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور ) فهلم بنا لكي نقف مع هذه الدراسة التي أفاضها لنا التاريخ ونحققها بعمق وتركيزعلى كل جوانبها وحسب ما تسعنا قابليتنا المحدودة في معرفة كوامن الأسرار ونزيح ما استتار في ظلم التاريخ عن هذه الظلامات عن غبار جعل الكثير من أبصار وبصائر الذين يدعون الصلة بالرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهة الإسلام انهم يحبون ويوالون الرسول في كل شيء ولكن ... ؟!!
ولنقف بدقة متناهية مع هذه الظلامات ونعرض جميع الأسئله الواردة في المقام ونعرضها على كتاب الله الغريز باعتباره المصدر الأول لكل سؤال ولكل استفهام من أي من كان ، ونعرضها على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فهو الذي ( لا ينطق عن الهوى ... إلا وحي يوحى علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى ) .
ونستنطق بهذه الأسئلة العقل ليكون القاريء العزيز على ثقة بما يتطلع إليه ويصل إلى مقام الإطمئنان الذي تصبو إليه النفس الإنسانية .
وقبل كل شيء ينقدح سؤال مهم ألا وهو هل أخبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بما سيجري على أهل بيته من بعده أم لم يخبر ؟
والجواب نجده واضحاً من خلال مطالعة كتب التأريخ والحديث حيث ورد عن أبي عبدالله عليه السلام في حديث طويل أنه قال في قضية الإسراء والمعراج لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبل الله تعالى « إن الله مختبرك ـ أي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ـ في ثلاث ينظر كيف جدك ؛ قال : أسلم لأمرك يا رب ولا قوة لي على الصبر إلا بك ، فما هن ؟
إلى أن يقول الإمام الثالثة ...
وأما الثالثة : فما يلقى أهل بيتك من بعدك من القتل : أما أخوك علي فيلقى من امتك


( 113 )

الشتم والتضعيف والتوبيخ والحرمات والجهد والظلم وآخر ذلك القتل .
فقال : يا رب ، سلمت وقبلت ، ومنك التوفيق والصبر . وأما ابنتك فتظلم ، وتحرم ، ويؤخذ حقها غصباً الي تجعله لها ، وتصرب وهي حاملة ، ويدخل على حريمها ومنزلها بغير إذن ، ثم يمسها هوان وذل ثم لا تجد مانعاً وتطرح ما بطنها من الضرب وتموت من ذلك الضرب ، قلت إنا لله وإنّا إليه راجعون قبلت يا رب وسمك ومنك التوفيق والصبر (1) .
إذن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعلم ما سيجري على بضعته الطاهرة وما يكون مآل الأمور من بعده ، ويعلم من الذي سوف يكون الظالم لها ولبعلها ولذلك نجده في أكثر من مرة يوصي الزهراء وأمير المؤمنين بالصبر بما سيجري عليهم من بعده ، ولقد جاء في المأثور الروائي أنه طالما أخبرهم بذلك وخصوصاً عند قرب وفاته حيث أخبر الصديقة الشهيدة عليها السلام بأنها ستظلم من بعده وانها أول الناس لحوقاً به من أهل بيته بعد أربعين يوماً من وفاته وقيل بإثنين وسبعين يوماً ، وهكذا تظافرت الروايات الكثيرة في إثبات هذه المأساة للزهراء من بعد أبيها ، أما من الذي يظلمها حقها ؟ فهذا ما ترويه قصة سقيفة بني ساعدة وإليك ما جرى في تلك الواقعة الأليمة لأهل بيت النبوة والتي كانت مفتاح الظلم الذي سنه الخليفة الأول والثاني على أهل البيت عليهم السلام .
* عن عبدالله بن عبد الرحمان قال : ثم إن عمر احتزم بإزاره وجعل يطوف بالمدينة وينادي : ألا إن أبا بكر قد بويع له فهلموا إلى البيعة ، فينثال الناس يبايعون ، فعرف أن جماعة في بيوت مسترون ، فكان يقصدهم في جمع كثير ويكبسهم ويحضرهم المسجد فيبايعون ، حتى إذا مضت أيام أقبل في جمع كثير إلى منزل علي عليه السلام فطالبه بالخروج فأبى ، فدعا عمر بحطب ونار وقال : والذي نفس عمر بيده ليخرجنّ ، أو لأحرقنّه على ما فيه .
فقيل له : إنّ فاطمة بنت رسول الله ،وولد رسول الله ، وآثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه ؛ وانكر الناس ذلك من قوله ، فلما عرف إنكارهم قال : ما بالكم أتروني فعلت ذلك ؟!
____________
(1) الدمعة الساكبة : 69 ، كامل الزيارات : 332 ، البحار : 28 | 61 .
( 114 )

