الفصل الثالث
البناء النفسي


إنَّ لكلِّ عقيدة أثراً في نفس صاحبها، يدفعه إلى نوع من الاَعمال والتصرفات، ولقد كانت لعقيدة الاِيمان بالله في المسلمين آثار في النفس عميقة، كان لها نتائجها العملية في الحياة العامة، يمكن الاِشارة إليها ـ إجمالاً ـ في النقاط التالية: ـ

أولاً : طمأنينة النفس :
إنّ الاِنسان المتدين يجد في العقيدة اطمئناناً على الرغم من عواصف الاَحداث من حوله ، فهي تدفع عنه القلق والتوتر ، وتخلق له أجواء نفسية مفعمة بالطمأنينة والاَمل ، حتى ولو كان يعيش في بيئة غير مستقرة أو خطرة .
وتاريخ الاِسلام يحدثنا بما لا يحصى من مصاديق ذلك ، فعلى الرغم من ان المسلمين الاَوائل كانوا يعيشون ظروفاً صعبة ، حيثُ الحروب المتوالية التي أثارتها قريش وحلفاؤها ، وما صاحبها من مقاطعة اقتصادية وعزلة اجتماعية وضغوط نفسية ، إلاّ أنّهم كانوا يتمتعون بمعنوية عالية ، ويندفعون للقتال بنفس مطمئنة إلى ثواب الله ورحمته .
عن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم بدر : « قوموا إلى جنّة عرضها السّماوات والاَرض ، فقال عمير بن الحمام الاَنصاري : يا رسول الله ، جنّة
( 62 )
عرضها السّماوات والاَرض ؟! قال : نعم ، قال : بخ بخ ! لا والله يا رسول الله، لا بدَّ أن أكون من أهلها ، قال : فإنّك من أهلها » ، فأخرج تميرات من قرنه فجعل يأكل منهنَّ ، ثم قال : لئن حييت حتّى آكل تمراتي هذه إنّها حياة طويلة ، فرمى بما كان معه من التمر ، ثمّ قاتل حتى قتل (1).
فالبيئة التي يتواجد فيها هذا المجاهد كانت خطرة ، فهو يعيش أجواء حرب بدر ، ولكن بيئته النفسية كانت سعيدة ، حيثُ يأمل العيش في جنّة عرضها السماوات والاَرض فالمسلم بفضل عقيدة الاِيمان بالله تعالى يشعر بالرضا والاطمئنان بما يقع في محيطه من أحداث ، ويوطّن نفسه على قضاء الله وقدره ، فالمصيبة التي تصيبه في حاضره ، قد تتحول إلى بَرَكة ، والقرآن الكريم يُنمّي هذا الاحساس في نفس المؤمن قال تعالى : (.. وعَسى أن تكرهُوا شيئاً وهو خيرٌ لكُم وعسى أن تُحبُّوا شيئاً وهو شرٌّ لكُم واللهُ يعلمُ وأنتم لا تعلمونَ ) (2).
وأحاديث أهل البيت عليهم السلام تعمّق هذا الشعور في نفوس المسلمين ، فقد بعث أمير المؤمنين عليه السلام كتاباً إلى ابن عباس ، وكان ابن عباس يقول : ماانتفعت بكلام بعد كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانتفاعي بهذا الكلام : « أمّا بعد ، فإنّ المرء قد يسرّه درك ما لم يكن ليفوته ، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه ، فليكن سرورك بما نلت من آخرتك ، وليكن أسفك على ما فاتك منها»(3) .
____________
(1)السيرة النبوية ، لابي الفداء 2 : 420 ـ دار الرائد العربي ط3 .
(2) البقرة 2 : 216 .
(3) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : 378 ـ كتاب 22 .

( 63 )
صحيح أنّ الاِنسان العادي بطبعه يمتلكه اليأس والقنوط عند المصائب ، كما أشار القرآن صراحة لذلك بقوله : (... وإن مسَّهُ الشرُّ فيئُوسٌ قنُوطٌ ) (1).. ( ولئن أذقنا الاِنسانَ مِنَّا رحمةً ثمَّ نزعناها منهُ إنَّهُ ليئوسٌ كفورٌ ) (2)، ولكن الاِنسان المؤمن المتسلح بالعقيدة وقور عند الشدائد ، صبور عند النوازل ، لا يتسرب الشك إلى نفسه : (.. لا ييئسُ من رَوحِ اللهِ إلاّ القومُ الكافِرُونَ ) (3).
يصف مولى الموحدين عليه السلام أولياء الله فيقول : « .. وإن صُبّت عليهم المصائب لجؤوا إلى الاستجارة بك ، علماً بأنّ أزمّة الاُمور بيدك ، ومصادرها عن قضائك » (4).
والملاحظ أنّه في الوقت الذي يركّز فيه أمير المؤمنين عليه السلام في توصياته على عدم اليأس من رَوح الله ، فإنّه يؤكد في تعاليمه التربوية العالية على اليأس عما في أيدي الناس ، لكي يكون الاِنسان متكلاً على ربِّه ، ولايكون كلاًّ على غيره ، يقول عليه السلام : « الغنى الاَكبر اليأس عمّا في أيدي الناس » (5).

أساليب العقيدة في مواجهة المصائب :
ضمن هذا السياق ، تخفف العقيدة في نفوس معتنقيها من الضغوط
____________
(1) فصلت 41 : 49 .
(2) هود 11 : 9 .
(3) يوسف 12 : 87 .
(4) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : 349 .
(5) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : 534 .

