الفصل الثاني
البناء الاجتماعي والتربوي


قامت العقيدة بدور تغييري كبير على صعيد البناء الاجتماعي والتربوي، يمكن الاِشارة إليه من خلال النقاط التالية:

أولاً : إثارة الشعور الاجتماعي
لقد كان إنسان ما قبل الاِسلام يتمحور في سلوكه الاجتماعي حول ذاته ، وينطلق في تعامله مع الآخرين من منظار مصالحه وأهوائه ، وينساق بعيداً مع أنانيته . ولقد هبط في القاع الاجتماعي إلى درجة «الوأد» لاَبنائه ، خشية الفقر والمجاعة ، الاَمر الذي استدعى التدخل الاِلهي ، لاِنقاذ النفوس البريئة من هذه العادة الاجتماعية القبيحة، قال تعالى : (ولا تَقتُلُوا أولادَكُم خَشيةَ إملاقٍ ) (1).
على أنّ أشد ما يسترعي الانتباه ، أنّ ذلك الاِنسان الجاهلي ، الدائر حول ذاته ومنافعها ، قد غدا بتفاعله مع إكسير العقيدة ، يضحي بالنفس والنفيس في سبيل دينه ومجتمعه ، وبلغت آفاق التحول في نفسه إلى المستوى الذي يُؤثِر فيه مصالح أبناء جنسه على منافع نفسه .

____________
(1) الاسراء 17 : 31 .

( 44 )
وليس بخفيّ على أحد مستوى الاِيثار الذي أبداه الاَنصار مع المهاجرين ، إذ شاطروهم في كلِّ ما يملكون ، وحتى في بيوتهم وأمتعتهم، ولم ينحصر هذا المستوى من الايثار بأفراد ، بل شكّل ظاهرة اجتماعية عامّة لم يشهد لها تاريخ الاِنسانية نظيراً ـ وفي هذه الظاهرة نزل قرآن كريم يبارك هذه الروح ، ويخلّد ذكر مجتمع تحلّى بها ، كنموذج من نماذج التلاحم الاجتماعي والمؤاخاة.. قال تعالى : ( لِلفُقَرَآءِ المُهَاجِرينَ الَّذِينَ أُخرِجوا مِن دِيارهِم وأموَالِهِم يَبتَغُونَ فَضلاً مِّنِ اللهِ وَرِضواناً وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذينَ تَبَوَّءُو الَّدارَ وَالاِيمانَ مِن قَبلِهِم يُحِبُّونَ مَن هَاجَرَ إليهِم وَلا يَجِدُونَ في صُدُورِهِم حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُوا وَيُؤثرُونَ عَلى أنفُسِهِم ولَو كانَ بِهِم خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولئكَ هُمُ المُفلِحُونَ ) (1).
وينقض الاِسلام أُسساً في البناء الاجتماعي الجاهلي قوامها تعزيز التقسيم الطبقي والقَبَلي للمجتمع ، الذي كان يتشكل من طبقتين أساسيتين؛ طبقة الاَشراف ، وطبقة العبيد ، ولا بدَّ لاَبناء طبقة الاَشراف أن يبقوا هكذا ، تجتمع لديهم الثروات ويحتكرون الشأن والوجاهة ، ولابدَّ لاَبناء طبقة العبيد أن يبقوا هكذا يدورون في فلك الاَسياد.. فقوّض الاِسلام هذه الاُسس وأقام محلّها أُسساً جديدة تساوي بين الناس في حق الحياة وحق الكرامة ، قال تعالى : ( يا أيُّها الناسُ إنّا خَلقنَاكُم مِن ذَكَرٍ وأُنثى وجَعَلنَاكُم شُعُوباً وقَبَائلَ لِتَعارفُوا إنَّ أكرَمَكُم عِندَ اللهِ أتقاكُم ) (2)، فتحرر أبناء طبقة العبيد ومارسوا حقهم في الحياة ، وارتفع عمار وسلمان وبلال عالياً فوق طبقة أشراف قريش التي ما زالت تتخبط في ضلالات الجاهلية ،
____________
(1) الحشر 59 : 8 ـ 9 .
(2) الحجرات 49 : 13 .

( 45 )
كالوليد بن المغيرة وهشام بن الحكم وأبي سفيان وأمثالهم..
وحتى الاَموال لم تعد حكراً على الاَغنياء ليزدادوا ثراءً ، قال تعالى : (مَّآ أفَآءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِن أهلِ القُرى فللهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذي القُربى وَاليتامى والمساكِينِ وَابنِ السَّبِيلِ كَي لا يَكُونَ دُولَةٌ بَينَ الاَغنِيآءِ مِنكُم وَمَآ آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نهَاكُم عَنهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا الله إنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ ) (1).

