وقد كان الموقف يتطلب من أبي بكر اذا كان يريد ان يقدم في نفسه زعيماً لتلك الساعة تأبيناً للفقيد الاعظم يتفق مع العواطف المتدفقة بالذكريات والحسرات يومئذ.
ومن الذي كان يعبد سيد الموحدين حتى يقول من كان يعبد محمداً فانه قد مات وهل كان في كلام عمر معنى يدل على انه كان يعبد رسول الله (ص) أو كانت قد سرت موجة من الارتداد والالحاد في ذلك المجتمع المؤمن الذي كان يعتصر دموعه من ذكرياته وصبره وتماسكه من عقيدته حتى يعلن لهم ان الدين ليس محدوداً بحياة رسول الله لأنه ليس بالاله المعبود.
اذن فلم يكن لكلام أبي بكر الذي خاطب به الناس صلة بموقفهم ولا علاقة برأي عمر ولا انسجام مع عواطف المسلمين في ذلك اليوم وشؤونهم وقد سبقه به غيره ممن حاول مناقشة الفاروق كما سيأتي.
وكان يعاصر هذا الاجتماع الذي تكلمنا عنه اجتماع آخر للانصار عقدوه في سقيفة بني ساعدة برئاسة سعد بن عبادة زعيم الخزرج ودعاهم فيه الى اعطائه الرئاسة والخلافة فأجابوه ثم ترادوا الكلام فقالوا فان أبى المهاجرون وقالوا نحن أولياؤه وعترته فقال قوم من الانصار نقول منا أمير ومنكم أمير فقال سعد فهذا اول الوهن وسمع عمر الخبر فأتى منزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وفيه أبو بكر فارسل اليه ان اخرج الي فارسل اني مشغول فارسل اليه عمر ان اخرج فقد حدث امر لابد ان تحضره فخرج فأعلمه الخبر فمضيا مسرعين نحوهم ومعهما أبو عبيدة فتكلم أبو بكر فذكر قرب المهاجرين من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأنهم أولياؤه وعترته ، ثم قال نحن الامراء وأنتم الوزراء لا نفتات عليكم بمشورة ولا نقضي دونكم الامور ، فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال : يا معشر الانصار املكوا عليكم أمركم فان الناس في ظلكم ولن


( 52 )

يجترىء مجترىء على خلافكم ولا يصدر أحد الا عن رأيكم أنتم أهل العزة والمنعة وأولوا العدد والكثرة وذووا البأس والنجدة وانما ينظر الناس ما تصنعون فلا تختلفوا فتفسد عليكم اموركم فان أبى هؤلاء الا ما سمعتم فمنا أمير ومنهم أمير فقال عمر هيهات لا يجتمع سيفان في غمد والله لا ترضى العرب ان تؤمركم ونبيها من غيركم ولا تمتنع العرب ان تولي أمرها من كانت النبوة منهم من ينازعنا سلطان محمّد ونحن اولياؤه وعشيرته ، فقال الحباب بن منذر يا معشر الانصار املكوا ايديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الامر فان أبوا عليكم فاجلوهم من هذه البلاد وانتم احق بهذا الاُمر منهم فانه بأسيافكم دان الناس بهذا الدين أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب أنا أبو شبل في عرينة الاسد والله ان شئتم لنعيدها جذعة فقال عمر اذن يقتلك الله ، قال بل اياك يقتل فقال أبو عبيدة يا معشر الانصار انكم اول من نصر فلا تكونوا أول من بدل وغير ، فقام بشير بن سعد والد النعمان بن بشير فقال : يا معشر الانصار الا ان محمداً من قريش وقومه أولى به وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الاُمر فقال أبو بكر هذا عمر وأبو عبيدة بايعوا أيهما شئتم فقالا والله لا نتولى هذا الاُمر عليك وأنت أفضل المهاجرين وخليفة رسول الله (ص) في الصلاة وهي أفضل الدين أبسط يدك فلما بسط يده ليبايعان سبقهما بشير من سعد فبايعه فناداه الحباب ابن المنذر يا بشير غفتك غفاق أنفست على ابن عمك الامارة ، فقال أسيد ابن خضير رئيس الأوس لأصحابه والله لئن لم تبايعوا ليكونن للخزرج عليكم الفضيلة أبداً ، وبايعوا أبا بكر واقبل الناس يبايعونه من كل جانب(1).
ونلاحظ في هذه القصة ان عمر هو الذي سمع بقصة السقيفة
____________
(1) الجزء الأول من شرح النهج ص127 ـ 128 .
( 53 )

واجتماع الانصار فيها واخبر ابا بكر بذلك ومادمنا نعلم ان الوحي لم ينزل عليه بذلك النبأ فلابد انه ترك البيت النبوي بعد ان جاء أبو بكر واقنعه بوفاة النبي فلماذا ترك البيت ولما اختص أبا بكر بنبأ السقيفة الى كثير من هذه النقاط التي لا نجد لها تفسيراً معقولاً أولى من ان يكون في الامر اتفاق سابق بين أبي بكر وعمر وأبي عبيدة على خطة معينة في موضوع الخلافة وهذا التقدير التاريخي قد نجد له شواهد عديدة تجيز لنا افتراضه.
الاول : تخصيص عمر لأبي بكر بنبأ السقيفة كما سبق واصراره على استدعائه بعد اعتذاره بانه مشغول حتى اشار الى الغرض ولمح اليه خرج مسرعاً وذهبا على عجل الى السقيفة ، وكان من الممكن ان يطلب غيره من أعلام المهاجرين بعد اعتذاره عن المجييء ، فهذا الحرص لا يمكن ان نفسره بالصداقة التي كانت بينهما ، لأن المسألة لم تكن مسألة صداقة ولم يكن أمر منازعة الانصار يتوقف على أن يجد عمر صديقاً له بل على أن يستعين بمن يوافقه في أحقية المهاجرين أياً كان.
ولا ننسى ان نلاحظ انه أرسل رسولاً الى أبي بكر ، ولم يذهب بنفسه ليخبره بالخبر خوفاً من انتشاره في البيت تسامع الهاشميين أو غير الهاشميين به وقد طلب من الرسول في المرة الثانية ان يخبره بحدوث أمر لابد ان يحضره ونحن لا نرى حضور أبي بكر لازماً في ذلك الموضوع الا اذا كانت المسألة مسألة خاصة وكان الهدف تنفيذ خطة متفق عليها سابقاً.
الثاني : موقف عمر من مسألة وفاة النبي (ص) وادعاؤه انه لم يمت ولا يستقيم في تفسيره ان نقول ان عمر ارتبك في ساعة الفاجعة وفقد صوابه وادعى ما ادعى . لأن حياة عمر كلها تدل على انه ليس من هذا الطراز وخصوصاً موقفه الذي وقفه في السقيفة بعد تلك القصة مباشرة


