ولعلك تقول : انها فتن المرتدين وهذا تفسير يقبل على فرض واحد وهو : ان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يتخوف على موتى البقيع من الارتداد فأما اذا لم يكن يخشى عليهم من ذلك كما ـ هو في الواقع ـ لأنهم على الأكثر من المسلمين الصالحين وفيهم الشهداء فلماذا يهنئهم على عدم حضور تلك الأيام ولا يستقيم في منطق صحيح أن يريد بهذه الفتن المشاغبات الأموية التي قام به عثمان ومعاوية بعد عقود ثلاثة من ذلك التاريخ تقريباً.
واذن فتلك الفتن التي عناها النبي (ص) لا بد أن تكون فتنا حادثة بعده مباشرة ولا بد أيضاً أن تكون أكثر اتصالاً بموتى البقيع لو قدرت لهم الحياة من فتن الردة والمتنبئين.
وهي اذن عين الفتنة التي عنتها الزهراء بقولها : ألا في الفتنة سقطوا وان جهنم لمحيطة بالكافرين.
وهل من غضاضة بعد أن يصطلح عليها رسول الله (ص) بالفتنة ان تمنح لقب الفتنة الاولى في دنيا الاسلام.
وقد كانت العمليات السياسية يومئذ فتنة من ناحية أخرى لأنها فرضت خلافة على أمة لم يقتنع بها الا القليل من سوقتها الذين ليس لمثلهم الحق في تقرير مصير الحكم في عرف الاسلام ولا في لغة القوانين الدستورية جميعاً.
تلك هي خلافة الصديق ( رضي الله تعالى عنه ) عندما خرج من السقيفة « وعمر يهرول بين يديه وقد نبر حتى ازبد شدقاه » وجماعته تحوطه « وهم متزرون بالأزر الصنعانية لا يمرون باحد الا خبطوه وقدموه فمدوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه شاء ذلك أو أبى(1) ».
____________
(1) راجع شرح النهج ج1 ص74.
( 101 )

ومعنى هذا ان الحاكمين زفوا الى المسلمين خلافة لم تباركها السماء ولا رضي بها المسلمون وان الصديق لم يستمد سلطانه من نص نبوي ـ بالضرورة ـ ولم ينعقد الاجماع عليه ما دام سعد لم يبايع الى أن مات الخليفة وما دام الهاشميون لم يبايعوا الى ستة أشهر من خلافته ـ كما في صحيح البخاري .
قالوا : ان أهل الحل والعقد قد بايعوه وكفى.
ولكن ألا يحتاج هذا المفهوم الى توضيح والى مرجع يرجع اليه في ذلك ؟ فمن هو الذي اعتبر مبايعي أبي بكر أهل الحل والعقد واعطاهم هذه الصلاحيات الواسعة ؟ .
ليس هو الأمة ولا النبي الأعظم ، لأننا نعلم أن أبطال السقيفة لم يأخذوا أنفسهم بمناهج الانتخاب غير المباشر ولم يستفتوا المسلمين في تعيين المنتخبين الثانويين الذين اصطلح عليهم في العرف القديم بأهل الحل والعقد.
كما أنه لم يؤثر عن رسول الله (ص) اعطاء هذه الصلاحيات لجماعة مخصوصة فكيف تمنح لعدد من المسلمين ويستأمنون على مقدرات الأمة بغير رضى منها في ظل نظام دستوري كنظام الحكم في الاسلام كما يزعمون.
ومن العجيب في العرف السياسي ان تعين الحكومة نفسها أهل الحل والعقد ثم تكتسب منهم كلمتها العليا.
واعجب من ذلك اخراج علي والعباس وسائر بني هاشم وسعد بن عبادة والزبير وعمار وسلمان وأبي ذر والمقداد وجميع أهل الحجى والرأي


( 102 )
ـ على حد التعبير ابن العباس لعمر ـ (1) من أهل الحل والعقد اذا صح ان في الاسلام طبقة مستأثرة بالحل والعقد.
وقد جر وضع هذه الكلمة في قاموس الحياة الاسلامية الى تهيئة الجو لارستقراطية هي أبعد ما تكون عن روح الاسلام وواقعه المصفى من الطبقية والعنعنات.
وهل كانت تلك الثروات الضخمة التي امتلأت بها أكياس عبد الرحمن بن عوف وطلحة واضرابهما الا بسبب هذا اللقب المشؤوم على الاسلام الذي لقبوا به فرأوا أنهم من الطراز الرفيع الذي يستحق أن يملك الملايين ويتحكم في حقوق الناس كما يريد.
وقالوا : ان الاكثرية هي مقياس الحكومة الشرعية والمبدأ الذي لا بد أن تقوم على اساسه الخلافة.
وقد استهان القرآن الكريم بالاكثرية ولم يجعل منها في حال من الاحوال دليلاً وميزانا صحيحاً اذا جاء فيه :
( ان تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ).
( وأكثرهم للحق كارهون ).
( وما يتبع أكثرهم الا ظناً ).
( ولكن أكثرهم يجهلون ) .
وقد روي عن رسول الله (ص) في صحاح السنة أنه قال : بينا أنا قائم ( يعني يوم القيامة على الحوض ) فاذا زمرة حتئ اذا عرفتهم خرج
____________
(1) اذ قال له : أما أهل الحجى والنهى فانهم ما زالوا يعدونه ـ أي علياً ـ كاملاً منذ رفع الله منار الاسلام ولكنهم يعدونه محروماً مجدوداً راجع شرح النهج ج3 ص115.
( 103 )

