البدعة 5



الفصل الخامس
تطبيقات حول البدعة

لقد تقدم القول إنّ البدعة في المعنى الاصطلاحي الشرعي هي إدخال ماليس من الدين في الدين ، وهذا التعريف ، أي الادخال في الدين ، يحتمل معنى الزيادة ومعنى الانقاص أيضاً .
وسوف نتعرض في هذا الفصل وهو خاتمة البحث في موضوع البدعة إلى عددٍ من الاَمثلة والنماذج هي عند البعض تعني الزيادة في الدين وعند البعض الآخر تعني الانقاص في الدين .
إنَّ هناك الكثير من النماذج والاَمثلة يمكن أن نخضعها للمناقشة والتطبيق على ضوء التعريف المتقدم لكننا خشية الاطالة نقتصر على ذكر عدد قليل من النماذج التطبيقية .
إنَّ الهدف من ذكر هذه الاَمثلة التطبيقية هو نقل البحث النظري المتقدم إلى مساحة التطبيق العملي ورائدنا في ذلك المناقشة الموضوعية العلمية.
أولاً : النهي عن متعة الحج :
الحج باتفاق الفقهاء ينقسم من ناحية النوع إلى ثلاثة أنواع : تمتّع ،
( 80 )
وقران ، وإفراد .
والمقصود من حج التمتع هو : إحرام الشخص بالحج في أشهره المعروفة «شوال ، وذي القعدة ، وذي الحجة» والاتيان بأعمالها ، وهو الاحرام من الميقات بالعمرة إلى الحج ثم يدخل مكة فيطوف بالبيت سبعة أشواط ، ثم يصلي ركعتي الطواف في مقام إبراهيم ، ثم يسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط ، ثم يقُصّر ، بأن يقلم شيئاً من أظفاره ، أو يأخذ شيئاً من شعره فيحلّ له حينئذٍ جميع ما حرّم عليه بالاحرام .
ثم ينشيء بعد ذلك إحراماً للحج من مكة يوم التروية والاتيان بأعماله من الوقوف بعرفات والافاضة إلى المشعر الحرام.. الخ .
ويصحّ هذا النوع من الحج ممن كان آفاقياً ، أي من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام بحيث يبتعد بيته عن مكة بمقدار يجوز فيه تقصير الصلاة، والمسافة هي عند الاِمامية 48 ميلاً من كل جانب وهي لا تتجاوز عن 16 فرسخاً .
وقد تظافرت الرّوايات المروية عند الفريقين أنّ متعة الحج ورد ذكرها وأحكامها في القرآن ، وهو قوله تعالى : ( فَإذَا أمنْتُم فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ فَمَا استَيسَرَ مِنَ الهَدي فَمَنْ لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ فِي الحَجِ وَسَبعَةٍ إذَا رَجَعْتُم تِلكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَّمْ يَكُنْ أهلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ واتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوَا أنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ)(1).
وتفسير الآية الشريفة : إنّ من ( تَمَتّعَ ) بسبب الاتيان ( بِالعُمْرَةِ ) بما
____________
(1) البقرة 2 : 196 .

( 81 )
يحرم على المحرم ، كالطيب ، والمخيط ، والنساء ومتوجهاً ( إلى الحجِ) (فما استَيْسَرَ مِنَ الهَدْي) أي عليه ما استيسر من الهدي من البدنة أو البقرة أو الشاة ، ثم تبيّن الآية الشريفة حكم من لم يقدر على ذلك ، وهو الصيام عشرة أيام ، وكيفية الصيام هي ( ثَلاثَةِ أيَّامٍ فِي الحَجِ ) متواليات و ( سَبْعَة إذَا رَجَعْتُم ) إلى أوطانكم ( تِلكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ) ، ( ذَلِكَ ) أي التمتع بالعمرة إلى الحج فرض ( لَّمْ يَكُنْ أهلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ ) أي لم يكن من أهل مكة وقراها (واتَّقُوا اللهَ ) فيما أمرتم به ونهيتم عنه في أمر الحج (واعْلَمُوا أنَّ اللهَ شَدِيدَ العِقَابِ ) .
والآية صريحة في جواز التمتّع بمحظورات الاحرام بعد الاتيان بأعمال العمرة وقبل الاحرام للحج ، ولم يدّع أحد أنّ الآية نُسخت بآية أُخرى أو قول أو فعل من قبل النبي الاَكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، بل أنّه صلى الله عليه وآله وسلم أكدها وأمر بها.
فقد روى أهل السير والتاريخ : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج في العام العاشر من الهجرة إلى الحج لخمس ليال بقين من ذي القعدة ، وقالت عائشة : لا يذكُر ولا يذكّر الناسُ إلاّ الحج ، حتى إذا كان بسرف وقد ساق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معه الهدي ، وأشراف من أشراف الناس ، أمر الناس أن يحلّو بعمرة إلاّ من ساق الهدي ـ إلى أن قالت ـ : ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة ، فحلّ كل من كان لا هدي معه ، وحلّ نساؤه بعمرة ، ... لمّا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نساؤه أن يحللن بعمرة قلن : فما يمنعك يا رسول الله أن تحلَّ معنا ؟ فقال : «إني أهديتُ فلا أحلّ حتى أنحر هديي» (1).

____________
(1) السيرة النبوية ، لابن هشام 4 : 248 ـ 249 حجة الوداع .

( 82 )
وتظافرت الروايات حول هذه الواقعة وما أمر به النبي وسنأتي هنا على قسم منها .
1 ـ روى ابن داود أنّ النبي أمر أصحابه أن يجعلوها عمرة يطوفوا ثم يقصِّروا ويُحلّوا إلاّ من كان معهُ الهدي ، فقالوا : أننطلق إلى منى وذكورنا تقطر ! فبلغ ذلك رسول الله فقال : «أني لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديتُ ، ولولا أنّ معي الهدي لاَحللت» (1).
2 ـ عن أبي رجاء قال : «قال عمران بن حصين : نزلت آية المتعة في كتاب الله وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمَّ لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج ، ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى مات..» (2).
متى ظهر النهي عن متعة الحج :
لقد تقدّم من بعض الروايات أنّ بعض المسلمين حين نزل التشريع بمتعة الحج وأمرهم الرسول بذلك ، استغربوا الاَمر وتساءلوا فجاءهم التأكيد على الاَمر من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كما تقدم القول فإنَّ الآية الخاصة بذلك لم تُنسخ حتى وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإكمال الدين وإتمام النعمة .
وهي بذلك أصبحت جزءاً من الدين ، لكنَّ عمر بن الخطاب كان أول من نهى عنها ، وبهذا تواترت الاَخبار ، ومنها :
1 ـ عن ابن عباس قال : «سمعتُ عمر يقول : والله إني لاَنهاكم عن المتعة وإنّها لفي كتاب الله ولقد فعلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني العمرة في
____________
(1) سنن أبي داود 1 : 283 كتاب المناسك ، باب افراد الحج ، ط دار الكتاب العربي .
(2) صحيح مسلم 4 : 48 ـ 49 كتاب الحج ، باب جواز التمتع .

( 83 )
الحج..»(1).
2 ـ عن سعيد بن المسيّب : «إنّ عمر بن الخطاب نهى عن المتعة في أشهر الحج وقال : فعلتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أنهى عنها وذلك أنَّ أحدكم يأتي من أُفق من الآفاق شعثاً نصباً معتمراً في أشهر الحج وإنّما شعثه ونصبه وتلبيتهُ في عمرته ثمَّ يقدم فيطوف بالبيت ويحلُّ ويلبس ويتطيَّب ويقع على أهله إن كانوا معه حتّى إذا كان يوم التروية أهلّ بالحج وخرج إلى منى يلّبي بحجة لاشعث فيها ولا نصب ولا تلبية إلاّ يوماً والحجُ أفضل من العمرة، لو خلّينا بينهم وبين هذا لعانقوهنَّ تحت الآراك..» (2) .
3 ـ روى ابن حزم بسنده قال : قال عمر بن الخطاب : «متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أنهى عنهما وأضرب عليهما ـ ثم قال ـ هذا لغط أيوب ، وفي رواية خالد ، أنا أنهي عنهما وأُعاقب عليهما : متعة النساء ومتعة الحج» (3) .
ولا نريد الاستطراد أكثر من هذا في ذكر الروايات التي أكّدت أنّ عمر ابن الخطاب نهى عن متعة الحج وأنّه كان يعاقب عليها ، وهي جزء من التشريع وسُنّة الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم .
موقف المسلمين من النهي :
وقد عارض المسلمون هذا النهي الصريح ، وإليك الروايات مختصرة :

____________
(1) سنن النسائي 5 : 153 .
(2) جمع الجوامع ، للسيوطي 3 : 32 .
(3) المحلى ، لابن حزم 7 : 107 . الجامع للاحكام ، للقرطبي 2 : 392 .