( 54 )

فالذي تؤثر المصيبة عليه الى حد تفقده صوابه لا يقف بعدها بساعة يحاجج ويجادل ويقاوم ويناضل.
ونحن نعلم أيضاً ان عمر لم يكن يرى ذلك الرأي الذي أعلنه في تلك الساعة الحرجة قبل ذلك بأيام أو بساعات حينما اشتد برسول الله (ص) المرض واراد ان يكتب كتاباً لا يضل الناس بعده فعارضه عمر وقال ان كتاب الله يكفينا وان النبي يهجر او قد غلب عليه الوجع كما في صحاح السنة فكان يؤمن بأن رسول الله يموت وان مرضه قد يؤدي الى موته والا لما اعترض عليه.
وقد جاء في تاريخ ابن كثير ان عمر بن زائدة قرأ الآية التي قرأها أبو بكر على عمر قبل ان يتلوها أبو بكر فلم يقتنع عمر وانما قبل كلام أبي بكر خاصة واقتنع به.
فما يكون تفسير هذا كله اذا لم يكن تفسيره ان عمر شاء ان يشيع الاضطراب بمقالته بين الناس لينصرفوا اليها وتتجه الافكار نحوها تفنيداً أو تأييداً مادام أبو بكر غائباً لئلا يتم في امر الخلافة شيء ويحدث أمر لابد ان يحضره أبو بكر ـ على حد تعبيره ـ وبعد ان أقبل أبو بكر اطمأن باله وامن من تمام البيعة للبيت الهاشمي مادام للمعارضة صوت في الميدان وانصرف الى تلقط الاخبار حادساً بما سيقع فظفر بخبر ما كان يتوقعه .
الثالث : شكل الحكومة التي تمخضت عنها السقيفة ، فقد تولى أبو بكر الخلافة وأبو عبيدة المال وعمر القضاء(1) وفي مصطلحنا اليوم ان الاول تولى السياسة العليا والثاني تولى السياسة الاقتصادية والثالث تولى السلطات القضائية وهي الوظائف الرئيسية في مناهج الحكم
____________
(1) راجع الجزء الثاني من تاريخ ابن الاثير صفحة 161.
( 55 )

الاسلامي وتقسيم المراكز الحيوية في الحكومة الاسلامية يومئذ بهذا الاسلوب على الثلاثة الذين قاموا بدورهم المعروف في سقيفة بني ساعدة لا يأني بالصدفة على الأكثر ولا يكون مرتجلا.
الرابع : قول عمر حين حضرته الوفاة لو كان أبو عبيدة حياً لوليته(1).
وليست كفاءة أبي عبيدة هي التي أوحت الى عمر بهذا التمني لأنه كان يعتقد أهلية علي للخلافة ومع ذلك لم يشأ أن يتحمل أمر الأمة حياً وميتاً(2).
وليست أمانة أبي عبيدة التي شهد له النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بها ـ بزعم الفاروق ـ هي السبب في ذلك ، لأن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يخصه بالاطراء ، بل كان في رجالات المسلمين يومئذ من ظفر باكثر من ذلك من ألوان الثناء النبوي كما تقرر ذلك صحاح السنة والشيعة.
الخامس : اتهام الزهراء للحاكمين بالحزبية السياسية ، كما سنرى في الفصل الآتي.
السادس : قول أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ للفاروق ( رضي الله عنه ) : احلب يا عمر حلباً لك شطره أشدد له اليوم أمره ليرد عليك غداً(3).
ومن الواضح انه يلمح الى تفاهم بين الشخصين على المعونة المتبادلة واتفاق سابق على خطة معينة والا فلم يكن يوم السقيفة نفسه ليتسع لتلك المحاسبات السياسية التي تجعل لعمر شطرا من الحلب.
____________
(1) شرح النهج ج1 ص64.
(2) الانساب للبلاذري ج5 ص16.
(3) ج2 ص5 من شرح النهج.

( 56 )

السابع : ما جاء في كتاب معاوية بن أبي سفيان الى محمّد بن أبي بكر ( رضوان الله عليه ) في اتهام أبيه وعمر بالاتفاق على غصب الحق العلوي والتنظيم السري لخطوط الحملة على الامام اذ قال له فيما قال : فقد كنا وأبوك نعرف فضل ابن أبي طالب وحقه لازماً لنا مبروراً علينا فلما اختار الله لنبيه ( عليه الصلاة والسلام ) ما عنده واتم وعده واظهر دعوته فابلج حجته وقبضه إليه ( صلوات الله عليه ) كان أبوك والفاروق أول من ابتزه حقه وخالفه على أمره على ذلك اتفقا واتسقا ثم انهما دعواه الى بيعتهما فابطا عنهما وتلكأ عليهما فهما به الهموم وأراد به العظيم(1).
ونحن نلاحظ بوضوح عطفه طلب أبي بكر وعمر (رض) للبيعة من الامام بثم على كلمتي اتفقا واتسقا. وهو قد يشعر بأن الحركة كانت منظمه بتنظيم سابق وان الاتفاق على الظفر بالخلافة كان سابقاً على الايجابيات السياسية التي قاما بها في ذلك اليوم.
ولا أريد أن أتوسع في دراسة هذه الناحية التاريخية أكثر من هذا ولكن هل لي أن الاحظ على ضوء ذلك التقدير التاريخي ان الخليفة لم يكن زاهداً في الحكم كما صوره كثير من الباحثين بل قد نجد في نفس المداورة التي قام بها الخليفة في السقيفة دليلاً على تطلعه للأمر فإنه بعد أن أعلن الشروط الاساسية للخليفة شاء ان يحصر المسألة فيه فتوصل الى ذلك بأن ردد الأمر بين صاحبيه الذين لن يتقدما عليه وكانت النتيجة الطبيعية لهذا الترديد ان يتعين وحده للامر.
فهذا الاسراع الملحوظ من الخليفة الى تطبيق تلك الصورة التي قدمها للخليفة الشرعي في رأيه على صاحبيه خاصة الذي لم يكن يؤدي الا اليه كان معناه أنه أراد أن يسلب الخلافة من الانصار ويقرها في شخصه في آن واحد ولذا لم يبد تردداً أو ما يشبه التردد لما عرض الأمر
____________
(1) مروج الذهب ج2 ص315.