رجل من بيني وبينهم فقال : هلم ، فقلت أين ؟ فقال : الى النار والله ، قلت : وما شأنهم ؟ قال انهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ـ الى أن قال ـ : فلا أراه يخلص منهم الا مثل همل النعم.
ولا يمكن ان تكون هذه الاكثرية الجهنمية التي حدث عنها رسول الله (ص) مصدر السلطة في الاسلام لأنها لا تنشىء بطبيعة الحال الا خلافة مطبوعة بطابعها.
واذا خرجنا بالأكثرية عن حدود المدنيين الذين عرفنا آنفاً مراكزهم الجهنمية على الأغلب في الحياة الخالدة واعتبرنا اكثرية المسلمين عموماً هي المقياس الصحيح فلا بد أن نلاحظ ان المدينة هل كانت وحدها مسكن المسلمين ليكتمل النصاب المفروض بالاكثرية المدنية أو أن أبا بكر لم يكتف بها وانما بعث الى المسلمين المنتشرين في أرجاء المملكة بالخير ليأخذ آراءهم ويستشيرهم ؟ كلا لم يحدث شيء من ذلك وانما فرض حكومته على آفاق المملكة كلها فرضاً لا يقبل مراجعة ولا جدالاً حتى أصبح التردد في الخضوع لها جريمة لا تغتفر.
وقالوا : ان الخلافة تحصل ببيعة بعض المسلمين ولا ريب ان ذلك قد حصل لأبي بكر.
ولكن هذا مما لا يقره المنطق السياسي السليم لأن البعض لا يمكن ان يتحكم في شؤون الامة كلها ولأن حياة الأمة لا يمكن ان تعلق على خيط ضعيف كهذا الخيط ويركن في حفظ مقدساتها ومقامها الى حكومة أنشأها جماعة من الصحابة لم يزكهم اجماع شعبي ولا نص مقدس بل هم أناس عاديون من الصحابة. ونحن نعلم ان (منهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن. ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين. فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم الى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما


( 104 )

وعدوه وبما كانوا يكذبون) ومنهم من خص الله تعالى نفسه بالاطلاع على سرائرهم ونفاقهم فقال لرسوله : ( ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم).
فجماعة فيها المنافق وفيها من يؤذي رسول الله وفيها الكاذب لا يمكن أن يعتبر رأي بعضهم أيا كان ملاكاً للمنصب الأول في العالم الاسلامي .
وتعليقاً على هذه الملعومات نقول : ان خلافة الصديق لم تكن خلافة نص ولا خلافة أكثرية ولا نتيجة انتخاب مباشر ولا غير مباشر ، نعم بذل في سبيلها بعض المسلمين جهوداً رائعة والتفت حولها طائفة من الناس وانتصرت لها جماعات عديدة في المدينة ولكن هؤلاء جميعاً ليسوا الا بعض المسلمين والبعض ليس له حكم مطاع في الموضوع لأن الحكم الذي يستمد معنويته القانونية من الامة يلزم ان يكون صاحبه ممثلاً للامة بجميع عناصرها أو أكثر عناصرها هذا اولا وأما ثانياً فلأن في المسلمين منافقين لا يعلمهم الا الله بنص القرآن الكريم وتنزيه هذا البعض المتوفر على انشاء الكيان السياسي للامة حينئذ عن النفاق لا بد أن يكون عن طريق النص أو الامة.
واذن فليسمح لنا الطريق أن نميل الى رأي الزهراء بعض الميل أو كل الميل ، لأننا لا نجد للفتنة واقعاً أوضح من تسلط رجل بلا وجه قانوني على أمة وتصرفه في مرافقها الحيوية جميعاً كالصديق (رض) في أيام خلافته أو في الأشهر الأولى أو في الاسابيع الاولى من حكومته التي خطبت فيها الزهراء ـ على أقل تقدير ـ .
وما أدري هل خطرت للمتسرعين المستبدين نتائج استبدادهم واستقلالهم عن العناصر التي كان من الطبيعي ان يكون لها رأي في


( 105 )

الموضوع لو قامت تلك العناصر بالمعارضة واستعد الهاشميون للمقاومة وقد كان تقدير هذا المعنى قريباً ومعقولاً الى حد بعيد فكيف لم يحتاطوا له وانتهوا الى نتيجتهم المطلوبة في مدة قد لا تزيد على ساعة.
ولماذا نقدس الموقف أكثر مما قدسه ابطاله فقد بلغ من تقديس الفاروق أنه أمر بقتل من عاد الى مثل بيعة أبي بكر وكرر ذلك الموقف.
واذا اردنا أن نأخذ هذا الكلام ونفهمه على أنه كلام امام يراعي دستور الاسلام ، فمعنى ذلك أنه رأى موقف أبي بكر واصحابه في السقيفة فتنة وفساداً لأن القتل لا يجوز بغير ذلك من الاسباب.
وهي بعد ذلك كله أم الفتن لانها هي التي جعلت الخلافة سلطان الله الذي يأتيه البر والفاجر كما صرحت بذلك السيدة عائشة (رض) التي كانت بلا شك تمثل نظريات الحزب الحاكم(1).
وهي التي فتحت للاهواء والاطماع السياسية ميدانها الواسع فتولدت الأحزاب وتناحرت السياسات وتفرق المسلمون وانقسموا شر انقسام ذهب بكيانهم الجبار ومجدهم في التاريخ.
وماذا ظنك بهذه الامة التي أنشأت في ربع قرن المملكة الاولى في ارجاء العالم بسبب أن زعيم المعارضة للحكومة في ذلك الحين اعني علياً ـ لم يتخذ للمعارضة اسبابها المزعزعة لكيان الامة ووحدتها.
( أقول ) : ماذا تقدر لها من مجد وسلطان وهيمنة على العالم لو لم تبتل بعشاق الملك المتضاربين والامراء السكارى بنشوة السلطان ولم تكن مسرحاً للمعارك الدامية التي يقل نظيرها في التاريخ ولم يستغل
____________
(1) راجع الدر المنثور ج6 ص19.
( 106 )

حكامها الغاشمون امكانيات الامة للذاتهم وهنائهم ويستهينون بعد ذلك بمقدراتها جميعاً.
لم ينظر الصديق والفاروق الا الى زمانهما الخاص فتصورا ان في طاقتهما حماية الكيان الاسلامي ولكنهما لو تعمقا في نظرتهما كما تعمقت الزهراء وتوسعا في مطالعة الموقف لعرفا صدق الانذار الذي انذرتهما به الزهراء.


( 107 )

ـ 5 ـ

محكمة الكتاب

ان الله يأمركم أن تؤدوا الامانات الى أهلها واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ان الله نعما يعظكم به ان الله كان سميعاً بصيرا.




