البدعة 4


الفصل الرابع
دور أهل البيت عليهم السلام في محاربة البدع

يطول بنا المقام حين نحاول استقصاء دور أئمة أهل البيت عليهم السلام في مواجهة البدع ومحدثات الاَُمور والضلالات التي نشأت منذ أول يوم ارتحل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الملاَ الاَعلى ، فقد كانوا وخلال مختلف الاَدوار التي مرّت بها الاُمّة الملاذ والمنهل الذي يجد عنده الصادي الرواء، والمتعطش للعلم والمعرفة ما يروي به حبّه للعلم من مصادره الاَصيلة الحيّة المتصلة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
إنّ في حياة أمير المؤمنين علي عليه السلام ومواقفه قبل خلافته وتسلّمه العملي للسلطة وفي حياة ابنه الامام الحسن عليه السلام والامام الحسين عليه السلام وبقية الاَئمة الطاهرين آيات باهرات من المواقف التي بقيت خالدة على مرَّ التاريخ . لكننا مع ذلك نكتفي ـ وانسجاماً مع طبيعة الاختصار في هذا البحث ـ بإيراد مجموعة من النصوص الواردة عنهم عليهم السلام والتي عالجت أو تصدّت لبدعة محدثة من الاَُمور ليست من الدين في شىء ، وسوف نوزع تلك النصوص الشريفة على موضوعاتها المتعلقة بها تيسيراً للتناول .
أولاً : الجبر والتفويض :
من المقولات المحدثة في هذه الاُمّة مقولة الجبر التي روّج لها
( 64 )
الاَمويون لتثبيت سلطانهم ، وتبنّتها طائفة من المسلمين ، الاَمر الذي دعا إلى ظهور مقولة مضادة تقف في الطرف الآخر منها ، وهي مقولة التفويض المطلق التي قال بها المعتزلة ، وطال النزاع الكلامي بين أصحاب المقولتين ، فكان لكلِّ منها أتباع يروّجون لها ، فكانتا سبباً في اضطراب عقيدي كبير وفتن واسعة ، فتصدى أئمة أهل البيت عليهم السلام للمقولتين معاً ، في دور طويل من الكفاح في دفع الشبهات ، وهداية الناس إلى المحجة البيضاء والصراط المستقيم ، ومن كلماتهم عليهم السلام في هذين المقولتين :
1 ـ عن الاِمامين الباقر والصادق عليهما السلام قالا : « إنَّ الله عزَّ وجل أرحم بخلقه من أن يجبر خلقهُ على الذنوب ثم يعذبهم عليها ، والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون قالَ فسُئلا عليهما السلام : هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة ؟ قالا : نعم ، أوسع مما بين السماء والاَرض» (1).
2 ـ عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام قال : «الله تبارك وتعالى أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقونه ، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد »(2) .
3 ـ عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام أنّه قال : «إنّ الناس في القدر على ثلاثة أوجه ، رجل يزعم أنَّ الله عزّ وجل أجبر الناس على المعاصي ، فهذا قد ظلم الله في حكمه فهو كافر ، ورجل يزعم أنَّ الاَمر مفوّض اليهم ، فهذا قد أوهن الله في سلطانه فهو كافر ، ورجل يزعم أنَّ الله كلّف العباد ما يطيقون ولم يكلّفهم ما لا يطيقون ، وإذا أحسن حمد الله ، وإذا أساء استغفر الله ، فهذا
____________
(1) التوحيد ، للصدوق : 360 | 3 باب 59 .
(2) التوحيد ، للصدوق : 360 | 4 باب 59 .