أساليب تنمية الشعور الاجتماعي :
لقد نمّت العقيدة الشعور الاجتماعي لدى الفرد بوسائل عديدة ، منها :
أ ـ إيقاظ الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين :
من خلال تأكيد القرآن الكريم على مسؤولية الاِنسان تجاه نفسه وغيره، كقوله تعالى : ( وقِفُوهُم إنَّهّم مسؤولُونَ ) (2)، وقوله تعالى : (ياأيُّها الَّذِين ءآمنُوا قُوا أنفُسَكُم وأهلِيكُم ناراً.. ) (3).
وقول الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم : « وإنّي مسؤول وإنّكم مسؤولون » (4).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً : « ألا كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيته ، فالاَمير الذي على النّاس راع ، وهو مسؤول عن رعيته ، والرَّجُلُ راعٍ على أهل بيته وهو مسؤول عنهم ، والمرأةُ راعية على بيتِ بعلها وولده ، وهي مسؤولة
____________
(1) الحشر 59 : 7 .
(2) الصافات 37 : 24 .
(3) التحريم 66 : 6 .
(4) كنز العمال 5 : 289 .

( 46 )
عنهم..»(1).
ويقول أمير المؤمنين عليه السلام : « اتّقوا الله في عباده وبلاده ، فإنّكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم.. » (2).
وكنظرة مقارنة ، نجد أنّ المذاهب الاجتماعية الوضعية ، بُنيت على أساس المسؤولية الفردية في هذه الحياة فحسب ، وتأييدها بمؤيدات قانونية كحجز الحرية ، أو التعذيب ، أو التغريم المالي أو العزل عن الوظيفة ، أو التسريح عن العمل ، أو المكافأة بالمال أو الترقية في الوظيفة.. وما إلى ذلك ، وبمؤيدات اجتماعية كالثقة أو حجبها والتقدير أو التحقير .
أما المذهب الاِسلامي ، فلا يقتصر على مسؤولية الفرد أمام المجتمع الذي يعيش بين ظهرانيه في هذه الحياة ، وإنّما يُنمّي في الفرد المسؤولية العظمى أمام الخالق العظيم في حياة أُخرى ، وحينئذ يدفعه إلى التحديد الذاتي أو الطوعي لرغباته ، والشعور الاجتماعي نحو غيره ، بغض النظر عن القانون أو العرف أو الضمير ، لاَنّ الضمير قد يعجز عن مواجهة الغرائز عند فقدان العقيدة الدينية ، كما أنّه ليس من الميسور توفير الرقابة الاجتماعية في كلَّ مكان ، وبصورة دائمة ، وعليه فإنّ هذه الرقابة الداخلية لا توجد في غير العقيدة الدينية .
ب ـ تنمية روح التضحية والايثار :
لقد حثَّ القرآن الكريم على الايثار ، وأشاد بروح التضحية التي اتّصف
____________
(1) صحيح مسلم 3 : 1459 كتاب الامارة ـ دار احياء التراث ط1 .
(2) نهج البلاغة ، خطبة 167 .

( 47 )
بها المسلمون ، فلمّا بات علي بن أبي طالب عليه السلام على فراش الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يفديه بنفسه ، فيؤثره بالحياة ، أشاد الله تعالى بهذا الموقف التضحوي الفريد ، فأنزل : ( ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَشرِي نَفسهُ ابتغاءَ مرضاتِ اللهِ واللهُ رؤوفٌ بالعبادِ ) (1) .
يقول الفخر الرازي : «... نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام ، بات على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة خروجه إلى الغار ، ويروى أنّه لمّا نام على فراشه قام جبريل عليه السلام عند رأسه ، وميكائيل عند رجليه ، وجبريل ينادي : بخٍ بخٍ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة، ونزلت الآية» (2)
وقدّمت السيرة المطهّرة القدوة الحسنة في هذا المقام ، فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنّه ما شبع ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا ، ولو شاء لشبع، ولكنه كان يؤثرُ على نفسه (3).
وهذا السلوك النبوي ، ظهرت بصماته واضحة في سلوك أهل بيته عليهم السلام ، الذين يسيرون على نهجه ، ويترسمون خطاه ، ويترجمون أقواله إلى واقع عملي ملموس : «.. عن محمد بن كعب القرظي ، قال : سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول : « لقد رأيتني وإنّي لاَربط الحجر على بطني من الجوع ، وإنّ صدقتي لتبلغ اليوم أربعة آلاف دينار » (4)، كلّ ذلك لاَنّه كان يؤثر على نفسه ، ويفضّل مصلحة غيره على مصلحته .