( القرآن الكريم )


( 108 )

اذا اردنا ان نرتفع بمستوى دراستنا الى مصاف الدراسات الدقيقة فلابد أن نأخذ انفسنا بمناهج البحث العلمي في درس ناحيتين :
الناحية الاولى : موقف الخليفة تجاه ميراث الزهراء الذي كان يستند فيه الى ما رواه عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في موضوع الميراث بأساليب متعددة وصور مختلفة لتعدد مواجهات الخصمين فجاءت الأحاديث التي تنقل روايته وهي لا تتفق على حد تعبير واحد ولا تجمع على لفظ معين لاختلاف المشاهد التي ترويها واختصاص كل منها بصيغة خاصة للحديث على حسب ما كان يحضر الخليفة من عبائر أو تعدد الروايات التي رواها في المسألة.
1 ـ وقبل كل شيء نريد ان نلاحظ مقدار تأكد الخليفة من صحة الحديث الذي رآه دالاً على نفي توريث التركة النبوية واطمئنانه الى سماع ذلك من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وثباته عليه ويمكننا فهم ذلك مما تحدثنا به الروايات(1) من أن الخليفة سلم فدكاً للحوراء وكاد الامر ان يتم لولا ان دخل عمر وقال له : ما هذا ؟ فقال له : كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها ، فقال : مماذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى ثم أخذ الكتاب فشقه ، ونحن ننقل هذه الرواية
____________
(1) ذكره سبط ابن الجوزي كما في السيرة الحلبية ج3 ص391.
( 109 )

في تحفظ وان كنا نستقرب صحتها لأن كل شيء كان يشجع على عدم حكاية هذه القصة لو لم يكن لها نصيب من الواقع. واذا صحت فهي تدل على أن أمر التسليم وقع بعد الخطبة الفاطمية الخالدة ونقل الخليفة لحديث نفي الارث عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأن حروب الردة التي أشار اليها عمر في كلامه ابتدأت بعد يوم السقيفة بعشرة أيام(1) خطبة الزهراء قد كانت في اليوم العاشر أيضاً كما سبق(2).
2 ـ وقد أظهر الخليفة الندم في ساعة وفاته على عدم تسليم فدك لفاطمة(3) وقد بلغ به التأثر حيناً ان قال للناس وقد اجتمعوا حوله أقيلوني بيعتي ، وندرك من هذا ان الخليفة كان يطوي نفسه على قلق عظيم مرده الى الشعور بنقص مادي في حكمه على فاطمة وضعف في المدرك الذي استند اليه ويثور به ضميره احياناً فلا يجد في مستنداته ما يهدىء نفسه المضطربة وقد ضاق بهذه الحالة المريرة فطفحت نفسه في الساعة الاخيرة بكلام يندم فيه على موقفه من الزهراء تلك الساعة الحرجة التي يتمثل فيها للانسان ما مثله على مسرح الحياة من فصول أو شك الستار ان يسدل عليها وتجتمع في ذاكرته خيوط حياته بألوانها المختلفة التي آن لها أن تنقطع فلا يبقى منها الا التبعات.
3 ـ ولا ننسى أن أبا بكر أوصى أن يدفن الى جوار رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولا يصح ذلك الا اذا كان قد عدل عن اعتبار روايته مدركاً قانونيا في الموضوع واستاذن ابنته في أن يدفن فيما ورثته
____________
(1) راجع مروج الذهب ج2 ص193.
(2) ولعل هذا يضعف من شأن الرواية لان الخليفة لو كان مستعداً للتراجع لأجاب الزهراء الى ما تطلب في المسجد حينما خطبت واسمعته من التأنيب والتقريع الشيء الكثير.
(3) رواه الطبري كما في ص 18 من سمو المعنى في سمو الذات للاستاذ الكبير الشيخ عبدالله العلائلي.

( 110 )

من أرض الحجرة ـ اذا كان للزوجة نصيب في الارض وكان نصيب عائشة يسع ذلك ـ ولو كان يرى ان تركة النبي (ص) صدقة مشتركة بين المسلمين عامة للزمه الاستئذان منهم ، وهب ان البالغين اجازوا ذلك فكيف بالاطفال والقاصرين ممن كانوا في ذلك الحين.
4 ـ ونحن نعلم أيضاً ان الخليفة لم ينتزع من نساء النبي بيوتهن ومساكنهن التي كن يسكن فيها في حياة رسول الله (ص) فما عساه ان يكون سبب التفريق الذي انتج انتزاع فدك من الزهراء وتخصيص حاصلاتها للمصالح العامة وابقاء بيوت نساء النبي (ص) لهن يتصرفن فيها كما يتصرف المالك في ماله ؟ حتى تستأذن عائشة في الدفن في حجرتها أكان الحكم بعدم التوريث مختصاً ببضعة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو أن بيوت الزوجات كانت نحلة لهن فلنا ان نستفهم عما اثبت ذلك عند الخليفة ولم تقم بينة عليه ولا ادعته واحدة منهن وليست حيازتهن للبيوت في زمان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) شاهداً على ملكيتهن لها لأنها ليس حيازة استقلالية بل من شؤون حيازة النبي (ص) ككل زوجة بالنسبة الى زوجها. كما ان نسبة البيوت اليهن في الآية الكريمة ـ وقرن في بيوتكن ـ لا يدل على ذلك لأن الاضافة يكفي في صحبتها ادنى ملابسة وقد نسبت الى النبي (ص) في القرآن الكريم بعد تلك الآية بمقدار قليل اذ قال الله تبارك وتعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الا أن يؤذن لكم فاذا كان الترتيب القرآني حجة لزم الاخذ بما تدل عليه هذه الآية وورد في صحاح السنة عن رسول الله (ص) اسناد البيت اليه في قوله : ان ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة.
5 ـ ولنتساءل عما اذا كان الحكم بعدم توريث الانبياء الذي ذهب اليه الخليفة مما اختزنه الوحي لخاتم المرسلين ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واقتضت المصلحة تأخيره عن وقت الحاجة واجراءه على الصديقة دون سائر ورثة الأنبياء أو ان الرسل السابقين قد اهملوا تبليغه وتعريف


( 111 )

خلفائهم وورثتهم به طمعاً بالمادة الزائفة واستبقاء لها في أولادهم وآلهم أو أنهم كانوا قد انتهجوا هذا الطريق ونفذوا الحكم بعدم التوريث ومع ذلك لم يؤثر في التواريخ جميعاً او أن السياسة السائدة يومذاك هي التي انشأت هذا الحكم ؟
6 ـ ومن جهة اخرى هل يمكننا ان نقبل ان رسول الله (ص) يجر على أحب الناس اليه واقربهم منه البلايا والشدائد وهي التي يغضب لغضبها ويسر لسرورها وينقبض لانقباضها(1) ولم يكن ليكلفه دفع هذه المحن عنها أكثر من اعلامها بحقيقة الامر لئلا تطلب ما ليس لها بحق وكأن رسول الله (ص) لذ له ان ترزي ابنته ثم تتسع هذه الرزية فتكون اداة اختلاف وصخب بين المسلمين عامة وهو الذي أرسل رحمة للعالمين فبقي مصراً على كتمان الخبر عنها مع الاسرار به الى أبي بكر.

