الفصل الرابع

البناء الاَخلاقي

العقيدة تشكّل مرتكزاً متيناً للاَخلاق ، لاَنّها تخلق الواعز النفسي عند الاِنسان للتمسك بالقيم الاَخلاقية السامية ، على العكس من العقائد الوضعية التي تساير شهوات الاِنسان ، وتنمّي بذور الاَنانية المغروسة في نفسه .
والاَخلاق تحظى بأهمية استثنائية في العقيدة الاِسلامية ، قال الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم : « بُعثتُ لاتُمّم مكارم الاَخلاق » (1). وقال صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً : «الخُلق الحسن نصف الدين ، وقيل له : ما أفضل ما أعطى المرىء المسلم ؟ قال : الخُلق الحسن » (2).
الاِسلام يربط بين الدين الحق والاَخلاق ، مثل هذه الرؤية تتوضح خطوطها في أنّ الدين يحثُّ على الاَخلاق الحسنة ويقوم بتهذيب الطباع ويجعل ذلك تكليفاً في عنق الفرد يستتبع الثواب أو العقاب ، وعليه فلم يقدّم الدين توجهاته الاَخلاقية المثالية بصورة مجردة عن المسؤولية ، وإنّما جعل الاَخلاق نصف الدين ، لاَن الدين اعتقاد وسلوك . والاَخلاق تمثل الجانب السلوكي للفرد .
____________
(1) كنز العمال 11 : 240 | 31969 .
(2) روضة الواعظين ، للفتال النيسابوري : 376 ـ منشورات الرضي ـ قم .

( 84 )
قال الاِمام الباقر عليه السلام : « إنَّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً » (1). جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بين يديه فقال : يا رسول الله ما الدين ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : « حُسن الخلق . ثم أتاه من قبل شماله فقال : ما الدين ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : حُسن الخلق . ثم أتاه عن يمينه فقال : ما الدين؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : حُسن الخُلق ، ثم أتاه من ورائه فقال : ما الدين ؟ فالتفت إليه صلى الله عليه وآله وسلم وقال : أما تفقه الدين ؟ هو أن لا تغضب » (2).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام : « عنوان صحيفة المؤمن حُسن خُلقه » (3).
يقول العلاّمة الطباطبائي : «إنّ الاَخلاق لا تفي بإسعاد المجتمع ولاتسوق الاِنسان إلى صلاح العمل إلاّ إذا اعتمدت على التوحيد ، وهو الاِيمان بأنّ للعالم ـ ومنه الاِنسان ـ إلهاً واحداً سرمدياً لا يعزب عن علمه شيء ، ولا يُغلَب في قدرته ، خلق الاَشياء على أكمل نظام لا لحاجة منه إليها وسيعيدهم إليه فيحاسبهم فيجزي المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء بإساءته ثم يخلدون منعّمين أو معذّبين .
ومن المعلوم أنّ الاَخلاق إذا اعتمدت على هذه العقيدة لم يبق للاِنسان همّ إلاّ مراقبة رضاه تعالى في أعماله ، وكانت التقوى رادعاً داخلياً له عن ارتكاب الجرم ، ولولا ارتضاع الاَخلاق من ثدي هذه العقيدة ـعقيدة التوحيد ـ لم يبق للاِنسان غاية في أعماله الحيوية إلاّ التمتع بمتاع
____________
(1) اُصول الكافي 2 : 99 | 1 كتاب الايمان والكفر .
(2) المحجة البيضاء 5 : 89 .
(3) تحف العقول : 200 .