إنما أردت التهويل ؛ قال : وخرجت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم فوقفت خلف الباب ثم قالت : « لا عهد لي بقوم أسوأ محضراً منكم ، تركتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جنازةً بين أيدينا وقطعتم أمركم فيما بينكم ، ولم تؤمّرونا ، ولم تروا لنا حقّاً ، كأنّكم لم تعلموا ما قال يوم غدير خم ؛ والله ، لقد عقد له يؤمئذ الولاء ليقطع منكم بذلك منها الرجاء ولكنكم قطعتم الأسباب بينكم وبين نبيّكم ، والله حسيب بيننا وبينكم في الدنيا والآخرة (1) .
* عن سلمان الفارسي رضى الله عنه أنه قال : وكان علي بن أبي طالب عليه السلام لما رأى خذلان الناس له ، وتركهم نصرته ، واجتماع كلمة الناس منع أبي بكر ، طاعتهم له ، وتعظيمهم له ، جلس في بيته ؛ فقال عمر لأبي بكر : ما يمنعك أن تبعث إليه فيبايع ، فإنّه لم يبق أحد إلا وقد بايع ، غيره وغير هؤلاء الأربعة معه ؛ وكان أبو بكر أرقّ الرجلين ، وارفقهما ، وادهاهما ، وأبعدهما غوراً ؛ والآخر أفظّهما وأغلظهما ، وأخشنهما ، وأجفاهما ، فقال : من نرسل إليه ؟
فقال عمر : أرسل إليه قنفذاً ـ وكان رجلاً فظّاً غليظا جافياً من الطلقاء ، أحد بني تيم ـ فأرسله وأرسل معه أعواناً ، فانطلق فاستأذن ، فأبي عليّ عليه السلام أن يأذن له .
فرجع أصحاب قنفذ إلى بي بكر وعمر ، وهما في المسجد والناس حولهما فقالوا : لم يأذن لنا ، فقال عمر : هو إن أذن لكم وإلا فادخلوا عليه بغير إذنه .
فانظلقوا ، فاستأذنوا ، فقالت فاطمة عليها السلام : أخرّج عليكم أن تدخلوا بيتي بغير إذنٍ ؛ فرجعوا ، فثبت قنفذ ، فقالوا : إنّ فاطمة قالت : كذا وكذا ، فحرجتنا أن ندخل عليه البيت بغير إذن منها ، فغضب عمر ، وقال : ما لنا وللنساء ؛ ثم أمر أناساً حوله ، فحملوا حطباً وحمل معهم فجعلوه حول منزله ، وفيه علي وفاطمة وابناهما عليهم السلام ، ثم نادى عمر حتى اسمع علياً : والله لتخرجنّ ولتبايعنّ خليفة رسول الله ، أو لأضر منّ عليك بيتك ناراً ، ثم رجع فقعد إلى أبي بكر ، وهو يخاف أن يخرج علي بسيفه ، لما قد عرف من بأسه وشدّته .
____________
(1) الاحتجاج : 1 | 105 ، الإمامة والسياسة : 12 ، بلاغات النساء : 4 | 114 .
( 115 )