* * *

1 ـ لأجل ان نلقي نظرة على الحديث من الناحية المعنوية بعد الملاحظات التي أسلفناها نقسم الصيغة التي جاءت في رواية الموضوع الى قسمين : ـ
( الاول ) ما جاء في بعضها من أن أبا بكر بكى لما كلمته فاطمة ثم قال يا بنت رسول الله والله ما ورث أبوك ديناراً ولا درهما وانه قال : ان الانبياء لا يورثون وما ورد في حديث الخطبة من قوله : اني سمعت رسول الله (ص) يقول : انا معاشر الانبياء لا نورث ذهباً ولا فضة ولا ارضاً ولا عقاراً ولا داراً لكنما نورث الايمان والحكمة والعلم والسنة.
( الثاني ) التعبير الذي تنقله عدة اخبار عن الخليفة وهو ما رواه عن رسول الله (ص) من أنا لا نورث ما تركناه صدقة.
____________
(1) هذه صيغ أحاديث متعددة وردت في الصحاح عن النبي .
( 112 )

‌‌‌2 ـ والنقطة المهمة في هذا البحث هي معرفة ما اذا كانت هذه الصيغ تدل بوضوح لا يقبل تشكيكاً ولاتأويلاً ـ وهو النص في العرف العلمي ـ على أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا تورث تركته او ما اذا كانت تصلح للتعبير بها عن معنى آخر وان كانت للتعبير بها عن الحكم بعدم التوريث اصلح ـ وهو الظاهر في الاصطلاح ـ وللمسألة تقدير ثالث وهو أن لا يرجع المعنى الذي هو في صالح الخليفة على ما قد يؤدي باللفظ من معان اخر ـ وهو المجمل ـ.
3 ـ اذا لاحظنا القسم الاول من صيغ الحديث وجدنا رواياته تقبل ان تكون بياناً لعدم تشريع توريث الانبياء كما فهمه الخليفة ويمكن ان تكون كناية عن معنى لا يبعد ان يقع في نفس رسول الله (ص) بيانه وهو تعظيم مقام النبوة وتجليل الانبياء. وليس من مظهر للجلالة الروحية والعظمة الالهية اجلى دلالة واكثر مادية من الزهد في الدنيا ولذائذها الزائفة ومتعها الفانية فلماذا لا يجوز لنا افتراض ان النبي (ص) اراد ان يشير الى ان الانبياء أناس ملائكيون وبشر من الطراز الاسمى الذي لا تشوبه الانانيات الارضية والاهواء البشرية لأن طبيعتهم قد اشتقت من عناصر السماء ـ بمعناها الرمزي ـ المتدفقة بالخير لا من مواد هذا العالم الارضي فهم ابداً ودائماً منابع الخير والطالعون بالنور والموروثون للايمان والحكمة والمركزون للسلطان الالهي في الارض وليسوا مصادر للثروة بمعناها المصطلح عليه في عرف الناس ولا بالساعين وراء نفائسها ولماذا لا يكون قوله : انا معاشر الانبياء لا نورث ذهباً ولا فضة ولا ارضاً ولا عقاراً ولا داراً كناية عن هذا المعنى لأن توريثهم لهذه الاشياء انما يكون بحيازتهم لها وتركهم اياها بعد موتهم وهم منصرفون عنها لا يحسبون لها حساباً ولا يقيمون لها وزناً ليحصلوا على شيء منها فما هو تحت اللفظ نفي التوريث لعدم وجود التركة كما اذا قلنا : ان الفقراء لا يورثون لا انهم يختصون عن سائر الناس بحكم يقضي


( 113 )

بعدم جريان احكام الارث على تركاتهم. والهدف الاصلي من الكلام بيان جلال الانبياء. وهذا الاسلوب من البيان مما يتفق مع الاساليب النبوية الرائعة التي تطفح بالمعاني الكبار وتزخر بأسماها في موجاتها اللفظية القصيرة.
4 ـ ولكي تتفق معي على تفسير معين للحديث يلزم ان نعرف معنى التوريث لنفهم الجملة النافية له كما يلزم. ومعنى التوريث جعل شيء ميراثاً فالمورث من يكون سبباً لانتقال المال من الميت الى قريبه. وهذا الانتقال يتوقف على أمرين : ـ
( أحدهما ) وجود التركة.
(والآخر) القانون الذي يجعل للوارث حصة من مال الميت ويحصل الاول بسبب نفس الميت والثاني بسبب المشروع الذي وضع قانون الوراثة سواء أكان فرداً اسندت اليه الناس الصلاحيات التشريعية أو هيئة تقوم على ذلك أو نبياً يشرع بوحي من السماء فكل من الميت والمشرع له نصيب من ايجاد التوارث ولكن المورث الحقيقي الذي يستحق التعبير عنه بهذا اللفظ بحق هو الميت الذي اوجد مادة الارث لانه هو الذي هيأ للارث شرطه الاخير بما خلفه من ثروة واما المشرع فليس مورثاً من ذلك الطراز لانه لم يجعل بوصفه للقانون ميراثاً معيناً بالفعل بل شرع نظاماً يقضي بأن الميت اذا كان قد ملك شيئاً وخلفه بعد موته فهو لأقاربه وهذا وحده لا يكفي لايجاد مال موروث في الخارج بل يتوقف على ان يكون الميت قد أصاب شيئاً من المال وخلفه بعده.
فالواضع التشريعي نظير من يضيف عنصراً خاصاً الى طبيعة من الطبائع فيجعلها قابلة لاحراق ما يلاقيها فاذا القيت اليها بورقة فاحترقت كنت انت الذي احرقتها لا من اضاف ذلك العنصر المحرق الى الطبيعة والقاعدة التي تعلل ذلك ان كل شيء يسند بحسب اصول التعبير الى


