البدعة 3


تقسيم البدعة

لقد تقدّم في تعريف البدعة أنّها الزيادة في الدين أو النقصان منه ، وبعبارة أُخرى إدخال ما ليس من الدين في الدين كاباحة محرّم أو تحريم مباح أو إيجاب ما ليس بواجب . وهو كما ترى يعتمد على محور الاضافة والحذف .
ومع هذا التعريف هل يمكن تقسيم البدعة الى حسنة وسيئة ؟
وقبل الاجابة التفصيلية على هذا السؤال يحسن أن نشير إلى أنَّ القول بتقسيم البدعة الى حسنة وسيئة يقوم على أساس عدم التفريق ، أو الخلط بين البدعة بمعناها اللغوي ـ والتي هي بمعنى إحداث شيء ليس على مثال سابق ـ وبين معناها الاصطلاحي الشرعي ، والذي هو بمعنى إدخال ما ليس من الدين في الدين ، وإنقاص أمر من الدين على أنه ليس منه .
إنَّ الاَمر المحدث لا على مثال سابق يحتمل أن يكون مذموماً وأن يكون ممدوحاً أيضاً حسب موقعه انسجاماً أو تقاطعاً مع تعاليم الشريعة المقدسة .
إنّ البدعة بمعناها اللغوي تنسجم مع طبيعة تطور الحياة وتنوع حاجات الاِنسان على مرّ العصور ، فما كان سائداً من طريقة للكتابة وأدواتها في العصور الاَُولى تطور عبر الازمان والاعصار وأصبح بالشكل الذي هو عليه اليوم .

( 44 )
إنّ البدعة بالمعنى اللغوي قد تكون لها علاقة بالدين وقد لا تكون كذلك ، وهي تنقسم إلى قسمين ، إذ إن كلّ شيء محدث مفيد للحياة الانسانية من العادات والتقاليد والرسوم إذا تم أداءه من دون اعتباره جزء من الدين ولم يكن محرّماً «بذاته» كان بدعة حسنة ، مثل الاحتفال بيوم الاستقلال ، أو الاجتماع للبراءة من المشركين ، أو الاحتفال التأبيني لتكريم بطل من أبطال الاُمّة ، وبشكل عام فإنّ ما هو حلال بالذات لا مانع من أن تتفق عليه الاُمّة وتتخذه عادة متبعةً في المناسبات ، ما لم يرد فيه نهي فهو بهذا المعنى بدعة لغوية .
أما إذا كان محرّماً «بالذات» مثل سفور النساء أمام الرجال ، فلو أصبح ذلك رائجاً واتخذ عادة وتقليداً ، فانّه أمر محرّم بالذات ، أي أنّه عصيان للاَمر الاِلهي والتشريع ، وهذه الحرمة لا تتأتى من كونه بدعة بالمعنى الشرعي بمعنى التدخل في أمر الدين وإنكار أنّ الحجاب جزء من التشريع الديني ، فالقائلون بالسفور يحتجون بأنّ ذلك جزء من مقتضيات العصر والحضارة مع الاعتراف بأنّه مخالف للشريعة ، ولو قيل أنّ السفور بدعة قبيحة فذلك بمعناها اللغوي لا بمعناها الشرعي .
ويتضح من خلال ذلك أنَّ أكثر الذين أطنبوا في الحديث في تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة قد خلطوا بين المعنى اللغوي للبدعة وبين معناها الشرعي ، مستشهدين بذلك بأمثلة زاعمين أنّها من البدع بمعناها الشرعي مع أنّ أمرها يدور بين أمرين :
فهي أما أن يُعمل بها باسم الدين والشريعة ، ويكون لها أصل فيهما ، فتخرج بذلك عن دائرة البدعة ، مثل تدوين الكتاب والسُنّة إذا توفرت الخشية عليهما من التلف والضياع ، وبناء المدارس وغيرها ، فمثّلوا
( 45 )
للبدعة الواجبة بالتدوين ، وللبدعة المستحبة ببناء المدارس ، مع أنّهما ليسا من البدعة بمعناها الشرعي ، لوجود أصل صالح لهما في الشريعة .
أو أنّها عمل عادي يتم العمل بها ليس باسم الدين بل من أجل ضرورات تطور الحياة وطلب الراحة ، فتكون خارجة عن موضوع البدعة بمعناها الشرعي أيضاً مثل نخل الدقيق ، فقد ورد أنّ أول شيء أحدثه الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتخاذ المناخل ولين العيش من المباحات . وهذه حالة يصح إطلاق البدعة عليها بمعناها اللغوي ، أي الاتيان بشيء جديد لاعلى مثال سابق .
وقد وافق هذا القول جملة من المحققين منهم الشاطبي ، قال : إنّ متعقّل البدعة يقتضي ذلك بنفسه ، لاَنّه من باب مضادة الشارع واطّراح الشرع ، وكل ما كان بهذه المثابة فمحال أن ينقسم إلى حسن وقبيح ، وأن يكون منه ما يمدح ومنه ما يُذم ، إذ لايصح في معقول ولا منقول استحسان مشاقة الشارع.. وأيضاً فلو فرض أنّه جاء في النقل استحسان بعض البدع أو استثناء بعضها عن الذم لم يتصور ، لاَنّ البدعة طريقة تضاهي المشروعة من غير أن تكون كذلك . وكون الشارع يستحسنها دليل على مشروعيتها إذ لو قال الشارع : «المحدثة الفلانية حسنة» لصارت مشروعة ، ولمّا ثبت ذمها ثبت ذم صاحبها لاَنّها ليست بمذمومة من حيث تصورها فقط ، بل حيثُ اتصف بها المتصف ، فهو إذن المذموم على الحقيقة ، والذم خاصة التأثيم ، فالمبتدع مذموم آثم ، وذلك على الاطلاق والعموم(1)،