( 65 )
مسلم بالغ..» (1).
4 ـ عن محمد بن عجلان قال : قلتُ لاَبي عبدالله عليه السلام : فوَّض الله الاَمر إلى العباد ؟ فقال : «الله أكرم من أن يفوّض إليهم ، قلتُ : فأجبر الله العباد على أفعالهم ؟ فقال : اللهُ أعدل من أن يجبر عبداً على فعلٍ ثم يعذّبه عليه »(2) .
5 ـ عن أبي الحسن الرضا عليه السلام ، وقد ذُكر عنده الجبر والتفويض ، فقال عليه السلام : «ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ، ولا تخاصمون عليه أحداً إلاّ كسرتموه ؟ قلنا : إنّ رأيت ذلك ، فقال عليه السلام : إنّ الله عزَّ وجل لم يُطَع باكراه ، ولم يُعصَ بغلبة ، ولم يُهمل العباد في ملكه ، هو المالك لما ملكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه ، فإن ائتمر العبادُ بطاعته لم يكن الله عنها صادّاً، ولا منها مانعاً ، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، وإن لم يحل وفعلوه ، فليس هو الذي أدخلهم فيه ـ ثم قال عليه السلام ـ من يضبط حدود هذا الكلام فقد خَصَم من خالفه» (3).
ثانياً : القياس والرأي :
من المقولات الحادثة ما اعتمد أصلاً في فهم الشريعة واستنباط الاَحكام الشرعية ، كالقياس والرأي ، فما هو موقف أهل البيت عليهم السلام من هذا الاَمر ؟
1 ـ عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام قال : «إنّ أصحاب المقائيس طلبوا
____________
(1) التوحيد ، للصدوق : 360 ـ 361 | 5 باب 59 .
(2) التوحيد ، للصدوق : 361 | 6 باب 59 .
(3) التوحيد ، للصدوق : 361 | 7 باب 59 .

( 66 )
العلم بالمقائيس ، فلم تزدهم المقائيس من الحق إلاّ بعداً ، وإنَّ دين الله لايُصاب بالمقائيس» (1).
2 ـ وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنّه قال : إنَّ السُنّة لا تُقاس ، وكيف تُقاس السُنّة ، والحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة (2).
3 ـ عن سعيد الاَعرج قال : قلتُ لاَبي عبدالله عليه السلام : إنَّ من عندنا من يتفقّه يقولون : يرد علينا ما لا نعرفه في كتاب الله ، ولا في السُنّة ، نقول فيه برأينا؟ فقال أبو عبدالله عليه السلام : «كذبوا ، ليس شيء إلاّ وقد جاءَ في الكتاب، وجاءت فيه السُنّة» (3).
4 ـ وعن عثمان بن عيسى قال : سألت أبا الحسن موسى عليه السلام عن القياس ، فقال : « مالكم والقياس ، إنَّ الله لا يُسأل كيف أحلَّ وكيف حرّم»(4) .
5 ـ عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال : «من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس ، ومن دان الله بالرأي لم يزل دهره في ارتماس» (5).
6 ـ وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنّه قال : « من أفتى الناس برأيه ، فقد دانَ اللهَ بما لا يعلم ، ومَنْ دانَ اللهَ بما لا يعلم ، فقد ضادَّ الله حيثُ أحلَّ وحرَّم فيما لايعلم» (6) .

____________
(1) اصول الكافي ، للكليني 1 : 56 | 7 باب البدع والرأي والمقائيس .
(2) المحاسن ، لابي جعفر البرقي 1 : 338 | 95 .
(3) بحار الانوار ، للمجلسي 2 : 304 | 47 باب 34 .
(4) اُصول الكافي ، للكليني 1 : 57 | 16 باب البدع والرأي والمقائيس .
(5) اُصول الكافي ، للكليني 1 : 57 ـ 58 | 17 باب البدع والرأي والمقائيس .
(6) اُصول الكافي ، للكليني 1 : 58 | 17 باب البدع والرأي والمقائيس .