( 57 )

عليه صاحباه وعمر نفسه يشهد لأبي بكر بأنّه كان مداوراً سياسياً بارعاً في يوم السقيفة في حديث طويل له يصفه فيه بأنّه أحسد قريش(1).
ونجد فيما يروي عن الخليفتين في أيام رسول الله (ص) ما يدل على هوى سياسي في نفسيتهما وانهما كانا يفكران في شيء على أقل تقدير فقد ورد في طرق العامة ان رسول الله (ص) قال : ان منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله فقال أبو بكر أنا هو يا رسول الله قال : لا ، قال عمر : أنا هو يارسول الله ، قال : لا ولكن خاصف النعل يعني علياً.
والمقاتلة على التأويل انما تكون بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمقاتل لابد أن يكون أمير الناس فتلهف كل من أبي بكر وعمر على أن يكون المقاتل على التأويل مع ان القتال على التنزيل كان متيسراً لهما في ايام رسول الله (ص) ولم يشاركا فيه بنصيب قد يدل على ذلك الجانب الذي نحاول ان نستكشفه في شخصيتهما.
بل اريد ان اذهب أكثر من هذا فألاحظ ان اناساً متعددين كانوا يعملون في صالح أبي بكر وعمر(2) وفي مقدمتهما عائشة وحفصة اللتان اسرعتا باستدعاء والديهما عندما طلب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حبيبه في لحظاته الأخيرة التي كانت تجمع دلائل الظروف على
____________
(1) راجع شرح النهج ج1 ص 125.
(2) وقد سئل النبي صلى الله عليه وآله عندما هدد طائفة من قريش برجل قرشي امتحن الله قلبه للايمان يضرب رقابهم على الدين ان ذلك الرجل هل هو ابو بكر فقال لا فقيل فعمر قال لا الخ ، راجع مسند أحمد ج 3 ص 33 والرواية تهمل اسم السائل الذي توهم ان الشخص الذي وصفه النبي صلى الله عليه وآله هو أبو بكر أو عمر واذا لم يكن أبو بكر وعمر معروفين بشجاعة وبسالة في المشاهد الحربية على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله فلابد أن أمرا آخر دعى السائل الى ان يسأل ذينك السؤالين والبقية اتركها لك.

( 58 )

انها الظرف الطبيعي للوصية ولابد انهما هما اللتان عنتهما الرواية التي تقول ان بعض نساء النبي ارسلن رسولا الى اسامة لتأخيره عن السفر(1) فاذا علمنا هذا وعلمنا ان هذا لم يكن باذن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والا لما أمره بالاسراع بالرحيل لما قدم عليه بعد ذلك وان سفره مع من معه كان يعيق عن تحقق النتائج التي انتجها يوم السقيفة خرجت لدينا قضية مرتبة الحلقات على اسلوب طبيعي يعزر ما ذهبنا اليه من رأي.
ومذهب الشيعة في تفسير ما قام به رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من تجنيد جيش اسامة معروف وهو انه احس بأن اتفاقاً ما بين جملة من أصحابه على أمر معين ، وقد يجعل هذا الاتفاق منهم جبهة معارضة لعلي.
ونحن ان شككنا في هذا فلا نشك في أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد جعل أبا بكر وعلياً في كفتي الميزان مراراً امام المسلمين جميعاً ليروا بأعينهم انهما لا يستويان في الميزان العادل والا فهل ترى اعفاء أبي بكر من قراءة التوبة على الكافرين بعد ان كلف بذلك امراً طبيعياً ولماذا انتظر الوحي وصول الصديق الى منتصف الطريق لينزل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويأمره باسترجاعه وارسال علي للقيام بالمهة أفكان عبثاً أو غفلة أو امراً ثالثاً وهو ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أحس بأن المنافس المتحفز لمعارضة ابن عمه ووصيه هو أبو بكر فشاء وشاء له ربه تعالى أن يرسل ابا بكر ثم يرجعه بعد ان يتسامع الناس جميعاً بارساله ليرسل علياً الذي هو كنفسه ليوضح للمسلمين مدى الفرق بين الشخصين وقيمة هذا المنافس الذي لم يأتمنه الله على تبليغ سورة الى جماعة فكيف بالخلافة والسلطنة المطلقة.
____________
(1) راجع الجزء الاول من شرح النهج ص 53.
( 59 )

اذن فنخرج من هذا العرض الذي فرض علينا الموضوع ان نختصره بنتيجتين : الاولى : ان الخليفة كان يفكر في الخلافة ويهواها وقد أقبل عليها بشغف ولهفة.
الثانية ان الصديق والفاروق وأبا عبيدة كانوا يشكلون حزباً سياسياً مهما لا نستطيع ان نضع له صورة واضحة الخطوط ، ولكنا نستطيع ان نؤكد وجوده بدلائل متعددة ، ولا ارى في ذلك ما ينقص من شأنهم أو يحط من مقامهم ، ولا بأس عليهم ان يفكروا في أمور الخلافة ويتفقوا فيها على سياسة موحدة اذا لم يكن لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نص في الموضوع ولا يبرؤهم اذا كان النص ثابتاً بعدهم عن الهوى السياسي وارتجال فكرة الخلافة في ساعة السقيفة من المسؤولية أمام الله وفي حكم الضمير.

* * *

لست الآن بصدد تحليل الموقف الذي اشتبك فيه الأنصار مع أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وشرح ما يدل عليه من نفسية المجتمع الاسلامي ومزاجه السياسي وتطبيق قصة السقيفة على الاصول العميقة في الطبيعة العربية ، فان ذلك كله خارج عن الحدود القريبة للموضوع وانما أريد ان ألاحظ ان الحزب الثلاثي الذي قدر له ان يلي الامور يومئذ كان له معارضون على ثلاثة اقسام :
الاُول : ـ الانصار الذين نازعوا الخليفة وصاحبيه في سقيفة بني ساعدة ووقعت بينهم المحاورة السابقة التي انتهت بفوز قريش بسبب تركز فكرة الوراثة الدينية في الذهنية العربية وانشقاق الانصار على انفسهم لتمكن النزعة القبلية من نفوسهم.