ثم قال لقنفذ : إن خرج وإلاّ فاقتحم عليه ، فإن امتنع فاضرم عليهم بيتهم ناراً : فانطلق قنفذ ، فاقتحم هو وأصحابه بغير إذن ، وبادر علي إلى سفيه ليأخذه ، فسبقوه إليه فتناول بعض سيوفهم فكثّروا عليه فضبطوه ، وألقوا في عنقه حبلاً أسود ؛ وحالت فاطمة عليها السلام بين زوجها وبينهم عند باب البيت ، فضربها قنفذ بالسوط على عضدها ، فبقي أثره في عضدها من ذلك مثل الدملج من ضرب قنفذ إيّاها ؛ فأرسل أبو بكر إلى قنفذ : اضربها ؛ فالجأها إلى عضادة باب بيتها ، فدفعها فكسر ضلعاً من جنبها ، وألقت جنيناً من بطنها ، فلم تزل صاحبة فراش حتى ماتت من ذلك شهيدة صلوات الله عليها (1) .
* وفي كتاب سليم بن قيس ، في حديث طويل ، قال : فلما كان الليل حمل علي فاطمة عليهما السلام على حمار وأخذ بيدي إبنيه الحسن والحسين عليهما السلام فلم يدع أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أتاه في منزله ، فناشدهم الله حقه ودعاهم إلى نصرته ، فما استجاب منهم رجل غبرنا الأربعة ، فإنّا حلقنا رؤوسنا ، وبذلنا له نصرتنا ، وكان الزبير أشدّنا بصيرة في نصرته ؛ فلما رأى علي عليه السلام خذلان الناس إيّاه وتركهم نصرته ، واجتماع كلمتهم مع أبي بكر ، وطاعتهم له ، وتعظيمهم إياه لزم بيته ، فقال عمر لأبي بكر : ما يمنعك أن تبعث إليه فيبايع ، فإنه لم يبق أحد إلا وقد بايع ، غيره وغير هؤلاء الاربعة ، وكان أبو بكر أرقّ الرجلين وأرفقهما وآدهاهما وأبعدهما غوراً ، والآخر أفظّهما وأغلظهما وأجفاهما ؛ فقال [ له ] أبوبكر : من نرسل إليه ؟
فقال عمر : نرسل إليه قنفذاً ، وهو رجل فظّ غليظ جافّ من الطلقاء ، أحد بني عديّ بن كعب ، فأرسله إليه ، وأرسل معه أعواناً ، فانطلق فاستأذن على علي عليه السلام ، فأبى أن يأذن لهم .
فرجع أصحاب قنفذ إلى أبي بكر وعمر ، وهما جالسان في المسجد والناس حولهما ، فقالوا : لم يؤذن لنا ؛ فقال عمر : اذهبوا فإن أذن لكم ، وإلاّ فادخلوا [ عليه ] بغير إذن !!
فانطلقوا فاستأذنوا ؛ فقالت فاطمة عليها السلام : أحرّج عليكم أن تدخلوا على بيتي بغير
____________
(1) 1 | 106 الاحتجاج عن سليم بن قيس الهلالي .
( 116 )