____________
(1) تفسير مجمع البيان 1 : 174 . والآية من سورة البقرة 2 : 207 .
(2) التفسير الكبير ، للفخر الرازي 5 : 223 .
(3) تنبيه الخواطر ، للامير ورّام 1 : 172 باب الايثار .
(4) أُسد الغابة ، لابن الاثير 4 : 102 | 3783 ـ دار احياء التراث العربي .

( 48 )
قال أبو النوار ـ بياع الكرابيس ـ : أتاني علي بن أبي طالب عليه السلام : ومعه غلام له ، فاشترى مني قميصَيّ كرابيس ، فقال لغلامه : « اختر أيُّهما شئت» ، فأخذ أحدهما ، وأخذ علي الآخر فلبسه (1).
ومن الشواهد التأريخية ، التي تدل على ذلك التحوّل الاجتماعي الكبير الذي أحدثته العقيدة ، في فترة وجيزة ، أنّه أُهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأس شاة ، فقال : إنّ أخي فلاناً أحوج إلى هذا منّا ، فبعث به إليه ، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداوله سبعة أهل أبيات حتى رجعت إلى الاَول (2).
هكذا تربي العقيدة الاِنسان المسلم على الشعور الاجتماعي ، شعور الفرد نحو غيره ، فيتجاوز دائرة الذات إلى دائرة أرحب هي دائرة العائلة ، ثم تتسع اهتماماته لتشمل دائرة الجوار ، ثم أبناء بلدته ، وبعدها أبناء أمته، وفي نهاية المطاف تتسع لدائرة أكبر فتشمل الاِنسانية جمعاء .
جـ ـ تنمية الشعور الجماعي :
وفي هذا الصدد ، نجد فيض من الاَحاديث التي تحثُّ الفرد على الانضمام للجماعة والانسجام معها ، والانصباب في قالبها ، بعد أن ثبت عند العقلاء بأنّ في الاجتماع قوة ومنعة ، وبعد أن أكد النقل على أنّ الله تعالى قد جعل فيه الخير والبركة ، يقول الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم : « يدُ الله مع
____________
(1) أُسد الغابة ، لابن الاَثير 4 : 103 .
(2) أسباب النزول ، لابي الحسن النيسابوري : 281 ـ انتشارات الرضي . وفي طبعة عالم الكتب : 235 .

( 49 )
الجماعة ، والشيطان مع من خالف الجماعة يركُضُ » (1).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « من خرج من الجماعة قيد شبر ، فقد خلع ربقة الاِسلام من عنقه » (2)
وفي كلِّ ذلك دليل قاطع على أنّ الاِسلام دين اجتماعي ، يحاول ربط الفرد بالجماعة ، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً .
وهنا لا بدَّ من التنبيه على أنّ الحكام الظلمة ، قد استغلوا مفهوم «الجماعة» أبشع استغلال لتثبيت سلطانهم والمحافظة على عروشهم ، فاخذوا يصبّون جام غضبهم على كلِّ من يجهر بكلمة الحق ويقوم بمعارضة تسلطهم اللامشروع ، ويفضح أساليبهم غير الاِسلامية ، وكان الاَمويون ـ الذين اتّخذوا مال الله دولاً وعباده خولاً ـ يقتلون كل من خرج عليهم بحجة أنّه مفارق للجماعة ، وكذلك سار العباسيون على ذلك النهج، بل وتفوّقوا على الاَمويين في ابتكار أساليب القتل والتعذيب .
ومن يتصفّح كتب التأريخ ، يجد أنّه ينقل صوراً بشعة لاَساليب التنكيل والقتل التي مارسها الاَمويون والعباسيون ضد العلويين بحجة واهية هي الخروج عن الاجماع والجماعة .
على أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد أوضح بجلاء مفهوم الجماعة الذي لا يعني ـ بالضرورة ـ الكثرة ، كما يتصوره السطحيون وكما يُحرِّفه السلطويون ، بل يعني جماعة أهل الحقّ وإن قلّوا ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : « من فارق جماعة
____________
(1) كنز العمال 1 : 206 .
(2) كنز العمال 1 : 206 | 1035 .