( 64 )
والاَزمات النفسية التي يتعرضون لها ، فتصبح ضعيفة الاَثر والاَهمية ، ضمن أساليب عديدة ، منها :
أ ـ بيان طبيعة الحياة الدنيا التي يعيش فيها الاِنسان : وهذه المعرفة سوف تظهر بصماتها واضحة في وعيه وسلوكه ، فالعقيدة من خلال مصادرها المعرفية تبين طبيعة الدنيا وتدعوا إلى الزهد فيها .
يقول الاِمام علي عليه السلام : « أيُّها الناس ، انظروا إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها ، الصادفين عنها ، فإنَّها عما قليل تُزيلُ الثاوي الساكن ، وتفجعُ المترف الآمن.. سرورها مشوب بالحزن.. » (1).
وقال أيضاً : « ... وأُحذركم الدنيا ، فإنّها دارُ شخوص ، ومحلَّةُ تنغيص ، ساكنها ضاعن ، وقاطنها بائن ، تميدُ بأهلها مَيَدان السفينة.. » (2).
وكان من الطبيعي والحال هذه أن تحذّر العقيدة من التعلق بأسباب الدنيا الفانية الذي ينتج آثاراً سلبية تنعكس على نفس المسلم ، فعن علقمة ، عن عبدالله ، قال : نام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حصير فقام وقد أثّر في جنبه ، فقُلنا : يا رسول الله ، لو اتخذنا لك وطاءً ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : « ما لي وللدُّنيا، ما أنا في الدنيا إلاّ كراكب استظل تحت شجرة ثمَّ راحَ وتركها »(3).
ويقول وصيه الاِمام علي عليه السلام : « وأُحذركُم الدنيا فإنّها منزلُ قُلعة ، وليست بدار نُجعة ، قد تزيّنت بغُرورها ، وغرَّت بزينتها ، دارُها هانت على ربِّها ، فخلط حلالها بحرامها ، وخيرها بشرها وحياتها بموتها ، وحلوها
____________
(1) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : 148 خطبة | 103 .
(2) نهج البلاغة : 310 .
(3) سُنن الترمذي 4 : 508 | 2377 باب 44 ـ دار الفكر ط 1408 هـ .

( 65 )
بمُرِّها لم يُصفها الله تعالى لاَوليائه ، ولم يضنَّ بها على أعدائه ، خيرُها زهيد وشرُّها عتيد . وجمعها ينفدُ ، ومُلكها يُسلب ، وعامرُها يخربُ . فما خيرُ دار تنقضُ نقضَ البناء ، وعُمر يفنى فيها فناء الزَّاد ، ومُدَّةٍ تنقطعُ انقطاع السير..» (1)) .
يقول الشيخ الديلمي : ما عبر أحد عن الدنيا كما عبر أمير المؤمنين عليه السلام بقوله : « دارٌ بالبلاءِ محفوفة ، وبالغدر معروفة ، لا تدوم أحوالها ، ولا تسلم نزالها ، أحوالها مختلفة ، وتارات متصرفة ، والعيش فيها مذموم ، والاَمان فيها معدوم ، وإنّما أهلها فيها أغراض مستهدفة ، ترميهم بسهامها ، وتفنيهم بحمامها... » (2).
وكان من الطبيعي أن يؤدي هذا الادراك العميق للدنيا إلى حذر شديد منها ، ويكفينا الاستدلال على ذلك : سأل معاوية ضرار بن ضمرة الشيباني عن أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال : أشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله ، وهو قائم في محرابه ، قابض على لحيته ، يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، ويقول : « يا دنيا ! يا دنيا !! إليك عني ، أبيَّ تعرّضتِ ؟! أم إليَّ تشوّقتِ ؟! لا حان حينك ، هيهات غرّي غيري ، لاحاجة لي فيك ، قد طلّقتك ثلاثاً ، لا رجعة فيها ، فعيشك قصير ، وخطرك يسير ، وأملك حقير ، آه من قلّة الزّاد ، وطول الطريق ، وبعد السفر ، وعظيم المورد» (3).

____________
(1) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : 167 | خطبة 113 .
(2) ارشاد القلوب ، للديلمي 1 : 30 ـ منشورات الرضي ـ قم .
(3) تنبيه الخواطر ، الاَمير ورّام 1 : 79 | باب العتاب .

( 66 )
ومن جملة تلك الشواهد ، نجد أنّ العقيدة تكشف طبيعة الدنيا وعاقبة من ينخدع بها أو يركن اليها ، وتبين قصور رؤية من ينشد الراحة التامة فيها، عن الصادق عليه السلام أنّه قال لاَصحابه : « لا تتمنّوا المستحيل ، قالوا : ومن يتمنى المستحيل ؟! فقال عليه السلام : أنتم ، ألستم تمنّون الراحة في الدّنيا ؟ قالوا : بلى، فقال عليه السلام : الرّاحة للمؤمن في الدنيا مستحيلة » (1).
ب ـ إنّ المصائب تستتبع أجراً وثواباً : الاَمر الذي يخفف من وقع المصائب على الاِنسان ، فيواجهها بقلب صامد ، ونفس مطمئنة إلى ثواب الله ورحمته ، فلا تترك في نفسه أثراً أكثر مما تتركه فقاعة على سطح الماء.
يقول الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم : « المصائب مفاتيح الاَجر » (2).
وكتب رجلٌ إلى أبي جعفر عليه السلام يشكو إليه مصابه بولده ، فكتب إليه عليه السلام : « أما علمت أنّ الله يختار من مال المؤمن ومن ولده ونفسه ليأجره على ذلك » (3) .
جـ ـ إلفات نظر المسلم إلى المصيبة العظمى : وهي مصيبته في دينه ، مما يهوّن ويصغّر في نفسه المصائب الدنيوية الصغيرة ، وهي حالة امتصاص بارعة للضغوط النفسية تقوم بها العقيدة ، ويحتل هذا التوجه مركز الصدارة في سيرة أهل البيت التربوية ، روي أنّه رأى الصادق عليه السلام رجلاً قد اشتدّ جزعه على ولده ، فقال عليه السلام : « يا هذا جزعت للمصيبة الصغرى ، وغفلت عن المصيبة الكبرى ، لو كنت لما صار إليه ولدك مستعدّاً
____________
(1) أعلام الدين ، للديلمي : 278 .
(2) بحار الاَنوار 82 : 122 ـ عن مسكن الفؤاد .
(3) بحار الانوار 82 : 123 ـ عن مشكاة الانوار : 280 .