( 60 )

الثاني : ـ الأمويون الذين كانوا يريدون أن يأخذوا من الحكم بنصيب ويسترجعوا شيئاً من مجدهم السياسي في الجاهلية وعلى رأسهم أبو سفيان.
الثالث : ـ الهاشميون واخصاؤهم كعمار وسلمان وأبي ذر والمقداد رضوان الله عليهم وجماعات من الناس الذين كانوا يرون البيت الهاشمي هو الوارث الطبيعي لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بحكم الفطرة ومناهج السياسة التي كانوا يألفونها.
واشتبك أبو بكر وصاحباه في النزاع مع القسم الاول في سقيفة بني ساعدة وركزوا في ذلك الموقف دفاعهم عما زعموا من حقوق على نقطة كانت ذات وجاهة في نظر كثير من الناس فان قريشاً ما دامت عشيرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وخاصته فهي أولى به من سائر المسلمين وأحق بخلافته وسلطانه.
وقد انتفع أبو بكر وحزبه باجتماع الانصار في السقيفة من ناحيتين :
( الاولى ) ان الانصار سجلوا على انفسهم بذلك مذهباً لا يسمح لهم بأن يقفوا بعد ذلك الى صف علي ويخدموا قضيته بالمعنى الصحيح كما سنوضحه قريباً.
( الثانية ) ان أبا بكر الذي خدمته الظروف فاقامت منه المدافع الوحيد عن حقوق المهاجرين في مجتمع الانصار لم يكن ليتهيأ له ظرف أوفق بمصالحه من ظرف السقيفة اذ خلا الموقف من أقطاب المهاجرين الذين لم يكن لتنتهي المسألة في محضرهم الى نتيجتها التي سجلتها السقيفة في ذلك اليوم.
وخرج أبو بكر من السقيفة خليفة وقد بايعه جمع من المسلمين الذين اخذوا بوجهة نظره في مسألة الخلافة او عز عليهم ان يتولاها سعد بن عبادة.


( 61 )

ولم يعبأ الحاكمون بمعارضة الامويين وتهديد أبي سفيان وما أعلنه من كلمات الثورة بعد رجوعه من سفره الذي بعثه فيه رسول الله (ص) لجباية الاموال لعلمهم بطبيعة النفس الاموية وشهواتها السياسية والمادية فكان من السهل كسب الامويين الى جانب الحكم القائم كما صنع أبو بكر فأباح لنفسه أو أباح له عمر بتعبير أصح كما تدل الرواية(1) أن يدفع لأبي سفيان جميع ما في يده من أموال المسلمين وزكواتهم(2) ثم جعل للأمويين بعد ذلك حظاً من العمل الحكومي في عدة من المرافق الهامة.
وهكذا نجح الحزب الحاكم في نقطتين ولكن هذا النجاح جره الى تناقض سياسي واضح لأن ظروف السقيفة كانت تدعو الحاكمين الى أن يجعلوا للقرابة من رسول الله (ص) حساباً في مسألة الخلافة ويقروا مذهب الوراثة للزعامة الدينية غير ان الحال تبدلت بعد موقف السقيفة والمعارضة اتخذت لها لوناً جديداً وواضحاً كل الوضوح يتلخص في أن قريشاً اذا كانت أولى برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من سائر العرب لأنه منها فبنو هاشم أحق بالأمر من بقية قريش.
وهذا ما أعلنه علي حين قال : اذا احتج عليهم المهاجرون بالقرب من رسول الله (ص) كانت الحجة لنا على المهاجرين بذلك قائمة فان فلجت حجتهم كانت لنا دونهم والا فالانصار على دعوتهم ، واوضحه العباس لابي بكر في حديث له معه اذ قال له : وأما قولك نحن شجرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فانكم جيرانها ونحن أغصانها.
____________
(1) راجع شرح النهج الجزء الاول ص 130.
(2) قد نستطيع ان نجيب على ضوء هذه القصة عما عرض لنا من سؤال في بداية هذا الفصل عن موقف الخليفتين لو قدر لهما أن يقفا موقف علي الذي كان يفرض عليه ان يغري كثيراً من أمثال أبي سفيان بالمال والجاه.

( 62 )

وقد كان علي الذي تزعم معارضة الهاشميين مصدر رعب شديد في نفوس الحاكمين لأن ظروفه الخاصة كانت تمده بقوة على لونين من العمل الايجابي ضد الحكومة القائمة : ـ
( احدهما ) ضم الاحزاب المادية الى جانبه كالأمويين والمغيرة بن شعبة وأمثالهم ممن كانوا قد بدأوا يعرضون أصواتهم للبيع ويفاوضون الجهات المختلفة في اشترائها بأضخم الأثمان كما نعرف ذلك من كلمات أبي سفيان التي واجه بها خلافة السقيفة يوم وصوله الى المدينة وحديثه مع علي وتحريضه له على الثورة وميله الى جانب الخليفة وسكوته عن المعارضة حينما تنازل له الخليفة عن أموال المسلمين التي كان قد جباها في سفره وموقف عتاب بن أسيد الذي سنشير الى سره في هذا الفصل.
واذن فقد كان الهوى المادي مستولياً على جماعة من الناس يومئذ.
ومن الواضح ان علياً كان يتمكن من اشباع رغبتهم بما خلفه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الخمس وغلات أراضيه في المدينة وفدك التي كانت ذات نتاج عظيم كما عرفنا في الفصل السابق.
والطور الآخر من المقاومة التي كان علي مزوداً بامكانياتها ما لمح اليه بقوله : احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة ، وأعني بذلك أن الفكرة العامة يومئذ التي اجمعت على تقديس أهل البيت والاعتراف لهم بالامتياز العظيم بقربهم من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كانت سنداً قوياً للمعارضة.
وقد رأى الحزب الحاكم ان موقفه المادي حرج جداً لأنّ اطراف المملكة التي تجبى منها الأموال لا تخضع للحكم الجديد الا إذا استقرت دعائمه في العاصمة والمدينة بعد لم تخضع له خضوعاً اجماعياً.
ولئن كان أبو سفيان أو غير أبي سفيان قد باع صوته للحكومة فمن الممكن أن يفسخ المعاملة اذا عرض عليه شخص آخر اتفاقاً أكثر منها


( 63 )

ربحاً وهذا ما كان يستطيع علي أن يقوم به في كل حين فيجب والحالة هذه أن تنتزع من علي الذي لم يكن مستعداً للمقابلة في تلك الساعة الأموال التي صارت مصادر من مصادر الخطر على مصالح الحزب الحاكم ليضمن بقاء الأنصار على نصرتهم وعدم قدرة المعارضين على انشاء حزب من أصحاب المطامع والأهواء يومذاك.
ولا يجوز ان نستبعد هذا التقدير لسياسة الفئة المسيطرة ما دام منطبقاً على طبيعة السياسة التي لابد من انتاجها. وما دمنا نعلم ان الصديق اشترى صوت الحزب الأموي بالمال فتنازل لأبي سفيان عن جميع من كان عنده من أموال المسلمين وبالجاه أيضاً اذ ولى ابن أبي سفيان فقد جاء ان أبا بكر لما استخلف قال أبو سفيان مالنا ولأبي فصيل انما هي بنو عبدمناف فقيل له انه قد ولى ابنك قال : وصلته رحم(1).
فلا غرابة في ان ينتزع من أهل البيت اموالهم المهمة ليركز بذلك حكومته أو أن يخشى من علي (ع) ان يصرف حاصلات فدك وغير فدك على الدعوة الى نفسه.
وكيف نستغرب ذلك من رجل كالصديق وهو الذي قد اتخذ المال وسيلة من وسائل الاغراء واكتساب الأصوات حتى اتهمته بذلك معاصرة له من مؤمنات ذلك الزمان فقد ورد ان الناس لما اجتمعوا على أبي بكر قسم قسماً بين نساء المهاجرين والأنصار فبعث الى امرأة من بني عدي بن النجار قسمها مع زيد بن ثابت فقالت : ما هذا ؟ قال : قسم قسمه أبو بكر للنساء قالت : اتراشوني عن ديني والله لا اقبل منه شيئاً فردته عليه(2).
____________
(1) راجع تاريخ الطبري ج3 ص202.
(2) شرح النهج ج1 ص133.