____________
(1) الاعتصام ، للشاطبي 1 : 142 .

( 46 )
وقال العلاّمة المجلسي : إحداث أمر لم يرد فيه نص بدعة ، سواء كان أصلهُ مبتدعاً أو خصوصياته مبتدعة فما يقال : إنّ البدعة منقسمة بانقسام الاَحكام الخمسة أمرٌ باطل ، إذ لا تطلق البدعة إلاّ على ما كان محرّماً كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « كلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار » (1).
أدلة عدم جواز تقسيم البدعة :
وأما الاَدلة على عدم جواز تقسيم البدعة فسوف نعرض أهمها ، وكما يأتي :
الدليل الاَول : إنّ التدقيق في المعنى الاصطلاحي لمفهوم البدعة الذي ورد مستفيضاً في النصوص الشرعية ، يقضي بعدم إمكانية تقسيم البدعة ، فالبدعة في الاصطلاح الشرعي هي: «إدخال ما ليس من الدين فيه» وقد مرَّ ذلك ، ويعني هذا أنّ البدعة إنّما تكون «بدعة» عندما تأخذ صفة التشريع الوضعي في مقابل التشريع الاِلهي المقدس ، فهل يمكن أن نتصور أنّ هناك قسماً من «البدعة» ممدوح ، وهو يمثل محاولة لتقويض الدين وقوانينه ؟ وهل يدخل تحت واحد من الاَحكام الشرعية الخمسة سوى التحريم ؟
إنّ شأن الابتداع في المصطلح الشرعي شأن الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، فهل يعقل أن يكون هناك لون ممدوح من الكذب على الله ورسوله ؟
إنّ البدعة في الاصطلاح الشرعي تأبى التقسيم ، وهي محرّمة مطلقاً
____________
(1) البحار ، للمجلسي 2 : 303 | 43 .

( 47 )
لاَنها ـ كما علمت ـ تدخّل صريح في التشريع الاِلهي وتلاعب فيه .
الدليل الثاني : إنَّ جوّ النصوص التي تحدثت عن البدعة ، جوّ يفيض بالذمّ والتهديد والوعيد للمبتدع ، فقد مرّت علينا النصوص التي جعلت البدعة ندّاً مقابلاً للسنة ، وضداً لا يلتقي معها أبداً ، وذمت المبتدع وكالت له أنواع الذم والتوبيخ والتقريع والتهديد ، وأوعدته بالعذاب العظيم في الدنيا والآخرة ، بل دعت الناس إلى مقاطعته وهجرانه وهددت بالعذاب من يلقاه بوجه صبوح ، وقالت بعدم قبول توبته ، وهذا من أقسى أنواع التهديد والعقاب . ومع وجود كلّ هذه الاَلوان من التهديد والوعيد ، فهل يمكن أن يكون هناك نوع ممدوح من البدعة ؟ إنّ البدعة معصية ولم يسمع أحد أنّ الله أو رسوله صلى الله عليه وآله وسلم قد مدح المعصية .
واقتصار النصوص الواردة في ذكر البدعة على الذمّ والانتقاد الشديد يبطل مقولة البدعة الحسنة فلو كان هناك نحو من أنحاء الاستثناء في موارد معينة مفترضة حتى لو كانت جزئية ، لما تجاوزتها الشريعة المقدسة أو تجاهلتها .
إنّ هناك صفات وأعمالاً تناولتها النصوص الصريحة من الكتاب والسُنّة الشريفة ، بالذم الشديد والتحذير لفاعليها ، مثل صفة «الكذب» إلاّ أنّ الشريعة لم تتجاهل في الوقت نفسه بعض الموارد التي يرتفع فيها موضوع الذم ، حتى إننا نرى أنَّ هناك نصوصاً في الشريعة شديدة الصراحة على استثناء بعض أنواع الكذب من أصل التحريم ، إذ قد يخرج الكذب من دائرة التحريم الى دائرة الوجوب ، فيما لو توقف عليه صيانة نفس مؤمنة من القتل أو الهلاك .