( 84 )
1 ـ روى مالك عن محمد بن عبدالله : «انّه سمع سعد بن أبي وقاص والضحّاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج ، فقال الضحّاك بن قيس: لا يفعل ذلك إلاّ من جهل أمر الله عزَّ وجل ! فقال سعد : بئس ما قلت يا ابن أخي ! فقال الضحّاك : فإنّ عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك فقال سعد : قد صنعها رسول الله وصنعناها معه» (1).
وللقارىء أن يمعن جيداً في قول الضحّاك : «لا يفعل ذلك إلاّ من جهل أمر الله عزَّ وجلّ»، إذ إن التمتع بالعمرة إلى الحج هي من أوامر الله الصريحة في القرآن الكريم لكنها أصبحت عنده بسبب نهي عمر عنها مخالفة لاَمر الله !! وهذا من أسوأ آثار البدعة في الدين إذ تتحول الشريعة إلى بدعة عند الجهلة .
2 ـ روى الترمذي عن سالم بن عبدالله : «أنّه سمع رجلاً من أهل الشام وهو يسأل عبدالله بن عمر عن التمتع بالعمرة إلى الحج ، فقال عبدالله بن عمر : حلال . فقال الشامي : إن أباك قد نهى عنها !
فقال عبدالله بن عمر : أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أأمرُ أبي نتّبع ، أم أمر رسول الله ؟ فقال الرجل : بل أمر رسول الله . فقال : لقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم »(2).
3 ـ وعن ابن عباس أيضاً أنّه قال لمن كان يعارضه في متعة الحج بأبي
____________
(1) موطأ مالك 1 : 233 كتاب الحج رقم 60 ، طبعة دار الكتاب العربي ـ بيروت . سنن الترمذي: كتاب الحج رقم 823 .
(2) صحيح الترمذي 4 : 38 كتاب الحج باب المتعة بالحج والعمرة .

( 85 )
بكر وعمر : «يوشك ان تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتقولون : قال أبو بكر وعمر»(1).
4 ـ عن الحسن : أنَّ عمر أراد أن ينهى عن متعة الحج ، فقال له أُبيّ بن كعب : «ليس ذلك لك ، قد تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينهنا عن ذلك ، فأضرب عن ذلك عمر..» (2).
لكن هذا الاِضراب كان مؤقتاً ، فقد نهى عنها فيما بعد كما تقدّم من الروايات .
لقد كان ذلك نموذجاً ـ أي النهي عن متعة الحج ـ بارزاً على الانقاص من الدين ، وهو بدعة بلاشك ولا ريب .
ثانياً : إقامة صلاة التراويح جماعة :
من المتفق عليه بين الفقهاء وجود نوافل خاصّة بشهر رمضان المبارك في الشريعة المقدّسة ، فهي سُنّة مؤكدة ، وإنّ أوّل من عمل بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد قال : «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه»(3)..
لكن النقاش في جواز إقامتها جماعة ، هل هي سُنّة أم بدعة ؟
1 ـ سأل زرارة ومحمد بن مسلم والفضيل أبا جعفر الباقر وأبا عبد الله (الصادق) عليهما السلام عن الصلاة في شهر رمضان نافلة بالليل جماعة ، فقالا :
____________
(1) زاد المعاد ، لابن القيّم 1 : 215 .
(2) مجمع الزوائد ، للهيثمي 3 : 246 نقلاً عن أحمد .
(3) صحيح البخاري 3 : 58 باب فضل من قام رمضان رقم 2008 . صحيح مسلم 2 : 176 باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح .

( 86 )
«إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا صلّى العشاء الآخرة انصرف إلى منزله ثم يخرج من آخر الليل إلى المسجد فيقوم فيصلي ، فخرج في أوّل ليلة من شهر رمضان ليصلّي كما كان يصلّي ، فاصطف الناس خلفهُ فهرب منهم الى بيته وتركهم ، ففعلوا ذلك ثلاث ليال فقام صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم الثالث على منبره فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أيُّها الناس إن الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة ، وصلاة الضحى بدعة ، ألا فلا تجتمعوا ليلاً في شهر رمضان لصلاة الليل ولا تصلّوا صلاة الضحى ، فإنّ تلك معصية ، ألا فإن كلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار . ثم نزل صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول : قليل في سُنّة خير من كثير في بدعة» (1).
2 ـ عن عبيد بن زرارة عن الاِمام الصادق عليه السلام قال : «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزيد في صلاته في شهر رمضان إذا صلّى العتمة صلّى بعدها ، يقوم الناس خلفهُ فيدخل ويدعهم ، ثم يخرج أيضاً فيجيئون ويقومون خلفه فيدخل ويدعهم مراراً» (2).
3 ـ روى البخاري قال : «حدثني يحيى بن بكير : حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب : أخبرني عروة : أنَّ عائشة أخبرته أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج ليلة في جوف الليل فصلّى في المسجد ، وصلّى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا ، فاجتمع أكثر منهم ، فصلّى فصلّوا معه ، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة . فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلّى فصلَّوا بصلاته ، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح ، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم
____________
(1) الفقيه ، للصدوق 2 : 87 | 1 باب 45 الصلاة في شهر رمضان .
(2) تهذيب الاحكام ، للطوسي 3 : 61 | 208 باب فضل شهر رمضان والصلاة فيه .

( 87 )
قال : أما بعد فإنّه لم يخف عليّ مكانكم ولكني خشيتُ أن تفترض عليكم فتعجزوا عنها ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والاَمر على ذلك» (1).
4 ـ وجاء في كنز العمال : «سُئل عمر عن الصلاة في المسجد فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «الفريضة في المسجد ، والتطوّع في البيت» (2).
5 ـ وجاء في المغني لابن قدامة : «وقال مالك والشافعي : قيام رمضان لمن قوي في البيت أحب الينا لما روى زيد بن ثابت قال : احتجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجيرة بخصفة أو حصير ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها فتتبع إليه رجال وجاؤوا يُصلّون بصلاته ، قال : ثم جاؤوا ليلة فحضروا ، وأبطأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهم ، فلم يخرج إليهم ، فرفعوا أصواتهم ، وحصبوا الباب ، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مغضباً فقال : «ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنّه سيكتب عليكم ، فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإنَّ خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة» (3).
ومن خلال التأمل في الروايات المتقدمة تراها أجمعت على النهي عن أداء صلاة التراويح جماعة ، غاية الاَمر أنَّ بعض الروايات أرجعت النهي إلى أسباب خشية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن «تكتب عليهم» أي أنْ تفرض عليهم فتكون جزءاً من التشريع بتلك الكيفية .
وأرجعت روايات أُخرى أمر النهي إلى أنَّ إقامتها جماعة «بدعة» بنص
____________
(1) أي على ترك الجماعة في صلاة التراويح ، صحيح البخاري 3 : 58 باب فضل من قام رمضان، ونحوه 2 : 63 باب التهجد بالليل . صحيح مسلم 6 : 41 .
(2) كنز العمّال ، لعلاء الدين الهندي 8 : 384 | 23363 .
(3) المغني ، لموفق الدين بن قدامة 1 : 800 .