( 67 )
لما اشتد عليه جزعك ، فمصابك بتركك الاستعداد له ، أعظم من مصابك بولدك»(1).
وكان أبو عبدالله عليه السلام يقول عند المصيبة : « الحمدُ لله الذي لم يجعل مصيبتي في ديني ، والحمدُ لله الذي لو شاء أن يجعل مصيبتي أعظم ممّا كانت ، والحمدُ لله على الاَمر الذي شاء أن يكون فكان » (2).
من جميع ما تقدم ، نخلص إلى أنّ العقيدة تصوغ نفوساً قوية مطمئنة ، تواجه عواصف الاَحداث بقلب صامد ومطمئن إلى قضاء الله وقدره ، وترسم العقيدة للاِنسان خطّ سيره التكاملي ، وعليه فالاِنسان بلا عقيدة كالسفينة بلا بوصلة ، سرعان ما تصطدم بصخور الشاطىء فتتحطم .

ثانياً : تحرير النفس من المخاوف :
مما لا شكَّ فيه ، أنّ الخوف يبدد نشاط الفرد ، ويُشل طاقته الفكرية والجسمية ، وكان الاِنسانُ الجاهلي في خوف دائم من أخيه الاِنسان ودسائسه ، ومن الطبيعة المحيطة به وكوارثها ، ومن الموت الذي لا سبيل له إلى دفعه ، ومن الفقر والجدب ، ومن المرض وما يرافقه من آلام ، وتخفف العقيدة من وطأة الاحساس بتلك المخاوف التي تشلُّ طاقة الاِنسان عن الحركة والانتاج ، وتجعله غرضاً للهموم والهواجس .
الموت تحفة !
ينبّه القرآن الكريم إلى حقيقة أزلية ، على الاِنسان أن يوطّن نفسه
____________
(1) روضة الواعظين ، للفتال النيسابوري : 489 ـ منشورات الرضي ـ قم .
(2) الكافي ، للكليني 3 : 262 | 42 باب النوادر .

( 68 )
عليها، وهي : ( كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموتِ ) (1).
وعليه فلا بدَّ مما ليس منه بد ، والموت لا بدَّ أن يدرك الحي يوماً ما ، كما أدرك مَنْ قبله ، وهو شيء لا عاصم منه.. قال تعالى : ( أينما تكُونوا يُدرككُم الموتُ ولو كُنتُم في بُروجٍ مشيَّدة.. ) (2). وقال : ( قُلْ لَّن ينفعكُم الفرارُ إن فررتُم من الموتِ.. ) (3).
فالقرآن ـ إذن ـ يؤكد أنّ الموت لا بدَّ منه ، ثم أنّه أمرٌ منوط بإذن الله تعالى وليس بيد غيره ، وهذه حقيقة لها انعكاسات إيحائية على نفس الاِنسان ، بأنَّ أي قوة أرضية أو سماوية لا تستطيع ـ مهما أُوتيت من قوة ـ أن تسلب الحياة عن الاِنسان قال تعالى : ( ما كان لنفسٍ أن تموتَ إلاَّ بإذن اللهِ كتاباً مُؤجَّلاً..) (4).
ولقد بيّن القرآن الكريم زيفَ مزاعم اليهود الذين كانوا مع حرصهم الشديد على الحياة يتصورون أنهم أولياء الله دون غيرهم ، فكشف عن زيف مزاعمهم بهذا التحدّي الذي يخاطب دفائن النفوس ، ذلك أنَّ المؤمن بالله حقاً لا يخشى الموت إذا حلَّ بساحته ، فالموت هو انتقال من دار فانية إلى دار باقية ، واليهود بما يمتازون به من نزعة مادية طاغية ، يخشون الموت ويتشبثون بالحياة ، ومن هنا واجههم القرآن الكريم بهذا التحدي البليغ قال تعالى : ( قُل يأيُّها الَّذين هادُوَا إن زعمتم أنّكُم أولياءُ للهِ
____________
(1) آل عمران 3 : 185 .
(2) النساء 4 : 78 .
(3) الاَحزاب 33 : 16 .
(4) آل عمران 3 : 145 .

( 69 )
من دُونِ النّاسِ فتَمنَّوا الموتَ إن كنتم صادقين * ولا يتمنَّونه أبداً بما قدَّمت أيديهم والله عليمٌ بالظالمين ) (1).
ويقول الاِمام علي عليه السلام : « ... فما ينجو من الموت من خافه ، ولا يعطى البقاء من أحبّه » (2). والمثير في الاَمر أنّ العقيدة في الوقت الذي تخفف من خوف الاِنسان من الموت ، تصوّر الموت للمؤمن كأنه تحفة ! ينبغي الاِقدام عليه ، وفي ذلك يقول الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم : « تحفة المؤمن الموت » وإنّما قال هذا لاَنَّ الدنيا سجن المؤمن ، إذ لا يزال فيها في عناء من رياضة نفسه ومقاساة شهواته ومدافعة الشيطان ، فالموت إطلاق له من العذاب ، والاِطلاق تحفة في حقّه لما يصل إليه من النعيم الدائم (3).
وقال الاِمام أبو عبدالله الحسين عليه السلام لاَصحابه يوم عاشوراء : « صبراً ياكرام ! فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضّراء إلى الجنان الواسعة والنّعيم الدائم ، فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر ؟.. » (4).
من جانب آخر ، تدعو مدرسة آل البيت عليهم السلام إلى ضرورة معرفة الموت، فإنّ معرفة الشيء قد تبدّد المخاوف منه ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : « إذا هبت أمراً فقع فيه ، فإنَّ شدَّة توقّيه أعظم مما تخاف منه » (5)، وقد روي عن الاِمام علي بن محمد الهادي عليه السلام أنّه قال لمريض من أصحابه ، عندما دخل عليه فوجده يبكي جزعاً من الموت : « يا عبد الله ، تخاف من
____________
(1) الجمعة 62 : 6 ـ 7 .
(2) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : 81 | خطبة 38 .
(3) تنبيه الخواطر ، الاَمير ورّام 1 ـ 2 : 268 باب ذكر الموت .
(4) معاني الاخبار ، للصدوق : 288 ـ منشورات جماعة المدرسين ـ ط 1379 هـ .
(5) نهج البلاغة : قصار الحكم | 175 .