( 114 )

المؤثر الاخير فيه وعلى ضوء هذه القاعدة نعرف ان نسبة التوريث الى شخص تدل على أنه المؤثر الاخير في الارث وهو الموروث الذي أوجد التركة فالمفهوم من جملة ان الانبياء يورثون انهم يحصلون على الاموال ويجعلونها تركة من بعدهم واذا نفي التوريث عنهم كان مدلول هذا النفي انهم لا يهيؤون للارث شرطه الاخير ولا يسعون وراء الاموال ليتركوها بعد وفاتهم لورثتهم ، واذن فليس معنى الانبياء لا يوروثون عدم التوريث التشريعي ونفي الحكم بالارث لأن الحكم بالارث ليس توريثاً حقيقياً بل التوريث الحقيقي تهيئة نفس التركة وهذا هو المنفي في الحديث.
وعلى طراز آخر من البيان ان التوريث الذي نفاه خاتم النبيين عن الانبياء ان كان هو التوريث التشريعي كان مفاد النفي الغاء قانون الارث من شرائع السماء ، لان توريثهم التشريعي لا يختص بورثتهم حتى يكون المنفي توريثهم خاصة وان كان هو التوريث الحقيقي بمعنى تهيئة الجو المناسب للارث سقطت العبارة عما اراد لها الصديق من معنى وكان معناها ان الانبياء لا تركة لهم لتورث.
5 ـ وفي الرواية الاولى مهد الخليفة للحديث بقوله : والله ما ورث ابوك ديناراً ولادرهماً وهذا التعبير واضح كل الوضوح في نفي التركة وعدم ترك رسول الله (ص) شيئاً من المال فاذا صح للخليفة ان يستعمل تلك الجملة في هذا المعنى فليصح ان تدل صيغة الحديث عليه ايضاً ويكون هو المقصود منها.
6 ـ واذا لاحظنا الامثلة التي ذكرت في الرواية الثانية نجد فيها ما يعزز قيمة هذا التفسير لان ذكر الذهب والفضة والعقار والدار ـ مع انها من مهمات التركة ـ لا يتفق مع تفسير الحديث بأن التركة لا تورث


( 115 )

لأن اللازم ذكر اتفه الاشياء لبيان عموم الحكم بعدم الارث لسائر مصاديق التركة كما انا اذا اردنا ان نوضح عدم ارث الكافر لشيء من تركة ابيه لم نقل : ان الكافر لا يرث ذهباً ولا فضة ولا داراً وانما نقول : انه لا يرث تمرة واحدة من تركة الميت وبتعبير واضح ان الاهتمام بتوضيح عموم الحكم لكل اقسام التركة يقتضي التصريح ببعض أقسام المال الذي قد يتوهم متوهم عدم اندراجه في التركة التي لا تورث وقولنا : الانبياء لا يورثون او ان الكفار لا نصيب لهم من تركة آبائهم يدل أول ما يدل على عدم انتقال الدار والعقار والذهب والفضة وغيرها من نفيس التركة ومهمها فذكر هذه الامور في الحديث يرجح ان المقصود بنفي توريث الانبياء بيان زهدهم وعدم اهتمامهم بالحصول على نفائس الحياة المحدودة التي يتنافس فيها المتنافسون لأن المناسب لهذا الغرض ذكر الاموال المهمة التي تكون حيازتها وتوريثها منافياً للزهد والمقامات الروحية العليا. واما الاخبار عن عدم التوريث في الشريعة فاللائق به ذكر التوافه من التركة دون اقسامها الواضحة المهمة.
7 ـ وأمر آخر يشهد لما ذكرناه من التفسير وهو الجملة الثانية الايجابية في الحديث أي جملة. ولكنا نورث الايمان والحكمة والعلم والسنة فانها لا تدل على تشريع وراثة هذه الامور بل على توفرها في الانبياء الى حد يؤهلهم لنشرها واشاعتها بين الناس فقد نفهم حينئذ ان المراد بالجملة الاولى التي نفت التوريث بيان ان الانبياء لا يسعون للحصول على الذهب والعقار ونحوهما ولا يكون لهم من ذلك شىء ليرثه آلهم.
8 ـ ولا يجوز لنا ان نقيس عبارة الحديث المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله : ان الناس لا يورثون الكافر من اقاربهم ، بل يلزمنا ان نفرق بين التعبيرين لأن المشرع اذا تكلم عمن يشرع لهم


( 116 )

احكامهم كان الظاهر من كلامه انه يلقي بذلك عليهم حكماً من الاحكام فاخبار النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن عدم توريث الناس للكافر من اقاربهم لا يصح تفسيره بأنه اخبار فقط بل يدل فوق هذا على أن الكافر لا يرث في شريعته وتختلف عن ذلك العبارة التي نقلها الخليفة لأن موضوع الحديث فيها هو الانبياء لا جماعة ممن تشملهم تشريعات النبي (ص) واحكامه فليس في الامر ما يدل على حكم وراء الاخبار عن عدم توريثهم.
9 ـ وليس لك ان تعترض بأن الانبياء كثيراً ما يحوزون على شيء مما ذكر في الحديث فيلزم على ما ذكرت من التفسير ان يكون الحديث كاذباً لأنك قد تتذكر ان الذي نفي عن الانبياء هو التوريث خاصة وهو ينطوي على معنى خاص وأعني به اسناد الارث الى المورث وهذا الاسناد يتوقف على أن يكون المورث قد سعى في سبيل الحصول على المال الذي تركه ميراثاً بعده كما يتوقف معنى المهذب على استعمال وسائل التهذيب فاذا استطاع شخص ان يقرأ أفكار عالم من علماء الاخلاق ويهذب نفسه على هدى تلك الافكار لم يصح تسمية ذلك العالم مهذباً لأن ايجاد اي شيء سواء أكان تهذيباً أو توريثاً أو تعليماً أو نحو ذلك لا يستقيم اسناده الى شخص الا اذا كان للشخص عمل ايجابي وتأثير ملحوظ في تحقق ذلك الشيء الموجود والانبياء وان حازوا شيئاً من العقارات والدور ولكن ذلك لم يكن بسعي منهم وراء المال كما هو شأن الناس جميعاً. ونقرر علاوة على هذا ان المقصود من الكلام ليس هو بيان ان الانبياء لا يورثون ولا يتركون مالاً بل ما يدل عليه ذلك من مقامهم وامتيازهم وما دامت الجملة كذلك ولم يكن الهدف الحقيقي منها بيان معناها الحرفي فلا يمنع حيازة الانبياء لبعض تلك الاموال عن صواب التفسير الذي قدمناه كما ان من كنى قديماً عن الكريم بأنه كثير الرماد لم يكن كاذباً سواء أكان في بيت الكريم رماد او لا لأنه لم يرد