( 85 )
الدنيا الفانية والتلذذ بلذائذ الحياة المادية» (1).
إنَّ العقائد الالحادية بإزالتها من النفوس البشرية شعور التعلق بالخالق الكامل ، والمثل الاَعلى المطلق ، والشعور برقابته وحسابه والمسؤولية اتجاهه ، أزالت الركيزة الاَساسية للاَخلاق ، ولم تستطع أن تعوض عنها بركيزة أُخرى في مثل قوتها .
الاَخلاق ضرورة اجتماعية ، فهي بمثابة صمّام أمان أمام نزعة الشر الكامنة في الاِنسان ، والتي تدفعه لمد خيوط الاَذى لاَبناء جنسه ، وعليه فالبناء الاجتماعي بدون منظومة الاَخلاق كالبناء على كثيب من الرمال ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : « لو كنّا لا نرجوا جنّة ، ولا نخشى ناراً ، ولا ثواباً ولا عقاباً ، لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الاَخلاق ، فإنّها ممّا تدلُّ على سبيل النّجاح » (2).

أساليب العقيدة في بناء الاِنسان أخلاقياً :
لما كانت قضية الاَخلاق تحظى بأهمية استثنائية في توجهات العقيدة الاِسلامية ، نجد أنّها اتّبعت أساليب وطرق عدّة متضافرة كبناء يتصل بعضه ببعض ، تشكّل بمجموعها السور الوقائي الذي يحمي الاِنسان من الانحدار والسقوط الاَخلاقي ، ويمكن إجمال هذه الاَساليب ، بالنقاط الآتية : ـ

أولاً : تحديد العقيدة للمعطيات الاَخروية للاَخلاق :
فمن اتّصف بالاَخلاق الحسنة وعدته بالثواب الجزيل والدرجات
____________
(1) الميزان في تفسير القرآن ، العلاّمة الطباطبائي 11 : 157 ـ مؤسسة الاَعلمي ط2 .
(2) مستدرك الوسائل 2 : 283 .

( 86 )
الرفيعة ، ومن ساء خلقه وأطلق العنان لنفسه وعدته بالعقاب الاَليم .
قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّ العبد ليبلغ بحسن خُلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل ، وإنّه لضعيف العبادة » (1).
وقال أيضاً : « إنَّ حُسن الخُلق يبلغ درجة الصّائم القائم » (2).
وقال موصياً : « يا بني عبدالمطلب ، أفشوا السلام وصِلوا الاَرحام ، وأطعموا الطعام ، وطيّبوا الكلام تدخلوا الجنة بسلام » (3).
وقال أيضاً : « إنَّ الخُلق الحسن يميث الخطيئة كما تميث الشمس الجليد.. » (4) .
وفي هذا السياق ، قال الاِمام الصادق عليه السلام : « إنَّ الله تبارك وتعالى ليعطي العبد من الثواب على حسن الخُلق كما يعطي المجاهد في سبيل الله يغدو عليه ويروح » (5).
ثم إنّ هناك تلازماً بين قبول الاَعمال عموماً والعبادية منها على وجه الخصوص وبين الاَخلاق ، فقد روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سمع أمرأة تسبُّ جارتها وهي صائمة ، فدعا بطعام فقال لها : « كلي ! فقالت إنّي صائمة ! فقال صلى الله عليه وآله وسلم : كيف تكونين صائمة وقد سببت جارتك.. ؟! » (6).

____________
(1) المحجة البيضاء 5 : 93 .
(2) ارشاد القلوب 1 ـ 2 : 133 ـ منشورات الرضي ـ قم .
(3) ارشاد القلوب 1 ـ 2 : 133 .
(4) اُصول الكافي 2 : 100 | 7 كتاب الاِيمان والكفر .
(5) اُصول الكافي 2 : 101 | 12 كتاب الايمان والكفر .
(6) الاخلاق ، للسيد عبدالله شبر : 70 ـ منشورات مكتبة بصيرتي ـ قم .