( 88 )
قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رواية زرارة ومحمد بن مسلم والفضيل ، وأنَّ إقامتها منفردة في البيت أفضل من إقامتها في المسجد ، وذهب إلى ذلك أيضاً مالك والشافعي كما في رواية المغني التي تقدّمت .
واتفقت أغلب الروايات على أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توفي والتراويح تقام فرادى وليس جماعة.. فمن الذي فرضها جماعة في المسجد ؟ هذا ما سنتعرف عليه في ما يأتي :
أوّل من أمر بإقامة التراويح جماعة :
أجمعت الروايات على أنَّ عمر بن الخطاب كان أول من أمر بإقامة صلاة التراويح جماعة ، ومنع الناس من أدائها منفردة .
1 ـ عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير ، عن عبدالرحمن بن عبد القاري أنّه قال : «خرجتُ مع عمر بن الخطاب ليلةً في رمضان الى المسجد ، فإذا الناس أوزاع متفرقون ، يصلي الرجل لنفسه ، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط ، فقال عمر : إني أرى لوجمعت هؤلاء على قاريء واحد لكان أمثل .
ثم عزم فجمعهم على أُبي بن كعب ، ثم خرجتُ معه ليلةً أُخرى ، والناس يصلّون بصلاة قارئهم ، قال عمر : نِعمَ البدعةُ هذهِ ، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون ! يريد آخر الليل ، وكان الناس يقومون أوّله»(1) .
2 ـ عن أُبي بن كعب : «أن عمر بن الخطاب أمره أن يصلّي بالليل في
____________
(1) صحيح البخاري 3 : 58 . وموطأ مالك : 73 .

( 89 )
رمضان ، فقال : إنَّ الناس يصومون النهار ، ولا يحسنون أن يقرأوا ، فلو قرأت عليهم بالليل ، فقال : يا أمير المؤمنين هذا شيء لم يكن ! فقال : قد علمتُ ، ولكنه حسن ، فصلّى بهم عشرين ركعة» (1).
3 ـ روى البخاري : «توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والناسُ على ذلك (يعني انهم يصلّون التراويح فرادى) ثم كان الاَمر على ذلك في خلافة أبي بكر ، وصدراً من خلافة عمر» (2).
4 ـ قال ابن سعد في ترجمة عمر : «هو أول من سنَّ قيام شهر رمضان بالتراويح وجمع الناس على ذلك ، وكتب به إلى البلدان ، وذلك في شهر رمضان سنة أربع عشرة» (3).
5 ـ وقال ابن عبدالبر في ترجمة عمر : «وهو الذي نوّر شهر الصوم بصلاة الاشفاع فيه» (4).
6 ـ وقال أبو الوليد محمد بن الشحنة عند ذكر وفاة عمر في حوادث سنة 23 هـ : «هو أول من نهى عن بيع أُمهات الاَولاد.. وأوّل من جمع الناس على إمام يصلّي بهم التراويح» (5).
وأخيراً فإنَّ قول عمر حين رأى الناس يصلّون بصلاة قارىء واحد كما تقدم في رواية عبدالرحمن بن عبد القاري : «نعمت البدعة هذه» دليلٌ
____________
(1) كنز العمّال ، لعلاء الدين الهندي 8 : 409 | 23471 .
(2) صحيح البخاري 3 : 58 باب فضل من قام رمضان | 2010 .
(3) الطبقات الكبرى ، لابن سعد 3 : 281 .
(4) الاستيعاب 3 : 1145 رقم 1878 .
(5) روضة المناظر كما في النص والاجتهاد ، للسيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي : 250 .

( 90 )
ليس بعده دليل على أنّها سنّة ابتدعها عمر لم تكن موجودة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا في عهد أبي بكر .
موقف المسلمين من بدعة الجماعة في التراويح :
لا نريد هنا أن نستقصي مواقف الصحابة الاُول وغيرهم من أمر عمر بإقامة التراويح جماعة ، بل نحاول أن نتعرض بإيجاز لهذه المواقف لتساعد القاريء على تكوين صورة واضحة عن طبيعة الموقف تجاهها في العصور الاولى :
1 ـ عن أبي أُمامة الباهلي رضي الله عنه أنّه قال : «أحدثتم قيام شهر رمضان ، ولم يُكتب عليكم ، إنما كُتب عليكم الصيام»(1).
وفي ذلك دلالة واضحة وصريحة على الاعتراض على الجماعة في صلاة التراويح .
2 ـ عن نافع مولى عبدالله بن عمر : «أنّ ابن عمر كان لا يصلّي خلف الامام في شهر رمضان» (2).
3 ـ وقد نهى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في خلافته الناس عن أداء صلاة التراويح جماعة لاَنها بدعة ، فقد روي أنّه : «لما اجتمع الناس على أمير المؤمنين عليه السلام بالكوفة سألوه أن ينصب لهم إماماً يصلّي بهم نافلة شهر رمضان ، فزجرهم ، وعرّفهم أنَّ ذلك خلاف السُنّة ، فتركوه واجتمعوا، وقدَّموا بعضهم ، فبعث إليهم الحسن عليه السلام ، فدخل عليهم
____________
(1) الاعتصام ، للشاطبي 1 : 291 .
(2) نصب الراية ، للزيلعي 2 : 154 .

( 91 )
المسجد ومعهُ الدّرة ، فلما رأوه تبادروا الاَبواب وصاحوا : واعمراه» (1).
وفي رواية أخرى عن الاِمام الصادق عليه السلام أنه قال : «لما قدم أمير المؤمنين عليه السلام الكوفة أمر الحسن بن علي أن ينادي في الناس : لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة ، فنادى في الناس الحسن بن علي بما أمره به أمير المؤمنين ، فلّما سمع الناس مقالة الحسن بن علي عليه السلام صاحوا : واعمراه ، واعمراه ! فلّما رجع الحسن إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال له : ماهذا الصوت ؟ ـ قال ـ : يا أمير المؤمنين ، الناسُ يصيحون : واعمراه ، واعمراه ـ فقال أمير المؤمنين عليه السلام ـ : قل لهم : صلّوا»(2).
فهل في قوله عليه السلام : «قُلْ لهم صلّوا» إقرار على الجماعة في التراويح ، أم أن هناك أسباباً أُخرى؟ هذا ما يكشف عنه النص الآتي المروي عنه عليه السلام : «قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متعمدين لخلافه ، ناقضين لعهده مغيرين لسنته ، ولو حملتُ الناس على تركها... إذاً لتفرقوا عني والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة ، وأعلمتهم أنَّ اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي : يا أهل الاسلام غُيّرت سنة عمر ! ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعاً ، ولقد خفتُ أن يثوروا في ناحيةً جانب عسكري..» (3).
وحسب القاريء اللبيب أن يرى أنّ أمير المؤمنين علياً عليه السلام يصف الاجتماع في شهر رمضان على غير الفريضة بأنّه «بدعة» .

____________
(1) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 12 : 283 .
(2) التهذيب ، للطوسي 3 : 70 | 227 .
(3) الكافي ، للكليني 8 : 51 ـ 52 .

( 92 )
ويرى القاريء الكريم في قول أمير المؤمنين علي عليه السلام ما يكفي لوصف الحال حين نهاهم عن «البدعة» حتى أنّه عليه السلام خاف ان يثوروا في جانب عسكره ، فالى أي مدى كانت هذه البدعة قد استشرت في النفوس واتسعت في الممارسة حتى عدّ الجهلاء النهي عنها منعاً للسُنّة ؟
ثالثاً : صلاة الضُحى :
مع أنَّ صلاة الضحى قد ورد لها ذكر كثير في كتب الفقه والحديث عند أهل السُنّة فإنّها مجهولة متروكة عند الكثير منهم .
وسنحاول في هذا المختصر أن نلقي نظرة سريعة حول ما يتعلق بها من أُمور .
ما هو حكمها : يرى الحنابلة والحنفيّة والشافعية أنَّ صلاة الضُحى سُنّة وترى المالكية أنّها مندوبة (1)تستحب المداومة عليها .
ورأى بعض علمائهم أنّها بدعة (2).
وقتها : وقتها من ارتفاع الشمس قدر رمح إلى زوالها ، والاَفضل عندهم أن يبدأها بعد ربع النهار، وجاء في وقتها قولهم : «وأفضل وقتها إذا علت الشمس واشتدّ حرّها ويمتّد وقتها إلى زوال الشمس ، وأوله حين تبيّض الشمس»(3).