( 64 )

وأنا لا أدري من اين جاء الى الخليفة ( رضي الله تعالى عنه ) هذا المال ما دامت الزكوات التي جمعها الساعي قد صارت من نصيب بطنه وحدها ان لم يكن من بقية الاموال التي خلفها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكان اهل البيت يطالبون بها.
وسواء اصح هذا التقدير او لا فان المعنى الذي نحاول فهمه من هذه الرواية هو أن بعض معاصري الصديق احس بما نحس به على ضوء معلوماتنا التاريخية عن تلك الأيام.
ولا ننس ان نلاحظ ان الظروف الاقتصادية العامة كانت تدعو الى الارتفاع بمالية الدولة والاهتمام باكثارها استعداداً للطوارىء المترقبة فلعل هذا حدى بالحاكمين الى انتزاع فدك كما يتبين ذلك بوضوح من حديث لعمر مع أبي بكر يمنعه فيه عن تسليم فدك الى الزهراء ويعلل ذلك بان الدولة في حاجة الى المال لا نفاقه في توطيد الحكم وتأديب العصاة والقضاء على الحركات الانفصالية التي قد يقوم بها المرتدون.
ويظهر من هذا رأي للخليفتين في الملكية الفردية هو ان للخليفة الحق في مصادرة اموال الناس لانفاقها في امور المملكة وشؤون الدولة العامة بلاتعويض ولا استئذان فليس للفرد ملكية مستقرة لامواله وعقاره في حال احتياج السلطات الى شيء منها وقد ذهب الى هذا الرأي كثير من الخلفاء الذين انتهى اليهم الامر بعد أبي بكر وعمر فامتلأ تأريخهم بالمصادرات التي كانوا يقومون بها غير ان أبا بكر لم يطبق هذا الرأي الا في املاك بنت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خاصة.
وقد تردد الحزب الحاكم في معالجة الاسلوب الثاني من المعارضة بين اثنتين : ـ
« احداهما » : أن لا يقر للقرابة بشأن في الموضوع ومعنى هذا انه ينزع عن خلافة أبي بكر ثوبها الشرعي الذي البسها اياه.


( 65 )

« والاخرى » : ان يناقض نفسه فيضل ثابتاً على مبادئه التي اعلنها في السقيفة ولا يرى حقاً للهاشميين ولا امتيازاً لهم في مقاييس الرجال أو يراه لهم ولكن في غير ذلك الظرف الذي يكون معنى المعارضة فيه مقابلة حكم قائم ووضع تعاقد عليه الناس.
واختارت الفئة المسيطرة ان تثبت على آرائها التي روجتها في مؤتمر الانصار وتعترض على المعارضين بأن مخالفتهم بعد بيعة الناس للخليفة ليست الا احداثاً للفتنة المحرمة في عرف الاسلام.
وهذا هو الاسلوب الوقتي الذي اتخذه الحاكمون للقضاء على هذا الجانب من المعارضة الهاشمية وقد ساعدتهم الظروف الاسلامية الخاصة يومئذ على نجاحه كما سنوضحه.
غير اننا نحس ونحن ندرس سياسة الحاكمين بأنهم انتهجوا منذ اللحظة الاولى سياسة معينة تجاه آل محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للقضاء على الفكرة التي امدت الهاشميين بقوة على المعارضة كما خنقوا المعارضة نفسها ونستطيع ان نصف هذه السياسة بانها تهدف الى الغاء امتياز البيت الهاشمي وابعاد انصاره والمخلصين له عن المرافق الهامة في جهاز الحكومة الاسلامية يومئذ وتجريده عما له من الشأن والمقام الرفيع في الذهنية الاسلامية.
وقد يعزز هذا الرأي عدة ظواهر تاريخية :
الاولى : سيرة الخليفة وأصحابه مع علي التي بلغت من الشدة أن عمر هدد بحرق بيته وان كانت فاطمة فيه ، ومعنى هذا اعلان أن فاطمة وغير فاطمة من آلها ليس لهم حرمة تمنعهم عن أن يتخذ معهم نفس الطريقة التي سار عليها مع سعد بن عبادة حين أمر الناس بقتله ومن صور ذلك العنف وصف الخليفة لعلي بأنه مرب لكل فتنة وتشبيهه


( 66 )

له بام طحال أحب الى أهلها اليها البغي وقد قال عمر لعلي بكل وضوح ان رسول الله (ص) منا ومنكم.
« الثاني » : ان الخليفة الاول لم يشارك شخصاً من الهاشميين في شأن من شؤون الحكم المهمة ولا جعل فيهم والياً على شبر من المملكة الاسلامية الواسعة مع أن نصيب الامويين في ذلك كان عظيماً.
وأنت تفهم بوضوح ان هذا وليد سياسة متعمدة من محاورة وقعت بين عمر وابن عباس أظهر فيها تخوفه من تولية الثاني حمص لأنه يخشى اذا صار الهاشميون ولاة على أقطار المملكة الاسلامية أن يموت وهم كذلك فيحدث في أمر الخلافة مالا يريد(1).
ونحن اذا عرفنا من رأي عمر أن ظفر ببيت من البيوت الطامحة الى السلطان بالولاية في الاقطار الاسلامية يهيؤهم لنيل الخلافة والمركز الاعلى ولاحظنا ان الامويين ذوي الالوان السياسية الواضحة كان فيهم ولاة احتلوا الصدارة في المجالات الادارية أيام أبي بكر وعمر وأضفنا الى ذلك أنه كان يعلم على أقل تقدير بان الشورى التي ابتكرها سوف تجعل من شيخ الامويين عثمان خليفة خرجنا بنتيجة مهمة وتقدير تاريخي تدل على صحته عدة من الظواهر وهو أن الخليفتين كانا يهيئان للسلطان الاموي أسبابه ومعداته وهما يعلمان حق العلم ان انشاء كيان سياسي من جديد للامويين خصوم بني هاشم القدامى معناه تقديم المنافس للهاشميين في زعيم اموي وتطور المعارضة الفردية للبيت الهاشمي الى معارضة بيت مستعد للنزاع والمنافسة أكمل استعداد.
ومن شأن هذه المعارضة أنها تطور وتتسع لأنها ليست متمثلة في
____________
(1) راجع مروج الذهب على هامش الجزء الخامس من تاريخ ابن الاثير ص 135.
( 67 )