( 87 )

ثانياً : بيان العقيدة للمعطيات الدنيوية للاَخلاق :
فمن يتّصف بالاَخلاق الحسنة ، يستطيع التكيّف والمواءمة مع أبناء جنسه ، ويعيش قرير العين ، مطمئن النفس ، هادىء البال ، أما من ينفلت من عقال القيم والمبادىء الاَخلاقية ، فسوف يتخبط في الظلام ، ويعيش القلق والحيرة فيعذب نفسه ويكون ممقوتاً من قبل أبناء جنسه ، ويدخل في متاهات لا تُحمد عقباها .
يقول الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم : « حُسن الخُلق يثبّت المودّة » (1). وقال وصيه الاِمام علي عليه السلام : « .. وفي سعة الاَخلاق كنوز الاَرزاق » (2). وقال الاِمام الصادق عليه السلام موصياً : « وإن شئت أن تُكرَم فَلِنْ ، وإن شئت أن تُهان فاخشن » (3)‌ ، وقال أيضاً عليه السلام : « البر وحسن الخُلق يُعمران الدّيار ، ويزيدان في الاَعمار » (4).
وبالمقابل فإنّ للاَخلاق السيئة معطيات سلبية يجد الاِنسان آثارها في دار الدنيا ، قال الاِمام الصادق عليه السلام : « من ساء خُلقه عذَّب نفسه » (5)، وقال عليه السلام لسفيان الثوري الذي طلب منه أن يوصيه : « لا مروءة لكذوب ، ولا راحة لحسود ، ولا إخاء لملول ، ولا خُلّة لمختال ، ولا سؤدد لسيء الخُلق » (6) .
____________
(1) تُحف العقول : 38 .
(2) تحف العقول : 98 .
(3) تحف العقول : 356 .
(4) اُصول الكافي 2 : 100 | 8 كتاب الايمان والكفر .
(5) اُصول الكافي 2 : 321 | 4 كتاب الاِيمان والكفر .
(6) في رحاب أئمة أهل البيت عليهم السلام ، للسيد محسن الاَمين 4 : 69 عن تحف العقول .

( 88 )
مما تقدم اتضح أنّ العقيدة ترغّب الاِنسان بالتحلي بالاَخلاق الحميدة من خلال إبرازها للمعطيات الاِيجابية ـ الاَخروية والدنيوية ـ التي سيحصل عليها إذا سار في طريق التزكية ، وبالمقابل تردعه عن الاَخلاق السيئة من خلال بيان الآثار السلبية ـ الاُخروية والدنيوية ـ المترتبة عليها .

ثالثاً : تقديم التوصيات والنصائح :
تقدم العقيدة ـ من خلال مصادرها المعرفية ـ التوصيات القيمة في هذا الصدد ، التي تزرع في الاِنسان براعم الاَخلاق الحسنة ، وتستأصل ما في نفسه من قيم وأخلاق فاسدة .
من كتاب النبوة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « أنا أديب الله ، وعلي أديبي ، أمرني ربي بالسخاء والبر ، ونهاني عن البخل والجفاء ، ومامن شيء أبغض إلى الله عزَّ وجل من البخل وسوء الخلق ، وإنه ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل » (1).
وقال وصيه الاِمام علي عليه السلام : « .. روضوا أنفسكم على الاَخلاق الحسنة، فإنَّ العبد المسلم يبلغ بحسن خُلقه درجة الصائم القائم » (2).
وقال أيضاً موصياً : « .. عوّد نفسك السّماح وتخيّر لها من كلِّ خلق أحسنه ، فإنّ الخير عادة » (3).
وقال عليه السلام : « .. وعليكم بمكارم الاَخلاق فإنّها رفعة ، وإيّاكم والاَخلاق
____________
(1) مكارم الاخلاق ، للطبرسي : 17 .
(2) الخصال ، للصدوق 2 : 621 حديث الاربعمائة .
(3) بحار الانوار 77 : 213 عن كشف المحجة لثمرة المهجة : 157 الفصل 154 ـ طبع النجف الاَشرف .

( 89 )
الدنية فإنّها تضع الشريف وتهدم المجد » (1).
من هذه الشواهد المنتخبة ، نستطيع القول بأنّ العقيدة تقدّم نصائحها وتوصياتها القيمة مُدعمة بالمعطيات والدلائل المقنعة ، لتشكّل جداراً من المنعة يحول دون جنوح الاِنسان المسلم إلى هاوية الاَخلاق السيئة .