( 48 )
وكذلك الاَمر مع «الغيبة» هذه الخصلة المذمومة الممقوتة في نظر الشريعة، إذ ورد الحكم في جوازها في بعض الموارد كجواز اغتياب الفاسق المتجاهر بالفسق .
الدليل الثالث : ورد في الحديث المتّفق عليه عند الفريقين أنَّ الرسول محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قال: « ...ألا وكل بدعة ضلالة ، ألا وكل ضلالة في النار» (1). وورد بلفظ آخر : « فإنّ كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة تسير إلى النار» (2)
ودلالة الحديث بلفظيه على شمول جميع أنواع البدع بإنّها ضلالة لاتحتاج منا إلى المزيد من الايضاح ، ولا تقبل الجدل والاِنكار .
مواقف العلماء من تقسيم البدعة
ما تقدم كان استعراضاً للاَدلة على عدم جواز تقسيم البدعة إلى مذمومة وحسنة ، وننقل القاريء الكريم الآن إلى مطالعة النصوص التالية لعلماء من الفريقين قالوا بعدم جواز تقسيم البدعة :
1 ـ الحافظ ابن رجب الحنبلي ، قال : «والمراد بالبدعة : ما أُحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه ، أما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه ، فليس ببدعة شرعاً ، وإن كان بدعة لغة» (3). ويضيف قائلاً : «فقوله صلى الله عليه وآله وسلم « كلّ بدعة ضلالة » من جوامع الكلم ، لا يخرج عنه شيء ، وهو أصل عظيم من أصول الدين ، وهو شبيه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: « من أحدث في أمرنا هذا
____________
(1) بحار الانوار ، للمجلسي 2 : 263 | 12 كتاب العلم باب 32 .
(2) كنز العمال ، لعلاء الدين الهندي 1 : 221 | 1113 .
(3) الاساس في السُنة وفقهها ، لسعيد حوّى : 361 ، عن جوامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي : 333 .

( 49 )
ما ليس منه فهو ردٌّ»، فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه ، فهو ضلالة ، والدين بريء منه ، وسواء من ذلك مسائل الاعتقادات ، أو الاَعمال ، أو الاَقوال الظاهرة والباطنة»(1).
2 ـ ابن حجر العسقلاني ، قال : المحدَثات ، جمع مُحدَثة ، والمراد بها ماأُحدث وليس له أصل في الشرع ، ويسمى في عرف الشرع (بدعة) ، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة ، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة ، فإنّ كل شيء أُحدث على غير مثال يسمى بدعة ، سواء كان محموداً أو مذموماً ، وكذا القول في المحدثة ، وفي الاَمر المحدث الذي ورد في حديث عائشة : (ما أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ) (2).
3 ـ أبو اسحاق الشاطبي : يقول بشأن النصوص الشرعية التي تناولت مفهوم البدعة بالذم : «إنّها جاءت مطلقة عامة على كثرتها ، لم يقع فيها استثناء البته ، ولم يأتِ فيها مما يقتضي أنَّ منها ما هو هدى ، ولا جاء فيها : كل بدعةٍ ضلالة إلاّ كذا وكذا ، ولا شيء من هذه المعاني ، فلو كان هنالك مُحدثة يقتضي النظر الشرعي فيها الاستحسان ، أو أنّها لاحقة بالمشروعات لذُكر ذلك في آيةٍ أو حديث ، لكنه لا يوجد ، فدلَّ على أنّ تلك الاَدلة بأسرها على حقيقة ظاهرها في الكلّية ، التي لا يتخلف عن مقتضاها فرد من الاَفراد.. إنَّ متعقَّل البدعة يقتضي ذلك بنفسه ، لاَنّه من باب مضادة الشارع واطّراح الشرع ، وكل ما كان بهذه المثابة فمحال أن
____________
(1) البدعة ـ تعريفها ـ أنواعها ـ أحكامها ، لصالح الفوزان : 8 .
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، لابن حجر العسقلاني 4 : 252 .