شخص بل في بيت كبير ، ونستطيع أن نفهم من هذا ان سياسة الصديق وعمر هي التي وضعت الحجر الاساسي لملك بني امية حتى يضمنا بذلك المنافس لعلي وآل علي على طول الخط(1).
« الثالث » عزل الخليفة لخالد بن سعيد بن العاص عن قيادة الجيش الذي وجهه لفتح الشام بعد أن أسندها اليه لا لشيء الا لأن عمر نبهه الى نزعته الهاشمية وميله الى آل محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وذكره بموقفه تجاههم بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )(2).
ولو كنا نريد التوسع في دراسة هذه الناحية لعطفنا على هذه الشواهد قصة الشورى العمرية التي نزل فيها عمر ( رضي الله تعالى عنه ) بعلي (ع) الى صف اشخاص خمسة لا يكافئون علياً في شيء من معانيه المحمدية ، وقد كان الزبير وهو أحد الخمسة يرى يوم توفي الرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ان الخلافة حق شرعي لعلي فلاحظ كيف انتزع عمر هذا الرأي من عقله واعده للمنافسة بعد حين اذ جعله أحد الستة الذين فيهم علي .
واذن فقد كانت الفئة الحاكمة تحاول ان تساوي بين بني هاشم وسائر الناس وترتفع برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن الاختصاص بهم لتنتزع بذلك الفكرة التي كانت تزود الهاشميين بطاقة على المعارضة ولئن اطمأن الحاكمون الى أن علياً لا يثور عليهم في تلك الساعة الحرجة على الاسلام فهم لا يأمنون من انتفاضة بعد ذلك في كل حين ومن الطبيعي حينئذ ان يسارعوا الى الاجهاز على كلتا قوتيه المادية
____________
(1) وهذا هو السر السياسي الذي غفل عنه الباحثون في قصة الشورى وقد جاء عن عمر انه هدد الستة الذين أوكل اليهم الامر بمعاوية وتنبأ لهم بأنه سيملك الامر كما في شرح النهج ج1 ص62 وهذا ان دل على فراسته فهو على لون سياسته أدل.
(2) راجع شرح النهج ج1 ص135.

( 68 )

والمعنوية ما دامت الهدنة قائمة قبل ان يسبقهم الى حرب اكول.
ومن المعقول بعد هذا أن يقف الخليفة موقفه التاريخي المعروف من الزهراء في قضية فدك فهو موقف تلاقى فيه الغرضان وتركز على الخطين الاساسيين لسياسته لأن الدواعي التي بعثته الى انتزاع فدك كانت تدعوه الى الاستمرار على تلك الخطة ليسلب بذلك من خصمه الثروة التي كانت سلاحاً قوياً في عرف الحاكمين يومذاك ويعزز بها سلطانه والا فما الذي كان يمنعه عن تسليم فدك للزهراء بعد أن اعطته الوعد القاطع بأن تصرف منتوجاتها في سبيل الخير ووجوه المصلحة العامة(1) الا أنه خاف منها أن تفسر وعدها بما يتفق مع صرفها لغلات فدك في المجالات السياسية وما الذي صده عن ارضاء فاطمة بالتنازل لها عن حصته ونصيب الصحابة اذا صح ان فدكاً ملك للمسلمين سوى انه اراد ان يقوي بها خلافته.
وأيضاً فاننا اذا عرفنا ان الزهراء كانت سنداً قوياً لقرينها في دعوته الى نفسه ودليلاً يحتج به انصار الامام على احقيته بالامر نستوضح ان الخليفة كان موفقاً كل التوفيق في موقفه تجاه دعوى الزهراء للنحلة وجارياً على المنهج السياسي الذي كان يفرضه عليه الظرف الدقيق اذ اغتنم الفرصة المناسبة لافهام المسلمين بصورة لبقة وعلى اسلوب غير مباشر بأن فاطمة امرأة من النساء ولا يصح ان تؤخذ آراؤها ودعاويها دليلاً في مسألة بسيطة كفدك فضلاً عن موضوع كالخلافة وانها اذا كانت تطلب ارضاً ليس لها بحق فمن الممكن ان تطلب لقرينها المملكة الاسلامية كلها وليس له فيها حق.
ونخرج من البحث بنتيجة وهي ان تأميم الصديق لفدك يمكن تفسيره.
1 ـ بأن الظرف الاقتصادي دعى الى ذلك.
____________
(1) راجع شرح النهج ج 4 ص 80.
( 69 )

2 ـ بأن أبا بكر خشي ان يصرف علي ثروة قرينته في سبيل التوصل الى السلطان.
وان موقفه من دعاوى الزهراء بعد ذلك واستبساله في رفضها قد يكون مرده الى هذين السببين :
1 ـ الى مشاعر عاطفية كانت تنطوي عليها نفس الخليفة رضي الله عنه عرضنا لجملة من أسبابها فيما سبق.
2 ـ وحدة سياسية عامة بنى عليها الصديق سيرته مع الهاشميين وقد تبيناها من ظواهر الحكم يومئذ.

* * *

لعل أعظم رقم قياسي ضربه أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام للتضحية في سبيل الاسلام والاخلاص للمبدأ إخلاصاً جرده عن جميع الاعتبارات الشخصية وأقام منه حقيقة سامية سمو المبدأ ما بقي للمبدأ حياة هو الرقم الذي سجله بموقفه من خلافة الشورى وقدم بذلك في نفسه مثلاً أعلى للتفاني في المبدأ الذي صار شيئاً من طبيعته.
ان كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد تمكن من محو ضلال الوثنية فقد استطاع ان يجعل من علي بما أفاض عليه من حقائق نفسه عيناً ساهرة على القضية الالهية فنامت فيه الحياة الانسانية بأهوائها ومشاعرها وصار يحيا بحياة المبدأ والعقيدة(1).
____________
(1) قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : علي مع الحق والحق مع علي . ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض يوم القيامة راجع تاريخ بغداد للخطيب ج 14 ص 321 وتفسير الرازي ج1 ص111 وكفاية الطالب للكنجي ص 135 والمناقب لاخطب خوارزم ص 77 وقال «ص» : اللهم أدر الحق معه حيث دار ، راجع مستدرك الحاكم ج 3 ص 125 وكنز العمال ج 6 ص 175 وجامع الترمذي ج 2 ص 213.
( 70 )