( 50 )
المسلمين فقد خلع ربقة الاِسلام من عنقه قيل : يا رسول الله ما جماعة المسلمين ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : جماعة أهل الحق وإن قلّوا » (1).
وعودة إلى أصل المطلب ، فقد تبيّن لنا بأنّ العقيدة تدعو الاِنسان المسلم إلى الانضمام إلى الجماعة ، وهنا ثمة تساؤل يفرض نفسه ، وهو وجود أحاديث كثيرة في مصادرنا ، تدعو الاِنسان المسلم إلى إيثار العزلة ، وبالتالي الابتعاد عن الناس ، يُجيب مؤلف جامع السعادات ، الشيخ النراقي عن ذلك بقوله : (نظر الاَولون إلى إطلاق ما ورد في مدح العزلة ، وإلى فوائدها وما ورد في مدحها ، كقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّ الله يحب العبد التقي الخفي » ، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله ، ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب » .
وقول الاِمام الصادق عليه السلام : « فسد الزمان ، وتغيّر الاخوان ، وصار الانفراد أسكن للفؤاد » ، وقوله عليه السلام : « أقلل معارفك ، وأنكر من تعرف منهم » .
إلى أن قال : فالصحيح أن يقال : إنَّ الاَفضلية منهما ـ أي المخالطة والعزلة ـ تختلف بالنظر إلى الاَشخاص والاَحوال والاَزمان والاَمكنة ، فينبغي أن ينظر إلى كلِّ شخص وحاله.. أنَّ الاَفضل لبعض الخلق العزلة التامة، ولبعضهم المخالطة ، ولبعضهم الاعتدال في العزلة والمخالطة) (2).
ويمكننا التوفيق بين الطائفتين بالقول : إنّ الاتجاه الداعي إلى العزلة ، يمكن حمله على عدّة وجوه ، منها : أنّ التوجه للعبادة يتطلب ـ عادةً ـ
____________
(1) روضة الواعضين ، للفتّال النيسابوري : 334 ـ منشورات الرضي ـ قم .
(2) جامع السعادات ، للنراقي 3 : 195 ـ 197 ـ مطبعة النجف الاشرف 1383 هـ ط3 .

( 51 )
الابتعاد عن الناس آناً ما ، بغية الانقطاع إلى الله تعالى .
وهذا الاَمر ـ بطبيعة الحال ـ لا ينطبق على جميع العبادات ، فالحج الذي هو عبادة ذات صبغة اجتماعية ، يجتمع خلاله الناس من كلِّ حدب وصوب في مكان واحد ، وزمان محدد ، لاَداء شعائر واحدة .
من جانب آخر يمكن حمل العزلة على تجنّب مخالطة الاَشرار ، فقد ورد في وصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لاَبي ذر الغفاري رضي الله عنه : « ... يا أبا ذر ، الجليس الصالح خيرٌ من الوحدة ، والوحدة خيرٌ من جليس السوء.. » (1).
أما الاختلاط بالاَخيار ، فهو أمر مرغوب فيه ، والاِسلام ـ كما أسلفنا ـ يحثُ عليه ، وعلى العموم فهناك حالات استثنائية تستدعي العزلة عن الناس ، أما القاعدة العامة في الاِسلام ، فتؤكد على مخالطة الناس ، والصبر على أذاهم .
يقول الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم : « المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم » (2).
والاِسلام يبغض العزلة التامة عن الناس مهما كانت مبرراتها ، عبادية أو غيرها ، فلا رهبانية في الاِسلام كما هو معروف ، ومن الشواهد النقلية على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد رجلاً ، فسأل عنه فجاء ، فقال : يا رسول الله إنّي أردتُ أن آتي هذا الجبل فأخلو فيه فأتعبّد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «لصبر أحدكم ساعةٍ على ما يكره في بعض مواطن الاِسلام خير من
____________
(1) مكارم الاخلاق ، للطبرسي : 466 ـ مؤسسة الاعلمي ـ ط6 .
(2) كنز العمال 1 : 154 | 769 .

( 52 )
عبادته خالياً أربعين سنة » (3).
وعلى ضوء ذلك فهناك مواطن تتطلب من الفرد أن ينظم إلى الجماعة وأن ينصهر بها ، كمواطن الجهاد ، وحضور الجماعة في المساجد ، والدراسة في مراكز التعليم المختلفة وغيرها .