( 67 )
ثالثاً : التشبيه والتجسيم :
من أخطر ما وقعت به بعض طوائف المسلمين عقيدتا التشبيه والتجسيم الصادرتان عن قصور في الفهم وجمود في الفكر ، فنسبت إلى الله تعالى صفات الاَجسام المحدودة والاَحياء المخلوقة ، فكان لاَئمة أهل البيت عليهم السلام دورهم المناسب في كشف خطأ هاتين المقولتين ، وإرشاد المسلمين إلى الفهم الصحيح المنسجم مع عظمة الله تعالى وقدسيته :
1 ـ عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال في صفته سبحانه وتعالى : «... ومن قال : أين ، فقد أخلى منه ، ومن قال : إلى مَ فقد وقتَّه» (1).
2 ـ وعن علي بن موسى الرضا عليه السلام أنّه قال في وصفه جلّ شأنه : «من شبّه الله بخلقه فهو مشرك ، ومن وصفه بالمكان فهو كافر..» (2).
3 ـ جاء يهودي إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام فقال : يا أمير المؤمنين متى كان ربُّنا ؟ فقال له عليه السلام : «إنما يقال : متى كان لشيء لم يكن فكان ، وربُّنا تبارك وتعالى هو كائن بلا كينونة كائنٍ ، كان بلا كيف يكون ، كائن لم يزل بلا لم يزل ، وبلا كيف يكون ، كان لم يزل ليس له قبل، هو قبل القبل بلاقبل وبلا غايةٍ ولا منتهى ، غايةٌ ولا غاية إليها ، غايةٌ انقطعت الغايات عنه، فهو غاية كلِّ غاية» (3).
4 ـ روي عن العباسي أنّه قال لاَبي الحسن عليه السلام : جعلتُ فداك أمرَني بعض مواليك أن أسألك عن مسألةٍ ، قال عليه السلام : «ومن هو ؟ قلتُ : الحسن
____________
(1) التوحيد ، للصدوق : 57 | 14 باب 2 .
(2) التوحيد ، للصدوق : 69 | 25 باب 2 .
(3) التوحيد ، للصدوق : 77 | 33 باب 2 .

( 68 )
بن سهل ، قال عليه السلام : في أيِّ شيءٍ المسألة ؟ قلتُ : في التوحيد ، قال عليه السلام : وأيُّ شيء من التوحيد ؟ قلتُ : يسألك عن الله جسم أو لا جسم ، فقال لي عليه السلام : إنَّ للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب ، مذهب إثبات بتشبيه ، ومذهب النفي ، ومذهب إثبات بلا تشبيه ، فمذهب الاثبات بتشبيه لا يجوز ، ومذهب النفي لا يجوز، والطريق في المذهب الثالث إثبات بلا تشبيه» (1).
5 ـ وروي عن علي بن محمد وعن أبي جعفر الجواد عليهما السلام إنّهما قالا : « من قال بالجسم فلا تعطوه من الزكاة ، ولا تصلّوا وراءه» (2).

تأويل ظواهر الآيات والاَحاديث الدالة على التشبيه والتجسيم :
1 ـ الوجه :
عن أبي حمزة قال قلتُ لاَبي جعفر عليه السلام قول الله عزَّ وجل : ( كُلُّ شَيءٍ هَالِكٌ إلاَّ وَجْهَهُ ) ؟ فقال عليه السلام : «فيهلك كل شيء ويبقى الوجه ؟ إنَّ الله عزَّ وجلَّ أعظم من أنْ يوصف بالوجه ولكن معناه : كلّ شيء هالك إلاّ دينه ، والوجه الذي يؤتى منه» (3).
2 ـ اليدان :
عن محمد بن مسلم قال : سألتُ أبا جعفر عليه السلام فقلتُ : قوله عزَّ وجلَّ : (يَاإبلِيسُ مَا مَنَعَكَ أن تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَي ) (4)، فقال عليه السلام : «اليدُ في
____________
(1) التوحيد ، للصدوق : 100 ـ 101 | 10 باب 6 .
(2) التوحيد ، للصدوق : 101 | 11 باب 6 .
(3) التوحيد : 149 | 1 باب 12 .
(4) ص 38 : 75 .