____________
(1) الفرق بين ما هو سُنّة وبين ما هو مندوب : هو إنَّ السُنّة ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين ، والمندوب هو ما أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يواظب عليه .
اُنظر الفقه على المذاهب الخمسة ، للشيخ محمد جواد مغنيه : 78 .
(2) الشرح الكبير على المغني ، لابن قدامة المقدسي 1 : 775 . والفقه على المذاهب الاربعة ، لعبدالرحمن الجزيري 1 : 332 . وفقه السُنّه 1 : 185 . وزاد المعاد ، لابن قيّم الجوزية 1 : 116 ـ 119 . ونيل الاوطار ، للشوكاني 3 : 62 .
(3) المصدر السابق .

( 93 )
عدد ركعاتها : اختلفوا في تحديد عدد ركعاتها ، فقالت الحنفية : أكثرها ستّ عشرة ، وذهب بعض الشافعية والطبري إلى أنّه لا حدَّ لاَكثرها . وقال آخرون أقلها ركعتان وأكثرها ثمانية ، وقيل اثنتا عشرة ركعة .
وقالوا بأنّه «يكره أن يصلّى في نفل النهار زيادة على أربع ركعات بتسليمة واحدة» (1).
ما ورد فيها من الاَثر عندهم :
يمكن تصنيف ما ورد في صلاة الضحى من أحاديث إلى ثلاثة أصناف: أحاديث مجملة ، وأُخرى ضعيفة أو موضوعة ، وأُخر معارضة ، فلنقف على نماذج من هذه الاصناف الثلاثة :
1 ـ الاَحاديث المجملة :
أ ـ عن نعيم بن همّاز ، قال : «سمعتُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : قال الله عزَّ وجل : يا ابن آدم لا تعجزني من أربع ركعات في أوّل نهارك أكفك آخره»(2).
وبالتأمّل البسيط في هذه الرواية يتّضح أنّه ليس فيه دلالة خاصة على أنّ المقصود من الركعات الاَربع هو صلاة الضحى ، واحتمل بعضهم أنّ المقصود من الاَربع هو فريضة الفجر ونافلتها كما اختار ذلك ابن القيم وابن تيميّة (3)، واحتمله الشوكاني والعراقي (4).
ب ـ قال أبو هريرة : «أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهنَّ حتى أموت :
____________
(1) المصدر السابق .
(2) التاج الجامع للاُصول 1 : 321 .
(3) زاد المعاد 1 : 260 .
(4) نيل الاوطار 3 : 64 .

( 94 )
صوم ثلاثة أيام من كلِّ شهر ، وصلاة الضحى ، ونوم على وتر» (1).
ونكتفي في التعليق على هذا الحديث بما قاله ابن القيّم : «وأما أحاديث الترغيب فيها والوصية بها فالصحيح منها ، كحديث أبي هريرة وأبي ذر ، لايدّل على أنّها سُنّة راتبة لكلِّ أحد ، وإنّما أوصى أبا هريرة بذلك ، لاَنّه قد روي أنّ أبا هريرة كان يختار درس الحديث بالليل على الصلاة فأمره بالضحى بدلاً من قيام الليل ، ولهذا أمره ألاّ ينام حتى يوتر ، ولم يأمر بذلك أبا بكر وعمر وسائر الصحابة» (2).
جـ ـ عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة قال : «دخلت على عمر بن الخطاب بالهاجرة فوجدته يسبح فقمت وراءه فقرّبني حتى جعلني حذاءه عن يمينه فلما جاء يرفأ تأخرتُ فصففنا وراءه» (3).
والهاجرة لغة «بمعنى نصف النهار عند زوال الشمس إلى العصر» (4) على المشهور فسبحة الهاجرة إذاً تنطبق على نافلة الظهر هذا من جهة ، ومن جهة أُخرى فإنّ عمل عمر مجهول العنوان فما يدرينا بأنه كان يصلي الضُحى ؟ سيّما وأنّ ابنه عبدالله يشهد بأنّه لم يكن يصلّيها كما سيأتي .
د ـ عن أبي هريرة قال : «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي الضُحى قط إلاّ مرّة» (5)8 .

____________
(1) صحيح البخاري 2 : 73 طبعة مؤسّسة التاريخ العربي ـ بيروت .
(2) زاد المعاد 1 : 268 .
(3) موطأ مالك 1 : 112 .
يرفأ : اسم خادم عمر .
(4) لسان العرب ، مادة هجر .
(5) مسند أحمد 2 : 446 .

( 95 )
والرواية مجملة أيضاً في الدلالة على خصوص صلاة الضحى ، لاحتمال أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلّى في ذلك الوقت لحاجة أو غيرها وخفي على أبي هريرة أمرها .
هـ ـ عن أنس أنّه قال : «رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر صلّى سبحة الضحى ثماني ركعات، فلّما انصرف قال صلى الله عليه وآله وسلم : «إنّي صليت صلاة رهبة ورغبة ، سألتُ ربي ثلاثاً فأعطاني اثنين ومنعني واحدة . سألته أن لا يبتلي أُمتي بالسنين ففعل . وسألته ألاّ يظهر عليهم عدوهم ففعل ، وسألته ألا يلبسهم شيعاً فأبى عليَّ » (1).
والحديث كما ترى مجمل لا خصوصية له في الدلالة على صلاة الضحى الراتبة ، كما أنّه يتناقض مع الواقع التاريخي الذي مرّت به الاُمّة الاِسلامية، فقد أصيبت بالسنين وتسلط عليها عدوها سنين طوال وما زالت كذلك وهذا يدفعنا إلى الاطمئنان إلى أنّ الرواية موضوعة مختلقة .
2 ـ الاَحاديث الضعيفة والموضوعة :
قال ابن قيّم الجوزيّة عن أحاديث صلاة الضُحى : « وبعضها موضوع لايحلّ الاحتجاج به» (2)، ثم ذكر عدّة أحاديث صرّح علماء الرجال بأنّ رواتها وضّاعين كذبة ، منها :
أ ـ ما روي عن أنس مرفوعاً : «من داوم على صلاة الضحى ولم يقطعها إلاّ عن علّة كنت أنا وهو في زورق من نور في بحر نور» وضعه زكريا بن دريد الكندي عن حميد .

____________
(1) فقه السُنّة 1 : 185 .
(2) زاد المعاد 1 : 266 .

( 96 )
ب ـ عن يعلى بن أشدق عن عبدالله بن جراد : عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : «من صلّى منكم صلاة الضحى فليصلّها متعبداً ، فإنّ الرجل ليصلّيها السنة من الدهر ثم ينساها ويدعها فتحنُ إليه كما تحنُّ الناقة على ولدها إذا فقدته».
وفي يعلى بن الاشدق ، راوي هذا الحديث ، قال ابن عدي : روى يعلى بن الاشدق عن عمه عبدالله بن جراد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث كثيرة منكرة، وهو وعمّه غير معروفين .
وقال أبو حاتم : «لقي يعلى عبدالله بن جراد ، فلّما كَبُر اجتمع عليه من لادين له ، فوضعوا له شبَهاً بمائتي حديث فجعل يحدّث بها ولا يدري ! لا تحلّ الرواية عنه بحال (1) .
3 ـ الاحاديث النافية لمشروعية صلاة الضحى :
هناك طائفة من الاحاديث التي نفت مشروعية هذه الصلاة ، فهي على خلاف الروايات المثبتة لصلاة الضحى ، قوية في سندها ودلالتها ، وقد رجحها جملة من علماء أهل السُنّة على غيرها ، كما صرّح بذلك ابن القيم، حيثُ قال : «وطائفة ثانية ذهبت إلى أحاديث الترك ورجّحتها من جهة صحة إسنادها وعمل الصحابة بموجبها» (2)، منها :
أ ـ ما رواه البخاري بسنده عن مورّق قال : «قلتُ لابن عمر : أتصلي الضحى ؟ قال : لا . قلت : فعمر ؟ قال : لا . قلت : فأبو بكر ؟ قال : لا . قلتُ: فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال : لا أخاله» (3).