رابعاً : أُسلوب الاَُسوة الحسنة :
وهو أحد الاَساليب التربوية للعقيدة ، تربط الاَفراد المنتسبين إليها برموزها ، لكونهم التجسيد المثالي أو الكامل لتوجهاتها ، وهم المنارة التي تبعث أنوارها ، وعليه فهي تحث الاَفراد على الاقتداء بهم بغية التأثر بأخلاقهم والتزود من علومهم .
قال تعالى : ( لقد كانَ لكُم في رسولِ اللهِ أُسوةٌ حسنةً.. ) (2). لاَنّ سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هي التجسيد الواقعي الكامل للرسالة، ولما كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما وصفه القرآن الكريم ـ يمثل قمةً في مكارم الاَخلاق : ( وإنَّكَ لعلى خُلُقٍ عظيم ) (3)توجّب على المسلمين أن يدرسوا أخلاقه ويهتدوا بسنته ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً .
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستمد خُلقه من الله تعالى ومن كتابه الكريم ، قال تعالى : ( خُذِ العَفوَ وَأمُر بالعُرفِ وأعرض عن الجاهِلِينَ ) (4).
وروي أنّه لمّا نزلت هذه الآية الجامعة لمكارم الاَخلاق ، سأل
____________
(1) بحار الانوار 78 : 53 عن الغرر والدرر ، للآمدي .
(2) الاَحزاب 33 : 21 .
(3) القلم 68 : 4 .
(4) الاَعراف 7: 199 .

( 90 )
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جبرئيل عليه السلام عن ذلك فقال : « لا أدري حتى أسأل العالم ثم أتاه فقال : يا محمد إنَّ الله يأمرك أن تعفو عمّن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك » (1).
لقد دعا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى التحلّي بمكارم الاَخلاق كالتواضع والجود والاَمانة والحياء والوفاء... وما إلى ذلك ، كما نهى عن مساوىء الاَخلاق كالبخل والحرص والغدر والخيانة والغرور والكذب والحسد والغيبة . وهكذا جهد لتقويم كل خلق شائن ، والشواهد كثيرة ، لا يسع المجال لها ، قال الاِمام علي عليه السلام : « ولقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يأكل على الاَرض ، ويجلس جلسة العبد ، ويخصف بيده نعله ، ويرقع بيده ثوبه » (2).
فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو الرمز الاَكبر للعقيدة الاِسلامية ، يحرص أشد الحرص على هداية الناس إلى سواء السبيل ، لاَنَّ عملية البناء الحضاري للاِنسان تصبح عبثاً لا طائل تحته من دون عملية التوجيه والهداية . وأهل البيت عليهم السلام هم نجوم الهداية الاَبدية لهذه الاُمة ، قال أميرالمؤمنين عليه السلام : «..ألا إنّ مثل آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم كمثل نجوم السماء إذا خوى نجمٌ طلع نجمٌ..» (3) .
والهداية ـ بلا شك ولا شبهة تستلزم النجاة ـ هي الغاية المنشودة للاِنسان المسلم ، ومن هنا يكمن المعنى العميق ، والتشبيه البليغ ، في حديث الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق ، وإنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب
____________
(1) مجمع البيان ، للطبرسي 3 : 89 ـ منشورات مكتبة الحياة عام 1980 م .
(2) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : 228 | خطبة 160 .
(3) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 7 : 84 .