( 69 )
كلام العرب القوة والنعمة ، قال : ( واذكُر عَبْدَنَا دَاوودَ ذَا الاَيْدِ ) (1)وقال : (والسَّماءَ بَنَيْنَاهَا بِأيدٍ ) (2)، أي بقوة ، وقال : ( وَأيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنه ) (3)، أي : قوّة ، ويُقال : لفلان عندي أيادي كثيرة ، أي فواضل وإحسان ، وله عندي يد بيضاء ، أي : نعمة» (4).
وعن محمد بن عبيدة قال : سألت الرضا عليه السلام عن قول الله عزَّ وجلَّ لابليس: ( ما مَنَعَكَ أنْ تَسجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَي ) ، فقال عليه السلام : «يعني بقدرتي وقوتي» (5).
عن سليمان بن مهران قال : سألتُ أبا عبدالله عليه السلام عن قوله عزَّ وجلَّ : (والاَرضُ جَمِيعاً قَبضَتُهُ يَومَ القِيَامَةِ ) (6)، فقال عليه السلام : «يعني ملكه، لايملكها معه أحد ، والقبضُ من الله تبارك وتعالى في موضع آخر : المنع ، والبسط منه: الاعطاء والتوسيع ، كما قال عزَّ وجل : ( واللهُ يَقْبِضُ وَيَبسُطُ وإليهِ تُرْجَعُونَ) (7)، يعني : يعطي ويوّسع ، ويمنع ويضيِّق ، والقبض منه عزَّ وجلَّ في وجه آخر : الاَخذُ ، والاَخذُ في وجهٍ : القبول منه كما قال : (ويَأخُذُ الصَّدَقَاتِ ) (8)، أي : يقبلها من أهلها ويثيب عليها ، قال : قلتُ : فقوله عزَّ وجلَّ : ( والسَّمَواتُ مَطوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) ؟ فقال عليه السلام اليمين اليد ،
____________
(1) صَ 38 : 17 .
(2) الذاريات 51 : 47 .
(3) المجادلة 58 : 22 .
(4) التوحيد : 153 | 1 باب 13 .
(5) التوحيد : 153 ـ 154 | 2 باب 13 .
(6) الزمر 39 : 67 .
(7) البقرة 2 : 245 .
(8) التوبة 9 : 104 .

( 70 )
واليد : القدرة والقوة : يقول الله عزَّ وجلَّ : والسموات مطويات بقدرته وبقوته ، سبحانه وتعالى عما يُشركون» (1).
3 ـ الاستواء :
عن عبدالرحمن الحجاج ، قال : سألتُ أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله تعالى: ( الرَّحَمنُ عَلَى العَرشِ استَوَى ) ، فقال عليه السلام : «استوى في كلِّ شيء، فليس شيء أقرب إليه من شيء ، لم يبعد منه بعيد ، ولم يقرب منه قريب ، استوى في كلِّ شيء...» (2).
4 ـ الغضب والرضا :
من الحوار الذي دار بين أبي قرّة المحدّث صاحب شبرمة وبين الامام الرضا عليه السلام . قال أبو قرّة للاِمام عليه السلام : .. أفتكذّب بالرواية : (إنَّ الله إذا غضب إنَّما يعرف غضبه الملائكة الذين يحملون العرش ، يجدون ثقله على كواهلهم ، فيخرّون سجداً ، فإذا ذهب الغضب ، خفَّ فرجعوا إلى مواقفهم) ؟ فقال أبو الحسن عليه السلام : «أخبرني عن الله تبارك وتعالى منذ لعن ابليس إلى يومك هذا وإلى يوم القيامة غضبان هو على ابليس وأوليائه ، أو راضٍ عنهم ؟ فقال : نعم هو غضبان . قال عليه السلام : فمتى رضي فخفَّ ، وهو في صفتك لم يزل غضباناً عليه وعلى أتباعه ؟ ـ ثم قال عليه السلام ـ ويحك ! كيف تجتريءُ أن تصفَ رَّبكَ بالتغيّر من حالٍ إلى حال ، وإنّه يجري عليه مايجري على المخلوقين ؟! سبحانه لم يزل مع الزائلين ، ولم يتغير مع المتغيّرين». قال صفوان : فتحيّر أبو قرّة ولم يحر جواباً حتى قام
____________
(1) التوحيد : 161 ـ 162 | 2 باب 17 .
(2) اُصول الكافي 1 : 128 | 8 باب الحركة والانتقال .