____________
(1) راجع حول الاحاديث الموضوعة ورواتها ، زاد المعاد 1 : 266 ـ 267 .
(2) زاد المعاد 1 : 264 .
(3) صحيح البخاري 2 : 73 طبعة مؤسّسة التاريخ العربي ـ بيروت .

( 97 )
ب ـ ما رواه البخاري بسنده عن عائشة ، قالت : «ما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبّح سبحة الضحى ، وإنّي لاَسبّحها» (1).
قال أبو الحسن علي بن بطال : فأخذ قوم من السلف بحديث عائشة ولم يروا صلاة الضحى ، وقال قوم : «إنها بدعة» (2)، أما قول عائشة بأني أُسبّحها بعد قولها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبّح سبحة الضحى» فلا قيمة له في مجال الدليل الشرعي .
جـ ـ وما رواه البخاري أيضاً بسنده عن عبدالرحمن بن أبي ليلى إنّه قال: «ما حدّثنا أحدٌّ أنّه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي الضحى ، غير أم هانيء ، فإنّها قالت: إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلّى ثماني ركعات فلم أرَ صلاة قطّ أخف منها غير أنّه يتم الركوع والسجود» (3).
وهذا الحديث ينفي ما تقدمّ من أحاديث رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الضحى ، أما رواية أم هاني فهي كما ترى لا دلالة صريحة فيها على أنّ الصلاة التي صلاّها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بثمان ركعات هي صلاة الضحى ، بل يُحتمل أنّها صلاة شكر لله تعالى على ما منَّ على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالفتح المبين .
د ـ ما رواه أحمد بن حنبل بسنده عن عبدالرحمن بن أبي بكرة ، قال : «رأى أبو بكرة ناساً يصلّون الضحى فقال : إنّهم ليصلون صلاة ما صلاّها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا عامّة أصحابه رضي الله عنهم» (4).

____________
(1) صحيح البخاري 2 : 73 . ومسند أحمد 6 : 209 .
(2) زاد المعاد 1 : 264 .
(3) صحيح البخاري 2 : 73 .
(4) مسند أحمد 5 : 45 .

( 98 )
هـ ـ روى البخاري بسنده عن مجاهد ، قال : « دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فاذا عبدالله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة وإذا أُناس يصلون في المسجد صلاة الضحى ، قال : فسألناه عن صلاتهم ؟ فقال : بدعة» (1).
ما تقدم كان دراسة مختصرة عن صلاة الضحى استقينا رواياتها من طرق أهل السُنّة وتبيّن أنّها ليست إلاّ بدعة .
أما موقف الامامية الاثنى عشرية فهي عند فقهاءهم بدعة لا يجوز فعلها . وقد أجمعوا على هذا الرأي كما صرّح بذلك الشريف المرتضى في رسائله (2)، والشيخ الطوسي في الخلاف (3)، والعلاّمة الحلي في المنتهى(4)، والعلاّمة المجلسي في البحار (5)، والمحدّث البحراني في الحدائق الناضرة (6).
وقد وردت الاَخبار عن طرق أهل البيت عليهم السلام نافية لمشروعية صلاة الضُحى ، كما ورد عن الاِمام الباقر عليه السلام أنّه قال لرجل من الاَنصار سأله عن صلاة الضحى فقال عليه السلام: «أول من ابتدعها قومك الاَنصار سمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة في مسجدي تعدل ألف صلاة ، فكانوا يأتون من ضياعهم ضحى فيدخلون المسجد فيصلّون ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنهاهم عنه» (7) .

____________
(1) صحيح البخاري 3 : 3 باب العمرة .
(2) رسائل الشريف المرتضى 1 : 221 .
(3) الخلاف ، موسوعة الينابيع الفقهية 28 : 220 .
(4) بحار الانوار 80 : 158 .
(5) المصدر السابق : 155 .
(6) الحدائق الناضرة 6 : 77 .
(7) المواسم والمراسم، لجعفر مرتضى العاملي : 53 عن كتاب السنن والمبتدعات : 138 ـ 139.

( 99 )
نماذج أُخرى من البدع :
ثمّة نماذج أُخرى من البدع ، اشتهرت ورَسخت حتى حلّت محلّ السُنن ، نذكرها استطراداً دون تفصيل بعد ان قدمنا تلك النماذج المفصلة، ومن هذه البدع :
1 ـ غسل الرجلين في الوضوء ، بدلاً من مسحهما الذي جاء به القرآن والسُنّة ، وقد جاء في حديث أنس بن مالك ، أنّه قد خطب الحجاج ابن يوسف الثقفي فقال : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ، وأنّه ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى الخبث من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما . فقال أنس : صدق الله ، وكذب الحجاج ! قال الله : ( وَامسَحُوا بِرُؤُسِكُم وَأرجُلَكُم ) (1).
2 ـ الاَذان الثالث يوم الجمعة ، وقد اتفقوا على أنه قد شرعه عثمان، ولم يكن قبله (2).
3 ـ ذكر أسماء الخلفاء في خطبة صلاة الجمعة .

____________
(1) الدر المنثور 3 : 28 ـ 29 عن : سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير .
(2) صحيح البخاري 2 : 10 باب الاَذان يوم الجمعة .

( 100 )

أعمال نُسبت إلى البدعة
وليست كذلك

إنّ من مساحات الاختلاف الفقهي بين المسلمين ؛ ما يعدّ عند بعضهم مشروعاً ، بل مندوباً ، فيما يراه الآخر عملاً مبتدعاً ينبغي محاربته.. ولقد أثار هذا النوع من الخلاف جدلاً كبيراً وصراعاً طائفياً متجدداً ، لا سيّما مع طائفة من الاَعمال التي تغلغلت في قلوب أصحابها حتى مازجت معتقداتهم ، فتجاوزت إطارها الفقهي لتأخذ بُعداً عقيدياً لدى مشرعيها ولدى مخالفيها على حدٍ سواء ، بخلاف تلك النماذج التي سبق الحديث عنها ، كمتعة الحج ، وصلاة التراويح ، وصلاة الضُحى .
ومن أمثلة هذا النوع من الاَعمال :

أولاً : الاحتفال بالمولد النبوي والمناسبات الاِسلامية :

لا ريب أنّ الاحتفال بمولد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفق الضوابط والاَصول الشرعية يُعبّر عن الحبّ والولاء والمتابعة للرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم وهو بالتالي تعظيم للرسالة الاِسلامية الغرّاء .
ولقد تقدم القول في أنّ الملاك في نسبة الشيء إلى البدعة : هو كونها إضافة ما ليس من الدين إلى الدين أو إنقاص مما هو فيه ، وقد تقدم أيضاً مصاديق ذلك في الاَمثلة المتقدمة .
وإنّ فِعْلَ ما لم يكن في عهد الرسول يصحُّ أن يكون ابتداعاً بالمعنى
( 101 )
اللغوي الذي يعني الاِتيان بشيء ليس على مثالٍ سابق ، طالما لم يتعارض هذا الشيء مع التشريع .
وذكرنا أيضاً أنَّ عدم وجود الدليل الخاص على أمرٍ ما لا يعني أنّه يدخل ضمن دائرة الابتداع ما دام في الدليل العام مجال لشموله بمفرداته.
والمسلمون يعلمون جميعاً أنَّ هناك أدلة كثيرة أكدت على ضرورة احترام النبي الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتبجيله وتوقيره ، حيّاً وميتّاً ، وقد ورد الشيء نفسه في حق أهل البيت عليهم السلام .
وإذا كان الاَوّلون يعبّرون عن حبهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته فإنّ للآخرين أن يعبروا عن هذا الحب أيضاً بالطريقة المناسبة بحيث لا تتعارض مع التشريع .
من هنا نجد مدى النكارة في ما قاله محمد بن عبدالسلام الشقيري : «بدعة منكرة ضلالة ، لم يرد بها شرعٌ ولا عقل ، ولو كان في هذا اليوم خيرٌ كيف يغفل عنه أبو بكر ، وعمر وعثمان ، وعلي وسائر الصحابة ، والتابعون وتابعيهم والاَئمة وأتباعهم» (1).
وحسبه تعصباً وجهلاً أن يقول : «لم يرد بها شرع» وكأنَّ أحداً من الناس قال إنّها ـ أي الاحتفالات بهذا الشكل الخاص المعمول به الآن ـ جزءٌ من الشريعة حتى يأتي هو لينفي كونها منه .