( 50 )
ينقسم إلى حسن وقبيح ، وأن يكون منه ما يُمدح وما يُذم» (1).
ثم يقول منتقداً رأي القائلين بتقسيم البدعة إلى أحكام الشريعة الخمسة : «إنَّ هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي ، بل هو في نفسه متدافع لاَنَّ من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي ، لامن نصوص الشرع ، ولا من قواعده ، إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوبٍ أو ندبٍ ، أو إباحةٍ ، لما كان ثَمَّ بدعة ، ولكان العمل داخلاً في عموم الاَعمال المأمور بها ، أو المُخيّر فيها ، فالجمع بين تلك الاَشياء بدعاً ، وبين كون الاَدلة تدل على وجوبها ، أو ندبها ، أو إباحتها ، جمع بين مُتنافيين» (2). .
4 ـ الشهيد الاَول : قال في (قواعده) : «محدثات الاَُمور بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم تنقسم أقساماً ، لا تطلق اسم البدعة عندنا إلاّ على ما هو محرم منها...» (3).
5 ـ العلاّمة الشيخ محمد باقر المجلسي ، يقول في توضيح قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « كل بدعة ضلالة » «يدلُّ على أنَّ قسمة بعض أصحابنا البدعة إلى أقسام تبعاً للعامة باطل فإنها إنما تطلق في الشرع على قولٍ أو فعلٍ أو رأيٍ قرر في الدين ، ولم يرد فيه من الشارع شيء ، لاخصوصاً ولا عموماً ، ومثل هذا لا يكون إلاّ حراماً ، أو افتراءً على الله ورسوله..» (4).

____________
(1) الاعتصام ، لابي اسحاق الشاطبي 1 : 141 .
(2) الاعتصام ، لابي اسحاق الشاطبي 1 : 191 ـ 192 .
(3) مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول ، لمحمدباقر المجلسي 1 : 193 .
(4) بحار الانوار ، للمجلسي 71 : 203 .

( 51 )

الفصل الثالث

أسباب نشوء البدعة

إنّ ما قدمناه من الاَحاديث والروايات قد يعطينا تصوراً كاملاً عن خطورة هذا الاَمر من خلال شدّة التحذير من الابتداع ، بل وحتى من مرافقة المبتدعين.. كل ذلك من أجل أن تعي الاُمّة أيَّ خطر يتهددها إنْ هي سارت وراء المبتدعين والمحدِثين في الدين .
روي عن ابن مسعود أنّه قال : «خط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطاً بيده ، ثم قال : »هذا سبيل الله مستقيماً « ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك وعن شماله ثم قال : « وهذه السُبل ، ليس من سبيل إلاّ عليه شيطان يدعو إليه « ثم قرأ : (وأنَّ هَذَا صِرَاطِي مُستَقِيماً فاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ(1).
ويروى عنه صلى الله عليه وآله وسلم وهو يذكّر الاُمّة بالسنن التاريخية وما جرى على الاُمم السابقة ، قوله : « كل ما كان في الاُمم السالفة فإنَّه يكون في هذه الاُمّة مثله، حذو النعل بالنعل والقُذّة بالقُذّة « (2).

____________
(1) الدر المنثور في التفسير بالمأثور ، لجلال الدين السيوطي 3 : 56 . والآية من سورة الانعام 6 : 153 .
(2) بحار الانوار ، للمجلسي 28 : 10 | 15 باب 1 . وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : حذو النعل بالنعل والقُذّة بالقُذّة « ، «مثل يُضرب للشيئين يستويان ولا يتفاوتان» والقُذّة : ريشة الطائر كالنسر والصقر .