( 117 )

نعته بهذا الوصف حقاً وانما اشار به الى كرمه لأن أظهر لوازم الكرم يومذاك كثرة المطابخ الموجبة لكثرة الرماد وعدم التوريث من اوضح آثار الزهد والورع فيجوز ان يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد اشار الى ورع الانبياء بقوله : ان الانبياء لا يورثون.
10 ـ ولأجل ان نتبين معنى القسم الثاني من صيغ الحديث يلزمنا ان نميز بين معان ثلاثة ـ :
الاول : ان تركة الميت لا تورث ومعنى هذا ان ما كان يملكه الى حين وفاته وتركه بعده لا ينتقل الى آله بل يصبح صدقة حين موته.
الثاني : ان ما تصدق به الميت في حياته او اوقفه على جهات معينة لا يورث بل يبقى صدقة ووقفاً والورثة انما يرثون غير الصدقات من الاموال التي كان يملكها الميت الى حين وفاته.
الثالث : ان الشخص ليس لديه أموال مملوكة له لتورث وكل ما سوف يتركه من اموال انما هو من الصدقات والاوقاف.
ومتى عرفنا الفارق بين هذه المعاني يظهر ان صيغة الحديث ليست واضحة كل الوضوح ولا غنية عن البحث والتمحيص بل في طاقتها التعبيرية امكانيات التفسير بالمعاني الانفة الذكر جميعا فان النصف الثاني من الحديث وهو ـ ما تركناه صدقة ـ يجوز ان يكون مستقلاً في كيانه المعنوي مركباً من مبتدإ وخبر يمكن ان يكون تكملة لجملة لا نورث ففي الحال الاولى يقبل الحديث التفسير بالمعنى الاول والثالث من المعاني السابقة لأن جملة ـ ما تركناه صدقة ـ قد يراد بها ان التركة لا تنتقل من ملك الميت الى آله وانما تصبح صدقة بعد موته وقد يقصد بها بيان المعنى الثالث وهو ان جميع التركة صدقة ولم يكن يملك منها الميت شيئاً ليورث كما اذا اشار الانسان الى امواله وقال : ان هذه الاموال


( 118 )

ليست ملكاً لي وانما هي صدقات اتولاها والحديث على تقدير ان تكون له وحدة معنوية يدل على المعنى الثاني اي ان الصدقات التي تصدق بها الميت في حياته لا تورث دون سائر تركته ويكون الموصول مفعولاً لا مبتدأ ويتضح من الصيغة على هذا التقدير نفس ما يفهم منها اذا انعكس الترتيب فيها وجاءت هكذا : ـ ما تركناه صدقة لا نورثه ـ فكما يؤتى بهذه الجملة لبيان ان الصدقات لا تورث لا ان كل أقسام التركة صدقة كذلك يصح ان يقصد نفس ذلك المعنى من صيغة الحديث بترتيبها المأثور. فتكون دليلاً على عدم انتقال الصدقات الى الورثة لا على عدم تشريع الارث اطلاقاً وقد يكون من حق سيبويه علينا ان نشير الى ان قواعد النحو ترفع كلمة صدقة على تقدير استقلال ـ ما تركناه صدقة ـ معنوياً وتنصبها على التقدير الآخر. ومن الواضح ان الحركات الاعرابية لا تلحظ في التكلم عادة بالنسبة الى الحرف الاخير من حروف الجملة للوقوف عليه المجوز لتسكينه.
11 ـ واذن فقد وضعنا بين يدي الحديث عدة من المعاني في سبيل البحث عن مدلوله وليس من الاسراف في القول ان نقرر ان تفسير الحديث بما يدل على ان اموال النبي (ص) تكون صدقة بعد موته لا يرجح على المعنيين الآخرين بل قد نتبين لوناً من الرجحان للمعنى الثاني ـ وهو ان المتروك صدقة لا يورث ـ دون سائر التركة اذا تأملنا ضمير الجمع في الحديث وهو النون وهضمنا دلالته كما يجب لأن استعماله في شخصه الكريم خاصة لا يصح الا على سبيل المجاز ثم هو بعد ذلك بعيد كل البعد عن تواضع رسول الله (ص) في قوله وفعله فالظواهر تجمع على أن النون قد استعملت في جماعة وان الحكم الذي تقرره العبارة ثابت لها وليس مختصاً بالنبي (ص) والاوفق باصول التعبير ان تكون الجماعة جماعة المسلمين لا الانبياء لأن الحديث مجرد عن قرينة تعين هؤلاء ولم يسبق بعهد يدل عليهم وليس لك ان تعترض بأن صيغة الحديث يجوز انها كانت مقترنة


( 119 )