( 91 )
حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له » (1).
وصفوة القول ، إن لاَهل البيت عليهم السلام دوراً كبيراً في بناء الاِنسان المسلم ، وانقاذه من شتى أنواع الانحدار والضلال وليصل به إلى شاطىء النجاة .
قال أمير المؤمنين عليه السلام : « اُنظروا أهل بيت نبيكم ، فالزموا سمتهم ، واتَّبعوا أثرهم ، فلن يُخرجوكم من هدىً ، ولن يعيدوكم في ردىً.. » (2)، وقال عليه السلام أيضاً : « نحن النمرقة الوسطى بها يلحق التالي وإليها يرجع الغالي»(3) .
ولقد سار الاَئمة الاَطهار عليهم السلام على نهج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسنته ، فقاموا بدور حضاري مشهود في إشاعة وترسيخ الاَخلاق الفاضلة ، والردع عن الاخلاق الذميمة ، وكانوا يركزون على الجوهر بدلاً من المظهر ، ويعتبرون تحلية الجوانح بالاخلاق الفاضلة أفضل وأولى من تحلية الجوارح بالملابس الفاخرة ، فأصبح سلوكهم لنا أُسوة ومواقفهم قدوة ، فعن الاِمام الصادق عليه السلام : « خطب علي عليه السلام الناس وعليه إزار كرباس غليظ ، مرقوع بصوف ، فقيل له في ذلك ، فقال : يخشع القلب ، ويقتدي به المؤمن » (4).
والباحث يجد أن قضية الاخلاق قد احتلت مساحةً كبيرةً من آثار أهل البيت عليهم السلام كنهج البلاغة والصحيفة السجادية وغيرهما لما لهذه القضية الجوهرية من دور مهم في البناء التربوي للاِنسان المسلم ، عن جرّاح
____________
(1) المراجعات ، للسيد عبدالحسين شرف الدين : 23 المراجعة الثامنة ، وفي هامش (37) اخرجه الطبراني في الاَوسط عن أبي سعيد .
(2) شرح النهج ، لابن أبي الحديد 7 : 76 .
(3) شرح النهج 18 : 273 .
(4) مكارم الاخلاق ، للطبرسي : 113 .

( 92 )
المدائني أنّه قال : قال لي أبو عبدالله عليه السلام : « ألا أُحدّثك بمكارم الاَخلاق ؟ الصفح عن الناس ، ومواساة الرّجل أخاه في ماله ، وذكر الله كثيراً» (1).
وفي الوقت الذي يردع فيه آل البيت عليهم السلام كل انحراف أخلاقي ، فإنّهم يسترون على الناس معائبهم ، ولا يستغلون ذلك ذريعة للتشهير بهم والنيل منهم ، فمن كتاب أمير المؤمنين عليه السلام للاَشتر لمّا ولاّه مصر : « وليكن أبعد رعيّتك منك ، وأشنأهم عندك ، أطلبهم لمعائب الناس ، فإنّ في الناس عيوباً ، الوالي أحقُّ من سَتَرها ، فلا تكشفنَّ عمّا غاب عنك منها ، فإنّما عليك تطهير ما ظهر لك.. فاستر العورة ما استطعت.. » (2).
وكانوا يتبعون أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة ، فعن الحسين بن علي عليهما السلام أنه قال لرجل اغتاب رجلاً : « يا هذا كفّ عن الغيبة فإنّها أدام كلاب النّار » (3).
وقال رجل للاِمام علي بن الحسين عليهما السلام : إنّ فلاناً ينسبك إلى أنّك ضالٌّ مبتدع، فقال له الاِمام عليهما السلام : « ما رعيت حقّ مجالسة الرجل ، حيثُ نقلت إلينا حديثه ، ولا أدّيت حقّي حيثُ أبلغتني من أخي ما لست أعلمه !.. واعلم أنّ من أكثر عيوب الناس شهد عليه الاِكثار، أنّه إنّما يطلبها بقدر مافيه » (4).
وكان من دعائه عليه السلام : « اللهمَّ إنّي أُعوذ بك من هيجان الحرص وسَورة الغضب وغلبة الحسد وضعف الصبر وقلّة القناعة وشكاسة الخُلق.. » (5).

____________
(1) معاني الاخبار ، للصدوق : 191 .
(2) نهج البلاغة ، ضبط صبحي الصالح : 429 كتاب 53 .
(3) تحف العقول : 176 ـ مؤسسة الاعلمي ط 5 .
(4) الاحتجاج ، للطبرسي 1 ـ 2 : 315 ـ مؤسسة الاعلمي ط 1401 هـ .
(5) الصحيفة السجادية الجامعة : 69 ـ مؤسسة الامام المهدي (عج) ـ قم ط1 .