( 52 )
ويقول صلى الله عليه وآله وسلم مفسراً قوله تعالى : ( لَتَركَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ ) « حالاً بعد حال، لتركبنَّ سُنّة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل ، والقُذّة بالقُذّة ، لاتخطئون طريقهم ولا يخطأ ، شبر بشبر ، وذراع بذراع ، وباع بباع ، حتى إنّه لو كان مَن قبلكم دخل جحر ضب لدخلتموه ، قالوا : اليهود والنصارى تعني يارسول الله ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : فمن أعني ؟ لتنقضن عرى الاِسلام عروة عروة ، فيكون أول ما تنقضون من دينكم الاَمانة ، وآخره الصلاة « (1).
لقد بلّغ الرسول الاَكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرسالة على أكمل وجه وكانت أفعاله وسنّته الشريفة محطّ أنظار المسلمين مما لا يدع المجال للاجتهادات الشخصية أو الاختلاف ، فلماذا إذن حدثت البدع من بعده ؟
هذا هو السؤال الذي سنحاول اكتشاف جوابه في النقاط الآتية :
أولاً : توّهم المبالغة في التعبّد لله تعالى :
ونعني بذلك الخروج عن الحدّ المعقول في التعبّد لله تعالى ، أو بعبارة أُخرى الاتيان بشيء مخالف لتعاليم الشريعة تحت عنوان الاجتهاد في العبادة لله تعالى ومن أمثلة ذلك :
1 ـ استأذن عثمان بن مظعون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الاستخصاء ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «ليس منّا من خصي أو اختصى ، إنَّ اختصاء أُمّتي الصيام ، إلى أن قال : ائذن لي في الترهب ، قال : إنَّ ترّهب أُمتي الجلوس في
____________
(1) بحار الانوار ، للمجلسي 28 : 80 | 11 باب 1 كتاب الفتن والمحن . والآية من سورة الانشقاق 4 : 19 .

( 53 )
المساجد لانتظار الصلاة » (1).
ونحن نسأل عن هذا الدافع الذي يدفع ابن مظعون ليطلب من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يخصي نفسه أو أن يترهب ! إنّه ليس له من دافع سوى أنّه يرى أنّ ممارسة الحياة الاجتماعية على طبيعتها إنّما يكون سبباً لانصراف الانسان عن التوجه نحو العبودية لله سبحانه وتعالى ! لكن أليس ذلك تطرّفاً في فهم العبودية لله ؟ كل ذلك يجري والرسول صلى الله عليه وآله وسلم حيٌّ بينهم وهم يشهدون سيرته وهو أعظم الناس عبودية لربّه وأعظمهم معرفة به وقرباً إليه .
2 ـ ونظير ذلك ما رواه الكليني عن الامام الصادق عليه السلام قال : ... «إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج من المدينة إلى مكة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة ، فلما انتهى إلى كراع الغميم دعا بقدح من ماء فيما بين الظهر والعصر ، فشرب وأفطر ، ثم أفطر الناس معه ، وثَمَّ أُناس على صومهم ، فسمّاهم العصاة ، وإنّما يؤخذ بآخر أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم» (2).
فهل في موقف هؤلاء العجيب ما يمكن تفسيره سوى ظنّهم أنَّهم ببقائهم على صيامهم يتقربون أكثر إلى الله ؟! وهم إنّما يخالفون حكماً حكم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم !
3 ـ روى جابر بن عبدالله : أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في سفر فرأى رجلاً عليه زحام قد ظُلِّل عليه ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : « ما هذا ؟» قالوا : صائم ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : « ليس من البرِّ الصيام في السفر » (3).

____________
(1) الاعتصام ، للشاطبي 1 : 325 .
(2) الكافي ، للكليني 4 : 127 | 5 باب كراهية الصوم في السفر .
(3) مسند أحمد 3 : 319 و 399 .

( 54 )
إنّ الانسان الساذج الذي لا يفهم الدين بصورة صحيحة يتخيّل أنّه لو بقي على صيامه في السفر فإنَّ عمله سيكون أكثر قبولاً عند الله تبارك وتعالى ، لاَنّه تحمل فيه مشقّة أكبر !
4 ـ والاَعجب من ذلك ما رواه مالك في الموطأ : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلاً قائماً في الشمس فقال : « ما بال هذا » ؟ قالوا : نذر أن لا يتكلم ولايستظلّ من الشمس ، ولا يجلس ، ويصوم . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « مروه فليتكلم وليستظلّ وليجلس وليتم صيامه» (1).
5 ـ وروى البخاري عن قيس بن أبي حازم : دخل أبو بكر على امرأة... فرآها لا تكلَّمُ فقال : ما لها لا تَكلَّمُ ؟ قالوا : حجَّت مُصمتة ، قال لها : تكلمي فإنّ هذا لا يحلّ ، هذا من عمل الجاهلية فتكلّمت.. (2).
6 ـ وروي عن الزبير بن بكّار أنّه قال : «سمعتُ مالك بن أنس وقد أتاهُ رجل فقال : يا أبا عبدالله من أين أحرم ؟ قال : من ذي الحليفة ، من حيثُ أحرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... ، قال : فإنّي أُريد أن اُحرم من المسجد من عند القبر ، قال : لا تفعل فإنّي أخشى عليك الفتنة . فقال : وأي فتنةٍ هذه ؟ إنّما هي أميال أزيدها ! قال : وأي فتنة أعظم من أن ترى أنّك سبقتَ إلى فضيلة قصّر عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ إنّي سمعتُ الله يقول : (... فَليَحذَرِ الَّذينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أمرِهِ أنْ تُصِيبَهُم فِتنَةٌ أو يُصِيبَهُم عَذَابٌ أليمٌ ) (3).
7 ـ «روي أن سلمان الفارسي رضي الله عنه جاء زائراً لاَبي الدرداء فوجد أُمَّ
____________
(1) موطأ مالك : 309 | 9 كتاب الايمان والنذور ، طبعة دار الكتاب العربي ـ بيروت .
(2) صحيح البخاري 5 : 52 باب أيام الجاهلية ، ط مؤسسة التاريخ العربي .
(3) الاعتصام ، لابي اسحاق الشاطبي 1 : 132 . والآية من سورة النور 24 : 63 .