إذن ، فرجعوا ، وثبت قنفذ الملعون ، فقالوا : إنّ فاطمة قالت : كذا وكذا ، فتحرّجنا أن ندخل بيتها بغير إذن ، فغضب عمر ، وقال : ما لنا وللنساء !! ثم أمر اناساً حوله أن يحملوا الحطب ؛ فحملوا الحطب ، وحمل معهم عمر فجعلوه حول منزل علي وفاطمة وابناها عليهم السلام ثم نادى عمر ـ حتى اسمع علياً وفاطمة عليهما السلام : ـ والله ـ لتخرجنّ يا علي ولتبايعنّ خليفة رسول الله ، وإلا أضرمت عليك [ بيتك ] النار .
فقالت فاطمة عليها السلام : يا عمر ، ما لنا ولك ؟
فقال : افتحي الباب ، وإلاّ أحرقنا عليكم بيتكم ؛
فقالت : يا عمر ،أما تتقي الله تدخل علي بيتي ؟ فأبى أن ينصرف ، ودعا عمر بالنار فأضرمها في الباب ، ثم دفعه فدخل ، فاستقبلته فاطمة عليها السلام وصاحت : يا أبتاه ، يا رسول الله فرفع عمر السيف ـ وهو في عمده ـ فوجأ به جنبها ، فصرخت يا أبتاه ! فرفع السوط فضرب به ذراعها ... (1) .
* وروي عن زيد بن أسلم أنه قال : كنت ممّن حمل الحطب مع عمر إلى باب فاطمة حين امتنع علي وأصحابه عن البيعة ، فقال عمر لفاطمة : أخرجي من في البيت وإلا أحرقته ومن فيه ، قال : وفي البيت علي وفاطمة والحسن والحسين وجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فقالت فاطمة : أتحرق علياً وولدي ؟ قال : إي ـ والله ـ أو ليخرجنّ وليبايعنّ (2) .
* وروي عن عمرو بن أبي المقدام ، عن أبيه ، عن جدّه : ما أتى عليّ يوم قطّ أعظم من يومين أتيا عليّ : فأمّا اليوم الأول : فيوم قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وأمّا اليوم الثاني : فوالله إنّي لجالس في سقيفة بني ساعدة عن يمين أبي بكر والناس يبايعونه ، إذ قال له عمر : يا هذا ، ليس في يديك شيء مهما لم يبايعك عليّ ؛ فابعث إليه حتى يأتيك يبايعك ، فإنّما هؤلاء رعاع .
فبعث إليه قنفذ ، فقال له : اذهب فقل لعليّ : أجب خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فذهب قنفذ فما لبث أن رجع ، فقال لأبي بكر : قال لك : ما خلّف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحداً
____________
(1) كتاب سليم بن قيس : 3 | 583 .
(2) نهج الحق وكشف الصدق : 271 .

( 117 )

غيري .
قال : ارجع إليه فقل : أجب فإنّ الناس قد أجمعوا على بيعتهم إيّاه ، وهؤلاء المهاجرين والأنصار يبايعونه وقريش ، وإنما أنت رجل من المسلمين ، لك ما لهم ، وعليك ما عليهم ؛ فذهب إليه قنفذ فما لبث أن رجع ، فقال : قال لك : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لي وأوصاني أن ـ إذا واريته في حفرته ـ لا أخرج من بيتي حتى اؤلّف كتاب الله ، فإنّه في جرائد النخل ، وفي أكتاف الإبل ، قال عمر : قوموا بنا إليه .
فقام أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وخالد بن الوليد ، والمغيرة بن شعبة ، وأبو عبيدة بن الجرّاح ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وقنفذ ، وقمت معهم .
فلمّا انتهينا إلى الباب فرأتهم فاطمة ( صلوات الله عليها ) أغلقت الباب في وجوههم ، وهي لا تشكّ أن لا يدخل عليها إلا باذنها ، فضرب عمر الباب برجله فكسره ـ وكان من سعف ـ ثم دخلوا فأخرجوا عليّاً عليه السلام ملبّباً .
فخرجت فاطمة عليها السلام فقالت : يا أبابكر ، أتريد أن ترمّلني من زوجي ـ والله ـ لئن لم تكفّ عنه لأنشرنّ شعري ولأشقّنّ جيبي ، ولآتينّ قبر أبي ، ولأصيحنّ إلى ربّي ؛
فأخذت بيد الحسن والحسين عليهما السلام فإنّي أرى جنبتي المدينة تكفيان ؛ والله إن نشرت شعرها ، وشقّت جيبها ، وأتت قبر أبيها ، وصاحت إلى ربّها لا يناظر بالمدينة أن يخسف بها [ وبمن فيها ] ، فأدركها سلمان رضى الله عنه ، فقال :
يا بنت محمد ، إنّ الله إنّما بعث أباك رحمة ، فارجعي .
فقالت : يا سلمان ، يريدون قتل عليّ ، ما على عليّ صبر ، فدعني حتى آتي قبر أبي فأنشر شعري ، وأشقّ جيبي ، وأصيح إلى ربّي ، فقال سلمان : إنّي أخاف أن تخسف بالمدينة ، وعليّ عليه السلام بعثني إليك ، ويأمرك أن ترجعي إلى بيتك ، وتنصرفي .
فقالت : إذاً أرجع ، وأصبر ، وأسمع وأطيع .
قال : فأخرجوه من منزله ملّبا ، ومرّوا به على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : فسمعته يقول :