ثانياً : تغيير نظم الروابط الاجتماعية
كان المجتمع الجاهلي يعتبر رابطة الدم والرحم أساس الروابط الاجتماعية ، فيضع مبدأ القرابة فوق مبادىء الحق والعدالة في حال التعارض بينهما ، والقرآن الكريم قد ذمَّ هذه الحمَّية الجاهلية صراحة : (إذ جعلَ الَّذِينَ كَفرُوا في قُلُوبِهِم الحَمِيَّةَ حِميَّةَ الجَاهِلِيَّةِ.. ) (1).
وقد عملت العقيدة على إزالة غيوم العصبية عن القلوب ، ولم تقرَّ بالتفاضل بين الناس القائم على القرابة والقومية أو اللّون والمال والجنس ، وبدلاً من ذلك أقامت روابط جديدة على أسس معنوية هي التقوى والفضيلة .
وعليه فالعقيدة تنبذ كل أشكال العصبية ، إذ لا يمكن التوفيق بين الاِيمان والتعصّب .
عن أبي عبدالله عليه السلام قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من تعصّب أو تُعصّبَ له ، فقد خلع ربقة الاِيمان من عُنقه » (2).
وقال عليه السلام أيضاً : « ليس منّا من دعا إلى عصبية ، وليس منّا من قاتل
____________
(1) كنز العمال 4 : 454 | 11354 .
(2) الفتح 48 : 26 .
(3) أُصول الكافي 2 : 308 | 2 باب العصبية .

( 53 )
[على] عصبيّة ، وليس منّا من مات على عصبيّة » (1).
وفي هذا المجال ، يُقدم أمير المؤمنين عليه السلام رؤيته العلاجية لمرض العصبية البغيض ، ففي خطبته المعروفة بالقاصعة يقول عليه السلام : « ولقد نظرتُ فما وجدت أحداً من العالمين يتعصّب لشيء من الاَشياء إلاّ عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء ، أو حجّة تليط بعقول السفهاء غيركم ، فإنّكم تتعصّبون لاَمر ما يُعرف له سبب ولا علة ، أما إبليس فتعصّب على آدم لاَصله ، وطعن عليه في خلقته ، فقال : أنا ناريٌّ وأنت طينيٌّ ، وأما الاَغنياء من مترفة الاُمم فتعصّبوا لآثار مواقع النّعم ، فقالوا : ( نحنُ أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذّبين ) فإن كان لا بدَّ من العصبيّة فليكُن تعصّبكُم لمكارم الخصال ، ومحامد الاَفعال ومحاسن الاُمور... فتعصّبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار ، والوفاء بالذِّمام ، والطَّاعة للبرِّ ، والمعصية للكبر ، والاَخذ بالفضلِ ، والكفِّ عن البغي ، والاِعظام للقتل ، والاِنصاف للخلقِ ، والكظم للغيظ ، واجتناب الفسادِ في الاَرض » (2).
ضمن هذا السياق قام حفيده علي بن الحسين عليه السلام بإيضاح مفهوم العصبيّة ، وما هو المذموم منها ، عندما سُئل عنها ، فقال عليه السلام : « العصبيّة التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرّجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين ، وليس من العصبيّة أن يحبّ الرجل قومه ، ولكن من العصبيّة أن يعين قومه على الظّلم » (3).

____________
(1) سُنن أبي داود 2 : 332 | 4 باب في العصبية .
(2) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 13 : 166 ـ دار احياء التراث العربي ط2 .
(3) اُصول الكافي 2 : 308 | 7 باب العصبية كتاب الايمان والكفر .

( 54 )
وهكذا نجد أنّ العقيدة قد عملت على قشع غيوم العصبية السوداء من القلوب ، وقامت بتشكيل هوية اجتماعية جديدة للناس تقوم على الاِيمان بالله ورسوله ، وإشاعت مشاعر الحب والرّحمة بدلاً من مشاعر التعصّب والكراهية ، فالعصبية التي تعني : «مناصرة المرء قومه ، أو أسرته، أو وطنه ، فيما يخالف الشرع ، وينافي الحق والعدل . وهي : من أخطر النزعات وأفتكها في تسيّب المسلمين ، وتفريق شملهم ، وإضعاف طاقاتهم ، الروحية والمادية ، وقد حاربها الاِسلام ، وحذّر المسلمين من شرورها» (1)
ولعل من أبرز مظاهر التغيير الاجتماعي ، الذي صنعته العقيدة أنّ هناك أفراداً كانوا في أسفل السلَّم الاجتماعي في فترة ما قبل الاِسلام ، فإذا هم بعد إشراق شمس الاِسلام ، يتصدرون قمة الهرم الاجتماعي ، فبلال الحبشي رضي الله عنه يصبح مؤذن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وسلمان الفارسي رضي الله عنه هو رجل من بلاد فارس ، تنقّل من رقّ إلى رقّ، أصبح في عصر الاِسلام صحابياً جليلاً ، وحاكماً عاماً على بلاد كبيرة ، وفوق كل ذلك غدا من أهل البيت عليهم السلام ، سأل رجلٌ علياً عليه السلام : يا أمير المؤمنين أخبرني عن سلمان الفارسي قال عليه السلام : « بخٍ بخِ سلمان منّا أهل البيت، ومن لكم بمثل لقمان الحكيم.. » (2) .
وكان زيد بن حارثة وابنه أُسامة ممن ينبغي ـ وفق التقسيم الجاهلي ـ أن يكونا في طبقة العبيد ، فإذا بهما يقودان جيوش المسلمين في اثنتين من أكبر الحملات الاِسلامية عدّة وعدداً .