____________
(1) المواسم والمراسم ، لجعفر مرتضى العاملي : 53 ، عن منهاج الفرقة الناجية ، عن كتاب السنن والمبتدعات : 138 ـ 139 .

( 102 )
والغريب أنَّ بعض الذين عدّوا الاحتفال بمولده صلى الله عليه وآله وسلم بدعة ، إنّما فعلوا ذلك لاَنّ الاحتفال ترافقه بعض الاَعمال المُبتدعة ، من قبيل قول (ابن الحاج) : « ومن جملة ما أحدثوه من البدع مع اعتقادهم أنَّ ذلك من أكبر العبادات ، وإظهار الشعائر ، ما يفعلونه في شهر ربيع الاَول في يوم المولد، وقد احتوى على بدع ومحرّمات جمة» (1).
ومع أننا نستنكر كل عمل محرم يأتي به أحد في هذه الاحتفالات فإنَّ الاقتران بين الاَفعال المحرمة وبين الاحتفال بمولده صلى الله عليه وآله وسلم لا يلغي أصل العمل ، ولا يؤدي إلى تحريمه بالضرورة ، إذ إنَّ القول بذلك يستلزم بطلان الكثير من أُصول العبادات المسلّمة فيما لو اقترنت بفعل محرم.. مع أنَّ الصحيح أنْ يقال إنَّ الفعل الفلاني محرّم لا يجوز الاتيان به ، بل يلزم المعاقبة عليه مع القدرة ، لا أن يلغي أصل العمل .
إنّ حبَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصل من أصول الاسلام ليس لاَحدٍ إنكاره ، ولهذا فمن حق المسلم المؤمن أن يُعبّر عن حبه للرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم بأي صورة كانت شريطة أنْ لا تتعارض مع الشريعة .
ولا شك أنَّ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف يمثل صورة من صور التكريم والتعظيم والاحترام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتدارس فيه الناس سيرته العطرة ويستخلصون الدروس العظيمة والنافعة .
وإلى جانب أهمية وضرورة حبّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد وفاته وتجسيد ذلك الحب في السلوك والعمل من خلال الالتزام بالتعاليم الاِسلامية ، فقد أكّد الرسول الاَكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم على حب أهل بيته عليهم السلام
____________
(1) المدخل ، لابن الحاج 2 : 2 .

( 103 )
وعدّ حبهم حبّاً له هو صلى الله عليه وآله وسلم .
فقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : «أُذكركم الله في أهل بيتي» وكررها ثلاث مرات (1) .
وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : «وأحبوني بحب الله ، وأحبوا أهل بيتي لحبي» (2).
واستقصاء أحاديثه صلى الله عليه وآله وسلم في دفع الاُمّة إلى الالتزام بحب أهل بيته عليهم السلام وتوقيرهم وتعظيمهم خارج عن طاقة هذا البحث .
إنّ المحصّل مما تقدم يوضح لنا أنّ التعبير عن الحب والتعظيم للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام ليس أمراً ممنوعاً ، بل هو مرغوب فيه .
وقد أيد ذلك بعض علماء السُنّة وعدّوا الاحتفال بيوم مولده صلى الله عليه وآله وسلم عملاً حسناً أو «بدعة حسنة» بمعناها اللغوي ، نظير ما قاله ابن حجر «عمل المولد بدعة ، لم تُنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ، ولكنَّها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدّها ، فمن تحرّى في عملها المحاسن ، وتجنَّب ضدها كان بدعةً حسنةً ، وإلاّ فلا» (3).
وقول أبي شامة : « ومن أحسن ما ابتُدع في زماننا ما يُفعل كل عامٍ في اليوم الموافق ليوم مولده صلى الله عليه وآله وسلم ، من الصدقات ، والمعروف ، وإظهار
____________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 15 : 180 من كتاب (فضائل الصحابة) باب فضائل علي بن أبي طالب 4 : 1873 .
(2) سنن الترمذي : 622 | 3789 تحقيق أحمد محمد شاكر .
(3) المواسم والمراسم ، لجعفر مرتضى العاملي : 62 عن رسالة المقصد المطبوعة مع (النعمة الكبرى على العالم) و (التوسل بالنبي وجهلة الوهابيين : 114) .

( 104 )
الزينة، والسرور ، فإنَّ ذلك مع ما فيه من الاحسان للفقراء مشعر بمحبته صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيمه في قلب فاعل ذلك ، وشكر الله على ما منَّ به من إيجاد رسوله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أرسلهُ رحمة للعالمين» (1).
وقول السيوطي : «عندي أنّ أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس، وقراءة ما تيسّر من القرآن ورواية الاَخبار الواردة في مبدأ أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وما وقع في مولده من الآيات ، ثم يمدّ لهم سماط فيأكلون وينصرفون من غير زيادة على ذلك ، هو من البدع الحسنة التي يُثاب عليها صاحبها ، لما فيه من تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف..»(2).
وقال ابن تيميّة : «قال المروزي : سألتُ أبا عبدالله عن القوم يبيتون ، فيقرأ قاريء ، ويدعون حتى يصبحوا ؟ قال : أرجو أن لا يكون به بأس.. وقال أبو السري الحربي : قال أبو عبدالله : وأي شيء أحسن من أن يجتمع الناس يصلّون ويذكرون ما أنعم الله عليهم كما قالت الاَنصار» ؟ وأضاف «وهذا إشارة إلى ما رواه أحمد : حدثنا اسماعيل ، أنبأنا أيوب عن محمد ابن سيرين قال : نبئت أنّ الاَنصار قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة قالوا : لو نظرنا يوماً فاجتمعنا فيه ، فذكرنا هذا الاَمر الذي أنعم الله به علينا ، فقالوا : يوم السبت ، ثم قالوا : لا نجامع اليهود في يومهم ، قالوا : فيوم الاَحد ، قالوا: لا نجامع النصارى في يومهم ، قالوا : فيوم العروبة ، وكانوا يسمّون الجمعة بيوم العروبة ، فاجتمعوا في بيت أبي أُمامة أسعد بن
____________
(1) المصدر السابق : 63 عن السيرة الحلبية 1 : 83 ـ 84 .
(2) كي لا نمضي بعيداً عن احتياجات العصر ، لسعيد حوّى . السيرة بلغة الحب والشعر : 42 .

( 105 )
زرارة، فذبحت لهم شاة فكفتهم» (1).
إنّ أتباع أهل البيت عليهم السلام وعامة المسلمين يحتفلون بمولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبمواليد الاَئمة الطاهرين من ذريته وبالمناسبات والذكريات الاسلامية العظيمة ، ولا يتجاوزون في احتفالاتهم قراءة القرآن وسيرة الرسول وأهل بيته الطاهرين والدروس العظيمة والعبر من الذكريات الاسلامية .
وغريب جداً أن يعتبر أحد من الناس الاجتماع لتلاوة حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو إنشاء القصائد في مدحة بدعة بمعناها الاصطلاحي ، وأمامهم عشرات الاَمثلة من إنشاد الشعراء بحضرة الرسول شعراً في مدحه فما منعهم عن ذلك ، فما المانع أن ينشد الشعر في يوم مولده مدحاً له وإشادة برسالته العظيمة ؟
فهذا كعب بن زهير يُنشد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو بحضرته :

مهلاً هداك الذي أعطاك نا * فلة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل
إنَّ الرسول لنور يستضاء به * مهنّد من سيوف الله مسلول (2)

أو قول حسان بن ثابت في رثاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم :

يدلُّ على الرحمن من يقتدي به * ويُنقذ من هول الخزايا ويُرشد
إمام لهم يهديهم الحقَّ جاهداً * معلّم صدقٍ إن يطيعوه يُسْعدوا (3)

ولا نريد هنا الاستقصاء.. لكن هنا لا بدَّ من التنبيه إلى أنَّ هذين
____________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم ، لابن تيمية : 304 .
(2) السيرة النبوية ، لابن هشام 4 : 154 ـ 155 .
(3) المصدر السابق 4 : 318 .