( 70 )
الموت لاَنّك لا تعرفه ، أرأيتك إذا اتسخت وتقذّرت ، وتأذيّت من كثرة القذر والوسخ عليك ، وأصابك قروح وجرب ، وعلمت أنّ الغسل في حمام يزيل ذلك كلّه ، أما تريد أن تدخله ، فتغسل ذلك عنك أو تكره أن تدخله فيبقى ذلك عليك ؟ قال : بلى يا ابن رسول الله ، قال عليه السلام : فذاك الموت هو ذلك الحمام ، وهو آخر ما بقي عليك من تمحيص ذنوبك ، وتنقيتك من سيئاتك ، فإذا أنت وردت عليه وجاوزته، فقد نجوت من كلِّ غمٍّ وهمٍّ وأذى ، ووصلت إلى كلِّ سرور وفرح » ، فسكن الرجل واستسلم ونشط ، وغمض عين نفسه ، ومضى لسبيله (1).
ضمن هذا الاطار ، قيل للاِمام الصادق عليه السلام : صف لنا الموت ، قال عليه السلام : «للمؤمن كأطيب ريح يشمّه ، فينعس لطيبه ، وينقطع التّعب والاَلم كلّه عنه، وللكافر كلسع الاَفاعي ولدغ العقارب أو أشدّ.. » (2).
هكذا تقدم العقيدة إشعاعاً من الاَمن يخفف من وطأة الموت ، فإنّه للمؤمن تحفة وراحة . قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « شيئان يكرهما ابن آدم : يكره الموت فالموت راحة للمؤمن من الفتنة ، ويكره قلة المال وقلة المال أقل للحساب » (3) .
والاَئمة عليهم السلام يؤكدون على الاكثار من ذكر الموت ، لما فيه من آثار تربوية قيّمة ، فهو يميت الشهوات في النفس ، ويهوّن مصائب الدنيا التي تعصف بالاِنسان مثل ريح السموم ، يقول الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم : « أكثروا
____________
(1) معاني الاخبار ، للصدوق : 290 .
(2) عيون أخبار الرضا ، لابن بابويه 2 : 248 ـ مؤسسة الاعلمي ط 1 .
(3) روضة الواعظين ، للفتال النيسابوري : 486 في ذكر الموت .

( 71 )
من ذكر الموت فإنّه يمحّص الذنوب ، ويزهّد في الدنيا » (1).
ويقول الاِمام علي عليه السلام : « أكثروا ذكر الموت ، ويوم خروجكم من القبور ، وقيامكم بين يدي الله عزَّ وجل تهون عليكم المصائب » (2).
ومن وصايا أمير المؤمنين لابنه الحسن عليهما السلام : « يا بُنيَّ أكثر من ذكر الموت ، وذكر ما تهجُمُ عليه ، وتُفضي بعد الموت إليه ، حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك ، وشددت له أزرك ، ولا يأتيك بغتة فيبهرك » (3). وقال عليه السلام أيضاً : « من أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير » (4).
ونعود لنقول إنّ العقيدة تحرر النفوس من شبح الخوف من الموت من خلال التأكيد على أنّه حقيقة لا بدَّ منها ، يجب التسليم بها ، والتسالم معها عبر معرفة حقيقة الموت ، وأنّه للمؤمن راحة ، وبدلاً من نسيانه أو تناسيه ، يجب أن نديم ذكره لما في ذلك من معطيات إيجابية قد أشرنا إليها فيما سبق .
الرّزق مضمون لطالبه :
هناك خوف ينتاب الاِنسان ، وينغّص عليه حياته ، وهو الخوف من الفقر ، لكن العقيدة تبدد هذا الخوف من خلال التأكيد على حقيقة واضحة كالشمس في رابعة النهار ، وهي أنّ مقادير الرزق بيد الله تعالى ، وقد ضمنها لعباده ، وعليه فلا مبرّر لهذه المخاوف ، ومن يقرأ القرآن يجد آيات كثيرة ، تحثَّ على إزالة أسباب الخوف من الفقر التي أدّت بالجاهلي
____________
(1) تنبيه الخواطر 1 : 269 .
(2) الخصال ، للصدوق 2 : 616 حديث الاربعمائة .
(3) نهج البلاغة : 400 كتاب 31 .
(4) روضة الواعظين : 490 .