____________
(1) أخلاق أهل البيت عليهم السلام ، للسيد مهدي الصدر : 70 .
(2) الاحتجاج ، للطبرسي 1 : 260 .

( 55 )
ولم يكن من اليسير أن يتم هذا التحوّل الكبير في أفكار الناس وعلاقاتهم ، في هذه الفترة القصيرة من عمر الرسالة ، لولا الدور التغييري الكبير الذي اضطلعت به العقيدة الاِسلامية .

ثالثاً : الحث على التعاون والتعارف
نقلت العقيدة أفراد المجتمع من حالة التنافس والصراع إلى حالة التعارف والتعاون .
والقرآن مصدر العقيدة الاَول ، يحث الناس على الاجتماع والتعارف ، يقول تعالى : ( يا أيُّها النَّاسُ إنَّا خلقناكم مِن ذَكرٍ وأُنثى وجَعلنكُم شُعوباً وقبائلَ لتعارفوا إنَّ أكرمَكُم عند اللهِ أتقكُم... ) (1).
كما حثَّ الناس على التعاون : ( وتعاونُوا على البرِّ والتّقوى ولا تعاونوا على الاِثمِ والعُدوانِ.. ) (2).
وقد أثبتت تجارب البشرية أنّ في التعاون قوة ، وأنّه يؤدي إلى التقدم ، وكان المجتمع الجاهلي متخلفاً ، يعيش حالة الصراع بدافع العصبية القبلية، أو طغيان الاَهواء والمصالح الشخصية ، أو بسبب احتكار البعض لمصادر الكلاَ والماء ، فانتقل ذلك المجتمع ـ بفضل الاِسلام ـ إلى مدار جديد بعد أن تكرّست فيه قيم التعاون والتكافل الاجتماعي .
وفي سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ـ الذي كان مصدراً لحضارة ، وباعثاً لنهضة ـ نجد شواهد عديدة على حبه للتعاون والتكافل وحثه المتواصل عليهما ، منها : ـ

____________
(1) الحجرات 49 : 13 .
(2) المائدة 5 : 2 .

( 56 )
أنّه أمر أصحابه بذبح شاة في سفر ، فقال رجل من القوم : عليَّ ذبحها ، وقال الآخر : عليَّ سلخها ، وقال آخر : عليَّ قطعها ، وقال آخر : عليَّ طبخها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « عليَّ أن ألقط لكم الحطب » . فقالوا : يارسول الله ، لا تتعبنَّ ـ بآبائنا وأُمهاتنا ـ أنت ، نحن نكفيك ؟! .
قال صلى الله عليه وآله وسلم : « عرفتُ أنّكم تكفوني ، ولكن الله عزَّ وجلَّ يكره من عبده إذا كان مع أصحابه أن ينفرد من بينهم » فقام يلقط الحطب لهم (1).
وكما كرّه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الموقف السابق أن ينفرد الاِنسان عن سربه الاجتماعي ، ويكتفي بموقف المتفرج لا يقوم بشيء من المشاركة معهم ، كذلك كرّه أن يصبح الاِنسان كلاًّ على جماعته ، يعتمد على غيره في عيشه وشؤونه ، بدون مبرر معقول : ذُكر عند النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم رجل.. قالوا : يارسول الله ، خرج معنا حاجّاً ، فإذا نزلنا لم يزل يهلّل الله حتّى نرتحل ، فإذا ارتحلنا لم يزل يذكر الله حتى ننزل .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « فمن كان يكفيه علف دابته ، ويصنع طعامه ؟ قالوا : كلّنا ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : كلّكم خير منه » (2).
وأسهمت مدرسة أهل البيت عليهم السلام في ترسيخ مبدأ التعاون والتكافل في أذهان الناس وسلوكهم ، فعلى سبيل الاستشهاد ، كان علي بن الحسين عليه السلام إذا جنّه الليل ، وهدأت العيون ، قام إلى منزله ، فجمع ما تبقّى من قوت أهله ، وجعله في جراب ، ورمى به على عاتقه ، وخرج إلى دور الفقراء ، وهو متلثم ، حتى يفرقه عليهم ، وكثيراً ما كانوا قياماً على أبوابهم
____________
(1) مكارم الاخلاق ، للشيخ الطبرسي : 251 ـ 252 ، مؤسسة الاَعلمي ط6 .
(2) بحار الانوار 76 : 274 عن كتاب المحاسن .