( 71 )
وخرج(1)0.
رابعاً : نفي الرؤية :
والقول برؤية الله تعالى يوم القيامة هو واحد من نماذج القصور في الفهم التي وقع فيها أصحاب التشبيه وغيرهم ، فلننظر إلى دور أهل البيت عليهم السلام في تصحيح الاعتقاد في هذه الناحية أيضاً :
1 ـ عن عبدالله بن سنان عن أبيه قال : حضرتُ أبا جعفر عليه السلام فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له : يا أبا جعفر أيَّ شيء تعبد ؟ قال عليه السلام: « الله ، قال : رأيته ؟ قال عليه السلام : لَمْ تره العيون بمشاهدة العيان ، ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان ، لا يُعرف بالقياس ، ولا يُدرك بالحواس ، ولا يشبه الناس ، موصوف بالآيات ، معروف بالعلامات ، لا يجور في حكمه ، ذلك الله لا إله إلاّ هو»، قال : فخرج الرجل وهو يقول : اللهُ أعلم حيثُ يجعل رسالته (2) .
2 ـ عن أحمد بن اسحاق ، قال : كتبتُ إلى أبي الحسن الثالث عليه السلام أسأله عن الرؤية وما فيه الناس ، فكتب عليه السلام : «لا يجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواءٌ ينفذهُ البصر ، فإذا انقطع الهواء وعُدم الضياء بين الرائي والمرئي لم تصح الرؤية ، وكان في ذلك الاشتباه ، لاَنَّ الرائي متى ساوى المرئي في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه ، وكان في ذلك التشبيه لاَنَّ الاَسباب لا بدَّ من اتصالها بالمسببات» (3).

____________
(1) الاحتجاج ، للطبرسي 2 : 379 | 285 .
(2) التوحيد ، للصدوق : 108 | 5 باب 8 .
(3) التوحيد ، للصدوق : 109 | 7 باب 8 .

( 72 )
3 ـ وروي عن الاِمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: ( وُجُوهٌ يَوْمَئذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (1)، قال : «يعني مُشرقة تنتظر ثواب ربها» (2).
4 ـ عن أبي هاشم الجعفري قال : سألتُ أبا الحسن الرضا عليه السلام عن الله عزَّ وجل هل يوصف فقال عليه السلام: «... أما تقرأ قوله تعالى : ( لا تُدْرِكُهُ الاَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاَبْصَارَ ) (3)قلتُ : بلى، قال عليه السلام : فتعرفون الاَبصار ؟ قلتُ : بلى ، قال عليه السلام : وما هي ؟ قلتُ : أبصار العيون، فقال عليه السلام : إنّ أوهام القلوب أكثر من أبصار العيون ، فهو لا تدركه الاوهام وهو يدرك الاوهام»(4) .
خامساً : التصوّف والرهبنة :
1 ـ دخل أمير المؤمنين علي عليه السلام على العلاء بن زياد الحارثي ـ يعوده ـ فلما رأى سعة داره قال عليه السلام : «ما كنتَ تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا ، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج ؟ وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة ، تقري فيها الضيف ، وتصل فيها الرحم ، وتُطلع منها الحقوق مطالعها ، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة .
فقال له العلاء : يا أمير المؤمنين ، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد ، قال عليه السلام : وما له ؟ قال : لبس العباءة وتخّلى عن الدنيا ، قال : عليَّ به ـ فلما
____________
(1) القيامة 75 : 22 ـ 23 .
(2) التوحيد ، للصدوق : 116 | 19 باب 8 .
(3) الانعام 6 : 103 .
(4) التوحيد ، للصدوق : 112 ـ 113 | 11 باب 8 .