( 106 )
الشاعرين وغيرهم من الشعراء أنشدوا شعرهم في اجتماع من الناس ولم ينشدوه بينهم وبين أنفسهم.. لكن أحداً لم يقل لهم إنّ إنشادكم في اجتماع الناس بدعة !

ثانياً : شدّ الرحال لزيارة قبر النبي والاَئمة والصالحين :

اتفق علماء المسلمين على جواز زيارة القبور عامةً وقبور الاَنبياء والاَولياء والصالحين خاصّة ، إلاّ ما نُسب إلى ابن سيرين والنخعي والشعبي ، على أنّ النسبة غير ثابتة .
وقد زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبر أُمّه فبكى وأبكى من حوله وقال: «... استأذنته في أن أزور قبرها فأُذِن لي فزوروا القبور فإنّها تُذكِّر الموت»(1).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «من زار قبري وجبت له شفاعتي» (2).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً : «من حجَّ فزار قبري بعد وفاتي ، كان كمن زارني في حياتي» (3) . وقد وردت عنه صلى الله عليه وآله وسلم عشرات الاَحاديث في هذا المضمار من طرق الفريقين .
ويشكك ابن تيمية في مندوبية زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ويذهب في «منهاج السُنّة» وغيره إلى أن ماورد في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضعيف بل موضوع .
إلاّ أن المقدسي يذكر أنَّ ابن تيمية كان معتقداً بزيارة النبي الاَكرم ،
____________
(1) صحيح مسلم 3 : 65 باب استئذان النبي ربّه في زيارة قبر أُمّه .
(2) الغدير ، للاميني 5 : 93 عن أكثر من أربعين راوياً من أئمة المذاهب الاَربعة .
(3) المصدر السابق 5 : 98 ـ 100 عن خمسة وعشرين محدّثاً .

( 107 )
ونقل عنه قوله : إذا أشرف على مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الحج أو بعده فليقل ماتقدم ، فاذا دخل استحب له أن يغتسل ، نصّ عليه الامام أحمد ، فإذا دخل المسجد بدأ برجله اليمنى ، وقال : بسم الله والصلاة على رسول الله، اللهم أغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك ، ثم يأتي الروضة بين القبر والمنبر فيصلى بها ويدعو بما شاء ، ثم يأتي قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيستقبل جدار القبر ولا يمسّه ولا يقبله ، ويجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه ليكون قائماً وجاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقف متباعداً كما يقف لو ظهر في حياته بخشوع وسكون منكّس الرأس غاضّ الطرف مستحضراً بقلبه جلالة موقفه ، ثم يقول : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه ، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين وقائد الغر المحجلين...» (1).
ومع هذا الكلام فان ابن تيمية يعتبر «شدّ الرحال» لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمراً حراماً ، معتمداً في ذلك فهماً خاطئاً لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : «لا تشدُّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا ، ومسجد الحرام ، ومسجد الاقصى » (2) وفي لفظٍ آخر : «إنما يُسافر الى ثلاثة مساجد : مسجد الكعبة ، ومسجدي ، ومسجد إيليا» (3) .
وسوف نتناول مناقشة هذا الاَمر من جانبين :

____________
(1) الصارم المنكي في الرد على السبكي ، للمقدسي : 7 ، ط1 ، القاهرة ، المطبعة الخيرية.
(2) صحيح مسلم 4 : 126 كتاب الحج باب لا تشدُّ الرحال . سنن أبي داود 1 : 469 كتاب الحج . سنن النسائي 2 : 37 ـ 38 المطبوع مع شرح السيوطي .
(3) صحيح مسلم 4 : 126 كتاب الحج باب لا تشدُّ الرحال . سنن أبي داود 1 : 469 كتاب الحج . سنن النسائي 2 : 37 ـ 38 المطبوع مع شرح السيوطي .

( 108 )
الجانب الاَول : إيراد أقوال وأحاديث تؤكد استحباب السفر لزيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم .
والجانب الثاني : دراسة وتحليل الحديث الذي اعتبره ابن تيمية دالاً على حرمة السفر إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
استحباب السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
يمكن الاستدلال على استحباب السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدّة وجوه ، لكننا هنا نقتصر على ذكر مجموعة من آراء علماء السلف القائلة باستحباب السفر للزيارة ، بل عدّها بعضهم واجبة ، وليس لاَحد أن ينكر أنَّ السلف من علماء الاُمّة وعامتها سافروا لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد أشار إلى هذا الواقع الامام السبكي ، بقوله : «إنّ الناس لا يزالون في كلَّ عام إذا قضوا الحج يتوجهون إلى زيارته صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم من يفعل ذلك قبل الحج، هكذا شاهدناه وشاهده من قبلنا ، وحكاه العلماء عن الاَعصار القديمة... وذلك أمر لا يُرتاب فيه ، وكلّهم يقصدون ذلك ويعرجون إليه وإن لم يكن طريقهم ، ويقطعون فيه مسافة بعيدة وينفقون فيه الاَموال ، ويبذلون فيه المُهَج ، معتقدين أنّ ذلك قربة وطاعة ، وإطباق هذا الجمع العظيم من مشارق الاَرض ومغاربها على مرَّ السنين ، وفيهم العلماء والصلحاء وغيرهم يستحيل أن يكون خطأ ، وكلهم يفعلون ذلك على وجه التقرّب به إلى الله عزَّ وجل ، ومن تأخر عنه من المسلمين فإنما يتأخر بعجزٍ أو تعويق المقادير ، مع تأسفه عليه ووده لو تيسر له ، ومن أدّعى أنّ هذا الجمع العظيم مجمعون على خطأ فهو المخطىء»(1).

____________
(1) شفاء السقام في زيارة خير الانام ، للسبكي : 100 .

( 109 )
وإلى جانب ما جاء به السبكي في معارضة القائلين بالتحريم ، فقد شاركه عدد غفير من العلماء في ذلك ، وإليك بعض النصوص .
1 ـ قال أبو الحسن الماوردي (ت | 450 هـ) : «فإذا عاد ولي الحاج ، سار به على طريق المدينة لزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليجمع لهم بين حج بيت الله عزَّوجلَّ وزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رعاية لحرمته وقياماً بحقوق طاعته، وذلك وإن لم يكن من فروض الحج ، فهو من مندوبات الشرع المستحبة وعبادات الحجيج المستحبة» (1).
2 ـ قال ابن الحاج محمد بن محمد العبدري القيرواني المالكي (ت|737هـ) : «وأما عظيم جناب الاَنبياء والرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ فيأتي إليهم الزائر ويتعين عليه قصدهم من الاَماكن البعيدة ، فإذا جاء إليهم فليّتصف بالذل والانكسار والمسكنة والفقر والفاقة والحاجة والاضطرار والخضوع ، ويحضر قلبه وخاطره إليهم وإلى مشاهدتهم بعين قلبه لا بعين بصره لاَنهم لا يبلون ولا يتغيرون...» (2).
وابن الحاج هنا ـ كما ترى ـ لا يقصر مشروعية الزيارة على نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل يعممها على الاَنبياء والرسل أيضاً .
3 ـ روي أنّه لما صالح عمر بن الخطاب أهل بيت المقدس ، جاءه كعب الاَحبار فأسلم ففرح به ، فقال عمر له : «هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبره وتتمتع بزيارته ؟ قال : نعم» (3).