( 57 )
ينتظرونه، فإذا رأوه تباشروا به ، وقالوا جاء صاحب الجراب (1).
وكان الاِمام الكاظم عليه السلام يتفقد فقراء المدينة في الليل ، فيحمل إليهم الزَّبيل فيه العين والورق والاَدقّة والتمور ، فيوصل إليهم ذلك ولا يعلمون من أي جهة هو.. وكان إذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث إليه بصرّة دنانير ، وكانت صراره مثلاً (2).
وقد حثَّ الاَئمة عليهم السلام شيعتهم خاصة على تحقيق درجة أعلى من المشاركة والتعاون فيما بينهم ، قد تصل إلى حدود المثالية ، فعن سعيد بن الحسن ، قال : قال أبو جعفر عليه السلام : « أيجييء أحدكم الى أخيه فيدخل يده في كيسه ، فيأخذ حاجته فلا يدفعه ؟ فقلتُ : ما أعرف ذلك فينا ، فقال عليه السلام : فلا شيء إذاً ، قلتُ : فالهلاك إذاً ، فقال عليه السلام : إنّ القوم لم يُعطوا أحلامهم بعد» (3) .
وكان الاِمام الصادق عليه السلام قدوةً في مدِّ يد العون إلى الآخرين ، فعن الفضل بن قرّة ، قال كان أبو عبدالله عليه السلام يبسط رداءه وفيه صرر الدنانير ، فيقول للرّسول : « إذهب بها إلى فلان وفلان من أهل بيته ، وقل لهم : هذه بعث إليكم بها من العراق ، قال : فيذهب بها الرّسول إليهم فيقول ما قال ، فيقولون : أما أنت فجزاك الله خيراً بصلتك قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأما جعفر فحكم الله بيننا وبينه ، قال : فيخرُّ أبو عبدالله ساجداً ويقول : اللّهم أذلَّ رقبتي لولد أبي » (4).

____________
(1) في رحاب أئمة أهل البيت عليهم السلام ، للسيد محسن الاَمين 2 : 202 دار التعارف .
(2) المصدر السابق 4 : 84 ـ دار صعب .
(3) اُصول الكافي 2 : 173 ـ 174 | 13 باب حق المؤمن على أخيه وأداء حقه .
(4) تنبيه الخواطر ، للاَمير ورّام 2 : 266 ـ دار صعب .

( 58 )
وقد حدد الاِمام الصادق عليه السلام بدقة الملامح العبادية والاجتماعية للشيعة ، عندما خاطب أحد أصحابه بقوله : « يا جابر ، أيكتفي من ينتحل التشيع أن يقول بحّبنا أهل البيت ، فو الله ما شيعتنا إلاّ من اتّقى الله وأطاعه ، ما كانوا يُعرفون يا جابر إلاّ بالتواضع والتخشّع والاَمانة وكثرة ذكر الله ، والصوم والصلاة ، والبر بالوالدين ، والتعهد للخيرات من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والاَيتام ، وصدق الحديث ، وتلاوة القرآن ، وكف الاَلسن عن الناس إلاّ من خير... » (1).
وعن محمد بن عجلان ، قال : كنتُ عند أبي عبدالله عليه السلام ، فدخل رجل فسلّم ، فسأله عليه السلام : « كيف من خلّفت من إخوانك ؟ قال : فأحسن الثّناء وزكّى وأطرى ، فقال له : كيف عيادة أغنيائهم على فقرائهم ؟ فقال : قليلة ، قال عليه السلام : وكيف مشاهدة أغنيائهم لفقرائهم ؟ قال : قليلة ، قال : فكيف صلة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم ؟ فقال : إنّك لتذكر أخلاقاً قلَّ ما هي فيمن عندنا ، قال : فقال عليه السلام : فكيف تزعم هؤلاء أنّهم شيعة ؟! » (2).
وهكذا نجد أنّ مسألة التعاون والتضامن ، تتصدر سلَّم الاَولوية في اهتمامات الاَئمة عليهم السلام الاجتماعية ، لكونها الضمان الوحيد والطريق الاَمثل لاِقامة بناء اجتماعي متماسك تغيب فيه عوامل الصراع والتناحر ، وتسود فيه عوامل الودّ والاَلفة .
والذي يثير الدهشة ويبعث على الاعجاب أنّ المجتمع العربي الجاهلي الذي كان ممزقاً ، ولا تقيم له الاُمم وزناً ، غدا بفضل الرسالة الاِسلامية موحّداً ، مهاب الجانب ، ذا عزّة ومنعة ، يقول الاِمام علي عليه السلام :
____________
(1) مجموعة ورّام 2 : 185 دار صعب .
(2) اُصول الكافي 2 : 173 | 10 كتاب الايمان والكفر .