( 93 )
وهذا الموقف التربوي العجيب :
ليس الاقتداء وقفاً على ميدان الخلق الفردي والاجتماعي ، بل له أُفق واسع سعة آفاق الحياة ، فكم سيتعلّم الحكماء والساسة من دروس صانعي التاريخ ومهندسي الفكر ! لننظر في هذا الحدث ـ الذي قد يبدو صغيراً ـ في تاريخ أمير المؤمنين عليه السلام ، متطلّعين إلى ما يعكسه من صورة القائد القدوة والاِمام الاَُسوة ، وإلى ما يمكن ان نستلهم منه في جوانب حياتنا ، فردية كانت ، أو اجتماعية :
قام أعرابيٌّ يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال : يا أمير المؤمنين أتقول أنّ الله واحد ؟
قال : فحمل الناس عليه وقالوا : يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب ؟!
فقال أمير المؤمنين عليه السلام : « دعوه فإنّ الذي يريده الاَعرابي هو الذي نريده من القوم ! »
ثم قال عليه السلام : « يا أعرابي إنّ القول في أنّ الله واحد على أربعة أقسام ؛ فوجهان منها لا يجوزان على الله عزَّ وجل ، ووجهان منها يثبتان فيه . فامّا اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل : واحد ، يقصد به باب الاعداد ، فهذا مالا يجوز ، لاَنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الاَعداد ، أما ترى أنّه كفر من قال : إنّه ثالث ثلاثة ، وقول القائل : هو واحد من الناس يريد به النّوع من الجنس ، فهذا ما لا يجوز لاَنه تشبيه ، وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك . وأمّا الوجهان الذي يثبتان فيه : فقول القائل : هو واحد ليس له في الاَشياء شبه كذلك ربّنا . وقول القائل : إنّه عزّ وجل أحديّ المعنى يعني به أنّه لا ينقسم
( 94 )
في وجود ولا عقل ولا وهم ، كذلك ربّنا عزَّ وجلَّ » (1).
وكنظرة مقارنة ، كم يكون البَّون شاسعاً بين ما فعله الاِمام علي عليه السلام مع الاَعرابي ، مع ما فيه عليه السلام من تقسّم القلب ، كما وصفه أصحابه، نتيجة للفتنة التي عصفت بالمسلمين في الجمل ، وبين ما فعله عمر بن الخطاب مع الاَصبغ بن عسل حين سأله عن متشابه القرآن ، مع أنّ عمر كان يعيش مطمئناً في المدينة ، نقل ابن حجر ، أنّه قدم المدينة على عهد عمر بن الخطاب رجل يدعى الاَصبغ بن عسل ، سأله عن متشابه القرآن ، فأرسل إليه عمر وضربه بدرّته حتى أدمى رأسه ، وأسقط عطاءه ، ونهى عن مجالسته ـ ثم ـ قرر نفيه إلى البصرة ، وكتب إلى عامله عليها ، أبو موسى الاَشعري : (أما بعد فإنّ الاَصبغ تكلّف ما كُفي وضيّع ما وُلي ، فإذا جاء كتابي فلا تبايعوه ، وإن مرض فلا تعودوه ، وإن مات فلا تشهده) (2).

أهل البيت عليهم السلام الاَُسوة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
أهل البيت عليهم السلام هم أحد الثقلين الذين أوصى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أبناء أُمته بالتمسك بهما ، والسير على خطاهما : « إنّي قد تركت فيكم الثّقلين ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً ، كتاب الله حبلٌ متينٌ ممدود من السماء إلى الاَرض ، وعترتي أهل بيتي ، ألا وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض » (3) .

____________
(1) كتاب الخصال ، للشيخ الصدوق : 2 | باب الواحد طبع جماعة المدرسين ـ قم . ومعاني الاخبار : 5| باب معنى الواحد .
(2) الاِصابة في تمييز الصحابة ، لابن حجر العسقلاني 2 : 198 ـ دار احياء التراث العربي ط1 عام 1328 هـ .
(3) بحار الانوار 23 : 106 . كنز العمال 1 : 172 (وللحديث طرق مختلفة عن الفريقين) .