( 72 )
إلى قتل أبنائه قال تعالى : ( إنَّ اللهَ هوَ الرّزَّاقُ ذو القوّةِ المتينُ ) (1). وقال تعالى : ( ولا تقتُلُوا أولادَكُم خَشيةَ إملاقٍ نحنُ نرزُقُهُم وإياكُم ) (2).
وجاءت أحاديث الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته الاَطهار عليهم السلام على هذا المنوال ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « أبواب الجنة مفتَّحة على الفقراء والمساكين ، والرحمة نازلة على الرحماء ، والله راضٍ عن الاَسخياء » (3).
ويقول وصيه الاِمام علي عليه السلام : « .. عياله الخلائق ، ضمن أرزاقهم ، وقدّر أقواتهم.. » (4) .
من جهة أُخرى ، قاموا بتصحيح مفهوم الناس عن الرّزق ، صحيح أنّ الله تعالى قد ضمن أرزاق عباده ، ولكن لا يعني ذلك أنّه يشجعهم على التواكل والكسل ، والقعود والابتعاد عن العمل ، وإنّما ربط تعالى تحصيل الرزق بشرط السعي والطلب ، يقول أمير المؤمنين عليه السلام : « اطلبوا الرّزق فإنّه مضمون لطالبه » (5).
وكان أمير المؤمنين عليه السلام يضرب بالمرّ ـ أي المسحاة ـ ويستخرج الاَرضين ، وأنّه أعتق ألف مملوك من كدِّ يده (6).
وكان عليه السلام يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة حتى كلّت يده ،
____________
(1) الذاريات 51 : 58 .
(2) الاِسراء 17 : 31 .
(3) روضة الواعظين ، للفتال النيسابوري 2 : 454 .
(4) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : 124 | خطبة 91 .
(5) الارشاد ، للشيخ المفيد : 160 ـ منشورات مكتبة بصيرتي ـ قم .
(6) الكافي 5 : 74 | 2 .

( 73 )
ويتصدّق بالاَجر ، ويشدّ على بطنه حجراً (1).
فلم يكن من عمله الشاق هذا ، حريصاً على جمع المال لذاته ، فالاِمام علي عليه السلام لا تغرّه بيضاء ولا صفراء ، بل كان يطلب الرّزق الحلال من حِلِّه وينفقه في محله .
«ولما كانت النفوس مشغوفة بالمال ، مولعة بجمعه واكتنازه ، فحريٌّ بالمؤمن الواعي المستنير ، أن لا ينخدع ببريقه ، ويغتر بمفاتنه ، وأن يتعظ بحرمان المغرورين به ، والحريصين عليه ، من كسب المثوبة في الآخرة ، وإفلاسهم مما زاد عن حاجاتهم وكفافهم في الدنيا ، فإنّهم خزّان أمناء ، يكدحون ويشقون في ادّخاره ثم يخلّفونه طعمة سائغة للوارثين ، فيكون عليهم الوزر ولاَبنائهم المهنى والاغتباط» (2).
هكذا تستأصل العقيدة من النفوس جذور الخوف من الفقر ، وتجعله يسعى بكلِّ اطمئنان لضمان متطلبات عيشه الكريم .
المرض يمحو الذنب.. ويستدعي الثواب !
من جانب آخر لطّفت العقيدة من مخاوف الاِنسان الدائمة من المرض من خلال التأكيد على حقيقة بديهية ، هي إنّ كلَّ جسم معرّض للسقم ، يقول الاِمام علي عليه السلام : « لا ينبغي للعبد أن يثق بخصلتين : العافية والغنى . بينما تراهُ معافى إذ سقم ، وبينما تراهُ غنياً إذْ افتقر » (3).

____________
(1) شرح النهج 1 : 7 .
(2) أخلاق أهل البيت ، للسيد مهدي الصدر : 143 ـ دار الكتاب الاسلامي .
(3) نهج البلاغة : 551 حكم 426 .

( 74 )
كما أكدت على أنّ المرض يسقط الذنب ، يقول الاِمام السجاد عليه السلام : «إنَّ المؤمن إذا حمَّ حمى واحدة، تناثرت الذُّنوب منه كورق الشجر..»(1). وعن أبي عبدالله عليه السلام قال : « صداع ليلة يحطُّ كلُّ خطيئة إلاّ الكبائر (2)» .
وإضافة لذلك فإنّ فيه الثواب الجزيل ما يخفّف من وطأته على النفوس، يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : « عجبتُ من المؤمن وجزعه من السقم ، ولو يعلم ماله في السُقم من الثواب ، لاَحبّ أن لا يزال سقيماً حتى يلقى ربّه عزَّ وجل » (3).
ويحدّد الاِمام الرضا عليه السلام فلسفة المرض بقوله : « المرض للمؤمن تطهير ورحمة ، وللكافر تعذيب ولعنة ، وإنَّ المرض لا يزال بالمؤمن حتى لا يكون عليه ذنب » (4).
ونعود لنقول بأنَّ الله لم يجعل المرض عبثاً ، بل جعله وسيلةً لامتحان الاِنسان ومعرفة صبره على النوازل ، لذلك امتحن به أنبياءه والصالحين من عباده ، فأيوب عليه السلام ـ كما هو معروف ـ كان ابتلاؤه في جسده : (ولم يبقَ منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه يذكر الله عزَّ وجل بهما ، وهو في ذلك كله صابر محتسب ، ذاكر لله في ليله ونهاره وصباحه ومسائه ، وطال مرضه حتى عافه الجليس ، وأوحش منه الاَنيس ، وأُخرج من بلده ، وانقطع عنه الناس ، ولم يبقَ أحد يحنو عليه سوى زوجته التي كانت ترعى له حقه
____________
(1) ثواب الاعمال وعقاب الاعمال ، للشيخ الصدوق : 228 ـ مكتبة الصدوق ـ طهران .
(2) ثواب الاعمال وعقاب الاعمال ، للشيخ الصدوق : 230 .
(3) كتاب التوحيد ، للصدوق : 400 ـ مؤسسة النشر الاِسلامي ـ قم .
(4) ثواب الاعمال وعقاب الاعمال ، للصدوق : 229 باب ثواب المرض .