( 73 )
جاء قال عليه السلام ـ يا عُديَّ نفسه ! لقد استهام بك الخبيث ! أما رحمت أهلك وولدك ! أترى الله أحلَّ لك الطيبات ، وهو يكره أن تأخذها ! أنت أهون على الله من ذلك .
قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك ؟ قال عليه السلام : ويحك ، إنّي لستُ كأنت ، إنّ الله تعالى فرضَ على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفةِ الناس ، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره» (1).
2 ـ عن علي بن جعفر قال : سألتُ أخي موسى عليه السلام عن الرجل المسلم هل يصلح له أن يسيح في الاَرض أو يترّهب في بيت لا يخرج منه ؟ قال عليه السلام : «لا» (2).
سادساً : مواجهة حركة الغلاة :
لقد واجه أهل البيت عليهم السلام الغلاة وحاربوهم وأفسدوا إدعاءاتهم الباطلة بعدّة أساليب منها : ـ
الاَول : البراءة منهم ولعنهم . فحين أظهر أبو الجارود بدعته ، تبرّأ منه الاِمام الباقر عليه السلام وسمّاه باسم الشيطان سرحوب ، مبالغة في التنفير منه (3).
ولعنه الاِمام الصادق عليه السلام ولعن معه كثير النوّاء وسالم بن أبي حفصة ، فقال عليه السلام : «كذّابون مكذّبون كفار ، عليهم لعنة الله» (4).
وهكذا لعنوا المغيرة بن سعيد ، وأبا الخطّاب ، وبيان وغيرهم ، ولمّا
____________
(1) نهج البلاغة : الخطبة 209 .
(2) مسائل علي بن جعفر : 116 | 50 .
(3) رجال الكشي 2 : 495 | 413 .
(4) رجال الكشي 2 : 496 | 416 .

( 74 )
وقفوا على بدعة ابن كيّال تبرّأوا منه ولعنوه (1).
الثاني : التحذير منهم وكشف أكاذيبهم . كلما ظهر رجل مغالي أبعدوه ولعنوه وتبرّأوا منه ، ثم أمروا شيعتهم بمنابذته وترك مخالطته (2)ثم نبّهوا الناس من أتباعهم ومن غيرهم إلى أنّ هؤلاء كذّابون يفترون على أهل البيت عليهم السلام الاَباطيل وينسبون إليهم ما لم يقولوا به :
قال الاِمام الصادق عليه السلام : «كان المغيرة بن سعيد يتعمّد الكذر على أبي ، ويأخذ كتب أصحابه ، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة ، فكان يدّس فيها الكفر والزندقة ويسندها إلى أبي ثم يدفعها إلى أصحابه ويأمرهم أن يبثّوها في الشيعة ، فكلّ ما كان في كتب أصحاب أبي من الغلوّ فذلك ما دسّه المغيرة ابن سعيد في كتبهم» (3).
ومن جانب آخر يبين الامام الصادق عليه السلام لشيعته الطريق الاَمثل لتشخيص أقوال المغالين من خلال عرض ما يأتيهم من أحاديث منسوبة لاَهل البيت عليهم السلام على الكتاب والسُنّة ومقارنتها بأحاديثهم المتقدمة فيقول عليه السلام : ـ «لاتقبلوا علينا حديثاً إلاّ ما وافق القرآن والسُنّة ، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة ، فان المغيرة بن سعيد لعنه الله دسَّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي ، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ماخالف قول ربّنا تعالى وسُنّة نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم فإنا إذا حدّثنا قلنا : قال الله
____________
(1) الملل والنحل ، للشهرستاني 1 : 161 ، وهو أحمد بن كيّال ، وأصحابه الكيّالية ، من فرق الغلاة .
(2) الملل والنحل ، للشهرستاني 1 : 161 . رجال الكشي 2 : 493 | 405 .
(3) رجال الكشي 2 : 491 | 402 .