( 95 )



الخلاصة

إنَّ العقيدة الاِسلامية هي القاعدة المركزية في التفكير الاِسلامي ، التي تصوغ للاِنسان المسلم نظرته التوحيدية للكون والحياة ، وتنتج له مفاهيم صالحة تعكس وجهة نظر الاِسلام في شتى المجالات ، كما تنتج له عواطف وأحاسيس خيرة .
فالعقيدة تمثل عنصر القوة ، وهي التي صنعت المعجزات وحققت الانتصارات الكبرى في صدر الاِسلام .
ولاَجل النهوض بالاِنسان المسلم لا بدَّ من تذكيره بالمعطيات الحضارية التي منحتها العقيدة لمن سبقه ، وترسيخ قناعته بصوابيتها وصلاحيتها لجميع العصور .
ويمكننا إيجاز الدور الهام الذي قامت به العقيدة من أجل بناء الاِنسان على جميع الاصعدة بما يلي :
1 ـ على الصعيد الفكري : اعتبرت الاِنسان موجوداً مكرّماً ، أما الخطيئة التي قد يقع فيها فهي أمر طارىء يمكن معالجته بالتوبة ، وبذلك أشعرت الاِنسان بقدرته على الارتقاء ، ولم تؤيسه من رحمة الله وعفوه ، ثم أنّ العقيدة حررت الاِنسان من الاستبداد السياسي للحكام الوضعيين الظالمين ، كما حررته من عادة تأليه البشر ، وأطلقت حريته ، ولكن ضبطتها بقيود الشرع حتى لا تؤدي إلى الفوضى ، كما ربطت الحرية
( 96 )
الاِنسانية بالعبودية لله وحده ، والخضوع الواعي والطوعي لسلطته .
كما حررت الاِنسان من شهوات نفسه ومن عبادة مظاهر الطبيعة من حوله ، ومن الاَساطير والخرافات في الاعتقاد والسلوك .
ومن خلال عملية تحرير الفكر ، قامت بعملية البناء ، فأعطت مكانة كبيرة للعقل واعترفت بدوره وفتحت أمامه آفاقاً معرفية واسعة ، كما فتحت أمامه نافذة الغيب ، وأطلقته من أسر دائرة الحس الضيقة ، ووجهت طاقته الخلاقة للتأمل والاعتبار في آيات الله الآفاقية والاَنفسية ، وجعلت من تفكره هذا عبادة هي من أفضل العبادات .
ولم تقتصر على ذلك بل وجهت طاقة العقل لاكتشاف السنن التاريخية الحاكمة على الاُمم والشعوب ، كما وجهت العقل للنظر في حكمة التشريع لترصين قناعة المسلم بشريعته وصلاحيتها لكل زمان ومكان .
من جهة اُخرى دفعت العقيدة الاِنسان إلى كسب العلم والمعرفة ، وربطت بين العلم والاِيمان ، فكل تفكيك بينهما سوف يؤدي إلى عواقب وخيمة ، كما وجهت العقل للنظر المستقل والملاحظة الواعية واستنباط النتائج من مقدمات يقينية ، ودعته إلى عدم التقليد في اُصول الدين .
2 ـ على الصعيد الاجتماعي : قامت العقيدة بدور تغييري كبير ، فبينما كان فكر الاِنسان الجاهلي منصبّاً حول ذاته ومصالحها ، غدا بتفاعله مع إكسير العقيدة يضحي بالغالي والنفيس في سبيل مبادىء دينه ومصالح مجتمعه .
وأزالت العقيدة التناقض القائم بين الدوافع الذاتية المتمثلة بحرص الاِنسان على مصالحه وبين مصالح الجماعة من خلال إثارتها للشعور الاجتماعي للفرد نحو الآخرين .