____________
(1) الاحكام السلطانية ، للماوردي : 105 .
(2) المدخل ، لابن الحاج 1 : 257 فضل زيارة القبور .
(3) شرح المواهب ، للزرقاني المالكي المصري 8 : 299 .

( 110 )

دراسة دليل القائلين بتحريم شدّ الرحال لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم :
اعتمد القائلون بتحريم شدّ الرحال لغير المساجد الثلاثة (مسجد الرسول ومكة وبيت المقدس) بشكل خاص على الرواية المتقدّمة ، ولنا في دلالة الحديث أو الاَحاديث المارة مناقشة ، تقوم على أساس تحديد المستثنى منه ، وهو واحد من اثنين :
1 ـ لا تشدُّ الرحال إلى «مسجد» غير المساجد الثلاثة .
2 ـ لا تشدُّ الرحال إلى «مكان» غير المساجد الثلاثة .
فلو كان المقصود بالرواية المستثنى الاَول كما هو الظاهر ، فإنّ معنى الحديث يكون : الاَمر بعدم شدّ الرحال إلى أي مسجد من المساجد ماعدا المساجد الثلاثة ، ولا يعني عدم شدّ الرحال إلى أي مكان من الاَمكنة إذا لم يكن هذا «المكان» مسجداً ، فالحديث إذن بهذا المعنى لايتعرض بحال لشدّ الرحال لزيارة قبور الاَنبياء والاَئمة الطاهرين والاَولياء والصالحين ، لاَنّ قبورهم ليست مساجد ، ولاَنّ الحديث يتعرض في نفيه وإثباته للمساجد خاصة ، ولذلك فإنّ الاستدلال به على حرمة شدّ الرحال إلى غير المساجد باطل .
أما الحالة الثانية ، وهي البناء على الاستثناء من عموم الاَمكنة ، فلا يمكن الاَخذ بها ، إذ تستتبع حرمة جميع الاسفار سواء كان السفر لزيارة مسجد أو غيره من الامكنة ، ولا يقول بهذا أحدٌ من الفقهاء والعقلاء .
ومن جهة ثانية : فإنّ النهي عن شدِّ الرحال إلى أي مسجد غير المساجد الثلاثة ليس نهياً «تحريمياً» وإنّما هو إرشاد الى عدم الجدوى في سفر كهذا، وذلك لاَنّ المساجد الاُخرى لا تختلف من حيثُ الفضيلة ،
( 111 )
فالمساجد الجامعة متساوية في الفضيلة وإنّ من العبث ترك الصلاة في جامع هذا البلد والسفر إلى جامع آخر في بلد آخر مع أنهما متماثلان .
يقول الغزالي بهذا الصدد : «القسم الثاني ، وهو أن يسافر لاَجل العبادة إمّا لحجٍّ أو جهاد.. ويدخل في جملته : زيارة قبور الاَنبياء عليهم السلام وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والاَولياء ، وكل من يتبرّك بمشاهدته في حياته يتبرّك بزيارته بعد وفاته ، ويجوز شدّ الرحال لهذا الغرض ، ولا يمنع من هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « لا تشدُّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الاَقصى»، لاَنّ ذلك في المساجد ، فإنّها متماثلة في الفضيلة ، بعد هذه المساجد» (1).
ويقول الدكتور الشيخ عبدالملك السعدي : «إنَّ النهي عن شدّ الرحال إلى المساجد الاَُخرى لاَجل أنَّ فيه إتعاب النفس دون جدوى أو زيادة ثواب ، لاَنّها في الثواب سواء ، بخلاف الثلاثة لاَنّ العبادة في المسجد الحرام بمائة ألف ، وفي المسجد النبوي بألف ، وفي المسجد الاقصى بخمسمائة ، فزيادة الثواب تحبّب السفر إليها وهي غير موجودة في بقيّة المساجد»(2).
ومن جهة ثالثة : فإنّ هناك دليلاً آخر على أنّ السفر لغير هذه المساجد الثلاثة ليس محرّماً ، وهو ما نكتشفه من سيرة النبي الاَكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد روى أصحاب الصحاح والسنن : «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتي مسجد قباء
____________
(1) احياء علوم الدين ، للغزالي 2 : 247 كتاب آداب السفر ، طبعة دار احياء التراث العربي ـ بيروت .
(2) البدعة ، للدكتور عبدالملك السعدي : 60 .

( 112 )
راكباً وماشياً فيصلّي فيه ركعتين» (1).
مناقشة دليل ابن تيمية في التحريم :
لابن تيمية فتوى بالتحريم عمم فيها الحرمة بزيارة قبور الاَنبياء والاَولياء والصالحين ، مع أنّ المستثنى هو المساجد فقال في الفتاوى ، معتمداً في فتواه على القياس : «فاذا كان السفر إلى بيوت الله غير الثلاثة ليس بمشروع باتفاق الاَئمة الاَربعة بل قد نهى عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فكيف بالسفر إلى بيوت المخلوقين الذين تتخذ قبورهم مساجد وأوثاناً وأعياداً ويشرك بها وتدعى من دون الله ، حتى إنّ كثيراً من معظّميها يفضّل الحج إليها على الحج إلى بيت الله»(2).
ولو صحّ هذا النقل عن ابن تيمية ففي كلامه مؤاخذات شتى ، فقد قال: «إذا كان السفر إلى بيوت الله غير الثلاث ليس بمشروع» .
المؤاخذة عليه هي أنّه من أين وقف على أنّ السفر إلى غير المساجد الثلاثة محرّم ، وقد تقدّم أنّ النهي ليس نهياً تحريمياً مولوياً ، وإنما هو إرشاد إلى عدم الجدوى ، ولذلك فإنّه لو ترتبت على السفر مصلحة لجاز ذلك السفر مثلما عرفت من سفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مسجد قباء مراراً .
وقال أيضاً بأنّ عدم المشروعية اتفق عليه الاَئمة الاَربعة :
ويؤاخذ عليه : أننا لم نجد نصّاً منهم على التحريم ، وإيرادهم للحديث في صحاحهم ليس دليلاً على أنّهم فسروا الحديث بمثل ما فسرّه هو .

____________
(1) الفتاوى ، لابن تيمية . البدعة ، للدكتور عبدالملك السعدي .
(2) الفتاوى ، لابن تيمية . البدعة ، للدكتور عبدالملك السعدي .

( 113 )
وأيضاً : فإنّ قياسه زيارة قبور الاَنبياء والصالحين على زيارة عامّة المساجد ، قياس باطل خصوصاً بعد أن عرفنا عدم جدوى السفر إلى شيء من هذه المساجد العامة ، لعدم تحقق أي فائدة سوى تحمّل العناء والتعب ، وقد عرفت أنّ فضيلة أي جامع في بلد هي نفسها في بلدٍ آخر ، وليس اكتساب الثواب متوقفاً على السفر ، وهذا بخلاف المقام ، فإنّ درك فضيلة قبر النبي يتوقف على السفر إليه .
وأما قوله : «إنَّ المسلمين يتخذون قبور الاَولياء أوثاناً وأعياداً ، ويُشْرَك بها» فهذا افتراء كبير على المسلمين الموحّدين ، فكيف يكون مشركاً من يشهد كل يوم بأن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً عبده ورسوله ، وكيف يتخذ من يشهد بذلك قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وثناً ؟ أما ما يصدر من الجهلة المتوهمين للعبادة بما قد يعدّ من الشرك ، فليس بموقوف على هذه الاَماكن ، بل قد يصدر منهم أنفسهم في بيت الله الحرام والمسجد النبوي أيضاً ! فلا يصحّ اتخاذه ذريعة للتحريم ، وإلاّ لوجب تحريم دخول المساجد كلّها لاَجل مايفعل أمثال هؤلاء ، بل وتحريم الحج نفسه ! وهذا باطل لا يقول به عاقل .
تم ما أردنا إيراده عن البدعة مفهوماً وشروطاً ومصاديق .


والحمد لله ربِّ العالمين