( 55 )
الدرداء مبتذلة ، فقال : ما شأنكِ ؟ قالت : إن أخاك ليست له حاجة في شيء من أمر الدنيا .
فلما جاء أبو الدرداء رحّب بسلمان وقرَّب إليه طعاماً ، فقال لسلمان : أطعم ، فقال : إنّي صائم . قال : أقسمت عليك إلاّ ما طعمت . فقال سلمان: ما أنا بآكل حتى تأكل ، وبات عنده ، فلما جاء الليل قام أبو الدرداء ، فحبسه سلمان ، وقال : يا أبا الدرداء ، إنّ لربّك عليكَ حقاً ، وانَّ لجسدك عليك حقاً ، ولاَهلك عليك حقاً ، فصُم وافطر ، وصلِّ ونم ، واعطِ كلَّ ذي حقٍ حقّه . فأتى أبو الدرداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بما قال سلمان ، فقال له مثل قول سلمان»(1).
8 ـ في حديث طويل عن الاِمام الصادق عليه السلام : « إنّ الصحابي سعد بن أشجع قال : إنّي أُشهد الله ، وأُشهد رسوله ، ومن حضرني ، أنّ نوم الليل عليَّ حرام ، والاَكل بالنهار عليَّ حرام ، ولباس الليل عليَّ حرام ، ومخالطة الناس عليَّ حرام ، وإتيان النساء عليَّ حرام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا سعد لم تصنع شيئاً ، كيف تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، إذا لم تخالط الناس ، وسكون البرية بعد الحضر كفر للنعمة ، نَمْ بالليل ، وكُل بالنهار، والبس ما لم يكن ذهباً، أو حريراً ، أو معصفراً ، وآتِ النساء..» (2).
9 ـ روي عن أنس أنّه قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما أُخبروا ، كأنّهم استقلّوها ، فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ ، قال أحدهم :
____________
(1) بحار الانوار ، للمجلسي 67 : 128 | 14 باب 51 عن تنبيه الخواطر 1 : 2 .
(2) بحار الانوار ، للمجلسي 67 : 128 ـ 129 | 15 باب 51 عن نوادر الراوندي : 25 ـ 26 .

( 56 )
أما أنا فإني أُصلي الليل أبداً ، وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إنّي لاَخشاكم لله ، وأتقاكم له ، لكني أصوم ، وأفطر ، وأُصلي ، وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني.. » (1).
هكذا يتوهّم هؤلاء أنّهم بقيامهم ببعض الاَعمال ذات الطابع العبادي ، يجهدون بها أنفسهم ، إنّما يتقربون بذلك إلى الله أكثر مما لو اقتصروا على ماجاءت به الشريعة من الاَعمال العبادية .
ومثلما يتحدث القرآن الكريم عن الجهاد في سبيل الله ، فإنّه يتحدث أيضاً عن نصيب الحياة الذي يجب ان يأخذه الاِنسان من دُنياه : ( قُلْ مَنْ حَرّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتي أخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيّباتِ مِنَ الرِّزقِ قُلْ هِيَ للَّذينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنيا خالِصَةً يَوْمَ القِيامَةِ... ) (2).
إنَّ القرآن الكريم وفي أماكن متعددة يشجب ظاهرة الرهبنة وتحميل النفس للمشاق والصعوبات البالغة مما لم يأمر به الله سبحانه وتعالى ، وفي مقابل ذلك وجّه الانسان والمجتمع نحو السلوك المتوازن الذي يحفظ معاً حقّ الله وحقَّ الناس وحقّ النفس .
إنَّ ظاهرة الرهبنة تعبّر عن أوضح صورة لاعتزال الحياة وبالتالي انصراف الانسان عن دوره الرسالي التغييري ، وهي تنشأ عادةً لدى الاَفراد بسبب الاعتقاد بأنَّ تكثيف الجانب الروحي العبادي على حساب
____________
(1) صحيح البخاري 7 : 2 كتاب النكاح ، طبعة مؤسّسة التاريخ العربي ـ بيروت .
(2) الاعراف 7 : 32 .