( 97 )
وقد نمّت العقيدة هذا الشعور بأساليب عدّة منها : إيقاظ حسّ الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين ، وتنمية روح التضحية والايثار لدى الفرد المسلم ، ودفعه للانصباب في قالب الجماعة .
من جهة أُخرى ، قامت العقيدة بتغيير الروابط الاجتماعية بين الاَفراد ، من روابط تقوم على أساس العصبية للقرابة ، أو على أساس اللون أو المال أو الجنس ، إلى روابط أسمى تقوم على أسس معنوية هي التقوى والفضيلة والاَخاء الاِنساني .
ونقلت العقيدة الاَفراد من حالة التناقض والصراع إلى حالة التعارف والتعاون ، فشكلوا أُمّة واحدة مرهوبة الجانب بعد أن كانوا قبائل وجماعات متفرقة ومتناحرة ، لا تقيم لهم الاُمم وزناً .
أضف إلى ذلك أن العقيدة الاِسلامية قد قامت بتغيير العادات والتقاليد الجاهلية التي تسيء لكرامة الاِنسان وتسبب له العنت والمشقة .
3 ـ على الصعيد النفسي : أسهمت العقيدة في خلق طمأنينة وأمان للاِنسان ، مهما كانت عواصف الاَحداث من حوله .
وقد اتّبعت وسائل عديدة لتخفيف المصائب التي تواجه الاِنسان على حين غرّة ، ومن تلك الوسائل : بيان طبيعة الدنيا ، وأنّها دار محن واختبار ، مليئة بتيارات المصائب التي تهب على الاِنسان كريح السموم ، وعليه فمن المستحيل على الاِنسان أن يطلب الراحة والسكينة فيها . وعليه أن يضع نصب عينه النجاح في هذا الامتحان الالهي في الدنيا التي هي دار تكليف . ولقد خففت العقيدة من وطأة المصائب عبر التأكيد على أنّها تستتبع أجراً وثواباً ، كما وجهت نظر الاِنسان للمصيبة العظمى وهي المصيبة في الدين ، الاَمر الذي يخفف من وقع المصائب الدنيوية الصغيرة .

( 98 )
من جانب آخر ، حرّرت العقيدة النفوس من المخاوف التي تشلّ نشاط الاِنسان وتكبت طاقته وتجعله نهباً لعوامل القلق والحيرة كما شجّعت العقيدة الاِنسان إلى معرفة نفسه ، فبدون هذه المعرفة للنفس يصبح من الصعوبة بمكان السيطرة عليها وكبح جماحها ، ثم بدون معرفة النفس لا يمكن معرفة الله تعالى حق معرفته .
ومن خلال البحث استنتجنا بأنّ الاَمراض النفسية الخطيرة كالعصبية والشح والاَثَرة إذا لم تعالج فإنّها ستؤدي إلى عواقب اجتماعية وسياسية خطيرة ، كتلك الفتنة التي عصفت بالمسلمين في السقيفة ، التي بيّن الاِمام علي عليه السلام جذورها النفسية .
4 ـ على الصعيد الاخلاقي : قامت العقيدة بدور خلاّق في بناء منظومة الاخلاق للفرد المسلم ، وفق أُسس دينية تستتبع ثواباً أو عقاباً ، وليس مجرّد توصيات إرشادية لا تتضمن المسؤولية ، على العكس من القوانين الوضعية ، التي أزالت شعور رقابة الله والمسؤولية أمامه من نفس الفرد ، وبذلك نسخت ركيزة الاَخلاق ، فالاَخلاق بدون الاِيمان تفقد ضمانات الالتزام بها .
والملاحظ أنّ العقيدة اتّبعت أساليب عدّة لدفع الاَفراد للتحلّي بالاَخلاق الحسنة وتجنّب الاَخلاق السيئة منها :
إبراز المعطيات الاُخروية وأيضاً الدنيوية المترتبة على الاَخلاق الحسنة أو السيئة .
كما اتّبعت أُسلوب «الاُسوة الحسنة» لتربط الاَفراد برموز العقيدة ومرشديها بغية التأثر بمحاسن أخلاقهم والتأسي بسيرتهم .