( 75 )
وتعرف قديم إحسانه إليها.. ولم يزد هذا كله أيوب عليه السلام إلاّ صبراً واحتساباً وحمداً وشكراً ، حتى إنّ المثل ليضرب بصبره) (1). فكان نتيجة هذا الصبر والاحتساب أن ردَّ الله تعالى إليه كلّ ما أخذ منه كرماً وإحساناً .
والعقيدة في الوقت الذي تأمر المسلم بالتزام الصبر ، تنصحه بعدم الشكوى من المرض ، فالشكوى تعني ضمن ما تعنيه ، اتّهام الله تعالى في قضائه ، كما أنّها تحطّ من قدر الاِنسان في نظر الناس ، وتبعث على الشماتة به أو التهكم عليه ، يقول أمير المؤمنين عليه السلام : « كان لي فيما مضى أخ في الله ، وكان يعظّمه في عيني صغر الدّنيا في عينه.. وكان لا يشكو وجعاً إلاّ عند بُرئه.. » (2).
ولا بدَّ من الاِشارة إلى أنّ العقيدة في الوقت الذي تبدّد غيوم المخاوف في نفس الاِنسان ، تنمّي فيه شعور الخوف من الله تعالى وحده باعتباره السبيل للتحرّز من جميع المخاوف ، وتحذّر من عصيانه ، وتلوّح بشدّة انتقامه ، والقرآن الكريم في آيات كثيرة يعمّق من شعور النفس بالخوف من الله تعالى، منها : ( قُل إنّي أخافُ إن عصَيتُ ربي عذابَ يومٍ عظيمٍ ) (3). وقال تعالى : ( وأمّا من خافَ مقامَ ربِّهِ ونهى النَّفسَ عَنِ الهوى * فإنَّ الجنَّة هي المأوى ) (4).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « ما سلط الله على ابن آدم إلاّ من خافه ابن آدم ،
____________
(1) البداية والنهاية ، لابن الاَثيرالدمشقي 1 : 254 | 1 ـ دار احياء التراث العربي 1408 ط 1.
(2) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : 526 .
(3) الانعام 6 : 15 .
(4) النازعات 79 : 40 ـ 41 .

( 76 )
ولو أنّ ابن آدم لم يخف إلاّ الله ما سلّط الله عليه غيره.. » (1).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً : « طوبى لمن شغله خوف الله عن خوف الناس » (2).
وبطبيعة الحال إنّ لهذا النوع من الخوف آثاراً تربوية مهمة تعود لصالح الفرد ، وفي هذا الصدد ، يقول الاِمام الصادق عليه السلام : « من عرف الله خاف الله، ومن خاف الله سخت نفسه عن الدنيا » (3).
وتترتب عليه آثار اجتماعية أيضاً حيثُ إنّه يدفع الفرد إلى مدِّ يدِّ العون إلى الآخرين ، قال تعالى : ( ويُطعمونَ الطعامَ على حُبّهِ مسكِيناً ويتِيماً وأسيراً * إنَّما نُطعمكُم لوجهِ الله لا نُريدُ منكُم جزآءً ولا شُكوراً * إنّا نخافُ مِنْ ربّنا يوماً عبُوساً قمطريراً ) (4).
وصفوة القول ، لقد غيرت العقيدة النفوس ، وفتحت لها آفاقاً واسعة بتحريرها من مخاوفها ، كما أوصلت حبلها بخالقها ، وأشعرتها بنعمائه ، وخوفتها من أليم عقابه .

ثالثاً : معرفة النفس
من معطيات العقيدة ، أنها تدفع الاِنسان المسلم إلى معرفة نفسه ، فلايمكن السمو بالنفس دون معرفة طبيعتها ، وهذه المعرفة هي خطوة أولية للسيطرة عليها وكبح جماحها ، يقول الاِمام الباقر عليه السلام : « .. لا معرفة
____________
(1) كنز العمال 3 : 148 | 5909 .
(2) تحف العقول ، لابن شعبة الحرّاني : 28 ـ مؤسسة الاعلمي ط5 .
(3) اُصول الكافي 2 : 68 | 4 باب الخوف والرجاء .
(4) الاِنسان 76 : 8 ـ 10 .

( 77 )
كمعرفتك بنفسك.. » (1).
ثم إنَّ هناك علاقة ترابطية وثيقة بين معرفة الله ومعرفة النفس ، فمن خلال معرفة الاِنسان لنفسه وطبيعتها وقواها ، يستطيع التعرف على خالقها ويُقدّر عظمته ، ففي الحديث الشريف : « من عرف نفسه فقد عرف ربه » وبالمقابل فإنّ نسيان الله تعالى يؤول إلى نسيان النفس : (ولاتكُونُوا كالَّذينَ نسُوا اللهَ فأنساهُم أنفُسَهُم.. ) (2).

دور العقيدة في تعريف الاِنسان بنفسه :
مما لا شكّ فيه أنّ العقيدة ـ عبر مصادرها المعرفية ورموزها ـ قامت بدور كبير في الكشف عن طبيعة النفس ، وشخّصت بدّقة متناهية أمراضها والآثار الناجمة عنها .
فالقرآن الكريم يقرُّ صراحة بأنّ النفس أمارة بالسوء : ( وما أُبرّىءُ نفسي إنَّ النفسَ لاَمَّارةٌ بالسُّوءِ إلاَّ ما رحمَ ربي.. ) (3).
كما يقرُّ القرآن أيضاً ، بأنّ النفس شحيحة قال تعالى : (.. وأُحضرتِ الاَنفسُ الشُّحّ.. ) (4)، وقال : (.. من يُوقَ شُحَّ نفسهِ فأُولئكَ هُمُ المُفلحُون)(5).
وهناك طائفة من الاَحاديث تسلط الضوء على طبيعة النفس ، وتقدّم
____________
(1) تحف العقول : 208 من وصية الاِمام الباقر عليه السلام لجابر الجعفي .
(2) الحشر 59 : 19 .
(3) يوسف 12 : 53 .
(4) النساء 4 : 128 .
(5) الحشر 59 : 9 .