وان كان للتضحية الانسانية الفاضلة كتاب فأعمال علي عنوان ذلك الكتاب المشع باضواء الخلود(1).
وان كان لمبادىء السماء التي جاء بها محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تعبير عملي على وجه الارض فعلي هو تعبيرها الحي على مدى الدهور والاجيال.
وان كان النبي (ص) قد خلف في أمته علياً والقرآن(2) فانما جمع بينهما ليكون القرآن تفسيراً لمعاني علي العظيم ولتكون معاني علي انموذجاً لمثل القرآن الكريم.
وان كان الله تعالى قد جعل علياً نفس رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في آية المباهلة(3) فلأجل أن يفهم المسلمون انه امتداد طبيعي لمحمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وشعاع متألق من روحه العظيمة.
وان كان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد خرج من مكة مهاجراً خائفاً على نفسه وخلف علياً على فراشه ليموت بدلا عنه فمعنى ذلك ان المبدأ المقدس هو الذي كان يرسم للعظيمين خطوط حياتهما واذا كان لا بد للقضية الآلهية من شخص تظهر به وآخر يموت في سبيلها فيلزم أن يبقى رجلها الاول لتحيا به ويقدم رجلها الثاني نفسه قربانا لتحيا به أيضاً.
وان كان علي هو الذي أباحت له السماء خاصة النوم في المسجد
____________
(1) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لضربة علي خير من عبادة الثقلين ، أو قال : لمبارزة علي لعمر أفضل من أعمال أمتي الى يوم القيامة ، راجع المستدرك للحاكم ج3 ص32.
(2) قال رسول الله (ص) : اني تارك فيكم الثقلين أو الخليفتين ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي كتاب الله وعترتي أهل بيتي وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، راجع الصواعق المحرقة ص 136.
(3) راجع تفسير الرازي وأسباب النزول للواحدي.

( 71 )

والدخول فيه جنبا(1) فمفهوم هذا الاختصاص ان في معانيه معنى المسجد لأن المسجد رمز السماء الصامت في دنيا المادة وعلي هو الرمز الالهي الحي في دنيا الروح والعقيدة.
وان كانت السماء قد امتدحت فتوة علي وأعلنت عن رضاها عليه اذ قال المنادي : لا سيف الا ذو الفقار ولا فتى الا علي(2) فانها عنت بذلك ان فتوة علي وحدها هي الرجولة الكاملة التي لا يرتفع الى مداها انسان ولا ترقى الى افقها بطولة الابطال واخلاص المخلصين.
ومن مهزلة الأقدار ان هذه الفتوة التي قدسها الهاتف الالهي كانت عيبا في رأي مشايخ السقيفة ونقصاً في علي يؤاخذ عليه وينزل به عن الصديق الذي لم يكن يمتاز عليه الا بسنين قضاها كافراً مشركاً.
وأنا لا أدري كيف صار الازدواج بين الجاهلية والاسلام في حياة شخص واحد مجداً يمتاز به عمن خلصت حياته كلها لله.
ولئن ظهرت للناس في البحوث الجديدة القوة الطبيعية التي تجعل الأجسام الدائرة حول المحور تسير على خط معين فلقد ظهرت في علي قبل مئات السنين قوة مثلها ولكنها ليست من حقائق الفيزياء بل من قوى السماء وهي التي جعلت من علي مناعة طبيعية للاسلام حفظت له مقامه الأعلى ما دام الامام حياً ومحوراً تدور عليه الحياة الاسلامية لتستمد منه روحانيتها وثقافتها وروحها وجوهرها سواء أكان على رأس الحكم أو لا.
____________
(1) راجع مسند الامام أحمد ج 4 ص 369 ومستدرك الحاكم ج3 ص 125 وشرح النهج لابن أبي الحديد ج2 ص 451 وتذكرة سبط ابن الجوزي ومناقب الخوارزمي وتاريخ الخلفاء للسيوطي والصواعق لابن حجر والخصائص للنسائي.
(2) ذكر ذلك الطبري في تاريخه ج3 ص 17 وابن هشام في سيرته وابن أبي الحديد في شرح النهج والخوارزمي في المناقب.

( 72 )

وقد عملت هذه القوة عملها السحري في عمر نفسه فجذبته الى خطوطها المستقيمة مراراً حتى قال : لولا علي لهلك عمر ، وظهر تأثيرها الجبار في التفاف المسلمين حوله في اليوم الذي اسندت فيه مقدرات الخلافة الى عامة المسلمين ذلك الالتفاف الفذ الذي يقل مثيله في تاريخ الشعوب.
ونعرف من هذا ان علياً بما جهزته السماء به من تلك القوة كان ضرورة من ضرورات الاسلام(1) التي لابد منها وشمساً يدور عليها الفلك الاسلامي بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بحسب طبيعته التي لا يمكن ان تقاوم حتى التجأ الفاروق الى مسايرتها كما عرفت.
ويتجلى لدينا أيضاً ان الانقلاب الفجائي في السياسة الحاكمة لم يكن ممكناً يومئذ لأنه ـ مع كونه طفرة ـ يناقض تلك القوة الطبيعية المركزة في شخصية الامام فكان من الطبيعي أن تسير السياسة الحاكمة في خط منحني حتى تبلغ النقطة التي وصل اليها الحكم الأموي تفادياً من تأثير تلك القوة الساهرة على الاعتدال والانتظام كما ينحني السائق بسيارته عندما ينحرف بها الى نقطة معاكسة تحذراً من القوة الطبيعية التي تفرض الاعتدال في السير. وهذا الفصل الرائع من عظمة الامام يستحق دراسة وافية مستقلة قد نقوم بها في بعض الفرص لنكشف بها عن شخصية علي المعارض للحكم والساهر على قضية الاسلام والموفق بين حماية القوة الحاكمة من الانحراف وبين معارضتها في نفس الوقت.
وان كانت مواقف الامام كلها رائعة ، فموقفه في الخلافة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من أكثرها روعة.
____________
(1) وعلى ضوء ما بيناه نفهم قول رسول الله «ص» لعلي : لا ينبغي أن أذهب الا وأنت خليفتي ، وقوله له عندما تهيأ للخروج الى غزوة تبوك : لابد من أن أقيم أو تقيم ، راجع خصائص النسائي ص7 ومسند الامام أحمد ج1 ص 331 ومناقب الخوارزمي ص 75 وذخائر العقبى ص 87.
( 73 )