حال صدورها من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بقرينة أو مسبوقة بعهد يدل على ان مراده من الضمير جماعة الانبياء لان اللازم ان نعتبر عدم ذكر الخليفة لشيء من ذلك ـ مع أن الراوي لحديث لا بد له من نقل سائر ما يتصل به مما يصلح لتفسيره ـ دليلاً على سقوط هذا الاعتراض. واضف الى هذا ان اغفال ذلك لم يكن من صالحه واذن فليكن الواقع اللفظي للحديث هو الواقع المأثور عن الخليفة بحدوده الخاصة بلا زيادة ولا نقيصة.
والمفهوم من الضمير حينئذ جماعة المسلمين لحضورهم ذاتاً عند صدور العبارة من النبي (ص) وقد جرت عادة المتكلمين على انهم اذا أوردوا جملة في مجتمع من الناس وادرجوا فيها ضمير المتكلم الموضوع للجماعة أن يريدوا بالضمير الجماعة الحاضرة فلو ان شخصاً من العلماء اجتمع عنده جماعة من أصدقائه وأخذ يحدثهم وهو يعبر بضمير المتكلم الموضوع للجمع بلا سبق ذكر العلماء لفهم من الضمير ان المتكلم يعني بالجماعة نفسه مع أصدقائه الحاضرين لا معشر العلماء الذين يندرج فيهم ولو أردا جماعة غير اولئك الحاضرين لم يكن مبيناً بل ملغزاً. وتعلية على هذا التقدير ماذا تراه يكون هذا الحكم الذي اثبته الحديث للمسلمين ـ الذين قد عرفنا ان الضمير يدل عليهم ـ هل يجوز ان يكون عبارة عن عدم توريث المسلم لتركته ؟ أو أن الاموال التي عند كل مسلم ليست ملكاً له وانما هي من الصدقات. كلا ! فان هذا لا ينفق مع الضروري من تشريع الاسلام ، لأن المسلم في عرف القرآن يملك بألوان متعددة من أسباب الملك عند الناس ويورث ما يتركه من أموال متعددة من أسباب الملك عند الناس ويورث ما يتركه من أموال بعد وصية يوصي بها أو دين. وانت ترى معي الآن بوضوح ان الحكم ليس الا ان الصدقة لا تورث فان هذا أمر عام لا يختص بصدقه دون صدقة بل يطرد في سائر صدقات المسلمين ولا غرابة في بيان الحكم بعدم توريث الصدقات في صدر زمان التشريع مع وضوحه الآن . لأن قواعد الشريعة واحكامها لم تكن قد تقررت


( 120 )

واشتهرت بين المسلمين فكان لاحتمال انفساخ الصدقات والاوقاف بموت المالك ورجوعها الى الورثة متسع.
ولا يضعضع قيمة هذا التفسير عدم ذكر الزهراء له واعتراضها به على الخليفة.
أما أولاً : فلأن الموقف الحرج الذي وقفته الزهراء في ساعتها الشديدة لم يكن ليتسع لمثل تلك المناقشات الدقيقة حيث ان السلطة الحاكمة التي كانت تريد تنفيذ قراراتها بصورة حاسمة قد سيطرت على الموقف بصرامة وعزم لا يقبلان جدالاً ولذا نرى الخليفة لا يزيد في جواب استدلال خصمه بآيات ميراث الانبياء على الدعوى الصارمة اذ يقول هكذا هو ـ كما في طبقات ابن سعد ـ فلم يكن مصير هذه المناقشات لو قدر لها أن تساهم في الثورة بنصيب الا الرد والفشل.
وأمّا ثانياً : فلأن هذه المناقشات لم تكن تتصل بهدف الزهراء وغرضها الذي كان يتلخص في القضاء على الاساليب التي هي أقرب الى تحقيق ذلك الغرض فتراها مثلاً في خطابها الخالد خاطبت عقول الناس وقلوبهم معاً ولكنها لم تتجاوز في احتجاجها الوجوه البديهية التي كان من القريب ان يستنكر اغضاء الخليفة عنها كل احد ، ويجر ذلك الاستنكار الى معارضة حامية.
فقد نفت وجود سند لحكم الخليفة من الكتاب الكريم ثم ذكرت ما يخالفه من الآيات العامة المشرعة للتوارث بين سائر المسلمين(1) والآيات الخاصة الدالة على توريث بعض الانبياء كيحيى وداود عليهما السلام ، ثم عرضت المسألة على وجه آخر وهو : ان ما حكم به الخليفة لو كان حقاً للزم ان يكون أعلم من رسول الله (ص) ووصيه لانهما لم
____________
(1) من الواضحات العلمية اخيراً ان الخبر الواحد المعتبر يصلح لتخصيص الكتاب لانه حاكم او وارد كما هو الصحيح على أصالة العموم واصالة الاطلاق وانما احتجت الزهراء بالآيات العامة لأنها لم تكن تعترف بوثاقة الصديق وعدالته.
( 121 )

يخبراها بالخبر مع انهما لو كانا على علم به لاخبراها به ، ومن الواضح ان الصديق لا يمكن ان يكون اعلم بحكم التركة النبوية من النبي (ص) أو علي الذي ثبتت وصايته لرسول الله (ص) وذلك في قولها :
يا ابن أبي قحافة أفي كتاب الله ان ترث أباك ولا أرث أبي ؟ لقد جئت شيئاً فرياً! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم ؟ اذ يقول : وورث سليمان داود ، وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا ( رب هب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب ) وقال ( واولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) افخصكم الله بآية اخرج منها أبي ؟ ام هل تقولون : أهل ملتين لا يتوارثان ؟ ! أو لست أنا وأبي من أهل ملة واحدة ؟ أم أنتم اعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي ؟ !(1).
وكانت أبرز الناحيتين في ثورتها الناحية العاطفية وليس من العجيب ان تصرف الزهراء أكثر جهودها في كسب معركة القلب فإنه السلطان الاول على النفس والمهد الطبيعي الذي تترعرع فيه روح الثورة.
وقد نجحت الحوراء في تلوين صورة فنية رائعة تهز المشاعر وتكهرب العواطف وتهيمن على القلوب كانت هي أفضل سلاح تتسلح به امرأة في ظروف كظروف الزهراء.
ولأجل ان نستمتع بالجمال الفني في تلك الصورة الملونة بأروع الألوان لا بأس بأن نستمع الى الصديقة حين خاطبت الانصار بقولها :
يا معشر البقية ، وأعضاد الملة ، وحضنة الاسلام ، ما هذه الفترة عن نصرتي والونية عن معونتي ، والغمزة في حقي ، والسنة عن ظلامتي أما كان رسول الله (ص) يقول : المرء يحفظ في ولده ، سرعان من احدثتم
____________
(1) نقلنا هذه القطعة على وجه الاختصار.
( 122 )

وعجلان ما أتيتم ، الآن مات رسول الله (ص) أمتم دينه ها ان موته لعمري خطب جليل ، استوسع وهنه ، واستبهم فتقه ، وفقد راتقه واظلمت الارض له ، وخشعت الجبال واكدت الآمال ، اضيع بعده الحريم وهتكت الحرمة واذيلت المصونة ، وتلك نازلة اعلن بها كتاب الله قبل موته وانبأكم بها قبل وفاته فقال : ( وما محمّد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم ومن ينقلب على عقيبه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين ) ايهاً بني قيلة أهتضم تراث أبي بمرأى ومسمع تبلغكم الدعوة ، ويشملكم الصوت وفيكم العدة والعدد ولكم الدار والجنن ، وأنتم نخبة الله التي انتخب وخيرته التي اختار الخ . .
واذن فلم تكن المناقشات في تفسير الحديث وتأويله مما تهضمها السلطات الحاكمة ولا هي على علاقة بالغرض الرئيسي للثائرة من ثورتها.
وهذا يفسر لنا عدم تعرضها للنحلة في خطابها أيضاً.