( 59 )
« .. والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالاِسلام ، عزيزون بالاجتماع..» (1).

رابعاً : تغيير العادات والتقاليد الجاهلية
كان للعقيدة الاَثر البالغ في تغيير الكثير من العادات والتقاليد ، التي تُمتهن فيها كرامة الاِنسان ، وينتج عنها العنت والمشقة ، وقد قام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته الاَطهار بدور حضاري هام ، في هذا المقام ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : « لا تقوموا كما يقوم الاَعاجم بعضهم لبعض ، ولا بأس بأن يتخلل عن مكانه » (2).
وسعى صلى الله عليه وآله وسلم لاِشاعة وترسيخ عادات تربوية جديدة ، روي عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس حين يدخل.. » وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « إذا أتى أحدكم مجلساً فليجلس حيثُ انتهى مجلسه » (3).
فكان صلى الله عليه وآله وسلم يعمل على تغيير العادات في مختلف مجالات الحياة ، في القيام والجلوس ، وفي المطعم والمشرب والملبس وغير ذلك .
ولقد سار الاِمام علي عليه السلام وفق السُنّة النبوية ، فجاهد لتغيير ما بقي من عادات جاهلية ، لا تنسجم مع سماحة دين الاِسلام ، ودعوته إلى نبذ التكلّف والمظاهر الفارغة التي تشق على الناس ، وتضع الحواجز المصطنعة التي تحول دون التواصل فيما بينهم ، بين العالم والجاهل ،
____________
(1) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : 203 | خطبة 146 .
(2) مكارم الاخلاق ، للطبرسي : 26 .
(3) المصدر السابق .

( 60 )
وبين الغني والفقير ، وبين الحاكم والمحكوم ، ويكفينا الاستشهاد على ذلك ، أنّ الاِمام علي عليه السلام ، لما لقيه الدهّاقون ـ في الاَنبار عند مسيره إلى الشام ـ فترجلوا له ، واشتدّوا بين يديه ، قال عليه السلام : « ما هذا الذي صنعتموه ؟ فقالوا : خلق منّا نعظّم به أمراءنا ، فقال عليه السلام : والله ما ينتفع بهذا أُمراؤكم ! وإنّكم لتشقّون على أنفسكم في دنياكم ، وتشقون به في آخرتكم ، وماأخسر المشقّة وراءها العقاب ، وأربح الدّعة معها الاَمان من النار » (1).
وله عليه السلام توصيات قيّمة تسهم في بناء الاِنسان ، وتغرس في سلوكه العادات الحسنة ، منها قوله عليه السلام : « أيُّها الناس ، تولّوا من أنفسكم تأديبها ، واعدلُوا بها عن ضراوة عاداتها » (2).
كل ذلك من أجل إجراء التغيير الاجتماعي المنشود ، ولا يخفى بأنّ البناء الاجتماعي بدون إجراء التغيير الداخلي في نفوس وعادات الاَفراد ، يصبح عبثياً كالبناء بدون قاعدة قال تعالى : ( إنَّ اللهَ لا يُغيِّرُ ما بِقومٍ حتى يُغيِّرُوا ما بأنفُسِهِم ) (3).
يقول العلاّمة السيد الشهيد محمدباقر الصدر قدس سره : «إنّ الدافع الذاتي هو مثار المشكلة الاجتماعية ، وأنَّ هذا الدافع أصيل في الاِنسان ، لاَنّه ينبع من حبه لذاته ، وهنا يجيء دور الدين ، بوضع الحل الوحيد للمشكلة ، فالحل يتوقف على التوفيق بين الدوافع الذاتية والمصالح الاجتماعية العامة» (4) .

____________
(1) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : 475 | حكم 37 .
(2) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : 538 | حكم 359 .
(3) الرعد 13 : 11 .
(4) اقتصادنا ، للسيد الشهيد محمد باقر الصدر : 324 ط11 ـ دار التعارف للمطبوعات .