( 75 )
عزَّوجلَّ ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم» (1).
فكان أصحابهم من ذوي البصيرة وذوي التحقيق يدّققون النظر في كتب الحديث ، فربّما تحسسّوا الدخيل فيها ، وربما عرضوها على الاَئمة أنفسهم فأثبتوا الصحيح منها وأسقطوا الدخيل .
يقول يونس بن عبدالرحمن : وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر عليه السلام ووجدت أصحاب أبي عبدالله عليه السلام متوافرين ، فسمعت منهم ، وأخذت كتبهم ، فعرضتها من بعدُ على أبي الحسن الرضا عليه السلام فانكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبدالله عليه السلام وقال لي : «إن أبا الخطّاب (2)كذّب على أبي عبدالله عليه السلام لعن الله أبا الخطّاب، وكذلك أصحاب أبي الخطّاب ، يدسّون هذه الاَحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبدالله عليه السلام فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن ، فإنّا إن تحدّثنا حدّثنا بموافقة القرآن وموافقة السُنة إنّا عن الله وعن رسوله نحدّث ، ولا نقول قال فلان وفلان فيتناقض كلامنا ، إنّ كلام آخرنا مثل كلام أوّلنا، وكلام أوّلنا مصدّق كلام آخرنا ، فإذا آتاكم من يحدّثكم بخلاف ذلك فردّوه عليه وقولوا أنت أعلم وما جئت به ، فإنّ مع كلِّ قول منّا حقيقة وعليه نوراً ، فما لا حقيقة معه ولا نور عليه فذلك من قول الشيطان» (3).
وكان ذوو الذوق السليم والايمان الصحيح يتحسّسون ذلك أيضاً ، جاء أبو هريرة العجلي الشاعر إلى الاِمام الباقر عليه السلام فانشده :

____________
(1) رجال الكشي 2 : 489 | 401 .
(2) اختلفوا في اسمه واشتهر بكنيته.. قال بعضهم : اسمه محمد ، وآخرون قالوا : اسمه زيد وهو من الموالي ومن زعماء الغلاة في عصر الاِمام الصادق عليه السلام .
(3) رجال الكشي 2 : 489 ـ 491 | 401 .

( 76 )

أبا جعفر أنت الوليّ أحبّهُ * وأرضى بما ترضى به وأتابعُ
أتتنا رجالٌ يحملون عليكمُ * أحاديث قد ضاقت بهنَّ الاَضالعُ
أحاديث أفشاها المغيرةُ فيهمُ * وشرُّ الاُمورِ المُحدَثاتُ البدائعُ (1)

الثالث : الردّ على مقالاتهم الباطلة . لقد كان أولئك الغلاة يكذبون على أهل البيت عليهم السلام وكانوا يتحاشون ذلك ، فلما أراد ابن أبي العوجاء الزنديق أن يناظر الاِمام الصادق عليه السلام حذّره ابن المقفع ، وقال له : لا تفعل ، فإنّي أخاف أن يفسد عليك ما في يدك (2).
وكان أهل البيت عليهم السلام إذا بلغتهم المقالة الفاسدة من الغلاة فيهم خاصة ردّوها جهرة وأثبتو للناس الحق الذي في خلافها .
ادعى كثير من الغلاة تأليه الاَئمة عليهم السلام ، أو حلول الروح الالهية فيهم ، فكان من ردّهم على هذه الدعوى قول الاِمام الصادق عليه السلام : «لعن الله من ازالنا عن العبودية لله الذي خلقنا وإليه مآبنا ومعادنا وبيده نواصينا» (3).
وردّ الاِمام الصادق عليه السلام دعوى اولئك الذين قالوا : إنّ الله خلق الاَئمة ثم جعل بايديهم الخلق والرزق ، إذ جاء نفر من أصحابه عليه السلام فقالوا له : (زعم أبو هارون المكفوف إنّك قلت له : إن كنت تريد القديم فذاك لا يدركه أحد ، وإن كنت تريد الذي خلق ورزق فذاك محمد بن علي ! يعني الباقر عليه السلام ) .

____________
(1) عيون الاخبار ، لابن قتيبة 2 : 151 كتاب العلم والبيان .
(2) الكافي ، للكليني 1 : 74 | 2 كتاب التوحيد .
(3) رجال الكشي 2 : 489 | 400 .

( 77 )
فقال الاِمام الصادق عليه السلام : «كذب عليَّ ، عليه لعنة الله ، والله ما من خالق إلاّ الله وحده لا شريك له ، حقّ على الله أن يذيقنا الموت ، والذي لا يهلك هو الله خالق وبارىء البرية» (1).

____________
(1) رجال الكشي 2 : 488 | 398 . ولمزيد من التفصيل راجع كتاب تاريخ الاِسلام الثقافي والسياسي ـ مسار الاِسلام بعد الرسول ونشأة المذاهب ، للاُستاذ صائب عبدالحميد : 817 ـ 827 .