* * *

1 ـ يجب الآن توضيح موقف الخليفة تجاه الزهراء في مسألة الميراث وتحديد رأيه فيها ـ بعد أن أوضحنا حظ الصيغ السابقة من وضوح المعنى وخفائه ـ وهو موقف لا يخلو من تعقيد اذا تعمقنا شيئاً ما في درس المستندات التاريخية للقضية ومع ان المستندات كثيرة فانها مسألة محيرة ان نعرف ماذا عسى ان تكون النقطة التي اختلف فيها المتنازعان ، ومن الصعوبة توحيد هذه النقطة.
والناس يرون أن مثار الخلاف بين أبي بكر والزهراء هو مسألة توريث الانبياء فكانت الصديقة تدعي توريثهم والخليفة ينكر ذلك. وتقدير الموقف على هذا الشكل لا يحل المسألة حلاً نهائياً ولا يفسر عدة أمور ـ :


( 123 )

( الأول ) : قول الخليفة لفاطمة في محاورة له معها ـ وقد طالبته بفدك ـ : ان هذا المال لم يكن للنبي (ص) وانما كان مالاً من أموال المسلمين يحمل النبي به الرجال وينفقه في سبيل الله فلما توفي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وليته كما كان يليه. فان هذا الكلام يدل بوضوح على أنه كان يناقش في أمر آخر غير توريث الانبياء.
( الثاني ) : قوله لفاطمة في محاورة اخرى : أبوك والله خير مني وأنت والله خير من بناتي وقد قال رسول الله (ص) : لا نورث ما تركناه صدقة يعني هذه الاموال القائمة وهذه الجملة التفسيرية التي الحقها الخليفة بالحديث تحتاج الى عناية فانها تفيدنا ان الخليفة كان يرى ان الحكم الذي تدل عليه عابرة الحديث مختص بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وليس ثابتاً لتركة سائر الانبياء ولا لتركة سائر المسلمين جميعاً فحدد التركة التي لا تورث بالاموال القائمة وذكر ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يعنيها هي بالحديث. وعلى هذا التحديد نفهم ان المفهوم للخليفة من الحديث ليس هو عدم توريث الصدقات لأن هذا الحكم عام ولا اختصاص له بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلا يجوز ان يحدد موضوعه بالاموال القائمة بل كان اللازم حينئذ ان يأتي الخليفة بجملة تطبيقية بأن يقال : ان الاموال القائمة مما ينطبق عليه الحديث.
كما يتضح لدينا ان الخليفة لم يكن يفسر الحديث بأن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا تورث تركته وأملاكه التي يخلفها بل تصبح صدقة بعد موته لانه لو كان يذهب هذا المذهب في فهم الحديث لجاء التفسير في كلامه على اسلوب آخر لأن المقصود من موضوع الحديث حينئذ تركة النبي (ص) على الاطلاق ولا يعني الاموال القائمة التي كانت تطالب بها الزهراء خاصة واعني بذلك ان هذه الاموال الخاصة لو كانت تطالب بها الزهراء خاصة واعني بذلك ان هذه الاموال الخاصة لو كانت قد خرجت عن ملك النبي (ص) قبل وفاته لم يكن الحكم بعدم التوريث ثابتاً لها كما ان غيرها من


( 124 )

الاموال لو حصل ( للنبي ) لما ورثها آله أيضاً ، فعدم توريث التركة النبوية ان ثبت فهو امتياز لكل ما يخلفه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من املاك سواء أكانت هذه التي خلفها أو غيرها. ولا يصح ان يقال : انه عنى بالتركة الاموال القائمة التي كانت تطالب بها الزهراء.
ونظير ذلك قولك لصاحبك : أكرم كل من يزورك الليلة ثم يزوره شخصان فانك لم تعن بكلامك هذين الشخصين خاصة وانما انطبق عليهما الامر دون غيرهما على سبيل الصدقة. وعلى اسلوب اوضح ان تفسير التركة التي لا تورث بأموال معينة ـ وهي الاموال القائمة ـ يقضي بأن الحكم المدلول عليه بالحديث مختص ـ عند المفسر ـ بهذه الاموال المحدودة.
ولا ريب ان تركة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لو كانت لا تورث لما اختص الحكم بالاموال المعينة المتروكة بالفعل بل لثبت لكل ملك يتركه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وان لم يكن من تلك الاموال وأيضاً فمن حق البحث ان أتساءل عن فائدة الجملة التفسيرية والغرض المقصود من ورائها فيما اذا كان الحكم المفهوم للخليفة من الحديث أن أملاك النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا تورث فهل كان صدق التركة على الاموال القائمة مشكوكاً ؟ فأراد ان يرفع الشك لينطبق عليها الحديث ويثبت لها الحكم بعدم التوريث ، واذا صح هذا التقدير فالشك المذكور في صالح الخليفة لأن المال اذا لم يتضح انه من تركة الميت لا ينتقل الى الورثة فلا يجوز أن يكون الخليفة قد حاول رفع هذا الشك ولا يمكن أن يكون قد قصد بهذا التطبيق منع الزهراء من المناقشة في انطباق الحديث على ما تطالب به من اموال لأنها ما دامت قد طالبت بالاموال القائمة على وجه الارث فهي تعترف بانها من تركة رسول الله (ص) ولنفترض ان الاموال القائمة قسم من التركة النبوية