وان كانت العقيدة الآلهية تريد في كل زمان بطلا يفتديها بنفسه فهي تريد أيضاً بطلاً يتقبل القربان ويعزز به المبدأ ، وهذا هو الذي بعث بعلي الى فراش الموت وبالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الى مدينة النجاة يوم الهجرة الاغر كما أشرنا اليه قريباً ولم يكن ليتهيأ للامام في محنته بعد وفاة أخيه أن يقدم لها كلام البطلين لأنه لو ضحى بنفسه في سبيل توجيه الخلافة الى مجراها الشرعي في رأيه لما بقي بعده من يمسك الخيط من طرفيه وولدا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) طفلان لا يتهيأ لهما من الامر ما يريد.
وقف علي عند مفترق طريقين كل منهما حرج وكل منهما شديد على نفسه : ـ
أحدهما : أن يعلن الثورة المسلحة على خلافه أبي بكر.
والآخر ان يسكت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ، ولكن ماذا كان يترقب للثورة من نتائج هذا ما نريد ان نتبينه على ضوء الظروف التاريخية لتلك الساعة العصيبة.
ان الحاكمين لم يكونوا ينزلون عن مراكزهم بأدنى معارضة وهم من عرفناهم حماسة وشدة في أمر الخلافة. ومعنى هذا انهم سيقابلون ويدافعون عن سلطانهم الجديد ، ومن المعقول جداً حينئذ ان يغتنم سعد ابن عبادة الفرصة ليعلنها حرباً اخرى في سبيل اهوائه السياسية لأننا نعلم انه هدد الحزب المنتصر بالثورة عندما طلب منه البيعة وقال : لا والله حتى أرميكم بما في كنانتي واخضب سنان رمحي واضرب بسيفي وأقاتلكم بأهل بيتي ومن اطاعني ولو اجتمع معكم الانس والجن ما بايعتكم. واكبر الظن انه تهيب الاقدام على الثورة ولم يجرأ على أن يكون أول شاهر للسيف ضد الخلافة القائمة وانما اكتفى بالتهديد الشديد الذي كان بمثابة اعلان الحرب وأخذ يترقب تضعضع الاُوضاع ليشهر


( 74 )

سيفه بين السيوف فكان حرياً به ان تثور حماسته ويزول تهيبه ويضعف الحزب القائم في نظره اذا رأى صوتاً قوياً يجهر بالثورة فيعيدها جذعة ويحاول اجلاء المهاجرين من المدينة بالسيف كما اعلن ذلك المتكلم عن لسانه في مجلس السقيفة.
ولا ننسى بعد ذلك الأمويين وتكتلهم السياسي في سبيل الجاه والسلطان وما كان لهم من نفوذ في مكة في سنواتها الجاهلية الأخيرة فقد كان أبو سفيان زعيمها في مقاومة الاسلام والحكومة النبوية وكان عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية أميرها المطاع في تلك الساعة.
واذا تأملنا ما جاء في تاريخ تلك الأيام(1) من أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما توفي ووصل خبره الى مكة وعامله عليها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية استخفى عتاب وارتجت المدينة وكاد اهلها يرتدون فقد لا نقتنع بما يعلل به رجوعهم عن الارتداد من العقيدة والايمان كما أني لا أؤمن بأن مرد ذلك التراجع الى أنهم رأوا في فوز أبي بكر فوزهم وانتصارهم على أهل المدينة كما ذهب اليه بعض الباحثين لأن خلافة أبي بكر كانت في اليوم الذي توفي فيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأكبر الظن ان خبر الخلافة جاءهم مع خبر الوفاة بل تعليل القضية في رأيي ان الامير الاموي عتاب بن أسيد شاء أن يعرف اللون السياسي الذي اتخذته أسرته في تلك الساعة فاستخفى واشاع بذلك الاضطراب حتى اذا عرف ان أبا سفيان قد رضي بعد سخط وانتهى مع الحاكمين الى نتائج في صالح البيت الاموي ظهر مرة اخرى للناس واعاد الامور الى مجاريها وعليه فالصلة السياسية بين رجالات الامويين كانت قائمة في ذلك الحين. وهذا التقدير يفسر لنا القوة التي تكمن وراء
____________
(1) راجع تأريخ الكامل ج 2 ص 123.
( 75 )

أقوال أبي سفيان حينما كان ساخطاً على أبي بكر وأصحابه اذ قال : اني لأرى عجاجة لا يطفيها الا الدم ، وقال عن علي والعباس : اما والذي نفسي بيده لأرفعن لهما من أعضادهما. فالامويون قد كانوا متأهبين للثورة والانقلاب وقد عرف علي منهم ذلك بوضوح حينما عرضوا عليه أن يتزعم المعارضة ولكنه عرف أنهم ليسوا من الناس الذين يعتمد على تأييدهم وانما يريدون الوصول الى اغراضهم عن طريقه فرفض طلبهم وكان من المنتظر حينئذ ان يشقوا عصا الطاعة اذا رأوا الأحزاب المسلحة تتناحر ولم يطمئنوا الى قدرة الحاكمين على ضمان مصالحهم ومعنى انشقاقهم حينئذ اظهارهم للخروج عن الدين وفصل مكة عن المدينة.
واذن فقد كانت الثورة العلوية في تلك الظروف اعلاناً لمعارضة دموية تتبعها معارضات دموية ذات أهواء شتى وكان فيها تهيئة لظرف قد يغتنمه المشاغبون ثم المنافقون.
ولم تكن ظروف المحنة تسمح لعلي بأن يرفع صوته وحده في وجه الحكم القائم بل لتناحرت ثورات شتى وتقاتلت مذاهب متعددة الأهداف والاغراض ويضيع بذلك الكيان الاسلامي في اللحظة الحرجة التي يجب ان يلتف فيها المسلمون حول قيادة موحدة ويركزوا قواهم لصد ما كان يترقب أن تتمخض عنه الظروف الدقيقة من فتن وثورات.
ان علياً الذي كان على أتم استعداد لتقديم نفسه قرباناً للمبدأ في جميع ادوار حياته منذ أن ولد في البيت الالهي والى انت قتل فيه قد ضحى بمقامه الطبيعي ومنصبه الالهي في سبيل المصالح العليا التي جعله رسول الله (ص) وصياً عليها وحارساً لها.
وفقدت بذلك الرسالة المحمدية الكبرى بعض معناها فان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما أمره ربه بتبليغ دعوته والانذار برسالته جمع بني عبدالمطلب وأعلن عن نبوته بقوله : ( اني والله ما اعلم شاباً في