( 57 )
الجوانب الاُخرى هو الموجب للاقتراب من رضى الله سبحانه وتعالى.. ولعلَّ للرهبنة دوافع أُخرى :
عن ابن مسعود قال : كنتُ رديف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حمار ، فقال : « يا ابن أُمّ عبد ، هل تدري من أين أحدثت بنو اسرائيل الرهبانية ؟ قلتُ : الله ورسوله أعلم ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى ، يعملون بمعاصي الله ، فغضب أهل الايمان ، فقاتلوهم ، فهُزم أهل الايمان ثلاث مرات ، فلم يبق منهم إلاّ القليل ، فقالوا : إنْ ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبقَ للدين أحدٌ يدعو إليه ، فتعالوا نتفرق في الاَرض ، إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى ـ يعنون محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ـ فتفرقوا في غيران الجبال ، وأحدثوا رهبانية ، فمنهم من تمسّك بدينه ، ومنهم من كفر ، ثم تلا هذه الآية: ( ورهبانيةً ابتدَعُوها ما كتبناها عَليهم إلاّ ابتِغاء رضوانِ اللهِ فما رَعوَها حقَّ رعايتها فآتينا الذينَ آمنُوا مِنهم أجرَهُم وكثيرٌ منهم فاسِقُونَ ) (1)، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم : يا ابن أُمّ عبد ، أتدري ما رهبانية أُمتي ؟ فقلت : الله ورسوله أعلم، قال صلى الله عليه وآله وسلم : الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة.. »(2).
وقد انتشرت ظاهرة الاعتزال والرهبنة في المجتمع الاسلامي لاَسباب ودواعي كثيرة، من بينها تفشي الظلم والفساد ووقوع الفتن والاضطرابات .
ثانياً : اتّباع الهوى :
إنَّ استعراض تاريخ حياة المتنبئين كذباً والكثير من المبتدعين يكشف بوضوح عن الدور الكبير للاهواء وحبّ الظهور والرئاسة أو السمعة في
____________
(1) الحديد 57 : 27 .
(2) مجمع البيان ، للطبرسي 9 : 308 .

( 58 )
دفع هؤلاء إلى الابتداع .
إنَّ المبتدع وإنْ لم يكن متنبئاً أو مُدّعياً للنبوّة إلاّ أنَّ عمله يُعدُّ نوعاً من أنواع التنبؤ ، لاَنه يأتي بدين جديد ، أو بشيء لم تفرضه الشريعة جزءاً من الدين ، أو يحذف شيئاً جعلته الشريعة جزءاً من الدين ، وقد دلّت روايات كثيرة على هذا المعنى .
إنَّ بعض البدع تنشأ من الهوى ، فقد خطب أمير المؤمنين علي عليه السلام الناس ، فقال : « أيُّها الناس إنّما بدء وقوع الفتن : أهواءٌ تُتبع ، وأحكام تبتدع ، يخالَف فيها كتاب الله ، يتولى فيها رجالٌ رجالاً.. » (1).
إنَّ رغبة الظهور تلعبُ دوراً كبيراً في حياة الانسان ، وإذا ما انفلتت هذه الرغبة من القيود الشرعية ، وتُركت تنمو وتتصاعد حتى تسيطر على مشاعر الانسان وتتدخل في رسم سلوكه العام فإنّها في نهاية المطاف ستدفع بصاحبها إلى ادعاء المقامات الرفيعة التي تختص بالانبياء .
روى ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة أنَّ أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام مرَّ بقتلى الخوارج بعد معركة النهروان فقال : «بؤساً لكم لقد ضرّكم من غرّكم، فقيل له : من غرّهم يا أمير المؤمنين ؟ فقال عليه السلام : الشيطان المُضلّ ، والنفس الاَمارة بالسوء ، غرتهم بالاَماني وفسحت لهم في المعاصي ووعدتهم الاظهار فاقتحمت بهم النار » (2).
قال تعالى : (... ومَن أضَلُّ مَمَّن اتَّبعَ هَوَاهُ بِغيرِ هُدىً مِّن اللهِ... ) (3).

____________
(1) الكافي ، للكليني 1 : 54 | 1 باب البدع .
(2) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 19 : 235 .
(3) القصص 28 : 50 .