( 78 )
الرؤية العلاجية لاَمراضها ، منها : ما كتبه الاِمام علي عليه السلام إلى الاشتر النخعي لمّا ولاّه مصر ، وجاء فيه : « .. وأمرهُ أن يكسر نفسهُ من الشهوات ، ويزعها عند الجمحات ، فإنَّ النفس أمّارة بالسَّوءِ ، إلاّ ما رحم الله.. » (1).
ومن خطبة له عليه السلام ضمّنها مواعظ للناس ، جاء فيها : «.. نستعينه من هذه النّفوس البطاء عمَّا أُمرت به ، السِّراع إلى ما نُهيت عنه.. » (2).
ويقول عليه السلام أيضاً : « النفس مجبولة على سوء الاَدب ، والعبدُ مأمور بملازمة حسن الاَدب ، والنّفس تجري بطبعها في ميدان المخالفة ، والعبدُ يجهد بردّها عن سوء المطالبة ، فمتى أطلق عنانها فهو شريك في فسادها ، ومن أعان نفسه في هوى نفسه فقد أشرك نفسه في قتل نفسه » (3).
على هذا الصعيد لا بدَّ من الاشارة إلى أنّ الاَمراض النفسية إذا لم تُعالج ، فإنّها قد تؤدي إلى عواقب وخيمة ، فعلى سبيل الاستشهاد نجد أنّ الفتنة الكبرى التي حصلت للمسلمين في السقيفة ، عندما أُقصيت القيادة الشرعية عن مركز القرار ، كانت جذورها نفسية ، ويكفينا الاستدلال على ذلك بكلام أمير المؤمنين عليه السلام لبعض أصحابه وقد سأله : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحقُّ به ؟ فقال عليه السلام : « ... أمّا الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الاَعلون نسباً ، والاَشدّون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نوطاً ، فإنها كانت أثَرَة شحّت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرين، والحَكَم الله » (4).

____________
(1) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : 427 كتاب 53 .
(2) نهج البلاغة : 169 | خطبة 114 .
(3) ميزان الحكمة 1 : 16 عن مشكاة الاَنوار .
(4) نهج البلاغة : 231 .

( 79 )
فالشحُّ الكامن في نفوس البعض كان السبب الاَساس في أول وأعظم انحراف شهدته المسيرة الاِسلامية بعد ساعات قليلة من رحيل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . لذلك كان أئمة أهل البيت عليهم السلام مع عصمتهم المحققة ، يلجؤون إلى الله تعالى بالدعاء لكي يقيهم هذا المرض النفسي الخطير ، فعن الفضل بن أبي قرة قال : رأيت أبا عبدالله عليه السلام يطوف من أول الليل إلى الصباح وهو يقول : « اللهمَّ قني شحَّ نفسي ، فقلتُ : جعلتُ فداك ماسمعتك تدعو بغير هذا الدعاء ؟ قال عليه السلام : وأيُّ شيءٍ أشدُّ من شُح النفس ، إن الله يقول : ( ومن يوقَ شُحَّ نفسهِ فاُولئكَ هُمُ المُفلِحُونَ ) » (1).

رابعاً : السيطرة على النفس
منهج العقيدة في تربية النَّفس ، أنّها تدعو إلى عدم كبت رغباتها لاَنّ الكبت يقتُل حيويتها ، ويُبدد طاقتها ، فلا تعمل ولا تنتج ، وفي الوقت ذاته لا تشجع العقيدة على إطلاق رغباتها بلا ضوابط ، بل تحثُّ على اتّباع سياسة حكيمة معها ، يقول أمير المؤمنين عليه السلام : « سياسة النفس أفضل سياسة » (2) .
وعملية السيطرة على النفس تتحقق من خلال ضبط رغباتها وتوجيه نزواتها نحو الاعتدال ، وتتحقق أيضاً من خلال محاسبتها ، قال الاِمام موسى بن جعفر عليه السلام : « ليس مِنَّا من لم يحاسب نفسه في كلِّ يوم ، فإن عمل حسنة استزاد الله تعالى ، وإن عمل سيئة استغفر الله تعالى منها وتاب إليه»(3).

____________
(1) ميزان الحكمة 5 : 33 عن نور الثقلين 5 : 291 .
(2) ميزان الحكمة 10 : 134 عن غرر الحكم .
(3) أخلاق أهل البيت ، للسيد مهدي الصدر : 351 . والحديث في الوافي 3 : 62 عن الكافي .