( 59 )
وقال عزَّ من قائل : (... ولا تتَّبعِ الهَوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهم عَذَابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ ) (1).
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « ما تحت ظِلِّ السماء من إلهٍ يُعبد من دون الله أعظم عند الله من هوىً مُتّبع » (2).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام : « إنّما أخافُ عليكم أثنتين : اتبّاع الهوى ، وطول الاَمل ، أما اتّباع الهوى فإنّه يصدُّ عن الحق ، وأما طول الاَمل فيُنسي الآخرة » (3) .
وعن الاِمام الصادق عليه السلام أنّه قال : «احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم، فليس شيءٌ أعدى للرجال من اتّباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم»(4) .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « يقول الله عزَّ وجل ، وعزّتي وجلالي وعظمتي وكبريائي ، ونوري ، وعلوّي ، وارتفاع مكاني ، لا يؤثر عبد هواه على هواي ، إلاّ شتّتُ عليه أمره ، ولبّستُ عليه دنياه ، وشغلتُ قلبه بها ، ولم أوته منها إلاّ ما قدّرت له...» (5).
لقد شهد تاريخ الاسلام منذ قرون معارك وحروباً وانحرافات ومذاهب وفرقاً وبدعاً جاءت كلها بسبب اتّباع الاَهواء والابتعاد عن جادة الصواب..
____________
(1) صَ 38 : 26 .
(2) مجمع الزوائد ، لنور الدين الهيثمي 1 : 188 باب في البدع والاهواء .
(3) اصول الكافي ، للكليني 2 : 335 | 3 باب اتباع الهوى .
(4) اصول الكافي ، للكليني 2 : 335 | 1 باب اتباع الهوى .
(5) اُصول الكافي ، للكليني 2 : 335 | 2 باب اتّباع الهوى .

( 60 )
ولذلك كلّه كانت التأكيدات النبوية على محاربة هوى النفس ، لاَنّ من تمكن من نفسه وسيطر على هواه يكون في منجاة من كل أنواع الضلالة والهلكة .
ثالثاً : التسليم لغير المعصوم :
إنّ من أسباب نشوء البدع : التسليم لمن هو دون المعصوم ، وجعله في مصاف مصادر التشريع ، لاَن غير المعصوم يصيب ويخطىء ، وقد يكذب أحياناً فيكون التسليم لقوله واتّباعه سبباً للانحراف والابتداع والكذب على الله ورسوله .
إنَّ النبي الاَكرم محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين ، وكتابه القرآن الكريم خاتم الكتب ، وشريعته خاتمة الشرائع ، فلا حكم إلاّ ما حكم به ، ولا سُنّة إلاّ ماسنّهُ ، والخروج عن هذا الاطار يمهد الطريق للمبتدعين .
قال الاِمام الباقر عليه السلام: «يا جابر إنّا لو كنّا نحدِّثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ولكنّا نحدِّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يكنز هؤلاء ذهبهم وورقهم» (1).
إنَّ هناك ظاهرة في حياة أئمة أهل البيت عليهم السلام تستحق التأمل ، وهي أنّ أي واحد منهم لم يتلق العلم كما يتلقاه الناس بالتطواف على المدن والحواضر والمدارس وحلقات الحديث ، بل إنّهم يتوارثون العلم أباً عن جدٍ حتى يتصلون بعلمهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي شواهد حياتهم ما يبعث العجب للدارس المحايد ، حتى لقد تمكن الامام الجواد عليه السلام من أن يُفحم
____________
(1) بصائر الدرجات ، لابن فروخ الصفار : 318 | 1 باب 14 . والاختصاص ، للمفيد : 280 طبعة مؤسّسة الاَعلمي ـ بيروت .

( 61 )
ـ وهو الذي كان لم يتجاوز من عمره عقده الاَول ـ فحول العلماء والمحدّثين في زمن المأمون ممن طعنوا بإمامته.. وقصة حواره معروفة دوّنتها كتب التاريخ (1).
وهذا يعني أنَّ هؤلاء الاَئمة الطاهرين هم الطريق الصحيح الموصل إلى المصدر الصافي والمعين النقي للسُنّة النبوية الشريفة وعلم الكتاب وتأويل القرآن وفهم التشريع .
وعندما تنكّبت الاُمّة هذا الطريق والمحجة كثرت البدع والضلالات .

____________
(1) الاحتجاج ، للطبرسي 2 : 465 ـ 482 ، باب احتجاجات الاِمام أبي جعفر محمد بن علي الجواد عليهما السلام .