( 80 )
ولا بدَّ من الاِشارة إلى أنّ العقيدة لا تحبذ اتّباع الوسائل الملتوية من أجل السيطرة على النفس ، فعن طلحة قال : انطلق رجل ذات يوم فنزع ثيابه وتمرّغ في الرمضاء ، وكان يقول لنفسه : ذوقي ، وعذاب جهنّم أشد حرّاً ، أجيفة باللّيل بطّالة بالنّهار ؟!
قال : فبينا هو كذلك إذ أبصره النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم في ظل شجرة فأتاه ، فقال : غلبتني نفسي ، فقال له النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم : « ألم يكن لك بدٌّ من الذي صنعته؟»(1) .
من هذا التوجه النبوي ، نجد أنّه في الوقت الذي تشجّع فيه العقيدة كلّ محاولة صادقة من الاِنسان للسيطرة على نفسه ، نجد أيضاً أنّها لا تُحبّذ اتّباع الاَساليب غير العقلانية للسيطرة على النفس ، فالنفس تحتاج إلى صبر وسياسة طويلة ورياضة خاصة لتقلع عن ضراوة عاداتها ، كتلك الرياضة التي أقسم أمير المؤمنين عليه السلام على اتّباعها مع نفسه : « ... وأيم الله ـ يميناً أستثني فيها بمشئية الله ـ لاَروضنَّ نفسي رياضة تَهشُ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً ، وتقنع بالملح مأدوماً... » (2).
وإنّ الاِنسان ليقف مبهوراً أمام قدرة الاِمام عليه السلام في السيطرة على نفسه ، رغم أنّ الاَموال كانت تجبى إليه من مختلف بلدان الخلافة الاِسلامية أيام خلافته ، ولقد أبرَّ بقسمه الذي قطعه على نفسه ، عن حبة العرني قال : أُتي أمير المؤمنين عليه السلام بخوان فالوذج فوضع بين يديه ونظر إلى صفائه وحسنه فوجى باصبعه فيه حتى بلغ أسفله ثمَّ سلّها ولم يأخذ منه شيئاً ، وتلمّظ اصبعه وقال : « إنَّ الحلال طيّب ، وما هو بحرام ، ولكنّي أكره أن أعوّد
____________
(1) المحجة البيضاء ، للمحقق الكاشاني 8 : 68 ـ مؤسسة الاعلمي ط2 .
(2) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : 419 .

( 81 )
نفسي ما لم أعوّدها ، ارفعوه عنّي » فرفعوه (1).
وكان عليه السلام يجعل جريش الشعير في وعاء ويختم عليه ، فقيل له في ذلك ، فقال عليه السلام : « أخافُ هذين الولدين أن يجعلا فيه شيئاً من زيت أو سمن»(2).
الخوف والرجاء :
مما يمكن التأكيد عليه أنّ في النفس خطان متقابلان هما الخوف والرجاء ، والعقيدة تعمد إلى كلا الخطين ، فتبدد عن النفس كل خوف باطل وكل رجاء منحرف ، وبدلاً من ذلك تُنمّي الخوف من الله من جانب، ورجاء ثوابه من جانب آخر قال تعالى : ( ... يحذرُ الآخرةَ ويرجُو رحمةَ ربهِ... ) (3)، فليست نظرتها أحادية الجانب كأن تركز على جانب الخوف فتؤيس الاِنسان من رحمة الله ، أو تركز ـ بالمقابل ـ على الرجاء فتضعف في نفسه الخشية من الله .
يقول الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم : « لو تعلمون قدر رحمة الله لاتّكلتم عليها وما عملتم إلاّ قليلاً ، ولو تعلمون قدر غضب الله لظننتم بأن لا تنجوا » (4).
ويقول وصيه الاِمام علي عليه السلام : « إنّ استطعتم أن يشتدَّ خوفكم من الله وأن يحسن ظنّكم به ، فاجمعوا بينهما ، فإنّ العبد إنّما يكون حسن ظنّه بربّه على قدر خوفه من ربّه ، وإنّ أحسن الناس ظنّاً بالله أشدهم خوفاً لله » (5).

____________
(1) وسائل الشيعة 16 : 508 ـ دار احياء التراث العربي .
(2) وسائل الشيعة 16 : 509 .
(3) الزمر 39 : 9 .
(4) كنز العمال 3 : 144 | 5894 .
(5) نهج البلاغة : 384 .

( 82 )
وتجدر الاشارة إلى أنّ الناس «يختلفون في طباعهم وسلوكهم اختلافاً كبيراً ، فمن الحكمة في إرشادهم وتوجيههم ، رعاية ما هو الاَجدر بإصلاحهم من الترجّي والتخويف فمنهم من يصلحه الرجاء ، وهم العصاة النادمون على ما فرّطوا في الآثام ، فحاولوا التوبة إلى الله ، بيد أنهم قنطوا من عفو الله وغفرانه ، لفداحة جرائمهم ، وكثرة سيئاتهم ، فيعالج والحالة هذه قنوطهم بالرجاء بعظيم لطف الله ، وسعة رحمته وغفرانه .
أما الذين يصلحهم الخوف : فهم المردة العصاة ، المنغمسون في الآثام، والمغترون بالرجاء ، فعلاجهم بالتخويف والزجر العنيف ، بما يهددهم من العقاب الاَليم ، والعذاب المهين» (1).
وكان لاَتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام الذين سكن خوف الله تعالى في نفوسهم وانعكس على جوارحهم ، وزرع رجاؤه في قلوبهم ، أروع الامثلة في هذا المجال ، فروي عن أبي ذر رحمه الله أنّه بكى من خشية الله حتّى اشتكى بصره ، فقيل له لو دعوت الله يشفي بصرك ؟! ، فقال : إنّي عن ذلك مشغول ، وما هو أكبر همّي . قالوا : وما شغلك عنه ؟! قال : العظيمتان : الجنة والنار (2).
من جانب آخر يُنمّي روّاد هذه المدرسة الاِلهية شعور الرّجاء في النفوس ، فمن وصايا أمير المؤمنين لابنه الاِمام الحسن عليهما السلام : « أي بُنيَّ ، لا تؤيّس مذنباً ، فكم من عاكف على ذنبه خُتم له بخير ، وكم من مقبل على عمل مفسد من آخر عمره ، صائر إلى النار، نعوذ بالله منها » (3).

____________
(1) أخلاق أهل البيت ، للسيد مهدي الصدر : 129 ـ دار الكتاب الاسلامي .
(2) روضة الواعظين : 285 في فضائل أبي ذر رضي الله عنه .
(3) تحف العقول : 66 ـ مؤسسة الاعلمي ط 5 .